المجتمعات العربية قوية، ومن مظاهر قوّتها أنها لم تتفكّك برغم شدّة سوء الإدارة السياسية وشدّة العبث الخارجي. وبالمقابل، دولها ضعيفةٌ لأنها تعتمد العنف، والقويّ حقيقةً هو الذي يُحترم حبّاً أو يُذعن إليه هيبةً.
فما الذي يمسك بالمجتمع في سورية بعد كلّ الذي يلقاه من عسفٍ مُمنهج؟ إنه الإطار المعاشي للشعب، ذاك الإطار المتمثّل في مسرى الحياة اليومية وطبعِها الاجتماعي ونمطِ نشاطها الاقتصادي. إنه ذاك النسق السلوكيّ الغالب الذي يتميّز به أهل هذا البلد، نسقٌ معروف ولكن يكاد يكون خافياً عن الأنظار وصعباً على التحديد والالتقاط. هذا الرابط الاجتماعي العفوي هو الذي ما زال يشدّ الشعب السوري بعضه إلى بعض، لا غيره من الروابط الرسمية؛ كما تتوضّع هذه الروابط على الصعيد المحلي أكثر من الصعيد الوطني الكبير. وهذه الخصال هي سورية بحتة وإن كان لها ارتباطات عربية وأصول مستمدّة من التاريخ الحضاري للمنطقة ومن الموضع الجغرافي السياسي لسورية. وتقبع خلف هذا الرابط قاعدة قيمٍ ومنظومة أعرافٍ مسلّمٍ بها.
ومن أجل فهم لبّ هذا النسغ الاجتماعي، علينا الإلماح إلى صبغة الوُحدة والتعدّد في المجتمع السوري، والتعريج على الفوارق الاجتماعية وما حلّ بها في سياق الثورة، لتظهر خصوصية ثورة هذا المجتمع المتلوّن.
أولاً: الوُحدة والتلوّن والتديّن
عند الحديث عن النسق المعيشي لسورية وثقافاتها المحلّية، نجدها ثقافةً متنوعةً بين أجزائها المتعدّدة مناطق ومدناً وبلداتٍ. فلو أخذنا أي مدينة، حلب أو اللاذقية أو حمص أو حماة أو دير الزور أو دمشق أو درعا أو غيرها…، لما أخطأت العين الشخصيةَ المتيّمزة لكلّ منها. وثمّة تلوّن ثقافي حتى في المدينة الواحدة وبين عناصرها البشرية المشكّلة لها. ويمكننا رصد التنوّع ليس على خطِّ الشريحة الاجتماعية الاقتصادية فحسب، بل ووفق خطوطِ أحياءٍ وعوائل وميولٍ دينية. وإذا كان التفارق وفق الطبقة الاجتماعية هو نسق التفارق في المجتمعات الحديثة، فإنه أصبح له بعض الحضور في المجتمع السوري، ازداد بعد الانفتاح الاقتصادي والمشي على خطا النيوليبرالية الاقتصادية. غير أنّ الملاحظ هو استمرارية الأنساق القديمة للتفارق، وتقاطعها مع التفارق وفق الطبقات.
ولقد حدثت تغيّرات جمّة في الخارطة الاجتماعية في العقود الخمسة الماضية. ومن ذلك التآكل المالي لما يوصف بالطبقة البرجوازية للمدن؛ ومنها صعود برجوازياتٍ جديدة معظمه على الخط الطائفي. ومنها اتصال كثيرٍ من البلدات بالمدن وتحوّلها إلى حواضر متكاملة اقتصادياً مع المدن، علاوة على توافر رأس مالٍ جديدٍ لشرائح من هذه البلدات بسبب ارتفاع سعر أراضيها مما فتح فرص التحصيل العلمي للجيل الجديد لبعض البلدات القريبة من المدن الكبرى.
وبرغم هذه التغيّرات، والتي كانت أعمق في فضاءات المدن الكبيرة، بقيت الأعراف التقليدية للمجتمع راسخة، ودبّت الحياة في بعضها بعد ذبولٍ أصابها في العقود التالية لفترة الاستعمار والتي شهدت أعلى درجات الإعجاب بالنموذج الأُروبي. أو ربما نقول أعادت بعض الأعرافُ القديمة تشكيل تمظهراتها لتحقّق راهنيّتها. وبرغم تغيّرات كثيرةٍ في التعبير الظاهري للسلوك اليومي نتيجةً للانفتاح العالمي الذي حصل والذي ساهمت فيه بخاصةٍ وسائل الاتصال والعوالم الافتراضية، فإنّ نسق المُثل الأخلاقية المرتبطة بالدّين لم يتغيّر. واستمرّ النسق المحافظ في كونه هو الناظم العام، وذلك بعد تهذيبه من التنطّعات التي لم تعُدْ تعني كثيراً للأجيال الجديدة. وكانت مشاركة الإناث الصبايا –جنباً إلى جنب مع الذكور في المظاهرات– رمزاً لهذا التأقلم الجديد.
وكذلك فإنه برغم الضربات الهمجية التي وجّهها النظام إلى الحركات الإسلامية بخاصة وإلى النشاطات الدينية بشكلٍ عام، استمرّت فاعليات التديّن –سراً وجهراً– تسري من خلال الثغرات التي يصعب على أي نظامٍ سدّها. كما لم تُجدِ الوسائلُ الناعمة التي حاولها النظام لاستيعاب مطلب التديّن عند الشعب من خلال تعهّد نشاطاتٍ محصورةٍ مسيطرٍ عليها (مثل دورات تحفيظ القرآن) حيث ساهمت هذه النشاطات في استمرارية الروح الدينية المتأصّلة في الاجتماع الشعبيّ. ولم يفلح تمرّس النظام السوري الحاكم على خنق مظاهر التديّن وملاحقتها حتى في الضمائر، واستمر الدّين روحاً تسري في المجتمع، ليس على شكل التزامٍ دينيّ كامل وإنما وفق تمظهرات تنمزج فيها المطالب الأساسية للدين مع العادات المحلية، إلى جانب (تجديدٍ شعبيٍ) يستحضر عناصر حداثية محاولاً التوفيق بينها وبين خلفيته المحافظة قِيمياً ضمن السعي أن لا ينقطع عن الحركة العامة للثقافة العالمية.
ولقد جعلت الثورة ما سبق ذكره من نسق الأعراف والقيم أكثر لصوقيةً في حياة الناس، إذ أنّ دينيّة الثورة وإسلاميّتها هي أوضح ما تكون في الرغبة أن يكون هذا النسق المحافظ هو السابغ في البلد، وهو الذي عمل النظام الحاكم على تفكيكه بطريقة منهجية. وهذا البُعد في التشوّف الاجتماعي لم تضعفه الطريقة الوحشية التي واجه فيها النظامُ الشعب بل زدادته صلابة.
واستمرّ إلى جانب النمط المحافظ وجود نمطٍ ليبراليّ، ولو في هوامش ضيقة من ناحية العدد. الجديد في هذا أنّ النمط اليبراليّ لم يعدْ مقصوراً على نخب المسيحيين والعوائل البرجوازية في المدن الذين كان لهم اتصالٌ كثيفٌ مع أُروبة، وصار حضوره أكثر توزّعاً وفق خطوط الاحتكاك مع الثقافة العالمية الطاغية؛ كما ظهر فيه عنصرٌ جديدٌ لم يكن موجوداً ألا وهو نخبةٌ من العلويين. وليس ثمة دلائل على ازدياد حجم هذا النمط الليبرالي، فالذي زاد منه بين الأقلّيات قابله انكماشٌ بين الأكثرية المسلمة.
هذا التلوّن وفق أبعادٍ متعددة –والذي لم نعطه حقّه في الوصف– هو الذي كان وراء تألّق الفعل الثوري وإبداعاته التي سمحت لها المرحلة السلمية أن تظهر. وشملت مظاهرُه العزةَ والرفعةَ في وجهٍ من وجوهه، والطُرفةَ في وجهٍ آخر، والتندّرَ من وجه ثالث… وقد لا يكون التقاط هذه الإشارات سهلاً على غير السوري أو من هو ليس من حيّز بلاد الشام، غير أنّ الجمهور الشعبي كان واعياً تماماً لما يقول ويغنّي ويرجز ويرسم ويخطّ؛ وكان كل ذلك من جملة وقود الثورة ومن جملة بناء شخصيتها في آن.
ثانياً: انزياحات في الفوارق الاجتماعية
لا يخلو مجتمع بين البشر من فوارق اجتماعية متعدّدة، توجد إلى جانب كل ما يجمع فئات الشعب. وفي حين أنّ مناصرة الثورة رصّت الصفوف وجسّرت كثيراً من الفجوات وأنشأت روابط جديدة وألهمت مخيالاً وطنياً جامعاً، فإنّ تخريب الحياة الطبيعية والعسف والقتل والتشريد والإفقار لا بدّ وأن ساهم في إحداث تمزّقات في الروابط الاجتماعية وفق بُعدي المناطق و العلاقات الريفية المدينية.
الفروقات المناطقية في الدول أمرّ معهود، غير أنها أصبحت إشكاليةً في الاجتماع السوري لأسباب عدّة كان أهمها السياسات التنموية للحكومات المتعاقبة. وكان أكبر المصاب في هذا البُعد في الشمال الشرقي ومحافظتي الحسكة والرقة التي دعا الجفاف فيها إلى هجرها بأعدادٍ كبيرة جداً والانتقال إلى مناطق أخرى داخل القطر أو إلى خارجه. ولم تنعم المنطقة الشرقية عموماً بحظٍ عادلٍ من جهود التنمية وتمّ تجاهل أنها منطقة زراعية مهمّة ومصدر للنفط، كما لم تنعم المنطقة الجنوبية بالاهتمام التنموي الذي يعزّز وجودها كمصدر زراعي وبشري حيوي. ولكن على الرغم من طرفيّة المناطق وقلّة ذات اليد من ناحية الدعم الحكومي، استطاعت هذه البلدات والمدن الطرفية رفع مستواها من خلال المبادرات الفردية والسفر إلى الخارج –خاصة الخليج– لتحسين شروط معاشها. وهذا التحسّن العزيز الذي أتى من خلال كدحٍ فردي وعائلي هو الذي هدّمه النظام في ردّه على المطالبة بالحرية.
وإنّ الفروقات بين شرق سورية وغربها فروقاتٍ كبيرةٍ تكاد تكون نوعية. وتصطفّ إلى جانب هذه الفروقات علاقاتٌ بينيّة لأطراف خارج الحدود السورية. وازدادت هذه العلاقات قوةً في سياق الثورة جنوباً بين سورية والأردن وشرقاً مع العراق وشمالاً شرقياً بين كُرد سورية وكُرد العراق. ويذهب البعض إلى القول إنّ الثقافة المعيشية لمدن غرب سورية تشابه الثقافة المعيشية للبنان وتركيا أكثر من تشابهها مع بعض الأطراف في سورية ذاتها. غير أنّه لا يمكن إطلاق ذلك، إذ أنّ التطلّع نحو الانسجام مع النمط العالمي الحداثي أوجد أوجه تشاركٍ بين مناطق كانت مختلفة فيما قبل. ومن ناحية أخرى، حفزت الثورة فاعلياتِ تواصلٍ بين كل أجزاء سورية، ورغبةٍ عارمةٍ عند الشعب على التعرّف على أجزاء جسمه التي جهلها من قبلُ.
إذاً نحن أمام علاقات متراكبة. فالأطراف كانت مهملة إلى حدّ بعيد، والفجوة التنموية بينها وبين المراكز فجوةٌ كبيرة. غير أنه تفاجأ الشعب السوري بعد انقداح الثورة بأنه بجيمع مناطقه يلهج بمطلب واحد: الحرية والكرامة واستعادة نسق الحياة الطبيعي الصديق وغير المعادي للتوجيهات الأساسية للإسلام.
فما هو المحصول الصافي للثورة في هذا البُعد؟ لقد ساعدت الثورة في إحداث الوعي المشترك بالأطراف، وتعاطف جميع الشعب مع مصاب جميع البلدات والمدن، وقامت بعض المدن التي كانت ما زالت آمنة بدعمٍ ماليٍ قوي لمدنٍ أخرى وباستقبال مهجّريها. غير أنه مع عموم التخريب تراجعت قدرة الناس على المساعدة والإغاثة بعد أن أصبح الجميع مبتلى وبعد أن قلّ من عنده فضلة قوةٍ أم مال.
أما تطوّر العلاقات الريفية المدينية فربما كان أكثر تراكيبية وتعقيداً من تطوّر الفاعليات المناطقية، ولقد اختلفت القصة بين مدينة وأخرى. وأكثر موضعٍ شهد تأزّماً في هذا البعد خلال مسيرة الثورة هو حلب وريفها. فكما هو معروف، تأخّر الحراك الثوري في حلب، وأسباب هذا التأخّر معروفة. فبُعد حلب عن العاصمة وتشكّلها مركزاً صناعياً نشِطاً، دفع إلى بطء الغليان الثوري. كما أنّ وقوع حلب في أقصى الشمال عزلها عن الاحتكاك العلوي الكثيف مقارنةً بغيرها. فلقد تميّزت الحركة السكانية للعلويين النصيرية بالنزول من الجبل إلى المدن الساحلية، وشكّلت حمص موضعاً جغرافياً وثقافياً يسهل تأقلم العلويين معه، وكانت دمشق الجاذب الأكبر بسبب مركزيتها السياسية؛ ويضاف إلى ذلك ما يفرضه توزّع الثكنات العسكرية من توزّع للعلويين في أرجاء سورية. ومعنى ذلك أنّ الاحتكاك اليومي مع العلويين الذي يثير الحفيظة بسبب السلوك الناشز اجتماعياً أو الانتهازي مخابراتياً كان أبعد عن وقع الحياة اليومية في حلب.
وكذلك ساهمت الميزاتُ الصناعية التي حصّلتها النخبة في حلب (بعد شعور إهمال كمونها من قبلُ) في حجب الخطاب الثوري، ويقابل ذلك بين العامّة مواعظ التصوّف التي تؤكد على الرضى بالواقع السيّئ إلى أن يأتيَ الفرج من السماء. وأضف إلى ذلك وجود عصابات تهريبٍ متحالفةٍ مع أعضاء النظام. ومقارنةً بوضوح الانتماء لكثيرٍ من الشبيحة الزُعر في مدنٍ أخرى، كان حظّ عناصر القمع الداخلي في حلب من الفاسدين من أهل البلد أكبر من حظّه في أماكن أخرى. وشكّل هذا حركيات قمعٍ محلية فاعلة لمعرفتها الدقيقة بالأحياء والعوائل وشبكة العلاقات. ويضاف إلى ذلك وجود حجم كبير نسبياً للمسيحيين في حلب، وهم ممن لا يشجعهم موقعهم المجتمعي على التحرّك.
ولكي لا يساء الفهم، كانت النفوس الوطنية في حلب تغلي نقمةً على النظام الاستبدادي القمعي مثلها مثل غيرها من النفوس. كلّ الذي في الأمر هو أنّ الظروف الموضوعية جعلت مدينة حلب بحاجةٍ إلى وقتٍ مديدٍ لتصعيد الحراك الثوري. وبالمقابل، كان الريف الحلبي أكثر استعداداً، فتبنّى حراكه الثوري الاستراتيجية التي تبنّتها فصائل أخرى في فكرة تحرير المناطق، مما أدى إلى تخريبٍ هائلٍ في مدينة حلب اعتبرها أهل المدينة ثمناً غير مبررٍ وأنها أضعفت مجموع القوة الثورية بسبب المصائب الحياتية لكثير من الناس ممن كانت جهودهم ستصبّ في حوض الثورة فيما بعد. وتفاقم الأمر بعد ازدياد نشاط العصابات وحدوث سرقات منظّمة وتفكيك آلات المصانع وبيعها ونهب ما له قيمة في البنية التحتية والممتلكات العامة.
ويشار إلى أنّ ثمة تنوّع في الريف الحلبي، ولبلدة أعزاز موضع خاص ساهم في تعقيد المشهد. وفي النهاية تحسّنت العلاقات الريفية المدينية بالتدريج، وتشكّلت مجالس محلية وفق مشاركة شعبية مقبولة. وكان آخر فصلٍ مواجهة المنطقة بريفها ومدينتها موجة داعش نوعاً جديداً من التدخّل الذي يُفسد المسرى الطبيعي للحياة.
أما دمشق فقد فاجأت البعض بدرجاتٍ عالية من الحراك المبكّر ومن التفاعل الإيجابي مع البلدات المحيطة بها والتي يشار إليها أنها (ريف) مع أنها ليست ريفاً بالمعنى الكامل. وهذا الالتحام مفسّرٌ بسبب التغيرات الدِمغرافية وسكنى بعض الدمشقيين في الريف بعد أن عجزوا مالياً عن السكنى في الأماكن المعتادة لأهليهم، وبسبب انتقال سكان بعض البلدات حول دمشق ليسكنوا فيها. والأهم من ذلك أنّ كلاً من سكان المدينة والبلدات التي حولها شعروا وطأة تخليط نسيجهم الاجتماعي بأعدادٍ كبيرة من المنتفعين والموالين للنظام الذين انتقلوا من كافة المحافظات إلى مركز الحكم في دمشق، وعلى رأسهم أعداد ضخمة من العلويين. ومن أسباب التلاحم أنه تلقّت أطراف مدينة دمشق وبلداتها في السنة الأولى للثورة دعماً مالياً وإغاثياً من المركز. غير أنّ هذا الدعم ضعف كثيراً بعد جمود الحركة الاقتصادية في المدينة، واستهلكت رعايةُ من هبط إليها الجهود الطيّبة والموارد المتوافرة؛ وكذا توقّف الدعم الذي كانت دمشق تقدّمه لحمص. ولا يفوتنا ذكر ملاحقة النظام من يقوم بالتبرّع والمساعدة وانكشاف بعضهم مع مرور الزمن واعتقالهم واضطرار البعض الآخر للفرار خارج البلد. فالذي يعكّر صفو العلاقة بين المدينة ومحيطها عجز الأولى عن أي تحرّك له أثر ظاهر، فالتركّز المخابراتي فيها من ناحية كونها العاصمة موضع الثقل يجعل التحرّك غير ممكنٍ عملياً. وتسعى دعاية النظام على إشاعة صورةٍ مفادها أنّ أهل المدن مساندون للنظام؛ وقلّة منهم هم كذا لا شك، ولكن تؤكّد الاتصالات الشخصية أنّ الأجزاء الآمنة نسبياً في المدن والتي ما زالت تحت سيطرة النظام هي مثل غيرها مناهضة للنظام. ويقابل حال مركز المدينة تدمير ممنهج للحزام المحيط بها، وإجرامٌ وتقتيلٌ وتجويعٌ مما لا يتحمّله بشر، ومما يحفز شعور العتب على الآخر أو شعور الخذلان؛ وهذا الشعور غشى مناطق أخرى أيضاً تجاه من ظُنّ به قدرة المساعدة ولم يقدمها.
وشهدت مدن أخرى حزازات ريفية-مدينية كما كان الأمر في حمص، أو حزازات قطاعيةٍ داخل المدينة كما كان الحال في مدينتي دير الزور و درعا. أما العلاقات في الشمال الشرقي فكان طبيعياً أن يتقدّمها البُعد الكردي.
فما هو المحصول النهائي للترابط الريفي المديني؟ ربما يصحّ القول إنه عانى من الانفراج والتأزّم في آنٍ واحد. وجه الانفراج هو الوقوف جميعاً في وجه النظام الغاشم المجرم، وشعور ساكني الريف والمدينة أنّ لهم رسالةً واحدة. ووجه التأزّم هو التفارق في خيار المواجهة. فالمواجهة السلمية أو منخفضة العنفيّة التي شهدتها المدن بخاصةٍ لا تشفي الغليل في المناطق الساخنة بالسلاح، ولسان الحال الثوري الخشن يقول أهذا الذي قدرت عليه المدينة… مجرّد حراكٍ ناعم؟ وهذا الموقف النفسي مفهومٌ بسبب فظاعة التنكيل، كما أنّ نمط تحرّك المدن مفهوم. وإنّ صعوبة التحرّك في المدينة مفسّرٌ، وخاصة في الأحياء التي لا تتمتّع بانسجامٍ سكّاني يأمن فيه الناس أنهم لن يُطعنوا من خلفهم. ولذلك شاهدنا تحرّك الأحياء القديمة المتجانسة في المدن والتي تتمتّع بكثافة العلاقات الداخلية والتي استطاعت المحافظة على درجةٍ من التكافل الاجتماعي، في حين أنّ التحرّك في الأحياء الجديدة المختلطة (والشق المجدَّد من الأحياء التي تحرّكت) لم يتمكن من التصعيد بسبب افتقاد الحمايات والتواصل الآمن. وبشكلٍ عام، استجابة النفرةِ والفزعةِ ضعيفةٌ في المدن الحديثة، في حين أنه يغلب على شباب هذه المدن الاشتراك في عملٍ منظمٍ لا في هبةٍ شعبية؛ ويلاحظ أنّ التحرّك في حقبة الثمانينيات كان متمركزاً في المدن. غير أنّ ما يجمع المدن والأرياف أكبر بكثيرٍ مما يفرّقهم، فالجميع يعيش تحت تهديد الاستئصال من قِبَل نظامٍ لا حدود لبطشه وإجرامه.
والخلاصة، لا يُمكن إنكار أنه تعاني اللُحم الاجتماعية ضغوطاً جمّة نتيجة القمع الوحشي للنظام الممسك بالسلطة. وحجم المآسي الذي يتعرّض له الشعب السوري هو مما لا يحتمله بشر… تخريبٌ للمسكن أعزّ ما يملك المرء وما يمنحه شعور السكينة، وتشريدٌ داخل البلد وخارجه، وموتٌ للمعيل، وإعاقاتٌ جسدية، وفقدانٌ للثروة والمدّخرات ومصدر الدخل. وبقدر تألّق الروابط المعيشية ومصابرتها، ثمة انتكاساتٍ عندما يتجاوز البطش عتبة الاحتمال البشري. كما أنه من الطبيعي أن تتأزّم الروابط على الخط الطائفي وتحديداً خط علوي/لاعلوي، في حين أنّه تراجعت حدّة كل الحزازات الأخرى.
ثالثاً: التفرّد الذي يجمع
كثير ما تذكّر الكتابات بأنّ دولة سورية كيانٌ سياسيٌ جديدٌ لا يتمتّع بعمقٍ قوميّ قُطْري. غير أنّ هذا لا يعني هذا أنه ليس هنالك ما يجمع شعبها. على العكس، يؤكد ضعف الأطر الرسمية وجود روابط قوية أخرى، وإلا لما كان هنالك مجتمع. والمشترك في الشخصية السورية متلوّنٌ ويبدو متعارضاً فيكاد يستعصي على الوصف. إذ تجمع هذه الشخصية بين التعلّق بالعروبة و المحلية الشديدة، وبين التديّن المحافظ و الانسجام مع الحداثة المعولمة، وبين المثالية و التأقلُميّة المفرطة ذات النزعة التجارية.
ولعل ما يصدم غير السوريّ في سياق الثورة وصف مسيرة الحياة بالتأقلُميّة البراغماتية. وهل تثور البراغماتية وتنتفض؟ فلبّ البراغماتية هو مسايرة الظروف وعدم المواجهة، ولا سيما عندما تكون مواجهةً خطرة. وهذا فعلاً ما فعله الشعب السوري لعقودٍ في تعايشه مع الاستبداد. والذين كانوا يزورون سورية قبل الثورة سياحةً واستجماماً أو تجارةً وتسوّقاً ما كانوا ليلاحظوا توتّرات المعيشة، بل كانوا يَعجبون من رغدٍ متواضعٍ في كثيرٍ من زواياها ومبادراتٍ فردية وأسرية وأريحيّاتٍ إبداعية. ولا يتجلّى ذلك في ألوان الطعام الذي تشتهر به البلد فحسب، وإنما في كلّ زاويةٍ من زوايا الحياة اليومية، إضافةً إلى رغبةٍ في السمَر، وكأنّ السمر البريء والتزاور والنزهات فرضٌ اجتماعيٌ لا يجوز أن ينقطع. وبرغم هذا انقدحت ثورة عارمة واثقة بين أظهر من هي كذا خصائصهم!
وإنّ سبب انتفاض النسق الاجتماعي الذي لا يُظنّ به همّة الثورة هو أنه لم يقف اعتداء الحُكم عند حدّ الاستبداد السياسي، وإنما تجاوزه إلى تهديد كرامة الإنسان وحريّته. ووصل عمق الاعتداء على الحياة أن جعل المخابرات وقمعها يتجاوز الحيّز السياسي ويصل إلى الحيّز الفردي البحت. وتجلّى الاعتداء على صعيد الــمُثل الاجتماعية في عداءٍ الدّين والتديّن؛ فإهانة الدّين ومسلك التديّن كان ديدن التصرفات الحكومية منذ الأيام الأولى لحزب البعث وإلى مرحلة التسلّط الطائفي الانتقامي. وتجلّى الاعتداء على الصعيد العملي في إفساد رونق الحياة الحضرية. ولهذا ثارت الثقافة برغم براغماتيّتها، ولهذا كانت الثورة أمراً طبيعاً في موضعٍ ما ظنّ خبيرٌ أنه يمكن أن يحدث فيه ثورة.
وطبعاً، لا يمكننا أن نهمل ملاحظة أنّ الاعتداء على صبغة المجتمع حدث في سياق تعدّد ديني، مما عاظم نتائجه الثانوية. ولا حاجة للحديث عن سعة صدر المجتمع تجاه المختلف دينياً، فهو معروف وشواهده كثيرة. ولقد شغل المسيحيون في سورية أعلى المناصب في القطاعين الخاص والعام، والموقف النفسي تجاههم إيجابي ومفاده أنهم نالوا مواقعهم بسبب تعلّمهم ومهاراتهم، ولذا فهم يستحقّون ما وصلوا إليه. ومن الشواهد على الوضع الطبيعي للمسيحيين المحافظة على الكنائس وغياب الاحتكاكات. ويشار عادة إلى كنيسة قرية معلولا قرب دمشق التي ما زالت تقرأ فيها الصلوات باللغة الآرامية اللغة الأصلية للإنجيل. وكان الموقف من الشيعة قريباً من الطبيعي، وهم ينعمون بسمعة عائلاتٍ مرموقة. أما التحرّش بهم في حارات (المتاولة) فكان في زمنٍ فات، وهو تابع للمستوى الثقافي للأحياء ولصيغة التنافس القائمة بين تلك الحارات، تنافسٍ موجودٍ حتى بين السنة، وإن كان يأخذ نبرته الخاصة عند وجود تفارقٍ مذهبي. وحتى حارات اليهود عاشت بسلامٍ، بما في ذلك سنين الحرب مع إسرائيل. قصة كُرد الشمال الشرقي تؤكد استثنائيتها طبيعيّةُ الوجود الكردي في غير منطقة الشمال.
أما قصة العلويين النصيريين فهي قصة طويلة، وقد عالجتها بالتفصيل (انظر العلويون النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي)؛ وقصتهم أيضاً محلّ شاهد. فبرغم كل البغض تجاههم بسبب طغيان نخبةٍ منهم في حكم البلد، إلا أنه –وإلى غرّة الثورة– كانت الثقافة السورية العامة تمرّ في مرحلة هضم ما يُهضم من هذه المجموعة بعدما التقط العلويون العادات المدينية وصار فيهم مثقّفون ومن أهل الفن. ولذا لا تجد الثقافةُ عذراً لموقف علويي المدن من الثورة وقد طُبّع تقريباً وضع غير المعتدي منهم برغم التسلط الأرعن لثلّة الطائفة الممسكة بزمام الحُكم والوضع الاستغلالي الــمُقرف لكثيرٍ من أفرادهم.
التنوع المسالم هو القصة الكبيرة لأهل سورية. ويمكننا أن نسمي نمط التنوّع الخاص بهم (التفرّد التعدّدي): تنوّعٌ وحياةٌ مسالمةٌ تسير جنباً إلى جنب غيرةٍ وتباهي. التمحور حول الذوق والتفتيق في الأصول والسخرية من غير المألوف هي من جملة هذه الثقافة الغارقة في الاستثنائية. ولهذا فهي تجمع بين مرونةٍ يجدها البعض طافحة و تنقيرٍ ترفعّي في زوايا يظنّها البعض أنه ليس لها أهمية. والنتيجة النهائية لكل المتقابلات في هذه الثقافة الملوّنة أنه ما يلبث أن ينضمّ إلى نسيجها ألوانٌ إضافية قد تبدو فاقعة غير مقبولة في البداية إلى أن تتطّبع في المزاج العام. وقد يواجه الغريب عن هذه الثقافة ترفّع الأنفة (وقد ذاق هذا مَن هُم مِن سكان البلد نفسه ممّن غلبت عليهم بساطة العيش غير المتمدّن)، وهو كذا ترفّع يختزي منه صاحب الحسّ الرفيع ولكنه ليس كُرهاً وحقداً. والمفارقة أنه تحتفي كلّ فرق المجتمع السوري باستثنائيتها قنزعةً وتبختراً، فليس من أحدٍ إلا وله خصوصيةٌ يستعرضها خصالاً كريمةً تدلّ على المنزلة الشرفية المتعالية، تلك المنزلة التي لا تعتمد ضرورة على المال أو السلطان وإنما على خصالٍ وتنميقٍ يُعتبر مشرّفاً.
أوليس عجيباً أنّ ما يجمع الشعب السوري –حتى بعد الثورة وما لاقاه الناس من عسف– هو أرهف الخيوط الثقافية؟ إنّ التنوّع الداخلي سمةٌ بارزةٌ في الثقافة السورية، يجدها المرء في كل وجهٍ من وجوه الحياة فيها، وتسير موازيةً لثقافةٍ عامةٍ وأعرافٍ سائدةٍ وقيمٍ مسلَّمٍ بها. ويحتضن كلاً من التنوّع و العُرفية المحافظة نظامٌ أُسريّ يعتزّ الإنسان به جملةً من رصيده الأخلاقي وحُسن سيرة أهله وذويه ومدى طيب سمعتهم على صعيد الحيّ أو البلدة وربما الوطن.
وعلى الصعيد السياسي، لا يملّ الناس من استذكار شخصياتٍ سياسيةٍ مرموقةٍ في دزينة السنين التي كانت سورية فيها حرّة. والحقيقة أنّ سلوك شخصيات هذه الحكومات لم يكن في نوعه مختلفٌ عن سلوك المعارضة السياسية اليوم أثناء الثورة، ويستدعي هذا السلوك في آن اللومَ و التفهّمَ كون هذه الشخصيات كانت واقعة في وسط عاصفة ظروفٍ صعبةٍ وفاعلياتٍ إقليميةٍ متضاربة. ويشار في هذا المضمار إلى أنّه لا يثبت في هذه البيئة الثقافية توجّهٌ ضيّق متحجّر، ولذلك ليس للتطرّف الدينيّ فرصةٌ كبيرةٌ للتأسّس في سورية وسيذوب في لحظة عودة الحياة المدنية الطبيعية.
إنّ الذي ما زال يجمع الشعب السوري هو تلك الروابط اللطيفة التي تعمل في دوائر مجتمعيةٍ صغيرةٍ في صعيد العلاقات الحميمة التي تتوضّع فوق مستوى الأسرة بقليل. وتتجاذب الدوائر المتشابهة لتشكّل شرائح اجتماعية عمادها الذوق والسمعة ونسق المعيشة الخاص. ومثل أي رابطٍة اجتماعية، تحدوها واجباتٌ يقوم بها أفراد الشريحة توقّعاً منهم ووفاءاً لمنزلتهم وسمعتهم. وتتقاطع هذه الروابط مع مفاهيم مستبطنة وأبعاد دينية من تراث الإسلام؛ وتجدها أيضاً عند المسيحيين وفق المشترك في الديانات الإبراهيمية أو وفق ما تطوّره الأديان ذاتياً حين تعيش في بيئةٍ غامرة لفترةٍ طويلة. هذا هو الذي يشدّ المجتمع السوري بعضه ببعض برغم كل الضغوط التي تتعرّض لها اللُحَم الاجتماعية، لا الإطار السياسي ولا الإطار القومي ولا الحدود الدولية. إنّ هذه الروابط الثقافية العميقة في الضمير ما زالت حيّةً، امتحنتها الثورة فسقط الزائف منها وازداد الباقي تأسّساً في شخصية وطنية أُعيد بناؤها. وتترافق آفاق الروابط مع مخيال عظمةٍ وطني، هو تاريخيٌ ومعنويٌ، يستنقذ مخيالاً أُموياً لأيام عزٍّ سابغٍ متجاوزٍ للحدود.
وإنّ الأمة لباقية والسياسية زائلة. والمجتمع القويّ سيزداد قوّة، والدول الضعيفة سوف تدول.
Tagged: الثورة السورية, الربيع العربي, خلفية الثورة السورية
Excellent article. Thank you Dr. Mazen.
Thank you for taking the time and reading the article.
سلّم الله قلمك النيّر و فرّج عن أهل سوريا ما أصابهم من ظلم
دكتور مازن المحترم أنا من متابعي مدونتك القيمة
ما رأيك بفكرة هذا المشروع على الرابط التالي
https://www.facebook.com/pages/Aqareb/241033166059476
الأخ الكريم ذو الهمة.
فكرة المشروع ممتازة. فالاعتماد على النفس وتفعيل الوسائل الاجتماعية البسيطة هو أحد الحلول العملية للتعامل مع الواقع الصعب جداً.
وينبغي أن لا نقع في الوهم، فلو افترضنا أن الصراع توقف نهائياً، فلا شك أن البلد سوف يبقى سنين وهو يعاني الجراحات والتدمير الذي حصل. ومثل هذه الجهود تخفف المعاناة في الوقت الحاضر، وتساعد على التعافي في المستقبل، علاوة على ما فيها من (نتائج ثانوية) في الحيلولة دون تفكك المجتمع.