ميلاد أمة-4: من مِلَل إلى أقلّيات:
ب) حالة كُرد الشمال: المخيال القومي وتأزّمه
من أجل فهم الحال الأقلويّ في سورية، ناقشت الحلقة السابقة حالة المسيحيين وميولهم الفكرية في شأن الرابطة الجامعة. ويناقش هذه الفصل حالة ثانية مختلفة، كانت راكدة ومنسيّة ثم برزت فجأة على السطح في سياق الثورة. وسيتبيّن أن ما يشار إليه بالمشكلة الكُردية هو في حقيقته مشكلة كُرد الشمال (والشمال الشرقي) بخاصة، ولا يكاد ينطبق على كُرد الداخل وكُرد المدن.
حالة الكُرد تقابل رأسياً حالة المسيحيين، وتُظهر معضلة مسألة الاجتماع السوري؛ ففكرة الرابطة القومية العربية التي مال إليها الخطاب المسيحي في أوائل الأمر هي التي يفرّ منها الكُرد وينفرون. وذلك لأن اعتبار القومية العربية الأساس الرئيس للاجتماع الوطني لا يُبقي مكاناً للكُرد كونهم من قومية أخرى، ولا مفرّ عند ذلك إلا إلى اختزال الرابطة الوطنية إلى رابطة سورية قُطْرية، ولكن حتى ضمن الرابط القطري الكرُد أقلية ربما لا تتجاوز عُشر مجموع السكّان لهم كثافة في الشمال الشرقي فحسب (النسب هي تقديرات، حيث ليس في سورية إحصاء مهني يمكن الركون إليه). ويبقى توسيع الرابطة لتكون رابطة حضارية خيار، فغالبية الكُرد مسلمون. ثمَّ إنه ليس من رابطة لها من العمق ويمكن أن تعوّض ما تمنحه الهوية الحضارية الإسلامية للمنطقة.
1- إشكالية كرد الشمال:
ابتداءً لا بدَّ من إدراك أنّ المشكلة الكُردية هي تركيّة في أصلها، ثم تراكمت فوقها الارتدادات السورية. لقد انقدحت المشكلة الكُردية نتيجة معاهدة لوزان (1923) التي فكّكت الدولة العثمانية ولم تعطِ للكُرد أيّ كيانٍ سياسي، وهي المعاهدة التي نجح الكماليون القوميون المتعصّبون في الحصول عليها مستبدلين بها معاهدة سيفر (1920) التي تضمّنت كياناً لكلٍّ من الكتلة الأرمنية (ضئيلة العدد) والمجموعة الكُردية(★).
إنّ الإيديولوجية القومية لدولة الحداثة التي تبنّاها الكماليون بحدّة هي إيديولوجية صهرٍ للأقوام ضمن دولة حديثة تتنكّر للخصوصيات. وتجاه ذلك وعند انفراط العقد العثماني قامت بين عامي 1925-1938 سبعة عشر ثورة كُردية، انتهت بسحق ثورة الشيخ بديع الزمان نور الدين سعيد النورسي سنة 1925. ونتج عن هذه الثورة تدفّق الكُرد من تركيا إلى سورية، وخاصّة منطقة الجزيرة الفراتية هرباً من البطش القومي. ولقد حدث هذا وسورية كانت تحت الانتداب، والمشروع الفرنسي كان مشروع إنشاء لكياناتٍ إثنية متعدّدة، بما في ذلك محاولة إنشاء كياناتٍ آشورية وكُردية وبدوية عربية.
وثمة ظروف إضافية جعلت من حالة كُرد الشمال إشكالية، وإلا فلقد تلقّتْ أرض الشام المباركة موجاتٍ بشريةٍ متعددةٍ من شركس وبشناق وتركمان وأرمن، ولم تتأزّم مشاكلهم مثلما تأزّمت مشكلة الكُرد. وحالة التركمان ذات دلالةٍ خاصة لانتمائهم لسلالة قوم الدولة التي انحدرت منها المشكلة، ورغم ذلك لم يحدث تجاههم أي رفض قومي عربي.
العامل الإضافي المهم في حالة الكُرد هو موجات الهجرة الثانية بعد سنة 1945، والتي حدثت لأسباب مختلفة أحدها الهروب من التجنيد التركي الإجباري. وكانت هذه الفترة في سورية فترة اضطراب وطني وفترة محاولة بناء دولةٍ مستقلةٍ بعد الانتداب الفرنسي وبعد 25 سنة من زوال المملكة السورية العربية. كما أنّ السياق العام كان سياق محاولات تشكيل الهوية السورية العربية والاعتراك مع أصل فكرة الرابطة المثلى الجامعة بعدما طلّق سكان سورية أنفسهم من الوصاية التركية القومية. وجرى هذا أيضاً في مناخٍ ثقافي عربي وعالمي أصبح يُعلي من شأن القومية ويعتبرها أساس التقدّم والرقي.
وفي كُرد شمال سورية مَن تعود أصولُه إلى مناطق ليس سهلاً تحديد قوميتها. فمثلاً، هل ديار بكر أو غازي عينتاب أو الريحانية أراضٍ سورية أم تركية؟ الراجح الأكيد أن هذه البقاع كانت تعتبر جزءاً من بلاد الشام، ولكن لم تعد جزءً من سورية القطر الوليد. وهكذا تدفّقت موجات كُردية من بلاد الشام إلى سورية؛ أي من خارج الحدود السياسية الحديثة لسورية. وتظهر هذا أرقام السجلّ المدني في منطقة الجزيرة، إذ حدث ازدياد مفاجئ لأعداد ساكني هذه المنطقة، ازدياد لا يمكن أن يكون نتيجة التوالد. ولذلك، عندما قامت الحكومة السورية الوطنية في بناء دائرة النفوس، كانت كريمة في قبول البدو العرب “المكتومين” منهم والمتحضّرين حديثاً، في حين أنها كانت شحيحة تجاه الكُرد خشية قدح فواعل وديناميات انفصالية. إنّ السلوك الحكومي السوريّ المنحاز عربياً بعد الانتداب الفرنسي مفهومٌ، كما هو مفهومٌ شعور الحيف بين الكُرد المشرّدين. وزاد الطين بلّة التغلغل الثقافي للاستعمار الروسي بين صفوف الكُرد، وتشكيل حركة شيوعية في أوائل الخمسينيات، مما حفز سياسات حكومة الشيشكلي أن تأخذ موقفاً متصلّباً من كُرد الشمال. وهذا بالضبط ما يخلّفه الاستعمار والتدخّل الخارجي؛ فعندما نورد ذكر الأثر الاستعماري فإنه ليس مجرد تعليق على شماعة غيرنا، وإنما إشارة إلى ما هو ملموس مشاهد.
وتبِع تلك الموجتين موجة هجرةٍ كُرديةٍ جديدةٍ في عهد الوحدة مع مصر (1958-1961) للاستفادة من برنامج “الإصلاح الزراعي”، وهو برنامج اقتصادي اشتراكي يهدف نظرياً إلى إعادة توزيع الثروة عن طريق مصادرة الأراضي الكبيرة وتمليكها للفلاحين. وتسلّم بموجب هذا البرنامج فلاحون كُرد –إلى جانب عرب– أراضي مصادرة، سواءً أكان هؤلاء الكُرد سوريون أم لا بناء على أنهم كانوا “مكتومين” غير معروفين. وتفاقمت المشكلة بعد محاولة حكومة مرحلة الانفصال (1961-1963) إلغاء قانون الإصلاح الزراعي وإعادة الأراضي إلى مالكيها. ومرة ثانية نرى كيف تقدح الظروف تناقضاتٍ يرى كل فريقٍ نفسه مظلوماً فيها. فبعض الكُرد الذين انتُزعتْ منهم ملكية أراضٍ كانوا (مواطنين سوريين) من ناحية أنهم يحملون بطاقات شخصية سورية؛ غير أنّ هذه البطاقات استُصدرت بناء على طريقة اعتباطية أساسها ورقة من المختار –لا أكثر– تشهد بأن هذا الشخص سوري وكان مكتوماً. والأراضي التي تمّ انتزاعها كانت من قبلُ أراضي لمالكين سوريين آخرين تمّت مصادرتها.
وجهة نظر الكُرد أنهم كانوا مشرّدين وأنّ حرمانهم الجنسية ظلمٌ لأن الأرض التي حلّوا بها تشابه طبيعة الأرض التي خرجوا منها، والنشاط الاقتصادي الرعوي لا يكترث –ابتداء– بمسألة الحدود، وما الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو إلا حدود وهمية لا تتطابق مع الحركة الحرّة التي كان الناس يتمتّعون بها قبل فرض الحدود الصلدة لدولة الحداثة ذات الأساس القومي.
الكُرد ظُلموا، ومصدر الحيف في مبتدئه هو السلوك القومي التركي. ثمَّ برز الدور العربي في تأزيم قضية كُرد الشمال بعد قدوم حزب البعث في 1963 وبسبب تبنّيه للفكرة القومية العربية على نحوٍ ثوري لا يبالي فيه من فرض الأمور فرضاً تعسّفياً على الطريقة اللينينيّة الماركسيّة. فكانت فترة البعث الحلقة الأخيرة في قصة كُرد الشمال، حيث واجهوا الفكرة البعثية في “استئصال المشكلة الكُردية” من خلال تجهيلهم وخنق فرصهم الاقتصادية. كما طُرحت فكرة “الحزام العربي” التي تدارستها القيادة القومية لحزب البعث سنة 1966 لترافق مشروع سدّ الفرات الذي تولاه السوفييت. وفعلاً في سنة 1973 وبعد انتهاء سدّ الفرات أصبحت المياه تهدّد أراضي المزارعين، فأُنشئت بين القرى الكردية قرى عربية سكّانها نازحون أخرجتهم مياه السدّ من قراهم رغماً عنهم، وأصبحوا يعرفون بـ “عرب الغمر”. وبالإضافة إلى ذلك تمّ تغيير أسماء بعض البلدات وإعطائها اسماً عربياً جديداً. ويبدو أنه كان في انتقاء الاسم الجديد حرص على الإهانة حيث أصبح –مثلاً–بلدة “كوباني” أصبح اسمها عين العرب. ولكن اسم كوباني لم يكن اسماً أصيلاً بل تحريفاً لكلمة (كومباني) الإنجليزية، في حين أن اسم هذه البلدة تاريخياً كان دوماً يحوي معنى عين الماء، سواء كان الاسم عربياً أم تركياً.
وعلينا أن نذكّر بأن التغيرات الديمغرافية والهجرات تقدح دوماً احتكاكاتٍ بين الأقوام، ولا سيما إذا ترافقت مع حالٍ اقتصادي متدهور. والتطور التاريخي الذي لخّصناه –والذي يمكن أن يجري جدلٌ في تفاصيله– لا يراد منه إلا التنبيه إلى الأسباب الموضوعية خلف تأزّم الهويات.
الخلاصة، يمكننا تمييز مرحلتين مرّ بهما كُرد الشمال. الأولى كانت المرحلة التي جرت فيها هجرات شبه قسرية نحو سورية الحديثة فراراً من العسف التركي في الفترة الكمالية، يقابلها من الناحية العربية بلدٌ فتي يخشى عدم الإمساك بزمام الأمور وتشظّي الوطن بعد فترة الاستعمار الفرنسي. أما المرحلة الثانية فكانت المرحلة البعثية والأسدية الذي تنكّر فيها النظام لحاجات المواطنين الكُرد ولأناسٍ عاشوا عقوداً فيما أصبح الدولة السورية. ويشكو الخطاب الكردي ممّا نزل بهم وأنهم خضعوا لحركة تعريب تعسّفية، ولـ”تخليط” مناطقهم بعرب الغمر، وللحرمان من حقّ التملّك، وللاستبعاد عن المراكز القيادية في الوظائف الحكومية. ويضاف إلى كل ذلك عدم الاعتراف باللغة الكُردية وبقاء أعدادٍ منهم بمنزلة “بدون” فاقدين للجنسية. وكما لخّصنا أعلاه، كان هناك سياقات لهذه العذابات، وليست كلّ شكوى لمظلوم دلالة على ظلمٍّ مبيّتٍ له، فكم من مظالم الدنيا كانت نتيجة تقاطع ظروف طارئة.
2- الخطاب الكُردي القومي المعاصر:
يدور الخطاب الكُردي اليوم حول مفاهيم المظلومية والإقصاء وحقوق الإنسان، وهي عناصر ثابتة في الخطاب الأقلوي عامة، صحّ من دعاويه ما صحّ وفسد ما فسد. واقترن ذلك بأدلجة لتبعات حوادث وظروف تاريخية أصابتهم مثل ما أصابت غيرهم أو شبيهة بما أصاب غيرهم. وكما قدّمنا، كانت النقطة الفاصلة في (أ) انفراط العقد العثماني المبنيّ على الملّة والذي استمر لأكثر من جيل وبلغ غاية تمأسسه في (1861-1918)، (ب) وفي حلول الخطاب القومي العربي على النحو الحداثي الأوروبي. هذا الانقلاب في عقد الاجتماع لم يترك –نظرياً– للكُرد مكاناً. ولقد ناقشنا مناقشةً وافيةً خلخلة الخطاب القومي العربي للاجتماع العربي المسلم، وبديهة أن تكون هذه الخلخلة أعمق بين من هم كُرد غير عربٍ.
إنّ عقد الاجتماع العربي القومي الجديد لم يترك مكاناً للكُرد على صعيد الهوية، وأعطى مزيداً من المبررات للمنظّمات الكُردية في تجنيد مجتمعها وفق رؤيةٍ رفضيّة، رؤيةٍ تتغذّى على سرديات الآلام لا على الإصلاح، وتسعى إلى فصم الكُرد المسلمين عن الوشائج التاريخية التي تربطهم بغيرهم. ولكن الحلول الأيديولوجية الجديدة على المجتمع لا تغيّر حركة المجتمع في ليلة وضحاها، فنسق الاجتماع القديم يقاوم رفضاً الوافدَ الجديد وربما يصارعه ويعترك معه، ويستمرّ هذا الرفض إلى أن تحاصره التدابير السياسية المنبثقة عن هذه الإيديولوجية. فالكُرد كأفراد وعوائل وأسر –لا كنخب– لم يتحوّلوا إلى شيوعيين، وإنما بقوا مسلمين طيّبين. ولقد انتهى الأمر بتراجع جاذبية النخب الإيديولوجية بين عامة الكُرد والتفاف وسطيّهم حول القيادات التقليدية العشائرية.
لقد تتابعت الحركيات والديناميكيات التي تزيد في تأزيم مشكلة الكُرد. الكُرد تاريخياً كانوا يرتبطون بالأستانة وفق الطريقة العثمانية الفدرالية، فينوب عن السلطان في أماكن الكُرد قادةٌ محليون. ولقد استمرّ الحكم المحلّي لمدة خمسة قرون. وهذا النوع من الارتباط ليس فيه ولوجٌ للدولة في الخاصيّات الملّية الإثنية، وليس فيه تدخّل لها في الحياة اليومية. وطبعاً لم يتنكّر هذا النوع من الحكم للهوية المسلمة للكرد. لم يشكّ الكُرد يومها بأنهم كُرد بلغةِ تخاطبهم وبأنهم مسلمون أحفاد صلاح الدين الأيوبي وابن الأثير وابن تيمية. ولكن قدومُ العصر القومي الأوروبي ثم التركي القومي ثم العربي القومي غيّر المشهد وقذف بالهويات في عالمٍ افتراضي جديد. وترافقت هذه التوجهات القومية مع التشريد التركي للكُرد من جهة، ومع الاستعمار البريطاني للعراق والاستعمار الفرنسي لسورية من جهة ثانية، مما قدح الأماني الانفصالية الاستقلالية بين الكُرد ما دام العقد قد انفرط وما دامت طرق العيش الضروري أصابها التهديد. وإنه طبيعي أن تفكّر الأقوام في مثل هذه الظروف بحلٍّ من عندها وأن تفضّل الانغلاق وتقصُر الثقة على بني جلدتها، وهذا ما توجّه إليه الضمير الجمعي الكُردي.
وحقاً وبعد الاستقلال، كان في التدابير السياسية القومية العربية تجاه الكُرد إجحاف، هو خاصٌ بهم من وجه، وهو عامٌ من وجه أنه من نوع الظلم الذي أصاب كل فئات المجتمع السوري منذ قدوم حزب البعث في 1963 ومن قبله في فترة الوحدة في الـ 1958. وينفع إذاً أن نستشعر في لحظتنا الثورية هذه الظلم الذي اختُص به الكُرد ما دامت الثورة قد أرهفت الحسّ بكلّ ما كان مقموعاً. غير أنّ علينا القيام بهذا التمرين النفسي من استشعار المظالم جنباً إلى جنب مع تمرينٍ عقليٍ يمحّص الشروط الموضوعية التي أوصلت المجموعات الساكنة في هذا البلد إلى ما أوصلته، وذلك من أجل ألا نجعل من إدراك الظلم ظلماً جديداً لقوم آخرين (العرب) لم يكن لوسطيّهم حيلة ولا قوة. فقصة الكُرد متداخلة، وهي ليست مجرّد قصة كُرد وعرب، وهي ليست قصة الكُرد كلهم؛ بل قصة كُرد الشمال؛ بمعنى أنها مسألة ظروف تاريخية وليست مسألة قومية صرفة.
3- عمومية الظلم وخصوصية وقعه:
إنّ ما تعرّض له الكُرد تعرّضت كل فرق المجتمع السوري وعلى رأسها الأغلبية السنية عرباً وكُرداً. فإنكار الهوية التاريخية المسلمة ومحاربة مقتضيات هذه الهوية تعرضت له الأغلبية الساحقة، وهو ما يكمن خلف الدفع الثوري هذه الأيام.
أما مصادرة الأراضي فحدّث ولا حرج، فقد أصاب بقاع البلد كلها، في دمشق مثلاً بسبب كونها العاصمة التي تركزت فيها نزعات الحيازة، وفي سهول حماة، وفي مناطق أخرى لاحقاً جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ونالت صغار المالكين وليس كبارهم فحسب، إلى جانب مصادرة أملاك الأوقاف من قبلُ. كما حطت في دمشق وحمص بخاصة هجراتٌ من خارجها شوّهت معالم مدنها وأفسدت انسجام أحيائها. واُسديت في عدد من المدن والبلدات كثيرٌ من وظائف الدولة إلى المستقدَمين من غير أهلية واستحقاق مهني، وحلّوا محلّ موظفين محليّين من سكان المدن القدامى. أما الأمر الذي عاناه كُرد الشمال ولم يعانه باقي الشعب هو الحرمان من الاعتراف باللغة، بالإضافة إلى مشكلة سحب التجنيس من بعضهم كما سبق شرحه. وحرمان الجنسية لأناس عاشوا عمرهم في بلدٍ ما هو إلا عجز مخزٍ عن التعامل مع الواقع، أما المبارزة اللغوية فهي اعتداء ثقافي جارح.
فإذا كان الظلم عاماً، لماذا تأزم إذاً شعور كُرد الشمال إلى درجة قد تصل إلى الزهد بسورية الوطن؟ الجواب هو أنّ الظلم الذي تعرّض له باقي الشعب السوري يمكن أن يُنظر إليه أنه ظلمٌ عام لأنهم مسلمون محافظون، وظلم عام من نظام فاسدٍ لأفرادٍ وليس لكتلةٍ بشرية. أما ظلم الكُرد فيُستشعر أنه ظلم مخصوصٌ بقومٍ لأنهم كُرد. بعبارة أخرى، يمكن أن يقال إنّ الظلم الذي يتعرّض له دمشقي أو حلبي أو حمصي أنه ظلم مواطنٍ يعيش في نظام قمعي، وليس ظلماً بسبب سلالة الفرد وأصله.
ونؤكد ثانية أنّ المشكلة الكُردية هي مشكلة كُرد الشمال فحسب. أما كُرد الداخل فلم يتعرّضوا إلى ما تعرّض إليهم إخوانهم الذين يشتركون معهم في الأصل القومي. إنّ قصة كُرد الداخل كأولئك الذين يقطنون دمشق وحلب قصة أخرى تكاد لا تشترك مع قصة الشمال في شيء. فكُرد الداخل منسجمون مع المجتمع على نحو كامل، وهذا الانسجام والانخراط قديم، وهم كغيرهم يعيشون في أحياء يحفظون ما شاءوا من خصال. ويكفي أن نذكِّر بأنّ “حي الأكراد” في دمشق كان له دور فعّال في الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، كما أنّ السوريون يحتفلون بإبراهيم هنانو ويوسف العظمة كرجالاتٍ وطنية بامتياز، وكلاهما كُرديان. وربما يصحّ القول إنّ المشكلة الكُردية هي مشكلة الشمال الشرقي فحسب، وليس كل الشمال. فظروف كُرد عفرين من الناحية الشمالية الغربية تختلف عن كُرد القامشلي وكوباني/عين العرب. والمفارقة أنّ شعبية الحزب الراديكالي الـ پي واي دي قوية في عفرين برغم أنه لم تعانِ هذه المنطقة نوع ما عاناه كُرد الشمال الشرقي، وهذا دليل آخر على تسيس المسألة. وننبّه أنه ليس هناك اتصال ديمغرافي بين التجمعات الكردية في الشمال الشرقي والشمال الغربي، وأن الكُرد لا يشكّلون أكثرية ساحقة حتى في المناطق الشمالية الشرقية التي يكثر عددهم فيها، فهناك إلى جانبهم عرب وسريان وآشور.
وتنفع الإشارة هنا إلى أن ثمة تفاعلات على مستوى الهوية بين حال الكُرد في سورية والعراق وتركيا (وإلى حدّ ضئيل إيران)، وواقع الظلم في تلك البلاد يترشح إلى الجوار السوري. وللعلم، نتج عن الجهود التركية لاجتثاث المنظمة العنفية الـ پ ك ك تنكيل فظيع بالمدنيين الكُرد في تركيا. وبحسب الإحصاء الرسمي التركي، تسبّبت منظمة الـ پ ك ك الكردية في الفترة بين 1984 و 2007 بموت 4,302 موظف و 5,018 جندي و 4,400 مدني من التُرك، و23,279 عضو في هذه المنظمة الكُردية. ومن جهة أخرى، هُجّر مليون من الكُرد من 4,000 قرية تركية. ونكّل أيضاً نظام صدام حسين بالكُرد لدى ثورتهم إبان الغزو الأمريكي، ومجزرة حلبجا وضربها بالسلاح الكيمياوي سنة 1988 تقف شاهداً على ذلك. فهل يُعقل ألا تقود هذه الحوادث العظام إلى تشكّل هوية قومية بين الكُرد، بغض النظر عن تأويل الظروف التي أدت إليها وعن تحميل مختلف الأطراف مسؤولية هذه الحوادث؟
ولكن الارتكاس تجاه الظلم قد يكون سليماً مقبولاً وقد يتطوّر إلى عدوانٍ يؤزّم المشكلة. فهناك الأحزاب الكردية العديدة التي خطاب كثيرٍ منها يترواح بين الكراهية وبين التمحور حول الذات بأبعادٍ قومية صلبة تصطدم مع واقع العالم اليوم، علاوة على أنها تتنكّر للتاريخ المشترك للمسلمين الذي عاش الكُرد فيه. وزيادة على ذلك كان قد تشكّل في تركيا حزبٌ كردي راديكالي ذو أيدولوجية ماركسية بقيادة الزعيم أوجلان (المسجون في تركيا) يُعرف باسم الـ پ ك ك، وكان يوماً مدعوماً من روسيا. وهو ليس حزباً سياسياً وإنما ميليشيا مسلّحة ، ثمَّ تمَّ استنساخ نظيرٍ سوري له باسم الـ پ ي د. ومن المعروف أن هذه المنظّمات كانت قد تدرّبت في إسرائيل أيام نشأتها الأولى، ثمَّ تدرّبت لاحقاً في صفوف ما يسمّى حزب الله اللبناني. وتدخل هذه الميليشيا –المدعومة غربياً– في تحالفاتٍ باتجاهاتٍ مختلفة، مع النظام السوري ومع إيران. وبناء على هذا غادرت القضية الكردية براءتها الأولى، ولم يعُد لدعاوى المظلومية معنى وقد أصبحت تهدّد الوجود السوري وتقتنص موارده وتتحالف مع أعدائه.
ولا بدَّ من التأكيد على أنه لا تمثّل هذه الأحزاب عامّة الكرد، بل يشكون منها، فهي التي تخطف أولادهم وتغريهم بالانضمام إليها. ويشعر وسطي الكُرد أنه محاصر بين الميليشيا الكردية التي تُسيء إلى عامة الكرد الذين هم جزء من الشعب، وبين الرفض السوري لهذه المنظّمة الخطيرة على مستقبل البلد ومستقبل المنطقة برمّتها.
4- هشاشة الرابطة القومية القطرية:
بحكم التطور التاريخي للمنطقة العربية ولبلاد الشام، وبحكم أنّ سورية بحدودها السياسية اليوم مستحدثة، وبحكم أنّ فترة ما بعد الاستقلال لم تنعم إلا بـ 17 سنة من الحكم المدنيّ لتقع بعد ذلك تحت وطأة حكمٍ عسكري كريه منذ استلام حزب البعث السلطة في 1963… بحكم ذلك كله تكاد الرابطة القُطْرية أن تكون فارغةً لا عمق لها، وليس لها مرجع قيمي يحدوها، مما سيجعلها لزاماً من نوع الهويات المتنطّعة التي تفخر بما ليس عندها.
فإذا اعتبرنا أن فكرة القومية السورية كقُطْر واهنة لا ينبني عليها واقع، فهل المخرج هو القومية العربية؟
إنّ الخطاب القومي العربي يُعلي ما يفرّ منه الاجتماع الكُردي (وما يفرّ منه آخرون من غير العرب). وفعلاً، إذا كانت الرابطة رابطةً قومية بحتة منبتّة عن إطارٍ خلقي، فستكون ضرورة نافيةً لغيرها من القوميات. وإذا أردناها قومية عربية، فيحقّ للكُرد أن يتساءلوا قائلين: ماذا قدمتم لنا يا عرب القرن العشرين (ونهاية القرن التاسع عشر الميلادي) حتى نحبّ رفقتكم؟ أما إذا كانت الرابطة رابطة حضارية عربية مسلمة، فللكُرد في ذلك تحصيل وموضع شرف. فصلاح الدين الأيوبي مكّن للحضارة العربية المسلمة وللغة هذه الحضارة، وتميّزت الجهود الأيوبية خصوصاً بافتتاح المدارس التي تُرّسخ أسس الانتماء العربي الإسلامي. والكُرد مسلمون وعاشوا ضمن الترتيبة العثمانية للنظام الملّي، ذلك النظام الذي يعطي الأقوام استقلاليةً وإدارة ذاتية. وبالمناسبة، كانت الخرائط أيام العثمانيين تشير بلا حرجٍ إلى مناطق عيش الكُرد بـ “كُردستان”، بمعنى المساحات التي يسكن فيها الكُرد وليس بالمعنى القومي للدولة.
إنّ الكُرد كُردٌ من جهة عيش قومٍ من الأقوام لهم لغةٌ وثقافةٌ وتاريخٌ مشتركٌ في بقعة أرضٍ لفترة طويلة ومستمرة. وهذه العناصر كافية لتمدّ أهلها بشعورٍ عميقٍ من الانتماء لقوم –بمعنى تميّزهم بخصائص معيّنة– من غير أن يرتبط هذا المعنى بحدودٍ صلبة. وأولاً وآخراً، كانت عيشة الكُرد التاريخية متفاعلة مع محيطها -ثقافياً وحياتياً– وليست منبتّة عنه. وعلى الصعيد الثقافي، العرب لهم تراثٌ كما أنّ للكُرد تراث، ولذلك يجب ألا يكون ثمة إشكال في طرح العروبة كثقافة. وكذلك كان هناك تشارك وتداخل بين حياة العرب والكُرد على الصعيد الحياتي. إن الإشكال يرِد عندما يكون الطرح طرحاً قومياً عربياً بمفهومه الحداثي (شعب-دولة)، لا طرحاً عروبياً ثقافياً.
5- الرؤية السياسية للكُرد:
برغم أنه لم يطالب كُرد سورية بالانفصال من قبل، تطوّر طرحُهم حديثاً إلى ما هو قريب من الاستقلال الذي يتجاوز حدّ اللامركزية الإدارية. والكُرد يطالبون بحقوق جماعية ويصرّون على أنهم قومية منفصلة. وتتضمن عبارات أحزابهم عادةً ألفاظ الاعتراف بالقومية الكُردية واللغة الكُردية كلغة رسمية ووقف الممارسات الإقصائية بحقّهم والتعويض عن الضرر الذي أصابهم. وأحياناً تظهر عبارة “الشعب” الكُردي، وهي عبارة تمهّد لفكرة الانفصال. فمن ناحية المفاهيم الدولية، إذا كان هناك شعبٌ وأرضٌ تاريخية، فيصبح حقّ تقرير المصير أمراً قانونياً معترفاً به. أما جعل مطلب التعويض الخاص بالكُرد وتضمينه الدستور الجديد شرطاً لقبولهم بالمشاركة السياسية فيبدو تعجيزياً. إذ كيف تعيد الحقوق بعد سنين طويلة والحال الاقتصادي السوري هو على ما آل إليه؟ وكيف يمكن أن تُنصف ظلماً ولا توقع ظلماً آخراً مكانه؟ ثم ألم يوقع النظام المجرم مظالم فادحة في السنوات الأخيرة ينبغي معالجتها أولاً؟
إنّ الإشكال الرئيس للطرح الكُردي هو أنه لا يبقي مساحةً مشتركةً واسعةً مع بقية الشعب السوري. وكما جرى التنبيه إليه مراراً، التأكيد على المساواة في الحقوق أمرٌ مطلوب على المستوى الإداري للدولة، وإذ تساعد المساواة على نشوء صيغة تعايشٍ ترتاح إليها النفوس، لكنها ليست كافية بذاتها كأساسٍ لقيام الأمة. وبإنكار الخلفيات المرجعية لثقافة بلاد الشام في خطاب الأحزاب الكُردية الطاعنة في اليسارية، ترتسم صورةٌ انعزاليةٌ لموقع الكُرد في المجتمع.
وحيث أنّ التنكيل بالثورة الذي قام به النظام الحاكم أضعف اللحم الاجتماعية بين فئات المجتمع، انتقل المطلبُ السياسي الكُردي من التأكيد على المساواة إلى مطلب الاختصاص. وحلَّ محلّ التموضع الحذر للكُرد من الثورة في أولها مشاركةٌ محسوبةٌ ترى فرصةً حقيقية في الاستقلال التام أو الجزئي. وكما هو معروف، هنالك أحزاب كُردية كثيرة وعدد أعضاء بعضها ضئيل، وتتبنّى هذه الأحزاب مواقف متباينة من ناحية الاستقلالية والفدرالية.
وعندما نقول إنّ الهويات القومية تُبنى وتُنشأ إنشاءاً فإنّ ما نعنيه هو أنّ الحوادث التاريخية العظام –ولا سيما التي تضمنت آلاماً- تقدح أمل بناء وطنٍ قوميٍ آمن، ويُقنع الناس أنفسهم أنّ مثل هذا الكيان الصافي المختصّ بهم كان دائماً موجوداً وعامراً بالمشاعر القومية وأنهم عاشوا فيه عيشة سعادة وسلام ورغد.
يُظهر ما سبق أنّ الإشكالية الكُردية كانت في مبتدئها مشكلة ظروف خارجة عن النطاق السوري، وأنّ الظلم الذي تعرّض له الكُرد في سورية هو من نوع الظلم الذي تعرّض له غيرهم من الشعب السوري المبتلى، غير أنه اختُص الكُرد بإنكارٍ لخاصّيتهم الثقافية الكُردية المتمثّلة باللغة، كما استُهدفوا بناء على الانتماء السلالي. ولا بدّ من تأكيد أنّ ظلم الكُرد جرى على يد نظامٍ غاشمٍ وليس على يد العرب بخصائصهم كعرب، وإن تعنون بعنوانهم. فكيف يصحّ أن يُحرم العرب ثقافياً، وهو من نوع الحيف الذي يشتكي منه الكرد بخاصة؟
إن فهم التطورات التاريخية والتخفيف من توجيه الاتهامات نحو الآخر أمرٌ ضروري لإمكان العيش بسلام في المستقبل. غير أنه بغض النظر عن التطورات التاريخية، تعيش القضية الكُردية اليوم سياقاً إقليمياً نتجت عنه آثار حاسمة. فحيث يشعر كُرد الشمال أنّ لهم قصة منفصلة مخصوصة في الظلم، وإذ يشعرون أنّ لهم انتفاضة أخرى منذ حادثة مباراة كرة القدم في 2004، كان تعاملهم مع الثورة مختلفاً. كما أنّ تطوّر الأحداث داخلياً من ناحية تفكّك السلطة المركزية، وتطوّرها خارجياً من ناحية وضع كُرد العراق، والاتفاق التركي الكُردي لانسحاب منظمة الــ پ ك ك الذي يقتضي إعادة تأهيل المهجّرين من الكُرد وتطبيع وضعهم… إنّ كل هذه التطورات فرضت واقعاً جديداً على الخارطة السورية وعلى تشكيلها السياسي، وفتحت لكُرد الشمال فرصةً لن يتركوها تفلت من أيديهم، سواءاً أكان في اقتناص هذه الفرصة عدلٌ من الناحية السورية العربية أم لا.
إنّ الصيغة التي سيتمّ فيها تحديد علاقة كُرد الشمال بباقي النسيج الوطني السوري هو جزء من الولادة الجديدة للأمة، وهو أمر يتعلق بالهويات ولا يقتصر على البُعد السياسي وإن كان يمرّ به.
★ للتفصيل في المسألة الكردية، انظر دراسة الباحث السوري جمال باروت: مسألة الأكراد في سوريا. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
ميلاد أمة في خضم التفاعلات الحضارية والجيوسياسية
ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني
ميلاد أمة-2: التوجهان العروبي الإسلامي والقومي العربي
ميلاد أمة-4: من مِلَل إلى أقليات: مقدمات
أ) حالة المسيحيين: العروبة والوطنية
ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه
Tagged: الأقليات والسياسة, التعددية, الثورة السورية, الربيع العربي
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]
[…] ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه […]