ابتُليت بلاد الشام بأسوأ مزيج من الكيد الاستعماري. وكما هو معروف، تركّز الطريقة الإنكليزية على وضع ترتيبة هيكلية ورسم حدود تتفجّر المشاكل منها فيما بعدُ. هذا ما فعلته في إفريقية، وهذا ما فعلته في تقسيم أرض البشتون بين باكستان وأفغانستان، وهذا ما شاركت بفعله في الشام من حدود مصطنعة وفي تنكّبها عمّا وُعد به الكرد. أما الطريقة الفرنسية فتركّز على الخلخلة الثقافية واللغوية، وهذا ما فعلته في الجزائر وفي بلاد غرب إفريقية. وابتُلِــيت سورية بكلا الكيدين.
آثار الحملات الاستعمارية الاستخرابية أمرٌ معروف، لكن تغيب عن الذهن حقيقةُ ظاهرة ربما بسبب حضورها الصارخ. اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور لم يقسّما أرض الشام فقط، وإنما أنشآ دولاً تحت سيطرة طائفية.
تقسيم وتطييف:
لقد اقتُطع لبنان من الشام ووُضع تحت السيطرة المارونية، ولا يُبرّر ذلك إلا الميل الثقافي الحضاري الذي يعتبر نفسه فينيقياً في بحر عربي (غير مدركٍ أن الفينيقيين ساميين من العرب)، ويرى نفسه حداثياً متنوراً بين متخلّفين. ولا نفاجأ حين نجد أن المارونيين دافعوا عن الانفصال في حين عارضه السنة بشدّة. ولقد ترسّخ الفصام الثقافي في هذه القطعة من بلاد الشام التي اعتُبرت نموذجاً “ديمقراطيا” في نظامٍ سياسي لا يمكنه خدمة أهداف الأمة العربية، وهو عكس ما تدّعيه النخب العَلْمانية وتُنظّر. فالدولة التي بُنيت على أساس ليبرالي استحوذ عليها الخيار الثقافي للمِلل الموجودة فيه، تمثَّل أولاً في الشرذمة الفرقيّة بين المسيحيين أنفسهم، علاوة على الفرقة الدرزية والفرق المسلمة السنية والشيعية. ولا غرابة إذاً أن يكون هذا الكيان الاصطناعي المتفتّت بنيوياً مرتعاً لكل حركة سياسية وحزبٍ في الوطن العربي، وموضعاً لرمي نفايات الخلافات الإقليمية. وكان ارتهان لبنان للخارج أمراً طبيعياً كما هو وقوعه تحت تأثير الثقل السوري. وبالمناسبة، ما معنى أن تملك الكنيسة الكاثوليكية إلى اليوم أراضٍ واسعة في هذا البلد؟
البلد الثاني المسيطر عليه طائفياً هو سورية. ولم يكن العمق الطائفي واضحاً في بداية تأسيس سورية، وإنما وُضعت بذوره آنذاك في تجنيد الأقليات عامة والطوائف العلوية-النصيرية والدرزية خاصة في جيش المشرق الذي ألّفته فرنسا.
فبعد معركة ميسلون سنة 1920 بقيادة وزير الحربية البطل يوسف العظمة وهزيمة قواته من المتطوعين في مواجهة التفوق العسكري الفرنسي، أعلن القائد الفرنسي غورو تقسيم البلاد طائفياً. وأنشأت فرنسا ست دويلات: دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة جبل الدروز ودولة لبنان ولواء اسكندرون المستقلّ. واستمرت دولة العلويين إلى سنة 1936 مع فاصل، فبسبب الضغط الشعبي اضطرت فرنسا إلى تشكيل فدرالية سُــــمّيت الاتحاد السوري في 1922 الذي ضمّ دول دمشق وحلب والعلويين. ثم ما لبث أن فُصلت دولة العلويين وعاصمتها اللاذقية في آخر سنة 1924، وشكّلت دمشق وحلب الدولة السورية سنة 1925. أما “الجمهورية السورية” التي اتخذت لنفسها دستوراً مستقلاً فشُكّلت سنة 1930 (تحت الانتداب). وانفصل لبنان عن الجسم السوري سنة 1936.
ولكن شعور الوحدة العربية كان عميقاً في بلاد الشام، فعادت “الدولة العلوية” إلى كنف سورية ولم يستمرّ التقسيم القسريّ. ولعل من أهم أسباب فشل الدولة العلوية التي أنشأها الفرنسيون في منطقة النصيريين أنها لم تكن ذات ثقل اقتصادي يسمح لها بالاستقلالية والاستمرارية بجوار محركات اقتصادية بجوارها أشد قوة بكثير، الأمر الذي ينشئ شبكة تعامل كثيفة خارج حدود الدولة المفترضة التي رُسمت حدودها فجأة، إلى جانب عدم حيازة هذه الدويلة على مؤسسات إدارية كافية.
ثم استقلّت سورية في سنة 1946، ولم يحلَّ جيش المشرق الذي ألفته فرنسا بعد الاستقلال، وإنما جرى توريثه. واستمرّ تجنيد الأقليات في الجيش، واستمرّ الأثر الطائفي على نحو خفيٍّ غير ظاهر. ولكيلا نقع في التفسير التآمري، استمر انخراط الطوائف في الجيش لأسباب ذاتية اقتصادية وبشكل عفوي، فالمخطِط الماكر يدرس نقاط الاختلال في المجتمع فيعطيها الدفعة الأولى ثم يتوارى ويتفرّج كيف تتطوّر بنفسها وتتغذى على قواها المحلّية. ومقابل ازدياد نفوذ الأقليات في الجيش، كان الضباط السنّة الدمشقيون والحلبيون يتنافسون حسداً في غفلة عن الفاعليات الأقلويّة([1]).
ثورة عربية مسلمة:
الثورة السورية الكبرى سنة 1924 ابتدأت في أرض حوران بقيادة مشايخها من عائلة الرفاعي، وبعد ذلك امتدت الثورة إلى دمشق ولبنان واللاذقية. ثم ازدادت الثورة قوة بمشاركة إبراهيم هنانو في حلب بعد قطعه الطريق على مناورات فرنسا مع أعضاء البرلمان الموالين لها. كما ازدادت قوةً بمشاركة حسن الخراط في غوطة دمشق. ولعب شيخ المحدّثين بدر الدين الحسني دور القائد الرمزي لهذه الثورة، وكان يتنقّل بين المدن داعياً إلى الجهاد وحاثاً على المقاومة والاستبسال.
إنّ الثورة السورية الكبرى كانت ثورة مسلمين يغمرهم شعور العروبة والمسؤولية الملاقاة على عاتقهم كونهم الجسم الأكبر في بلاد الشام عامة وما أصبح سورية. والترويج بأنّ الأقليات لعبت دوراً ريادياً في الثورة غير صحيح تاريخياً، وإنما كان من حكمة مؤسسي الدولة السورية عقب الاستقلال أن يتألّفوا الأقليات ويضفوا عليها صفة الوطنية وأنهم كانوا في مقدمة القوى المقارعة للاستعمار، كنوع من طيّ الصفحة وبدء فصل جديد في مسيرة الحياة. أما السجلّ التاريخي فيحدّثنا أنّ العلويين لم يشاركوا في الثورة من أجل وطنٍ موحّد. يقول المؤرخ المشهور فيليب خوري: “ثورة صالح العلي في 1920 كانت مهتمة بشكل رئيسي بحماية المنطقة العلوية من التدخل الخارجي؛ وإن انتفاضته لم تكن مندفعة بالحركة الوطنية، وإنما انتحلت هذه الهوية لكي تزيد في استقلالية العلويين. وإن المنطقة العلوية، ومعظمها ريفي، كانت على قدر كبير غير منخرطة في الثورة الكبرى”([2]). كما أن مايكل برفُنس –وبرغم أنه ينتقد فليب خوري لتركيزه على الثورة في نطافها المديني– فيؤكد أن رؤية ثورات الأقليات كانت رؤية محلية، إذ يقول: “أمل سلطان الأطرش من إثارة تمرد واسع النطاق أن يوفر للدروز مزيداً من الحكم الذاتي الذي حاولوا انتزاعه من الدولة العثمانية، وربما كان يطمح إلى قيادة الدروز والسوريين عموماً في انتفاضة وطنية لطرد فرنسة من الشرق الأوسط”[3].
وإيراد هذه النقطة ليس من باب الانتقاص والتخوين، وإنما لوضع الحدث التاريخي في نصابه، فقلّما لسكان الأطراف أن يدعوا إلى صيغة جامعة، وخاصة في غياب مستوى ثقافي عالٍ. ويُظهر موقف العلويين يومها حال غربة عن المحيط الوطني الكبير، ويُبرز الحيرة آنذاك في توضيع أنفسهم في السياق العام عقب انفراط العقد العثماني، حيرة تردّدت بين أربعة طوارد وجواذب: رفضٌ للصيغة الإسلامية للاجتماع + تفضيل إطار القومية العربية + أملٌ بإطار قومية سورية قطرية + حلمٌ باستقلال ذاتي. ويصبّ تَواصُل بعض العوائل العلوية مع فرنسا في هذا التردّد، ويعكس حيرة البحث عن مأوى سياسي لهويةٍ متوتّرة. ويعني كل ذلك أيضاً أنّ الدعاوى العلوية النصيرية بأنهم حصن القومية العربية في سورية لا ينهض به الدليل.
الوُحدة فرصة ضائعة:
تمثّل فكرة الوُحدة بعد زرع إسرائيل بعقدٍ من الزمان وبعد شرذمة بلاد الشام هدفاً عربياً استراتيجياً يتجاوز النشوة العاطفية التي شعرها السوريون والمصريون والشعب العربي عامة. غير أنّ السلوك السياسي لقادة الوحدة بين مصر وسورية لم يرتقِ إلى عظمة المهمة. وسرعان ما انتقل إجلال الهدف إلى تعظيم القائد الملهم. ولا بأس أن يتغنّى الشعب بالرئيس الأسمر إذا كان ذلك من باب شحذ همّة الأمة نحو عملٍ مبرمج ومدروس. أما أن ينقلب الاحتفاء بالرئيس إلى تقديسٍ يرتشح إلى الضباط وكبار المسؤولين الذين بُعثوا إلى سورية فهذا أمر آخر. وكيف إذا رافق ذلك عبثٌ ثقافي باسم القومية العربية، واستبدادٌ فردي وجهلٌ إداري وسياسياتٌ اقتصادية عابثة… فهذا ما أحال فرصة الوحدة إلى خيبة أمل.
ولقد كانت الوُحدة ضرورة إقليمية قاد إليها أمران: تنافس المحورين الهاشمي-العراقي و المصري-السعودي على النفوذ في سورية. ولم تكن الحاجةُ الداخلية للمّ شعث البيت الذي يمارس فيه العسكر ضغوطاً منفصلةً عن الفاعليات الأقلوية منذ الاستعمار الفرنسي وإن لم تكن ظاهرة على السطح يومها.
وينبغي إدراك أنّ سلطوية صيغة الوُحدة –وإن سعت لتحييد تدخل العسكر في السياسية– كانت هي التي مهّدت ثقافياً وبنيوياً للتمكّن الأقلوي فيما بعد ومنذ استيلاء حزب البعث على السلطة. واستند التمهيد الثقافي إلى خطاب اشتراكي لمعالجة سوء توزيع الثورة، وبدل أن تُبرز هذه الإشكالية ويُعمد إلى معالجتها بابتكار آليات تنسجم مع ثقافة البلد، عولج الأمر من طرف الفكر اليساري الذي ولّد وعزّز الأحقاد الطبقيّة.
وعلى الصعيد الإداري، أدخلت فترةُ الوحدة مع مصر نظامَ الاستخبارات (المكتب الثاني) على نحوٍ لم تعرفه سورية من قبل. وجرى “التأميم” الاعتباطي لمعامل صناعية كثيرة أحالها من فسحة الربح إلى هامش الخسارة والعطالة، كما جرى “الإصلاح الزراعي” الذي لم يرتقِ إلى ما رفعه من شعارات. ولقد غرقت هذه “الإصلاحات” في التزمت الإيديولوجي، ولم تغنِ الفلاحين ولا العمال، ولم تُنصفهم ولم تُنصف المالكين الذين صودرت أراضيهم، بل خرّبت فاعلية الاقتصاد الوطني وخنقت حيويّته.
إيديولوجيا مولّدة للاستبداد:
التهيئة للسيطرة الطائفية كانت مبكراً من أيام الانتداب، غير أن البُعد الطائفي لم يبدأ بالتمكّن والظهور إلا بعد 17 سنة من الاستقلال. السبعة عشر سنة هذه ضمّت سنين عجافاً في فترة الوُحدة مع مصر، أُزهق فيها الهدفُ النبيل بسبب سوء الإدارة وسوء التصميم.
طائفية الحكم في سورية لم تدخل ابتداءً من باب طائفي، وإنما من باب اغترابٍ ثقافيٍ مثَّله طرحُ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي هو مزيج لاغترابين تشخّصا في الحزب الاشتراكي (1938) وحزب البعث العربي (1947). وأصبح همُّ مزدوجة الاغتراب هذه (الطرح القومي × الطرح الاشتراكي) اجتثاثَ ثقافة الشعب ومعاداةَ نمط حياته، والشراكةَ مع العسكر ومباركة عنف أجهزة الدولة من أجل تحقيق الهدف الثوري التحرري!
ولقد ناقشنا في فصل سابق ضرورة التفريق بين العروبة والقومية العربية، فالأولى مسلمة واثقة بهويتها الثقافية بينما الثانية رافضة للخلفية التاريخية للأمة. وعملياً نتج عن تبنّي مفكّري الأقليات غير المسلمة والنخب المسلمة المستغربة لمفاهيم القومية العربية أو القومية السورية زعزعة أسس الاجتماع والوحدة والاستقرار في بلاد الشام بسبب التنكّب عن هويتها الحضارية. ولقد سبقت مناقشة السياق الذي انجذبوا فيه إلى الطروح الحداثية. ولنا أن نتذكّر أنّ ميشيل عفلق ومن قبلُ زكي الأرسوزي هما العَلَمين الفكريين لحزب البعث، واحدٌ ذو خلفية مسيحية وآخرُ ذو خلفية علويّة-نصيرية. كما كان مؤسس الحزب القومي السوري أنطون سعادة المسيحي، وكان قسطنطين رزق وجورج حبش المسيحيين خلف حركة القوميين العرب. الوجود العلوي في هذه الحركات على مستوى النخب كان محدوداً بسبب التدنّي العام لتحصيلهم العلمي آنذاك، ولكنهم شكّلوا فيما بعد رصيداً بشرياً لها. ولكن لا يعني ذلك أنه لم يكن هناك دور لمن هم من خلفية مسلمة، بل كان بعض السنة المغتربين ثقافياً من أول المؤسسين والمشاركين في الحركات التي تبنّت الأفكار الأوروبية. فإذا تكلمنا عن أفرادٍ نجد أنّ النخبة المثقفة عامة –بغض النظر عن خلفيتها الدينية– تقمّصت الفكر الأوروبي، أما إذا تكلمنا عن حواضن شعبية اجتماعية فكانت الأقليات هي حواضن الفكر الهجين.
وقد يُعترض على هذا التشخيص في أن منطقتا حوران و دير الزور شكّلتا فيما بعدُ خزاناً بشرياً لكوادر حزب البعث. غير أن هذا حدث بسبب تهميشهما من قِبل الحكومات الوطنية الخاضعة تحت النفوذ المدينيّ والتي أهملت الأرياف والأطراف، مما يجعل موقف أهل هذه المناطق أقرب إلى التبنّي المصلحيّ ارتكاساً لأزمةٍ عارضة. والشاهد هو أنّ الثورة السورية المباركة للقرن الواحد والعشرين أعادت ربط هاتين المنطقتين والأطراف جميعها وكل أصقاع البلد بهويتهم الحضارية، مما يجعل من حالتهما تأكيداً لما قدّمه التحليل وليس نفياً له أو استثناءً. وفاجأت هذه الإنابة الفطرية المراقبين الذاهلين عن الثقافة المحلية وعمقها التاريخي، ولكن لم تفاجئ الذي يعرفون هذه المناطق ويعرفون الشعب السوري حقّ المعرفة. ومقابل عودة جمهرة السنّة إلى التمسّك بهويتها الحضارية العربية المسلمة، وجدنا الاشتطاط في التسربل بالمثاليات الحداثية بين الطوائف غير المسلمة.
وعلينا توضيح أمر. إنه لا يمكن حرمان الناس من حرية خياراتهم الفكرية، فمن شاء أن يؤمن بالماركسية أو الليبرالية أو بما هو رفض للدين فليؤمن ومن شاء أن يكفر بها فليكفر. كل الذي نقوله هنا إنّ ما نَصِفه بالاغتراب الثقافي كان المدخل للتمكّن الطائفي الذي سار على السكّة العسكرية. وهو اغترابٌ حقيقةً لأنّ هذه الطروحات كانت كارهةً لثقافة الشعب ومتعاليةً عليه، وتعيش حالة حلولٍ ثقافي مع الآخر المستعمِر ولو كانت ترفع شعار التحرّر من الاستعمار!
إنّ الحكم العسكري لحزب البعث الذي اغتصب السلطة في 1963 –والذي مهّد له عبث ثقافي إداري في أيام الوُحدة– كان في آنٍ انعكاساً للتنظير الماركسي ونتيجةً طبيعةً للانسلاخ الحضاري ومعاداة الثقافة العامة للشعب، واتكاءً على تهميش الريف من قبل المدينتين الكبيرتين خصوصاً. ويمكن أن نعبّر عن أثر الاغتراب الثقافي على السياسي بالعبارة المبسّطة التالية: إذا كنت تكره روح الشعب وطريقة حياته، فهل لك من سبيلٍ إلى الحكم غير الاستبداد العسكري؟ وكيف إذا كان هذا النوع من الاستبداد مبرّر إيديولوجياً على أنه “ضرورة ثورية” ولازمة لاجتثاث “التخلّف” المتمثّل في الثقافة المسلمة المحافظة وركيزته “المادّية” المتمثّلة في اقتصاد السوق والاصطفاء البرجوازي؟
خلاصة:
ذكرنا أنّ القوى الاستعمارية لم تكتفِ بتقسيم بلاد الشام، بل زادت على ذلك بتمكين قيام دول في عهدة النخب التي تبنّت القومية العربية والاشتراكية على نحو يتنكّر للخلفية الحضارية المسلمة للمنطقة ويعادي ثقافة الشعب ويعتمد الاستبداد والبطش من أجل تحقيق هذا. وكانت الأقليات في مقدمة من هشّ إلى هذه “الإصلاحات” الحداثية والحاضن الطبيعي لها.
ولقد ألمحنا إلى الحالة اللبنانية وفصّلنا في الحالة السورية. أما فلسطين فقد واجهت مكراً من نوع آخر. وضمن إطار موضوعنا، إسرائيل هي الدولة الطائفية الثالثة في المنطقة. وبرغم أنّ هذا وصفٌ غير كاملٍ وأنه يمكن تشخيص حالتها بعدة أوصاف تتعلّق بأوجهها الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، إلا أنه يصحّ أيضاً وصفها بأنها مشروع طائفي. فهو طائفي بمعنى انفراد طائفة واستغلاقها ونقمتها على المحيط التي تعيش فيه وتتغذى منه. أما الأردن فكان القطعة الوحيدة من الشام التي لم يمكن بناؤها على أساس طائفي لانعدام المخزون البشري الذي يقوم بهذا، وانحصر الأمر بالانسلاخ الحضاري التامّ لقياداته والاكتفاء بالتبعية الكاملة للمستعمر، فالأردن موارد وموقعاً وطول حدودٍ مع إسرائيل لا يمكن أن يقوم على مقوّماته الذاتية.
☆☆☆
إنّ تهديد الثورة السورية للاستقرار الإقليمي وتزعزع البلدان التي حولها ما هو إلا انعكاسٌ لطبيعة تشكّل دول المنطقة، وهو انعكاسٌ للتصميم الاستعماري الذي وضعها بعهدةٍ طائفية، ولو حاولت التخفّي بألف ثوب تقدّمي، وهو ثالثاً رفضٌ شعبيّ فطريّ لانتماءٍ لا يمثّل أحلامه وثقافته. ولا حاجة للتدليل على مركزية بلاد الشام في التاريخ الحضاري للمنطقة، ومنطقةٍ كهذه لا يمكن أن تصلح معها السيطرة الطائفية الناكرة للعشير، ولا يمكن أن يُنسخ منها البُعد العروبي المسلم. فكيف وقد اســـتبضعت السلطةُ السياسية أخيراً النفوذ الإيراني؟ ولنا أن نقول إذاً، إنّ محاولة اجتثاث الدور الحضاري لبلاد الشام ما هو إلا استيلادٌ للدور الإسرائيلي بنسخة عربية الاسم طائفية المضمون.
مازن موفق هاشم
13/3/2013
([1]) لمراجعة تفاصيل دور الجيش في السياسة آنذاك، انظر: بشير زين العابدين، الجيش والسياسة في سورية 1918-2000: دراسة نقدية. دار الجابية، 2008م.
([2]) Philip S. Khoury. Syria and the French Mandate: The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945. Princeton: Princeton University Press, 1987.
[3] برفنس، مايكل. الثورة السورية الوطنية وتنامي القومية العربية. ترجمة وسام دودار ومراجعة زياد منى، دار قدمس، لبنان، 2013، ص 25.
ميلاد أمة في خضم التفاعلات الحضارية والجيوسياسية
ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني
ميلاد أمة-2: التوجهان العروبي الإسلامي والقومي العربي
ميلاد أمة-4: من مِلَل إلى أقليات: مقدمات
أ) حالة المسيحيين: العروبة والوطنية
ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه
ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي
ميلاد أمة-5: التصميم الطائفي لدول بلاد الشام
Tagged: الأقليات والسياسة, الثورة السورية, الربيع العربي, الطائفية, خلفية الثورة السورية
[…] ميلاد أمة-5: التصميم الطائفي لدول بلاد الشام […]
I’m imeersspd you should think of something like that