وبعد، فقد كتبتُ في موضوع يصعب المرء أن ينجو من اللوم فيما فعل. وليس هذا الذي يهمّني بقدر ما يهمنى عدم إساءة الفهم. ولقد حاولت جهداً أن تكون العبارات دقيقة، ولكن أنّى للعبارة أن لا تخون قصد الكاتب، وأنّى لها أن تخاطب بآن حساسيّات كل أطياف القرّاء. ويعرف الكُتّاب أنّ من يريد أن لا يوجّه إليه أي انتقاد –ولو كان غير عادلٍ وفي غير مكانه- عليه أن يكفّ عن الكتابة ولا يتكلّم في موضوع ذي شأن.
وسوف يصِف الحداثيون المثاليون منطق الرسالة بأنه (طائفي) لأنه عالج مسألة الطائفية بلغة غير اعتذارية. ولكن أفضل ما نقوم به من أجل السلم الأهلي في هذه المرحلة الحرجة هو عرض أفكارنا ومشاعرنا ومخاوفنا (على المكشوف)، بأدبٍ ولكن بدون مداورةٍ ولا كثير مداراة. فثمة مشكلة طائفية في سورية لا شك، ولا بدّ من أن تواجهها المجموعات المختلفة من أجل أن تفهم آلام وآمال بعضها البعض.
وكأي تحليلٍ علمي فإنه يُـقدّم دقة العبارة على مراعاة مشاعر الناس، فالكتابة الجادّة ليست من نوعِ خطب المجاملة في العلاقات العامة. وعلميّة أي معالجةٍ لا تعني أنها نهائية، بل يرِد فيها التعقيبُ والاستدراك. ويمكن للكاتب أن يتحاور مع من يعقّب ويستدرك، غير أنه لا يوجد كثيرٌ من الفائدة في الحوار مع من يرفض مسلّمات طرحٍ ما.
مسلّمتان اثنتان شكّلتا ناظم التحليل في هذه الدراسة: الأولى أنّه تتمتّع منطقة بلاد الشام وما حولها والمنطقة العربية عموماً بخلفية حضارية تاريخية مسلمة. والفرض المستبطن هو أنّ هذه الخلفية هي ذات قيمة كبيرة بغضّ النظر عمّا يعتري التاريخ والتجربة البشرية من أخطاء. والفرض المستصحب معها أنّ عامة الشعب السوري –وإن كان ليس كلّه- يحترم هذه الخلفية ويريد أن يعيش على نحو أو آخرٍ مستظلاً بظلالها.
المسلّمة الثانية هي أن الفلسفة الغربية للاجتماع لا تناسب مجتمعاتنا العربية المسلمة. ولا يعني ذلك إجراء قطيعة مع التجربة العالمية، وإنما رفضاً لنجاعة استيرادها على نحوٍ آليّ قسريّ. ولا تعيش مجتمعاتنا العربية منقطعة عن تيارات الثقافة العالمية، بل تتفاعل مع معطى الحداثة و ما زالت تنسج لنفسها من عناصر الحداثة ما تراه مناسباً.
ومن لا يقبل بهاتين المسلّمتين –برغم كثرة الشواهد عليهما- سوف يصطدم مع كثيرٍ من تفاصيل الدراسة أو يحمّلها غير ما أُريدَ منها.
ويمكن لسوء الفهم أن يأتي من الطرفين، الموافق والمخالف. ويحسن الانتباه إلى أنه جرى استعمال عبارة (الحضارة)، والمعطيات الحضارية تكون عادة نتاج كل فرق المجتمع. كما جرى استعمال عبارة الخلفية المسلمة وليس الإسلامية لكي يؤخذ البُعد الثقافي بالحسبان وما يضمّ من رحابة التأقلمات. وعلى الصعيد السياسي يعني ذلك أنّ قيم الإسلام أو التاريخ الحضاري للإسلام يشكّل مخيالاً وطنياً لا يمكن تجاوزه. وهذا بالضبط هو محلّ إشكالية الطروح النخبوية الأقلوية. ومن جهة أخرى، لا تعني الإشارة إلى الخلفية الحضارية المسلمة التي استبطنت الدراسةُ محوريّـتها أنّ الشعب السوري يعشق مجالس المشايخ وينصاع لآرائهم وفتاويهم، كما لا تعني أيضاً أنّ غالبية الشعب هي من صنف أعضاء الجماعات الإسلامية تلتزم بإديولوجياتها الحركية أو نظامها التربوي. وهذا بالضبط هو محلّ إشكالية فهم الجماعات الإسلامية للمجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً.
وإذا أخذنا المسلَّمتين معاً، فإنه لا يعود هناك معنى لكثير مما يعترض عليه الطرح العَلْماني. والسبب الجوهري لعدم وجاهة الاعتراضات أنها تضع الخلفية الحضارية المسلمة ندّاً للتفاعل مع الحداثة وما آلت إليه أوضاع الاجتماع البشري.
ويدّعي الطرح الحداثي المحض أنّ استصحاب الهويّـات الدينية معناه تطييف المجتمع. هذا واردٌ في الفهم المغلق للإسلام، أما عندما يكون التوجّه نحو قيم الإسلام وعطائه الحضاري ومقاصده الكبرى فالأمر ليس فيه تطييف لا من قريب ولا من بعيد. وعلى كل حال، ليس ثمة أي دليل على أنّ الطروح غير الدينية هي أقل تطييفاً. فمثلاً، ليست القومية ببعيدة عن العنصرية إذا فُهمت على وجههنا الأروبي من الاجتماع وفق مفهوم دولة-شعب (nation-state)؛ ولذلك قلنا بمحورية العروبة بمعنى بُعدها الثقافي والذاكراتي وفي عمقها اللغوي، ورفضنا القومية العربية بالمعنى الشوفوني التعصّبي.
كما يدّعي الطرح الحداثي أنّ الدين يدعو إلى انقسامات عمودية معقلها الهويات، مكان الانقسامات الأفقية التي تجري موازية للأحوال المعيشية للناس في مجتمعات الحداثة. وفي هذا أيضاً قصورُ فهمٍ لواقع الحداثة واختلاف سيرورة نشأة مجتمعاتها، وفيه تسليمٌ بعالمية النموذج الأروبي. وذلك لأنه تظهر النظرة المتفحّصة أنّ هنالك فروق كبيرة في تطبيقات هذا النموذج، كما أنه لم تختفِ الانقسامات العمودية والفئوية في تلك المجتمعات، بل تضخّمت بالإضافة إلى حضور الانقسامات الطبقية والمصلحية.
وختاماً، ينبغي التأكيد على أنّ الارتباط الوجداني بالحضارة الإسلامية لا ينافي –ويمكن أن يحفز- فكرة الاحتفاء برابطة الوطن والتعايش الإيجابي المشترك بين الفئات المختلفة للشعب. كما أنه ليس فيه رفضٌ لتنظيم المجتمع وفق الأساليب الحديثة ودور المؤسسات المدنية فيها، ولا يتعارض مع فكرة جريان القانون بالتساوي بغضّ النظر عن التصنيف المجتمعي، إذ يتحرّك ذاك الارتباط على صعيد آخر في عالم المخيال والدوافع والقيم، ويدخل عالم السياسة من ناحية الوجهة وليس من ناحية الآلية السياسية الديمقراطية.
Tagged: الأقليات والسياسة, التعددية, الثورة السورية, الربيع العربي, الطائفية
اترك تعليقًا