ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي
نتابع حديثنا عن المجموعة الثالثة التي ساهمت في أقلَنة المشهد السياسي الاجتماعي السوري، ألا وهي المجموعة التي يُطلق عليها في سورية اليوم اسم “العلويين”. ولكن ثمّة ضرورة علمية لاستعمال اسمهم الأصلي “نصيرية” أو اسم “العلويون-النُصَيريّة” لتفريق حالهم عن حال العلويين التُرك (في تركيا هناك فرقة تدعى “علوية” وتشابه الإسماعيليين نوعاً ما، وهناك فرقة أخرى تدعى “نصيرية” تسكن في ولاية هاتاي/إسكندرون)، ولكيلا يختلط الأمر على القرّاء العرب وخاصة القرّاء من المغرب العربي. وأولاً وآخراً ليس لهذه الفرقة علاقة مع سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا دينه، وكانت فرنسا ساعة الانتداب هي التي أطلقت عليهم هذا الاسم الجديد.
ولا يفوتني أن أشكر الأخوة الأربعة الذين راجعوا هذا الموضوع الحسّاس، وأشير إلى أنّ اثنين منهم من المنطقة الساحلية.
أبدأ بالتذكير بأن الفكرة المركزية التي تربط أطراف الموضوع الذي نناقشه هي أنّ الثورة السورية ليست مجرّد ثورة ضد نظام سياسي، وإنما أنها عملية ميلاد أمة غُيّبت منذ فترة الاستعمار واعتُدي على هويتها المسلمة من قِبل نخبٍ ثقافيةٍ ومواقف أقلوية سواءً أكان ذلك بقصد أو بغير قصد. وإنها تلك الهوية التي تحاول استعادة فضائها الطبيعي في سيرورة الثورة. وبالمقابل وفي غمار هذه العملية، تتأزّم بازديادٍ هوية المكوّنات الأخرى للمجتمع السوري.
وكما جرى الحديث عنه من قبل، لا يمكن فهم مواقف المجموعات قليلة العدد من غير أن نضعها في سياق الإرث العثماني ونظام الملّة. فلقد حفظ نظام الملّة للمجموعات المختلفة درجاتٍ عالية من الاستقلالية. والمفارقة أنّ هذه الاستقلالية هي التي دَعَت الفِرقَ إلى تأزيم هوياتها فيما بعدُ، وذاك التأزيم نتج عن الفكر الحداثي الوافد وعن السياسات الاستعمارية لفرنسا وإنكلترة وروسيا، حيث بذرت بذرته قبل الانهيار العثماني –وتمهيداً لهذا الانهيار– بإعطاء الميّزات للطوائف وادّعاء الدفاع عنها وعن مصالحها.
وأنبه إلى نقطة منهجية في البحث، ألا وهي أنّ التحليل العلمي لا يشغل نفسه بالإدانة وتعيين الإثم، وإنما يركّز على محاولة فهم الظاهرة وتحليل أوجهها، ويسعى إلى فهم موقف الآخر وكيفية تفكيره والعوامل التي تحمله على سلوكٍ معين، ولو كان هذا الآخر عدواً أو معتدياً، ولو كان سلوكه منحطّاً أو إجرامياً، من غير أن يقع التحليل في نسبية أخلاقية تبريرية.
وإني لعلى وعيٍ كاملٍ أنّ الخوضَ في مثل هذا الموضوع في زمن التهاب المشاعر نتيجة عسفٍ وعذاباتٍ وتخريبٍ وقتلٍ وتشريدٍ وتدميرٍ لبلدٍ ووطن، مجازفةٌ لا تلقى عادةً قبول القرّاء وتُزعج وتُغضب الناس على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم. وحسبي أن أسعى إلى التحليل العلمي، فهو وإن كان يحتمل التعقيب والاستدراك ولا يمثّل إجابةً نهائية، هو الأقوم –خلافاً لكتابات التنديد والتهييج– ولا يخدش التزام الكاتب بقضية الثورة وتعايشه الواثق مع قضية أمّته.
وسوف تتمّ معالجة حالة العلويين النُصيريّة من خلال تحليل ثلاثة أبعاد: هامشية الفرقة، ومستوى ثقافتها ومهاراتها، والاستقطاب الدولي الذي تعرّضت له.(★)
1- الهامشية والمظلومية:
كثيراً ما تشعر الأقلّيات أنها مظلومة على نحوٍ أو آخر، أو أنها مهمّشة على الأقل. شعور التهميش قد يدفع الأفراد إلى العمل الدؤوب ليجبُروا هامشيّتهم وليرتقوا بمنزلتهم في عدة صُعُد: معاشية وعلمية واجتماعية واقتصادية وربما سياسية. ويمكن لهذا النمط أن يتحقّق للمجموعات التي عندها ذخيرة ثقافية وافرة. وخير مثالٍ على هذا هو حالة اليهود. فاليهود عاشوا دهوراً يلفّهم شعور الظلم والاضطهاد، وكانت عيشتهم عيشة انعزالٍ في غالب الأحيان، اختاروها لأنفسهم ليحموا دينهم القوميّ. وبعدما سمحت الظروف لخروج اليهود من الأحياء المنغلقة (الجيتو) التي كانوا يعيشون فيها، استثمروا مهاراتهم الخاصة، من التوفير الشحيح واقتناء المستعمل من الأغراض إلى المراباة وإلى التحصيل العلمي… ولكل ذلك أساساته في ثقافتهم الخاصة. حالة الأرمن حالة أخرى يمكن الاستشهاد بها.
وفي تحليل وضع النصيريين، علينا استحضار سياق انتماءٍ طائفي له إشكاليّته الخاصة. إنّ انتماء النصيريين إلى فرقةٍ تُعتبر في كتب التراث من الفرق الباطنية يختلف عن انتماء المسيحيين الذين يُعتبرون من أهل الكتاب، وهو مختلف عن الكُرد الذين هم مسلمون. وإذ نشير إلى أهمية سياق انفكاك الرابطة السياسية للعثمانيين، يُشار في الوقت نفسه إلى أنّ الرجوع إلى الماضي السحيق لتاريخ العلويين-النُصيرية كفرقةٍ دينية لا يمدّنا بأدواتٍ تحليلية مفيدة للمسألة التي نعالجها. إنّ الذي ينبغي التركيز عليه هو اعتبار نُصيريّة العلويين من جهة وضعهم في السياق العثماني في فترة أفول النظام الملّي وتضارب ذلك مع النظام الحداثي الذي هبط مع الاستعمار، مع عدم إهمال خصوصية الانتماء الديني. ولن يغفل التحليل عن الهامشية المتعدّدة للعلويين-النصيرية: هامشية قلّة العدد، والهامشية التي تأتي مع العيشة الريفية، وهامشية العيش الطرفيّ في المناطق الجبلية بخاصة، وهامشية الانعزال الطوعيّ عن المحيط المسلم الكبير، وهامشية انعزال التوجّس لفرقةٍ متطرّفة ظهرت في تاريخ المسلمين ولم تنسجم مع جسمه الكبير قطّ، إلى جانب باطنيّة فكرتها الدينية التي حرمتها موضع الاحترام في المجتمع وأكسبتها صفة المروق عن منهج الصراط المستقيم.
فالحالة العلوية-النُصيريّة هي الحالة الأكثر تأزماً أقلويّاً في سياق الدولة السورية لِما اجتمع لها من عوامل الهامشية والتمكّن غير الشرعي. وليس من أمرٍ يولّد الحنق الاجتماعي مثل تسلّم فرقةٍ هامشيةٍ مقاليدَ الحكم مع فقدان الأهلية وفقدان المنزلة؛ إذ يصبح الانتقام في مثل هذا الوضع الاجتماعي ديدن المسيطرِ المكلومِ داخلياً. فكيف إذا تحوّل التمكّن إلى استبدادٍ عسكري بغيض.
وعلينا أن نتذكر أنّ المجموعات التي تنتمي اسمياً لدينٍ وتبتعد عنه ابتعاد مروقٍ –وليس مجرّد ابتعاد فسوق– تعاني من مزدوجة رفضين: رفض المجتمع للطائفة الشاردة بعد أن أهانته بتدنيسِ صفاء أصل الدين بتقليعاتٍ متسربلةٍ مع خصوصياتٍ فئوية، ورفض الطائفة للمجتمع الكبير الذي يكتنفهم لشعور الطائفة أنه يبتلعها؛ أي أنها علاقة رفض متبادل.
ويتداول “العلويون” اليوم فيما بينهم وعند نشأتهم قصص ظلمٍ وإقصاءٍ تعرّضوا له تاريخياً. ولا يرتع هذا الشعور في نفوس الأجيال القديمة فحسب، وإنما أيضاً له حضور بين الجيل الجديد الذي عاش سنين عديدة في المدن. ومن المفيد التفريق بين علويي ما قبل النزول من الجبل وما بعده، أو علويي القرى وعلويي التجربة المدينية لما بعد الـسبعينيات من القرن العشرين.
فمن هو الظالم المتّهم في المخيال النصيري؟ هل هم قوم معينون أم هم أهل ديانة معينة؟ لا شك أنّ النُصيرية يكرهون العثمانيين كرهاً شديداً. غير أنّ الهوية العثمانية كانت أيضاً هوية إسلامية، ولذا يمتدّ الكره ليشمل الالتزام الإسلامي عامة، ويشبه موقف النُصيرية في ذلك موقف الأرمن.
والطريف أنّ كره الأرمن للتُـرك مفهوم حيث كان الصدام معهم، أما تمديد هذا الكره ليشمل المسلمين فهو أمرٌ عجيب مختلق، فالذين فرّ إليهم الأرمنُ فاحتضنوهم هم مسلمون. ولا يمكن فهم الموقف النفسي للأرمن من غير استحضار الطرح القومي الذي حمّل دين العثمانيين كل نقيصةٍ قام بها القوميون التُـرك أصحاب توجّه تركيا الفتاة. هذا الطرح القومي الحداثي هو الذي يفسّر الموقف المختلط للأرمن؛ وإذ أنهم يذكرون بخيرٍ أهل بلاد الشام الذين آووهم، فإنهم في الوقت نفسه ينفرون من دينهم نفوراً غريباً مع أنّ دينهم هو من جملة ما حملهم على المعاملة الحسنة. ومثل ذلك، يمتدّ كره العلويين-النصيرية ليشمل المسلمين والانتماء السنّي بخاصة لأنّ العثمانيين يعتَبرون حماة السنّة. وتأخذ المسألة بُعداً طائفياً حادّاً عند النصرية لأن مذهبهم ابتعد ابتعاداً كاملاً عن الخطّ العام للإسلام وعن أفكاره المؤسِّسة، ولم يكن ابتعاده مجرّد اجتهادٍ فقهيٍّ شاذٍّ غريبٍ يحتمل التأويل. وفي كتب التراث تصنّف فرقة النصيرية تحت زمرة “الغلاة”، والمذهب الشيعي أيضاً لا يعتبرهم مسلمون.
إنّ التحليل الذي يحاول فهم الآخر لا يستغرق في التحقّق في مدى صحّة دعاوى الظلم والإقصاء. فالذي يهمّ في محاولة فهم الآخر هو أنّ أصحابه يشعرون كذا، وشعورهم هذا يدفعهم إلى اتخاذ مواقف معينة، ويدفعهم إلى عقد ولاءاتٍ سياسية ذات طابع معيّن. نعم، لا بدّ في النهاية من توضيح السجلّ التاريخي لكي يتبيّن المصدر الرئيس للظلم ولكي تُعرف الفِرق التي حملت وزره. إذاً، علينا أولاً التركيز على النفسيّة الجمعيّة للعلويين-النصيرية الذين يشعرون أنهم مظلومون مهمّشون مُـقصَون. فها هم الذين يعتقدون أنهم رزحوا تحت نير السيطرة العثمانية يجدون أنفسهم قد انفكّ عنهم القيد. ولا غرابة عند ذلك أن يتوجّه المثقفون منهم نحو القومية العربية أو القومية السورية، وأن يسعى بعض الزعماء العشائريين إلى استرحام من أتى الانفكاكُ على يديه (الفرنسيون) وأن يعقدوا صفقةً مع عدوّ من يكرهونهم (الأكثرية) في دولةٍ تتشكّل حديثاً.
هامشية النصيريين استمرت إلى ما بعد انفراط العقد العثماني وخضوع المنطقة إلى الانتداب الفرنسي منذ 1920. وأول ما ينبغي ملاحظته هو ريفية المعيشة، فالعلاقات الريفية/المدينية تتّسم عادة بدرجة من الاستغلال من قِبل تجار المدينة ومن قِبل ملاك الأراضي (المحليين وغير المحليين). ويشعر الريفيون عامة أنهم يقعون تحت رحمة من يشتري منتوجاتهم، ولا يملكون في تلك العلاقة قوة تفاوضية. غير أنّ المصدر الأكبر للظلم عادة هو من جهة ملّاك الأراضي المحلّيين، لأنهم يحوزون على أدوات سيطرةٍ وتحكّمٍ أكثر من التجّار العابرين. ويندرج هذا تحت مشكلات النظام الإقطاعي للإنتاج. ويُنبّه هنا إلى أنه لم يكن في سورية إقطاع واسع وحادّ، وإن وجدت بضع عائلات متملّكة. وينبغي التأكيد على أنّ استغلال الملّاك (والمرابعين) في بلاد الشام لم يكن بالتمام مدينيّ المصدر، بل كان هناك عوائل متنفّذة من الريفيين أنفسهم، وقد ينشأ تحالف مصلحيّ بين الملّاك الريفيين وأقرانٍ لهم من المدينيين ومع التجار، أو قد تتسم هذه العلاقة بدرجة من التنافس. وقد يدخل الانتماء الطائفي العشائري كعاملٍ في هذه العلاقات، ولا سيما أنّ نمط الانتاج كان جماعياً وليس فردياً. ولعل أوضح تجسيدٍ لهذه العلاقات وأكثر تعبيرٍ عن تشابكها هو بعض عوائل الدروز في المنطقة اللبنانية والسيطرة السياسية التي اكتسبتها هذه العوائل تفويضاً من العثمانيين، وما ترافق ذلك أحياناً من تحوّل أو ازدواجية في الانتماء الطائفي ومن تناحرٍ بين الطوائف غير المسلمة.
فهذا وجه المظلومية من ناحية الانتماء الريفي للعلويين-النصيرية، والذي يتقاطع مع الانتماء الطائفي. وعلينا أن نُقدّر هذا الوجه من احتمال الظلم بقَدَره، فلا نقع في الزوايا الضيقة للمنهج الماركسي الذي يهوى الاتهام والطعن، ولا ننكر معلوماً عليه شواهد وافرة. غير أنّ الوضع الريفي للعلويين-النصيرية لا يُفسّر إلا جزءاً من أزمتهم، فقد اشترك في المصير الريفيّ كثير من غير العلويين، ولم تتأزم هويتهم على النحو الذي حدث بين النصيريين.
الريفية واحتمال الاستغلال الاقتصادي يفسّر الانجذاب الذي أبداه الريف عامة للأفكار الاشتراكية منذ “الإصلاح الزراعي” الذي استهلّه نظام الرئيس جمال عبد الناصر بعد الوُحدة بين سورية ومصر، والذي تابع فيه الحُكم البعثي بعد 1963.
ولسنا هنا في مقام التفصيل في الأثر الاقتصادي السلبي الذي نجم عن هذه الإجراءات (إلى جانب أثر تأميم المصانع) التي جرت على نحوٍ فيه كثير من الاعتباطية والنزعة الانتقامية. وربما يكفينا القول إنّ الإيديولوجيات القومية يومها مالت إلى المسلك الاشتراكي وإلى رغبة التحالف مع القطب السوفيتي، ولا سيما أنّ المعسكر الشرقي بدا أقلّ دعماً لإسرائيل مقارنة بالمعسكر الغربي. وحصل هذا الميل في قطاعاتٍ ريفيةٍ عدةٍ وضمن شرائح مدينية مثقّفة، ولم يقتصر على العلويين-النصيرية. غير أنّ الانتماء الطائفي له علاقة هنا، إذ أنه عزّز الميول الاشتراكية ورسّخ اعتبار النموذج السوفيتي نموذجاً صالحاً للاقتداء، رسوخاً على مستوى الهوية وليس على مستوى السياسات والتدابير فحسب. وذلك لأن غير النصيرية يتمتّعون بروابط متينة مع عامة المجتمع السوري، والميل الاشتراكي قد يكون عندهم مجرّد خيارٍ تنموي، في حين أنه للعلويين-النصيرية (ولعامّة الأقليات التي نشط فيها التبشير الماركسي) خيار انتمائي يستدعي الفخر. لقد مثّلت الدعوة الاشتراكية الماركسية لهؤلاء أمراً يتجاوز حيّز الخيار الاقتصادي. لقد مثّلت لهم نمط حياة اجتماعي وهوية تُعفيهم من ألم الهامشية الواقعة أو الـمُختلقة. ويمكننا ملاحظة أنّ بعض المسلمين ممن انجرف مع دعاوى البعث (لأسباب مفهومة) رجع في النهاية إلى البوتقة العامة للمجتمع، أو بقي على تواصل أكبر مع المحيط الكبير المسلم، وتراجعت الصفة الإيديولوجية للميل الاشتراكي والانتماء البعثي لتبقى تلك الصلات صلات نفعية بحتة.
وثمة عامل مهمّ في تفسير تأزّم المشكلة العلوية-النصيرية، ألا وهو النمط الحياتي والمنزلة الاجتماعية للطائفة. فالترفّع المديني تجاه حياة القرويين مشهودٌ له في كل البلدان وعلى اختلاف الثقافات، وثمة ترفّع مشابه بين أهل القرى المزارعين تُجاه الرعاة من أهل البادية. خطوط الحزازات الاجتماعية هذه معروفة، وقد أخذت دوراً أكبر في الحالة النصيرية بسبب عاملين: (1) مناخ الفكر الماركسي الانتقاميّ وتبريره للحقد الطبقيّ، (2) وميل قطاعاتٍ واسعة من المجتمع المديني نحو الأنماط الحداثية الأوروبية.
بالنسبة للنقطة الأولى يُشار إلى أنّ الخطاب الثقافي التقليدي الممتزج مع الخطاب الديني لم يخلُ من تبريرٍ للاستئثار السياسي والاقتصادي، ووقع في الاعتذارية لما ينبغي للدّين أن يدعوَ إلى تغييره. غير أنه في الوقت نفسه احتوى هذا الخطاب التقليدي/الديني على آليات تخفّف الجفاء بين الطبقات وتيسّر آليات التكافل الاجتماعي. ومقابل هذا مارس الخطاب الماركسي تأجيج الحقد الطبقي الذي شكّل تبريراً للحكم على نحوٍ اعتباطي، تمثّل لاحقاً على أرض الواقع ظلماً فادحاً وتحكّماً وأرضية للاستبداد السياسي البشع كـ”ضرورة ثورية” أو كحالٍ مؤقتةٍ يتمّ فيها “حرق المراحل”.
أما بالنسبة للنقطة الثانية، أخذت الحداثة الأوروبية في نفوس عامة الناس موضع الإعجاب إلى درجة الانبهار الساذج وموضع الاستسلام الذي همّه التقليد المغلوب الممزوج مع الخزي بالنفس. وحيث أنّ نمط التنمية الحداثية ينحاز إلى المدن، رسّخ الفجوة الريفية المدينية على صُعُد الحياة كلها، من فرص التعليم إلى توافر أسباب الرفاه. بعبارة أخرى، لو قارنا حال المدن بحال القرى في أوائل القرن العشرين لوجدنا تشابهاً في أنماط العيش برغم كل الرغد والسؤدد التي امتازت به المدن الكبيرة، في حين أننا لو أجرينا هذه المقارنة في منتصف ذاك القرن لوجدنا تبايناً شاسعاً بين الشرائح التي تبنّت نمط الحياة الأوروبي أو أوجهاً منه والشرائح التي بقيت على النمط التقليدي، وهو ما حفل به الريف. إن الذي طرأ بعد الانتقال إلى النموذج الحداثي للحياة أنه حلّ مصدرٌ جديدٌ للتعالي والتفارق بين مختلف الطبقات الاجتماعية وبين الريف والمدينة. والأكثر إفصاحاً عن هذه الإشكالية أنّ التعالي عند من يتبنّى النموذج الجديد مبررٌ ظاهرياً، فمن ذا الذي يجرؤ أن يشكَّ في تفوّق النمط الأوروبي؟ أَوَليس الخطاب النهضوي ما زال يلهج بــضرورة “التقدّم” واحتذاء النموذج الأوروبي على نحوٍ أو آخر، ويتّهم من يشكّ به أو يعقّب عليه بالتخلّف أو اللاواقعية؟!
ومرة ثانية نجد أن العامل الأقلويّ عامل إضافي يدفع العلاقات إلى مزيدٍ من التأزيم، فحال العلويين-النصيرية أبقاهم في أدنى السلّم الطبقيّ، كما حرمت الاستقلالية النسبية للطائفة من الاستفادة من تجربة الحداثة. وحتى بين الرفاق البعثيين أنفسهم نجد أنّ الراديكالية –أو الغربة عن توجه الأمة والقطيعة عن النسيج الاجتماعي– تشتدّ بقدر طرفيّة الانتماء. قارن على سبيل المثال وضع الأعضاء البارزين في حركة حزب البعث: صلاح البيطار (خلفية مسلمة) و ميشيل عفلق (خلفية مسيحية) و محمد عمران (خلفية نصيرية). ويُضاف إلى ذلك ابتعاد المجموعة العلوية-النصيرية عن النسق المحافظ لمجتمعات بلاد الشام، وخاصة عند اعتبار أعرافهم تجاه العلاقات الجنسية. فصيت عدم “الغيرة على العرض” في مثل هذا المجتمع يُكسب سمعةً سيئةً تُبرّر النظرة الدونيّة.
وإذا انتقلنا من الماضي الذي وطّأ المشهد إلى الحاضر القريب، لا يمكننا أن ننسى أنّ الثورة السورية المباركة أتت بعد فترة استطاع فيها أفرادٌ من العلويين-النصيرية الارتفاع بمنزلتهم الاجتماعية، ليس فقط من ناحية التحصيل المادّي؛ بل من ناحية أخذ مواقع ظاهرة في المجتمع بما في ذلك الفن، وكذلك من ناحية تطبيع العلاقات ونشوء الصداقات بما في ذلك حالات من الزواج خارج الطائفة. والثورة التي استلهمت الروح الإسلامية تضغط على العقدة العثمانية عند الطائفة النصيرية، وهي عقدة مزدوجة قومية ودينية، وحصل هذا من الأيام الأولى وقبل أن ينجح النظام في إثارة الاصطفاف الطائفي. أي أنه بغض النظر عن تهديد الثورة للانفراد السياسي للطائفة واحتكارها للسلطة، ثمة تهديدٌ آخرٌ قبالته يتعلّق بالوضع الاجتماعي للطائفة، وربما هو أعمق جَرحاً وأكثر إثارةً للخوف والقلق؛ وكأن لسان حال “العلويين” يقول: هل ستعيد الثورةُ الطائفةَ إلى هوامش المجتمع؟
2- مستوى التثقّف وامتلاك المهارات:
لقد أصبح أفرادٌ من الطائفة العلوية-النصيرية أباطرةً يملكون الأموال الطائلة. غير أنّ تطبيع وضع الطائفة لا يمكن أن يأتي عن هذا الطريق وحده، بل هذا ممّا يشوّه عملية التطبيع. ولا يرفع عقيرة قومٍ تحصيلُ المال الكثير عن طريق الولاء السياسي والابتزاز وسرقة المال العام، وإن كانت حيازة المال تفتح أبواباً كثيرة لأفرادٍ منهم وتُيسّر سُــبل الصعود الاجتماعي. إنّ العامل الحاسم في صعود قومٍ وتطبيع وضعهم وخروجهم من الهامشية هو دخولهم الطبقة الوسطى. وإذ لا شكّ في وجود أفرادٍ بارزين ذوي تحصيل عالٍ ينعكس إيجاباً على مجموعة الأقليّة، غير أنه لا بدّ لهذا الصعود أن يُنظر إليه أنه صعودٌ مشروعٌ لم يخالف أعراف المجتمع، ولا بدّ لتحقّق الارتفاع أن يتمّ من خلال قنوات يُصادق عليها المجتمع ويقدّرها.
فهل حقّقت الطائفة العلوية-النصيرية تقدّماً في تشكيلها الطبقي؟ يعني هل اقتربت من التوزّع المعياري للشعب السوري بحيث تجد قليلاً من الأغنياء وشريحةً بحجم ما من الفقراء وغالبيةً في المنتصف بين ذاك وذاك؟ يفتقر الجواب العلمي على هذا إلى بيانات وإحصاءات غير متوافرة، مما يضطرنا إلى تقدير الأمر وحزره من الشواهد الظاهرة.
إنه من المعروف أنّ قطاعاً من الطائفة العلوية-النصيرية أثرى ثراء كبيراً، كما نعرف أن قطاعاً ما زال في هوامش الفقر في القرى. ولكن يوجد المجموع الأكبر من الطائفة في مناصب جهازي الجيش والاستخبار، وفي الوظائف الحكومية التي أسديت إليهم. ولذا أتت السعة المالية النسبية للعلوية-النصيريين عن طريق الرِشا والاختلاس. غير أنّ المال المختلس للطبقات الدنيا ينفق عادة على السلع الاستهلاكية ولا يبني قاعدة مالية، وربما تقود سهولة التحصيل مع غياب الثقافة إلى إنفاقها في المآثم والحياة الرخيصة. بعبارة أخرى، إذا غابت الثقافةُ المالية وعاداتُ المحافظة ونمطُ الادخار عند الشرائح الدنيا، تبدّد المال المختلَس وذهب. وإن محض الاقتناء لبعض الرفاه لا يرتفع بالمرء والأسرة إلى طبقة أعلى. غير أنه ينبغي اعتبار تراكم الامتيازات التي خُصّ بها وسطيو العلويين. فكم من قناة غير شرعية انفتحت على قطاع عريضٍ من العلويين مما يدفع نحو الطبقة الوسطى. ويضمّ ذلك استملاك الأراضي وإعطاءها للعلويين-النصيرية، كما يضمّ التوظيف المزدوج حيث يكسب الفرد (وزوجته) أكثر من راتبٍ واحدٍ لوظائف وهمية، إلى جانب أتاوات أصبحت جزءاً من الحياة تصل إلى أيدي الطائفة لمجرد شبكة علاقاتهم بجهاز الاستخبار. وكما أسلفت، نفتقر التحديد الإحصائي لحجم هذا القطاع ولحجم امتيازاته.
المؤشر الثاني ذو الدلالة القوية لإمكانية الصعود الاجتماعي لفرقة ما هو مستوى مهاراتها ومستوى تعليم أفرادها. وأيضاً نفتقر إلى بيانات رقمية بخصوص الطائفة العلوية-النصيرية لتعطي ثقة بالتحليل. ومن الملاحظ القلّة النسبيّة للعلويين-النصيرية في المهن الفنية، فحتى المهن المتواضعة المتعلقة بالبناء لا يوجد فيها أعداد كبيرة من الطائفة. ونعلم أنّ الجيش وطواقم الاستخبار يجنّدان أعداداً كبيرة من الطائفة، وبرغم تناقص نسبتهم في الرتب الدنيا ما زال الالتحاق بالجيش وجهاز الاستخبار خياراً راجحاً لكثير منهم، بالإضافة إلى مهن السواقة والحراسة والاندراج في جملة طاقم الخدمة لكبار المسؤولين من الطائفة. ويشار إلى أنّه لا يمدّ التوظّف في الجيش السوري بخبرات مهنية خلافاً لجيوش البلدان المنظّمة. ويقابل وضعُ الطبقات الاقتصادية الدنيا بين العلويين-النصيرية وضعَ غير المتموّل من عامة الشعب السوري الذي قد يضطر إلى السفر (بلاد الجزيرة العربية مثلاً) فيحصّل المال والخبرة.
بقي أن نأخذ بعين الاعتبار المستوى التعليمي للطائفة. فبالإضافة إلى أنّ في الطائفة نخبة مثقّفة وأصحاب مهنٍ عالية –كالأطباء– الذين استقرّ كثير منهم خارج سورية، نعرف أنّ النظام احتكر فرصاً تعليمية للطائفة التي ينتمي إليها، ومارس ذلك لفترة عقود؛ فالمنح والابتعاث متحيزة إلى حدٍّ كبير تجاه الطائفة. فما هي المحصّلة النهائية لهذا، وهل مهّد ذلك لتشكّل طبقة وسطى بين العلويين؟ الجواب الدقيق يفتقر إلى دراسات ميدانية.
3- الاستقطاب الخارجي للطائفة:
بدأ الاستقطاب الدولي للأقليات في زمن العثمانيين، حين اعتبرت فرنسا وانكلترة وروسيا نفسها مسؤولة عن حماية رعايا الديانات المسيحية في الكيان العثماني المسلم. وفي البداية، لم ترحّب بعض الطوائف المسيحية بهذا التدخّل، غير أن الطائفة المارونية أبدت ترحيباً ملحوظاً. وبغض النظر عن الموقف الشعبي للأقليات المسيحية، كانت المواقف الفكرية للنخب الوطنية –وفيها وجود مسيحي غالب– هي التي وضعت الأسس الفكرية لهذا الاستقطاب الذي نعيشه إلى اليوم. وبدون إدراك هذا لا يمكننا تفسير الموقف العام البارد أو المتشكّك أو المعادي للثورات العربية من قِبل أغلب الفرق العَلْمانية، سواءً اليسارية أم الليبرالية أم القومية.
ودعنا نضع المسألة على نحو مبسط جداً ونقول: ما الرأي في قوم يريدون مناهضة معتدٍ غازٍ بتبنّي فكره؟ كان هذا هو التناقض الـمُحزن الذي سقطت فيه النخب المثقفة، وعلى رأسها نخب الأقليات بما فيها الأقلية العلوية-النصيرية؛ ودور فكر زكي الأرسوزي (ت1968) محلّ شاهد في هذا. وإنه من العبث هنا أنّ يدخل التحليل في الإشادة بوطنية النخب أو في تخوينها. فبغض النظر عن النيّات الشخصية للنخب والظروف الموضوعية التي استمالت خياراتهم، لا بدّ من التأكيد على أنه لا يمكن تحرير قومٍ إذا تمّ تمثّل فكر عدوّهم المناوئ، ولو اصطبغ هذا الفكر بألف لونٍ عقلاني ديمقراطي ليبرالي.
كان لا بدّ من الإشارة للبعد الفكري الذي وطّـأ للاستحواذ الخارجي، ويمكن أن نقابله على أرض الواقع بإجراء لا بدّ وأن ترك أثره في نفوس الناس على نحو عميق، ألا وهو تشكيل كياناتٍ على أساس طائفي. فكما سعت فرنسا لتأسيس كيانٍ أُعطيت فيه القوة السياسية للمارونيين المسيحيين في قطاع لبنان (قبل انفصال لبنان عن سورية الكبرى)، أنشأت فرنسا قطاعاً من بلاد الشام اسمه “الدولة العلوية” تحت السيطرة السياسية للعلويين-النُصيريّة. ولم يكن المارونيون هم الكثرة الغالبة في قطاعهم، كما لم يكن العلويون هم الكثرة الغالبة في قطاعهم (الذي امتد لـ 17سنة بداية من 1920). شعور المارونيين باستحقاقهم لبنان كجزء من خرافةٍ قومية ترتبط بالفينيقيين أمرٌ معروف، وهو أمر يدلّل على أثر الفكر على السياسة، حيث نشطت الكتابات التي تحيي تاريخ المنطقة القديم لما قبل الإسلام. غير أننا لا نعرف مدى عمق شعور الاستحقاق بدولةٍ نصيرية يومذاك بين العلويين، والأغلب أن ذلك كان غائباً لأن المخيال السياسي للنصيرية هو مخيال فرقةٍ منعزلة في الجبال. لم تستمرّ “الدولة العلوية” التي أنشأتها فرنسا لأسباب موضوعية بحتة، وكان للشعور القومي العربي الذي غمر المنطقة دورٌ في ذلك. كما لم تكن الطائفة النُصيريّة مهيّأة للانفراد بدويلتها من جهة توافر الطواقم الإدارية لهذه الدولة ومن جهة قدرتها على الاستقلالية الاقتصادية. وهكذا عادت الكتلة السكانية العلوية-النصيرية إلى كنف محيطٍ عربيّ مسلم، وكانت عودة كارهةً؛ إذ كانوا يفضّلون الانضمام إلى لبنان بسبب تركيبتها الطائفية ولأن السنّة ليسوا أغلبية فيها. وكان تسليم الرئيس حافظ أسد هضبة الجولان ذات الموقع الاستراتيجي المتميّز إلى إسرائيل (1967) هو الذي رسّخ التبنّي الخارجي للطائفة، سواءً أدرك هذا وعي أفراد الطائفة أم لا.
من أجل فهم ما آلت إليه التطلّعات العلوية-النصيرية اليوم علينا أن نعود إلى تلك الأيام، أيام تشكّل كيان سياسي اسمه سورية. ولنقترب من الواقع ولْنتخيل وضع النصيرية غداة الانفلات من السياج العثماني القديم وحلول قوة الاستعمار. لقد كانت الغالبية العظمى من النصيريين تعيش في القرى الجبلية في المنطقة الساحلية. ومن دوافع القوى الاستعمارية-الاستخرابية السيطرة على الفاعليات الاقتصادية. والوضع الاقتصادي المترهّل الذي انتهت إليه الدولة العثمانية ازداد سوءا (أو ازداد تحريفاً بالمصطلح الاقتصادي) بعد ولوج القوى الاستعمارية. ففي حين تسعى الحركة الطبيعية للاقتصاد إلى تلبية حاجات الناس، همُّ القوى الاستعمارية توجيه الاقتصاد وجهةً جديدة تخدم أولويات البلد المستعمِر المعتدي. ونعرف أنّ أوربة الصناعية كانت تبحث عن مواد خامٍ وعن تسويقٍ لمنتجاتها. أما من الناحية السياسية فقد بحثت القوى الأوربية الاستخرابية عن مجموعات موالية تسهّل عليها عملية السيطرة، ولكي تقوم هذه المجموعات بإدارة البلد بالنيابة، وليس أفضل من اجتذاب الأقليات لتشكيل فصيلٍ شعبي موالٍ، إلى جانب اجتذاب الطامحين من كتلة الأكثرية –ومن نخبة القوم بخاصة– الذين تُسدى إليهم المناصب البارزة. ولم يكن النصيريون وحدهم الذين تمّ توظيفهم في البرنامج الاستعماري، فقد جرت أيضاً محاولات احتواء الدروز، كما أنّ الوضع الاستثنائي للمسيحيين معروف، بالإضافة إلى نخبة السنّة كما ذُكر سابقاً.
الأمر الخاص بالعلويين-النصيرية هو أنّ كتلتهم كبيرة مقارنة بغيرهم من الأقليات، وأنّ جلّهم غير مثقف، مما يجعل إثارة الحنق بينهم أمراً يسيراً. وكان خيار الالتحاق بالجيش خياراً معقولاً للشباب العلويين، وهذا ما شجعت عليه فرنسا، فالدول التوسعيّة تسعى لأن تنأى بجنودها عن مباشرة المعركة بإنشاء فرقٍ مجندةٍ من سكّان الأراضي التي سيطرت عليها. وهكذا جنّدت فرنسا نسباً كبيرة من الأقليات في جيشها “جيش المشرق”، وكان فيه نصيريون كُثر بحُكم أنهم أكبر أقلية، وفيه أيضاً ضباط من نخبة عوائل المدن الرئيسة. ولعلّ أكثر الأمور غرابة أنّ هذا الجيش هو الذي شكل نواة الجيش السوري بعد الاستقلال. وهكذا كان في الجيش منذ لحظة تأسيسه نواة طائفية في الرتب المبتدئة، وأتى ذلك في فترة ما بعد الاستقلال التي يكون فيها عادةً قدرٌ من التدخّل للجيش في السياسة.
أما تفاقم الدور الطائفي في الجيش فقد جرى بعد تأسيس ما يُعرف بـ “اللجنة العسكرية” التي ضمت ثلاثة علويين ودرزي واسماعيلي، إلى أن انفردت الزمرة العلوية بمكامن القوة والنفوذ ضمن المؤسسة العسكرية تحت قيادة عائلةٍ منها. ونعلم اليوم أنّه تمّ تشكيل هذه اللجنة العسكرية الطائفية –وكانت سرّية آنذاك– في عهد وحدة سورية مع مصر في 1960نيات؛ وهذا مما يُفنّد دعاوى العروبة التي كانت تختبئ وراءها الطائفة. ولم يقتصر البُعد الطائفي على الجيش فقط، وإنما دخل في الجسم السياسي، جسم حزب البعث العربي الاشتراكي (الذي تسلّم الحكم في سورية سنة 1963)، حيث أدّت نزعتُه الماركسية الانتقامية وعداؤه للتديّن أن يُخترق من قبل الطائفة العلوية-النصيرية الأكثر تماسكاً من عموم طواقم أعضاء حزب البعث.
والخلاصة، إن الاستقطاب الخارجي للطائفة العلوية-النُصيريّة نما ومكّنها من السيطرة على الجيش أولاً، وأعطاها نفوذاً سريّاً نجح في استلاب المنصّة السياسية عبر العناصر الماركسية في فكر حزب البعث وعبر قوميّته العربية، فسيطرت هذه الطائفة سياسياً بحكم تماسكها العشائري، وازدادت قوّة الطائفة بتمكّنها من السيطرة على جهاز الاستخبار الذي أصبح هو الحاكم الفعلي فيما بعدُ.
4- الخلفيّة النُصيريّة والتديّن:
تعتبر كتب التراث في الفقه الإسلامي والعقيدة المذهبَ النصيري مذهب غلاةٍ باطنية، ولا تعتبر مجموعة أتباعه فرقةً مسلمة. وسبب ذلك معروف، وأبسط ما يمكن أن يعبّر عنه هو عدم تسليم المذهب النصيريّ بأركان الإسلام أو أركان الإيمان. وحتى كتب التراث الشيعي لا تعتبر النصيريين مسلمين. غير أنه ظهر بين النصيريين في عدّة محطات تاريخية مشايخ حاولوا تقريب الطائفة إلى مبادئ المذهب الإسماعيلي أو إلى الشيعة الإمامية الإثنا عشرية. والغالب أنّ دافع ذلك كان مزيجاً من رغبة إخراج العوام من حالة الجهل ورغبة في تطبيع وضعهم السياسي. وهناك “نداء” مشهور أُطلق باسم الشيخ عبد الرحمن خ سنة 1968 (هو الشيخ عبد الرحمن الخير الذي ينتمي للطائفة النصيرية والذي درس وتوسّعت مداركه) فيه تأكيد للأزمة المذهبية عند الطائفة، وهو النداء الذي ذهب أدراج الرياح. وتؤكّد هذه الرسالة أنّ الشعوبية الفارسية والأفكار الباطنية غشّت جمهور “العلويين” وأنهم في أصلهم مسلمون، غير أنّ هناك من استغلّ جهلهم فصرفهم عن الحقّ بممارسات الدجل.
وعند تأسيس الدولة السورية، اعتبر الدستورُ السوري أنّ “العلويين” مسلمون، كنوعٍ من التسوية السياسية ولرسم شخصيةٍ جديدة لبلدٍ مخترع لم يوجد من قبل. كما استخرج الرئيس حافظ الأسد (سنة )1973 من الإمام الشيعي في لبنان موسى الصدر فتوى بأن العلويين مسلمون. ولقد حرصت النخبة السياسية عند الاستقلال على تطبيع وضع “العلويين”، فنُسبت للطائفة مواقف وطنية. ومن أجل استيعاب الطائفة حوّر الخطابُ الوطني فهم ثورة صالح العلي أيام السيطرة الفرنسية من ثورة محلية إلى ثورة وطنية. ويؤكد المؤرخ المشهور فيليب خوري أنّ ثورة صالح العلي في 1920 كان همّها الحفاظ على انعزالية الطائفة ولم يكن لها بُعد وطني شامل، وأنّ غالبية مناطق العلويين لم تنخرط في الثورة السورية الكبرى.
وبغضّ النظر عن ذلك، يتميّز العلويون-النُصيريّة بعدم عمق الحسّ الديني عندهم، إلا جملة من مسلّمات تلقّفوها من بعض مشايخهم. وتكاد لا تجد أثراً للتديّن في حياة النصيريين، إلا اعتقاداً بالولي فلان حيث تنتشر بعض القبب في قراهم، وهم لا يصلّون ولا يصومون… ومن جهة أخرى يردّدون بعض العبارات الباطنية مثل “المعنى علي، والاسم محمد، والباب سلمان الفارسي”، كما يردّدون عبارة “علي أمير النحل” (وأصلها عبارة شيعية)، إلى جانب بعض الألفاظ التي اكتسبوها بحكم طول المعاشرة ولا سيما بين الأجيال الجديدة.
ورغم كون المعاني الدينية غائرة غائبة في الضمير النصيري، إلا أن محاولتهم إخماد ثورةٍ زاخرة بالمعاني الدينية أخرج إلى السطح في هوية الطائفة طبقةً غيبيّة لها رمز دينيّ.
وعلى صعيد المواجهة الصدامية مع الحكم الطاغوتي تتوزّع قوّات الموالاة التي تقوم بالقمع بين ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى أفراد مجنّدون مغلوب على أمرهم يتمنّون الخلاص، ولا يتعدّى تأقلمُهم مع المهمّة التي أُسديت إليهم بلادة الحسّ ومحاولة طرد مشاعر الإثم، إلى جانب الخوف. المجموعة الثانية هي مجموعة العتاة والسفلة الذين ليس لهم تقدير لأي مبدأ أخلاقي أو وازعٍ إنساني، يخيفهم التألّق الديني للثورة ولكن لا يُثنيهم. المجموعة الثالثة هي العلويون-النصيرية من بطانة الحكم، وهم بطبيعة الحال على تنوّع، غير أنه يجمعهم شعور الذعر من الانمحاء والزوال. عقدة البقاء هي التي تميّز عامة النصيريين عن غيرهم من الذين يشاركون في القمع، فالهوية الجمعية للمجموعة الأولى من المسلمين هوية مصانة لا يهدّدها موت أفراد، وموت أفرادٍ منها هو كذا موتٌ لفردٍ يخشاه المرء كما يخشى أن يموت في حادثٍ طارئ. أما مجموعة الإفساد في الأرض (المجموعة الثانية) فتتلذّذ بالشقاء ويتغذّى بأسُها بالمخاطرة على ضفاف الجرائم والموبقات. المجموعة الثالثة (النصيريون) هي التي ترى أنّ المعركة معركتها كونها مِلّة معرّضة للخطر، مما يدفعها إلى استنقاذ مستودع أساطيرها عسى أن يُسلّي مصابها.
كان مناخ الذعر الشديد الذي يعيشه النُصيريّة من مقهورٍ استطاع رفع رأسه هو الذي دفع لظهور مفاهيم غيبية بينهم، مفاهيم منسجمة مع خرافاتهم الموروثة أو مستمدّة منها. ومن ناحية أخرى غلبت طقوسية الكفر خلال التعذيب الحاقد الخدِر الذي لا يبالي بالتمثيل بالأحياء وإكراههم على تأليه الطاغية الحاكم.
وثمة نفرٌ من العلويين انحازوا دينياً وفق آلية المضاهاة اللاشعورية ليعدّوا أنفسهم شيعة. فالزخم الديني الطافح للثورة في البيئة –التي هي محافظة ومتديّنة ابتداء– رسّخ بداهة الهوية الدينية وأنها أمر طبيعي لا تستقيم الحياة بدونها. لقد شجّع الظرف الثوري وتباين الصفوف على محاولة بعض العلويين-النصيرية التدثّر بعباءة شيعية من باب تأكيد الأحقية بالوجود ولصرف النظر عن أصل الإشكال، ألا وهو النظام الطاغوتي الذي تدعمه الطائفة بوعي أو بغير وعي. وكما هو معروف، ولاء الطائفة للنظام الحاكم شبه مطلق، باستثناء نخبة من المثقفين. ولا يخفى أن إيران وجدت فرصةً تاريخيةً للتبشير ونشر تشيّعها الصفوي، بغضّ النظر عن هدفها الأصلي السياسي الاستراتيجي.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّه في غضون بداية الثورة السورية في 2011 كان أن مضى على التبشير الشيعي في سورية عقدٌ ونيّف. ولم ينشط التدخّل الإيراني الكبير وبناء الحسينيات إلا في العقد الأخير في زمن الأسد الابن، وكان الأسد الأب لا يسمح بنشاط شيعي كثيف، وإن كان قد سمح بإنشاء جمعية المرتضى بقيادة أخيه جميل الأسد من باب التطبيع الديني للعلويين. وثمة قليل من الدراسات التي تتناول مسألة التشيع في سورية بشكل عام، والمتداول أن عامّة العلويين-النصيرية عندهم بلادة نحو أصل فكرة الدّين، ولذا لم يستهويهم التشيّع. ولكن الراجح أنّ العلويين كانوا أكثر من استجاب لجهود التبشير الشيعي، ومعلوم أنه تشكّلت منهم مجموعة ما يسمّى “الشيعة الجدد”، وهي مجموعة عقائدية متماسكة ومستعدّة للتضحية.
5- كلمة في الاصطفاف الطائفي:
فاجأت الثورةُ الباسلة التي رصّت لحمة الأكثرية نظامَ الطغيان الذي تأسّس فكرياً وفق مفاهيم ماركسية منذ أيام البعث في 1963 ووفق آليات مؤسّــسية تبنّت نمط ألمانية الشرقية. وكان أقدر الفئات على استغلال هذا المنزع الفكري والآليات التي رسّخها هي الفرقة التي تعاني أشدّ درجات الغربة والبُعد عن رابطة المجتمع والتي تتطلّع للاقتصاص منه، ألا وهي الطائفة العلوية-النُصيريّة.
واجهت ثلّةُ الحكم الطاغية السادرة في غيّها المجتمعَ الثائر بعنفٍ وتنكيلٍ وتخريبٍ وتشريد قلّ أن عرفت مثله البشرية، ولم تتورّع من أن تسحق شرائح هامشية من خارج الطائفة كانت يوماً هي مصدر دعمها في الصفّ الثاني. ونجحت الثلّة الحاكمة في زجّ الطائفة بأسرها في أتون مغامرتها الإجرامية. وهكذا انغلقت الأبواب على الطائفة العلوية-النُصيريّة، واستهلكت ما جرى من تطبيعٍ لوضعها تحصّل من خلال أبّهة الحكم ووفرة المال والارتفاع النسبي للمستوى المهني لبعضٍ منهم؛ فانتكس المشهد الوطني، وتبنّت الطائفة أقلوية عداءٍ انتقاميّ لا يبالي بتجاوز كل الضوابط الأخلاقية.
لقد بدا النظام الحاكم بالنسبة لوسطيّ الأفراد في الطائفة العلوية-النصيرية وكأنه سبب إخراجها من هامشيتها والوسيط الذي أدخل الطائفة إلى عالم الحداثة، وإن كان السبب الأعمق هو تطورات تاريخية تمكّنت فيها الحداثةُ بقيادة الرأسمالية العالمية من اختراق العالم الثالث وإعادة تشكيله. كما أن أعداداً كبيرة من العلويين-النصيرية حصّلت في ظلّ النظام على رغد عيشٍ لم تحلم به من قبل. ولا ينافي ذلك بقاء أعدادٍ كبيرة منهم سجينة قراها المهملة أو سجينة وظائف خدمية لنخبة طائفتها، إذ أنّ “الامتياز النصيري” يتحقّق عملياً من خلال الولاء المطلق للطائفة، وشبكة وساطة ومحسوبية، بالإضافة إلى ميزة القدرة على الوشاية والإيقاع بالآخرين وإمكان الانتقام منهم (مثلاً أصغر رتبة عسكرية من الطائفة يمكن أن تتهم ضابطاً غير نصيري اتهاماً يوديه إلى السجن، وأي فرد من الطائفة يمكن أن يختلق تقريراً يقدّمه لجهاز المخابرات إيقاعاً بإنسانٍ من عامّة الشعب). إن المفارقة الكبرى هي أنّ العلويين-النصيرية الذين بقوا في أسفل السلّم الاجتماعي الاقتصادي وليس لديهم فرصة للارتفاع برغم انفراد طائفتهم بالسلطة، هم –بحُكم موقعهم– أكثر من شارك في السلوك الهمجيّ وارتكاب الجرائم البشعة لقمع الحراك الثوري ومَن تعاطف معه ومن شارك أدنى المشاركة.
وينبّه المنافحون عن الطائفة إلى أنّ الحُكم الذي تسيطر عليه حفنةٌ من “العلويين” لم يتردّد عن تحجيم عشائر علوية منافسة وعن تصفية مناوئيه ولو كانوا من الطائفة، وخاصة مناوئيه من النخبة السياسية اليسارية. هذا أمرٌ معروف، غير أنّ العناصر النصيرية التي أوقع بها النظام كانت شركاء في المسيرة الفرعونية إلى لحظة الصدام الداخلي وتعارض المصالح. والعشائر العلوية الساخطة على النظام كانت غير راضية لفوت فرص الامتياز فحسب. فهل سبّب جفاؤها من النظام مغادرة الموضع الطائفي، أم بقي الأمر على نحو حسرةٍ طائفية من نوع آخر؟ وهل نتج عن بُعدها النسبي من النظام اقترابٌ من الهوية الجامعة للوطن، أم وقعت في اغتراب متعدّد؟ ربما حصل هذا بين المثقفين خصوصاً.
كما يدافع المنافحون عن الطائفة قائلين إنّ النظام دفع شبابنا إلى الجيش والاستخبارات وحرمهم من تطوير المهارات وأبقى أكثرهم في هوامش الفقر. وهذا صحيح كما أوضحنا، لكنهم تفانوا في خدمة النظام وتفنّنوا في أساليب التنكيل. وإنّ سلوك الجيش وقوى الاستخبار التي تسيطر عليها نخبةُ الطائفة سلوكٌ في منتهى الإجرام والنذالة لا يمكن أن يُعذر منه بشر، ولا يأبه الذي يُقتل أهله ويعذَّب ويُحرق بيته بتحليل الأسباب التي دعت إلى الجريمة؛ ففهم الأسباب لا يعذر المجرم.
ومثل ذلك يقال في الاعتذار بأنّ قوى الشبّيحة البلطجية الأرذال فيها من المهرّبين والمجرمين من كافّة الشعب ولا يتورّعون عن استهداف قرى أهليهم وأفراد طائفتهم. ولكن هذا لا ينفي أنهم يعملون ضمن رؤية طائفية ولخدمة أهدافها. وربما تختلف نسب النصيريين بين الشبيحة البلطجية بحسب المنطقة، والراجح أنهم يشكّلون الأكثرية الساحقة بين شبّيحة الساحل وحمص، أما في غيرها من المناطق فالجاري على الألسن أنّ نصف عداد الشبّيحة هو من النصيريين. ويشار أيضاً إلى أنه لا ينتمي كلّ عناصر الجيش الذي يقوم بتدمير البلدات والمساكن والبنية التحتية إلى الطائفة النصيرية. فهل يمنع ذلك إطلاق وصف الطائفية على النظام؟ يعتمد الجواب على الوجه الذي يركّز عليه التحليل، هل هو سلوك الأفراد أم بنية المؤسسة. فلا خلاف في أن قيادة الجيش بيد الطائفة، وأنّ بنية الجيش بنية طائفية تتحكّم في مفاصله، كما هو الأمر في قوى الاستخبار، وكذا يقال في مواقع النفوذ في الجهاز السياسي وفي بيروقراطية الحكم.
وكل ذلك يشكِّل مفارقاتٍ تفتح باب تبادل التهم ولا تسمح بإغلاقه. فلا ريب في أنّ النظام نجح في تجنيد الطائفة ككُل، وأنّ هذا التكتّل المجتمعي هو الذي يستند إليه النظام، وهو الذي يراهن عليه في خططه الانفصالية في المستقبل إن لزم الأمر. ومن وجه آخر، هناك علويون-نصيرية شاركوا في الثورة، وهناك من قدّم معونة إغاثية في ساعة حرج. ويذكّرنا الذين يرون أنّ الطائفة وُضعت ظلماً في قفص الاتهام بأنّ الطائفة تفتقر إلى زعامة تتكلّم باسمها على المستوى الاجتماعي وإلى سلطة دينية لها كلمتها المسموعة بينهم. هذا صحيح، والنقد الموجّه للطائفة ليس نقداً دينياً وإنما نقداً لمجموعة ثقافية أرادت أن تبني مجدها من خلال الإجرام. والأكثر دلالة أن هناك علويين-نصيرية انتقلوا إلى المدن السنّية (دمشق بخاصة) وتتطبّع وضعهم الاجتماعي جزءاً من مناخ التنوّع في بلدنا، فإذا بهم إما أصبحوا جنداً للنظام أو على الأقل واجهةً تذبّ عنه وتحاول تبرير ممارساته.
وهناك المثقّفون من الطائفة العلوية-النصيرية المعارضون للنظام والذين تعرّضوا للسجن والتوقيف والتضييق. وموقف المثقّفين حرجٌ لأنّ عليهم تبني خطابٍ لا يفقدون فيه ثقة عناصر طائفتهم، كما أنّ بروزهم وشهرتهم يجعلهم يتحرّكون ضمن خطوط حمراء يرسمها النظام الطائفي. وإن الحصانة التي يوفّرها الانتماءُ للطائفة إنما تنفع في الحال الطبيعي، أما عند المواجهة الصفرية فتصنَّف المواقف ضمن ثنائية الولاء/الخيانة. ولكيلا يقع التحليل في العنصرية الطبقية التي تُعلي من شأن المثقفين وتبرئهم، علينا أن نتذكّر أنّ عناصر مثقّفة من الطائفة وذات تحصيل مهني عالٍ شاركت في أعمال خسيسة جداً في قمع الثورة (مثلاً طاقم طبّي من الطائفة مارس التعذيب في المستشفيات)، كما أنّ هنالك من بسطاء العلويين-النصيرية من رفض القيام بالأعمال الخسيسة. أي أنّ العمق الأخلاقي لا يمشي دوماً موازياً للمستوى الثقافي.
وبغض النظر عمّا سبق، رؤية المثقفين العلويين رؤيةٌ عَلْمانية يغلب عليها التطرّف، وخياراتهم العملية هي مما تبغضه الوجهة العامّة للشعب، وما الثورة إلا جهدٌ رافضٌ لاستلاب الهوية. ولو ترأّس حُكم سورية هؤلاء النصيريون المعارضون، لأنشأوا نظاماً يتنكّر لثقافة البلد ويستقوي بالدول الغربية. ويشار إلى أنّ عموم العلويين-النصيرية يتوجسون من الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وهذا أمر متوقّع، فغيرهم يتوجّس من ذلك أيضاً. غير أنّ الأقلّيات تتذرّع بالمتطرفين لكي تحجب الإرادة العامّة للشعب المسلم، كما تبالغ في خلع صفة التشدّد وتنسبه لأي توجّهٍ إسلامي أو توجّهٍ محافظٍ، ويصل ذلك حدّ حرمان قطاعاتٍ واسعة من الشعب من خياراتها المعيشية. ومن جهة أخرى يجري التمترس بافتراضاتٍ حداثية عن نمط الحياة المثالي، مما يعني عملياً إقصاء نسق الحياة المفضّل لدى الأكثرية.
إنّ ما سبق ليرسم جملةً من المفارقات الحادّة، فصحيح أنّ الوضع السوسيولوجي للطائفة لا يدفع إلى المشاركة في الثورة أو مناصرتها، إلا أنّ الطائفة في الوقت نفسه شكّلت الحاضنة الشعبية للقمع والتنكيل، وصارت قرى الطائفة وأحياؤها (وكذا البلدات الشيعية مثل نبّل والزهراء قرب حلب أو الفوعة قرب إدلب) مواقع استراتيجية عسكرية/أمنية استثمرها النظام استثماراً كاملاً. ولا شكّ في أنّ التفاف الطائفة حول النظام هو من أهم أسباب استمراره. كما أنّ القوى الدولية تستغلّ الانتماء الطائفي وتموّه خططها الاستعمارية بحجّة الدفاع عن حقوق الأقليات. ويضاف إلى ذلك استساغة التحالف الذي أجراه النظام السوري مع النظام الإيراني، فزاد في حجم السخط الموجّه إلى الطائفة. وهكذا وقعت الطائفة في شراكٍ هي مادة حبال شبكته، وأصبح العلويون-النصيرية في النظرة العامة –كطائفة وليس كأفراد- يُعتبرون من جملة النظام ومن لُحمة الطغيان، بغض النظر عن أي صيرورة أودت بهم إلى درك الشقاء.
ولقد قادت جدلية الفاعليات إلى اصطفاف طائفي جرى فيه –يا للأسف– دغدغة أفكار ومشاعر الانتقام الجماعي لدى بعض أفراد الأكثرية. غير أنه ينبغي تفريق مشاعر الانتقام –التي تعكس حال الاحتقان– عن الأفكار الانتقامية التي هي جزء من إيديولوجية صلبة مغلقة. فالأُولى هي تنفيسٌ وتعبيرٌ عما يستحقّه المعتدي بحسب ما يرى المظلوم المقموع، لكن احتمال تحوّل هذه المشاعر إلى فعلٍ احتمالٌ بعيد جداً أو معدوم، وتبقى في حيّز الانتقامات الفردية حين تحصل. أما حين يكون الانتقام والتصفية جزءاً من إيديولوجية حدّية فإنّ احتمال تحوّلها إلى واقع هو أعلى بكثير، ويمكن أن يتمّ على نحوٍ منظّم مخيف.
ويشار إلى أنّه لا تتحرّك مسألة الانتقام من الطائفة العلوية-النصيرية موازيةً لشدة التديّن، وإنما تتعلّق بنوع التديّن وطبيعته، وعمقُ التديّن ونضوجه يحجز عن السلوك الانتقامي ولا يحفزه. كما أنّ ثمّة مشاعر انتقامٍ مصدرها حنقٌ عشائري بحت، وليس دينياً. ولا بدّ من التذكير بأنه تجتمع الشرائع على أنه لا يحاسَب إلا مرتكب الفعلة (بما في ذلك من خطّط وموّل) كلٌّ بقدر إسهامه، وأنه لا يجوز الاقتصاص بناءً على الميل النفسي أو الموقف الفكري ولو كان موقفاً منحطاً وسافلاً.
6- خلاصة:
شعور المظلومية عميق عند الطائفة العلوية-النُصيريّة، والحقبة الأخيرة من الحكم العثماني لم تكن لتترك ذكرياتٍ طيبة في أذهان أقليةٍ طرفيةٍ منبوذة. واستثمرت فرنسا شعور المظلومية هذا أي استثمار وهيّجته إلى حدّ في إنشاء دولة للعلويين، لكن لم تدُم لعجزٍ داخليٍ بنيوي ولأنّ التوجه العربي كان طافحاً وعميقاً في سورية عقب الانفصال عن التُرك الكماليين القوميين.
إن هامشيّة العلويين-النُصيريّة يمكن أن تفسِّر كثيراً من مواقفهم. ولعله يمكن القول إنّ هامشيّتهم زمن العثمانيين احتوت في الوقت نفسه على ملطّفاتها. فعلى كل حالٍ كانت غالبية العلويين يومها تعيش في قرى خاصة بهم تعزلهم وتُريحهم في آن. ومن خلال الانسلال في حزب البعث العربي الاشتراكي وتشكيل كتلةٍ من الأقليات داخله، تمكّنت الطائفة النصيرية الإمساك بزمام الحكم في سورية، الأمر الذي أزّم وضع الطائفة برغم كل النفوذ الذي تحصّل لها. والتمكّن غير الشرعي وغير الحائز على منزلة شرفية يزيد في التباعد عن صيغة الاجتماع التوافقي. وكانت حيازة الحُكم من قِبل طائفةٍ غلب على سوادها الجهل والبُعد عن الدراية بالحياة المدنية الحديثة كارثة على البلد ومستقبلها. وزاد الأمر سوءً أن السيطرة أتت من مدخل العسكر، فلا يعرف العسكر بحُكم تكوينهم إدارة الحياة المدنية ولا رعايتها. فكيف إذا اجتمع لهذه الطبقة إيديولوجية ماركسية تمجّد الانتقام وتجعله الطريق الضروري نحو عدل البروليتاريا، إلى جانب حنقٍ طائفي يستند إلى دعاوى الظلم التاريخي؟
ورغم أنه ابتدأ حكم النخبة العسكرية المسيطر عليها من الطائفة العلوية-النُصيريّة بعقيدة يسارية، لكن ما لبث أن تحوّل إلى نزعة نيوليبرالية من نوع خاص، لم تطلق العنان لرأس المال فحسب، بل وزاوجته باحتكار الطائفة لمعظمه. وفي حين أنه يشابه هذا النمط نمط دول أخرى، إلا أنّه ضاعف البُعد الطائفي شرَوره لأنّ الاحتكار الداخلي قليل الامتدادات خارج الطائفة ولأنّ الكلمة الأخيرة والقوة التأديبيّة كانت محتكرةً بالكليّة داخل الطائفة. فبالرغم من بروز أفرادٍ من خارج الطائفة ممن تحصّلت لهم رؤوسُ أموالٍ بسبب تشاركهم مع النظام الحاكم، لا يشكّ أحدٌ في أنّ القولة الأخيرة هي لصاحب الشأن العلوي. ومعروفٌ أنّ الشخص من غير الطائفة الذي ارتفع شأنه المالي معرضٌ للزوال بخطأ بسيطٍ أو وشايةٍ أو زلةِ لسان. إن وجود مستفيدين من غير الطائفة لا ينفي طائفيةَ النظام، فتوسيع رقعة الزبائن خارج الطائفة أمرٌ يضطر إليه الطاغية من أجل الاستفادة من خبراتهم ومن أجل توسيع مدى نفوذه.
ولا نقول إنّ الطائفة العلوية-النُصيريّة فشلت فشلاً كاملاً في تطبيع وضعها الاجتماعي، بل حصّلت لنفسها في الفترة الأخيرة قبل الثورة مواقع منزلةٍ اجتماعيةٍ وبدأت طبقةٌ وسطى بينهم بالتشكّل، وظهر عند قطاعات من عامّة الشعب قبولٌ بالصعود “العلوي” من جملة انطباعٍ يبرّر ذلك بأنهم “تغيّروا”، وجرى ذلك في ثقافةٍ فيها فسحة واسعة من التسامح وفي مجتمعٍ خبِر من قبلُ صعود غرباء عنه. لكن تواقتَ هذا الانفراجُ مع عاملَين يدفعان بعكس الاتجاه: عاملٌ داخليٌ تمثّل في تململ عموم الشعب من القمع والاختلاس والاحتكار من قِبل أفراد الطائفة النصيرية-العلوية، وعامل خارجي تمثّل في ارتماء الإدارة السياسية في الحضن الإيراني. وانقدحت الثورة لتضرب جنون عظمةِ نظامٍ يتيه عُجباً بسيطرته ويثق خدراً بقوة بطشه. وفعلاً بطش النظام بطشة الإجرامٍ والتنكيل، وقتل وعذّب ومثّل، وسرق ونهب، وانتهك الحرمات ودنّس المقدّسات، ودمّر سبل الحياة وطرق المعاش. وبرغم كل اللافتات التي يتقنّع النظام بها، ترى قوى الثورة بصمات الطائفة وراء هذه الأفعال، ويعرفون بالأسماء أن أناساً من انتماء معيّن يترأسون القمع ويصدرون أوامر التنكيل ويخطّطون للتدمير، بغض النظر عمّن ساعدهم –خوفاً أو طمعاً– من غيرهم.
لقد كانت الثورة –وما زالت– وطنية في أفقها لا تتطلّع إلى برنامج انتقامٍ أو إلى تصفيةٍ طائفية. وبرغم كل العسف الذي تحصّل من خلال اصطفاف الطائفة مع النظام واستمرار قوّته بسبب الدعم الدولي الذي يتلقّاه، فإنّ أياً من القوى السياسية للثورة لا تدعو إلى حلّ طائفي، كما أن الأغلبية الساحقة من قوى الثورة لا تنتقم طائفياً برغم تمثّلها لهوية مسلمة وبرغم غلبة صفةٍ إسلاميةٍ –بعمقٍ ما– على مخيالها وشعاراتها. ولا ينتقص من شرف الثورة ولا من شرعيتها استبدادُ الخوف بالأقليات نتيجة نجاح دعاية النظام ونتيجة تصرّفاتٍ لفصائل ناشزةٍ عن النسق العام للثورة. إنّ المواقف السالبة تجاه الثورة من قِبل الأقلّيات والنخب العَلْمانية وارتكاسهم لتنشّط هوية الأكثرية –وهي المجموعة الفاعلة في الثورة والتي تقدّم التضحيات الباسلة وتتحمّل النتائج الباهظ– قدح الشكّ في نيّات هذه النخب والأقليات وفي مدى التزامها الوطني، الأمر الذي يدعو إلى التباعد عنها من باب الجفاء الثوري. وفاقم هذا إلى حدٍّ بعيدٍ دخول الميلشيا الشيعية اللبنانية حلبة الصراع بتبريراتٍ مبتذلةٍ وبدعم إيراني غير مشروط للنظام الاستبدادي الاستئصاليّ، فعمّق ذلك شعور الانتماء السنّي.
ليست الثورة السورية مجرد ثورة ضدّ نظام حكمٍ جائر، فلا يمكن أن تُفهم فاعلياتها وتُفسّر من خلال الموشور السياسي فحسب، بل هي حلقة في حركةِ تكوّن الأمة في فترة ما بعد الاستعمار وما رسّخ من هياكل وما بثّ من ثقافة… أمة تواجه ماضيها التراثي وحاضرها الحداثي في آن واحد.
وإذا كان إعادة اكتشاف الهوية الحضارية للأكثرية المسلمة تمثّل روح الثورة، فإنّ ذلك يعني أيضاً أنّ المكونات الأخرى قليلة العدد تمرّ في عملية تحديد هويّتها الجمعيّة. وتمثّل الحالة العلوية-النُصيريّة أشدّ حالات التأزّم مقارنة بغيرها من الأقليات. وبغضّ النظر عمّا يصحّ من تحميل مسؤوليته للطائفة، فإنّ ما آل إليه وضعُها ليس في صالحها وليس في صالح الوطن أيضاً. التغيّرات الثقافية حصلت وما زالت في طور التبلور، والتغيّرات الهيكلية ما زالت تتخبّط في سياق إقليمي ودولي، وبقدر ما يكون هناك تناسبٌ بين هاتين البنيتين يمكننا أن نطمع برؤية مستقبل مُشرقٍ لبلاد شامنا.
مازن هاشم
20/7/2013
★ انظر بعض التحليلات الموضوعية المفيدة في: نيكولاوس فان دام. الصراع على سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961-1995. مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995.
ميلاد أمة في خضم التفاعلات الحضارية والجيوسياسية
ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني
ميلاد أمة-2: التوجهان العروبي الإسلامي والقومي العربي
ميلاد أمة-4: من مِلَل إلى أقليات: مقدمات
أ) حالة المسيحيين: العروبة والوطنية
ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه
Tagged: الأقليات والسياسة, التعددية, الثورة السورية, الربيع العربي, الطائفية, خلفية الثورة السورية
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي […]
[…] حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي […]
[…] حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي […]
[…] حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي […]
[…] […]
[…] […]
[…] النصيريين فهي قصة طويلة، وقد عالجتها بالتفصيل (انظر العلويون النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي)؛ وقصتهم أيضاً محلّ شاهد. فبرغم كل البغض تجاههم بسبب […]
[…] […]
[…] […]
[…] […]
[…] […]
[…] […]