مفهوم الدولة: مراجعة نقدية – نموذج الدولة المسلمة

مقدمة

أولاً: دولة الحداثة

ثانياً: نموذج الدولة المسلمة

كان ما سبق مراجعةٌ نقدية ترفض الوقوف عند السردية الوصفية لدولة الحداثة.  وننتقل إلى معالجة النموذج الإسلامي للدولة المسلمة، معالجة تأخذ بعين الاعتبار سنن التشكّل السياسي.  

ونشير إلى أنّه مثّل مفهوم التوحيد المركز والنواة لحضارة المسلمين.  ولذلك لم يعرف السياقُ الحضاري المسلم الثنائيات التي تعترك معها الثقافات الأخرى… فليس ثمة فهمٌ فصامي للديني والدنيوي، أو الاعتقاد بأن ثمة عالَمٌ مطهّرٌ وآخر مدنّسٍ، أو وجود سلطة دينية وسلطة زمنية…  وبمجرد نفي هذه الثنائيات نريح أنفسنا من كثيرٍ مما تفرضه الأطر الفكرية الغربية وعقدتها من الدّين ودوره في الحياة.  ولم تقتصر إسلامية الوجود الحضاري المسلم على الأوجه العبادية، وإنما انعكست قيم الإسلام في شتى الثمار الاجتماعية لهذه الحضارة، بما في ذلك –مثلاً– المعمار وتخطيط المدن.

كما نذكّر هنا بما أضحى مشهوراً من أنّه إذا كانت الشريعة هي مرجعيةُ الحُكم، فإنّ الأمة هي مرجعية السلطة.  والشريعة هي منظومةٌ متكاملة للحياة بأبعادها المتعددة وذات شالكةٍ فريدة، ولا يمكن اختزالها في الفقه.  وإنّ الشريعة ضمن مفهوم الشاكلة والمنهاج هي التي تمتلك القدرةَ التجديديّة التي تمّد برؤيةٍ قادرة على الإنشاء المتميّز في كل زمان ومكان.  وحين نفهم الشريعة بمعنى المنهاج، تتميز بقدرتها على الإنشاء وليس مجرّد قدرتها على التعامل (بمعنى التكيّف الارتدادي) مع ظروفِ كلِّ زمان ومكان كما يجري القول عادة.  وإذا كان اختزال الشريعة في الفقه مشكلٌ وينتقص من المعنى الواسع للشريعة، فإنَّ اختزالها في القانون إساءة أكبر، ولا سيما في عصر الحداثة الذي ارتبط فيه مفهوم القانون بالدولة وسيطرتها وقهرها.  وليست الشريعة وحدُها أوسع من القانون وأعلى من مستواه، بل الفقه كذلك.  فالفقه يحوي على مسائل التهذيب الأخلاقي وعلى فضائل السلوك.  أما في المسائل التي يشترك فيه الفقه والقانون، فيقوم الفقه وأصول الفقه مقام نظريّة القانون.

 

وإن من أهم ما يميز النموذج الإسلامي للحكم هو أنّ:

       ·          الشرعية ليست مرتكزةً في الدولة.  فالأمة هي المستخلفة

       ·          والشريعة متعبّدٌ بها المسلمون أفراداً وجماعاتٍ بغض النظر عن الدولة ووجودها

       ·          وقيام الدولة بأمر الشريعة منوطٌ بها نيابة عن الأمة، فلو لم تقم الدولة بذلك  وجَبَ إصلاحُها أو الخروجُ عليها ومنابذتها

 

ومن أجل توضيح النموذج الإسلامي للدولة، سوف أذكر أربعة نقاط: إعادة قراءة طبيعة الخلاف في التجربة السياسية المبكرة زمن الراشدين، تليها قراءةٌ سننية للدول المسلمة العالمية الكبرى، ثم أشير إلى البُعد المدني في التجربة المسلمة، وأناقش باختصار ثنائية علمانية/دينية الدولة.

1-  إعادة قراءة التجربة السياسية الأولى:

لـمّا غاب الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عن المجتمع، ظهرت ثلاثةُ مواقفَ في الحكم.  الأول هو أولوية أقارب النبي في الحكم، وتجلّى ذلك في موقف عليّ وقولة العباس؛ والثاني هو موقف “أهل المحلّة أدرى بشعابها”، متمثلاً في موقف سعد بن عبادة؛  والثالث هو موقف أبي بكر وعمر المتمثُل في أنّ الأكثر بلاءً هو الأولى بالحكم.  وهو الذي مالت إليه جمهرة الصحابة.

وهذه ثلاثة اجتهادات عامة من ناحية انجذاب الناس إليها.  ففي الوجه الأول نزعة قبلية عائلية، وفي الثاني نزعة محلية محافظة، وفي الثالث نزعة جهادية تغييرية، وما كان ليرجح إلا التوجه الذي تتجلّى فيه عالمية الإسلام.  ومن الجدير بالملاحظة أنّه حين استُشهد بالنصوص استُشهد بها على محمل الرؤية المصلحيّة، بمعنى القدرة على متابعة مشروعٍ خطّه النبي صلى الله عليه وسلم.

وأشير إلى أنّ ملاحظة الشروط الموضوعية لباكورة نظام الحكم هذا أمر مهم.  فلقد تميّز بصغر المساحة التي تقع تحت سلطته وبقلّة عدد المحكومين، وفي نوعيتهم الاستثنائية.  والدولة المسلمة يومها لم تكن دولة بكل معنى الكلمة، حتى بمقياس عصرها، وإنما كانت ما زالت تبحُر بزخمِ صفاءِ ظهورِ دينِ الإسلام وتقديمه تصوراً جديداً للعقيدة والإنسان والكون.

2-  الدول المسلمة العالمية:

ولما أطلّ زمن الفتح الواسع جاءت معه تحدّياتٌ تفوق استعدادات نظام الحُكم وخبرته، وعجز أو اعترك النظام القائم في محاولته استيعاب التناقضات الجديدة.  وكانت الغلبة في النهاية لنموذج حكمٍ مقتدرٍ، وإن كان لا يرتقي إلى مراتب الخلفاء الأربعة الأُول.

وإنّ نجاح مشروع ما بعد الراشدين مفهومٌ موضوعياً على نحو تامّ، فهو المشروع السياسي الوحيد الذي: (1) استطاع أن يستوعب طبيعة المجتمع الكبير، وليس مجرد المجتمع الصالح للمدينة؛ و(2) استطاع أن يقتبس من آليات الحكم الموجودة بين الأقوام الآخرين؛ و(3) استطاع أن يدرك طبيعة التحديات العالمية التي تحيط بالدولة.  وإذ غلبت عندها واقعيةُ الدور على مثالية المبدأ، كان اعتماد التوريث انحرافاً كبيراً في الحكم، وكان في التنكيل بالمعارضين نكسة أخلاقية.

 

ولقد عجزَ المجتمعُ المسلم يومها عن تفعيل بُعد النظر العمريّ.  وإذ مثّلت القيادة العمريّة نضوجاً سياسياً أتعبت من بعدها، يمكننا إفراد مبدأين رسّختهما هذه القيادة: مسؤولية الحاكم عمّن يسوسهم ولو كانت شاةً على ضفة الفرات؛ وتأمين استقرار النظام العام واستمراره من خلال إسداء القيادة -عند نقل السلطة- إلى مجموعة من أصحاب البلاء ينتقي منهم المجتمعُ الأصلح.  ومِثلُ كلّ الأفكار السابقة لزمانها، عجز المجتمع عن مأسستها في الواقع.

وما يهمّنا في سياق موضوعنا أنّ مفهوم الدولة ودورها تمحورا حول فكرة إمكان خدمة مصالح المسلمين.  والخلاف النظريّ في جواز خلافة المفضول بوجود الأفضل أكّد في النهاية على أولوية المصلحة الكبرى من اجتماع أمر المسلمين وحماية وجودهم، ما دام هذا المفضولُ يقيم شرع الله.  غير أنه لا يعني ذلك أنّ لم تحنّ المعارضةُ السياسية إلى عالم الطُهر في الأيام الأولى للدعوة، فقامت بثوراتها، كخروج الحسين على توريث يزيد وثورة ابن الزبير على الأمويين و ثورة محمد النفس الزكية على بني العباس.

وبالمناسبة، نشير إلى الخطأ الفادح الذي يقع فيه بعض المعلّقين من توهّم التشابه بين انفرادية سلطة الحكم في تاريخنا المسلم والحكومات الاستبدادية اليوم.  فليس مشكلة الحكومات المستبدة في عصرنا الاستئثار وانسداد سبل الإصلاح فحسب، وإنما أنها تفرّط بالمصالح الكبرى للأمة وترهنها للقوى الدولية المناوئة، وترسّخ التبعيّة على المستويين الاقتصادي والسياسي، وتحارب ثقافة الأمة وتصدّها عن دينها، وتبشّر بإديولوجيات الحداثة وتفرض نمطها الحياتي.

نعود إلى النقطة التي نسعى إلى تحريرها، وهو أنه لم  تكن الدولة المسلمة (دولة دينية) بمعنى الثقافة الغربية، وإن كانت دولةً تحرس إقامة الدّين وتسعى لتحقيق مقاصده في الواقع.  ومن المفيد أن نحدّد العناصر التي تجعل من الدولة دينية بالمفهوم الغربي وما يجعل الحكم إسلامياً بالمعنى الإسلامي.

الدولالمسلمة لم تكن دولاً دينية بالمعاني التالية:

1. الحاكم أو ثلّة الحكم مفوّضون من قبل الإله.

2. الحاكم أو ثلّة الحكم لها خصائص قدسية.

3. إدارة الحكم تتبع غيباً مختصّاً محجوباً عن الأمة.

4. انفراد النخبة الدينية بالسدّة العليا للحكم.

وكان الحكم إسلامياً بالمعاني التالية:

1. الحاكم وثلّة الحُكم مستخلَفون في أمانة إقامة الحقّ.

2. الحاكم وأهل الحُكم مسؤولون عن الرعية التي ترأسوا أمرها.

3. إدراة الحُكم تستلهم شريعةً تتمثّلُ الأمةُ مقاصدَها وتبيُّنها جهودُ العلماء.

4. تولّي الريادة الدينية السدّة العليا في الفضاء الاجتماعي الذي هو معقل السياسي.

 

فلم تكن الدول المسلمة ثيوقراطية، ولم تشابه شرعيتُها شرعيةَ الحُكم عند الروم أو الفرس.  ولا يعني هذا أنه لم تتسرّب إلى أحلام السّاسة شهواتُ إضفاءِ هالات العظمة الدينية عليهم وعلى بلاطهم، وهو الذي مثّله ظهور مصطلح “ظل الله في الأرض”.  غير أنّه بقي موقع الدولة في الضمير المسلم موقع قيادةٍ شرعيتُها منوطةٌ بالقدر الذي تستطيع أن تحقّقَ العدل وتحميَ من الأعداء.  وأولاً وآخراً، نوع الإنسان –بعمومه- هو المستخلف في المنظور الإسلامي.  وكلّ ما سبق لا ينفي إشكالية النظامِ التوارثيّ في الحكم.

أما نموذج الدولة الدينية فهو الذي توجّه إليه التشيّع في ما آل إليه، ولم يكن التشيّع في مبتدأه إلا نزعةٌ مثاليةٌ في الحكم تطلب تمام النقاء في شخص الحاكم، وتزاوجت مع فكرة النسب المشهورة عند القبائل العربية.  ولم يدخل مفهوم دينية الدولة (بالمعنى الثيوقراطي) فكرَ الشيعة إلا بعد قرنين من الزمن من دعوة الإسلام.

ولقد تمثّل الناظم العام للثقافة المسلمة في العُرف الذي يقتضي إجلال الحكّام للعلماء (الموقّعين عن ربّ العالمين) والتحقّق من صلاح الحكّام واستقامتهم.  ومن اللطيف ملاحظة أنّ سليمان القانوني الذي وصل تقريظُ لقبه طول ثلاثة أسطرٍ لا يحوي هذا الإطراء على أوصاف حلولٍ دينيّ، وإنما حوى معانيَ خدمة الدين في بسط هيمنة الدولة وقهر الفرنجة وتحقيق العزة للمسلمين.  وإنّ المدى الأقصى الذي سمح به الحسُّ الثقافي المسلم للسطانِ هو استهلال خطبه بالآية ((إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) معرّضاً بقوة سليمان النبي وتسخير الجنّ له.  فلقد بقي الضمير المسلم متعلّقاً بصورة عالمٍ يأبى أن يغشى مجالس السلطان، رغم كل محاولات السياسة الضغط على العلماء وتوظيف مظاهر الدين لصالحها.

3-  البُعد المدني في التجربة المسلمة:

لم يكن هنالك قبل زمن الحداثة تواصلٌ كبير بين عامة الناس و سلطات الحكم.  فمعظم الفاعليات المعيشية كانت محلّية تؤمها نخبة المجتمع في الحيّ والقبيلة والقرية.  وعاشت الغالبية العظمى من الناس يومها في القرى، برغم أنّ تاريخ المسلمين اشتهر بمدنٍ كبيرة وحواضر زاهرة.  وكان لسلطة القرابات أهمية بالغة، وكذا للسلطة الرمزية لكبار السنّ وخاصة لمن اشتهر منهم بالحكمة.  وفي حين كان الأمراء قادةَ السياسة، كان العلماء والأئمة قادةَ المجتمع؛ والأهم من ذلك أنّه استندت شرعية الأول إلى الثاني إلى حدٍّ كبير. 

 

ولقد كان الحكم المسلم ذو صفة مدنية بامتياز للأسباب التالية:

  •  أُسس الشرعيّة من إقامة معاني الدّين وتحقيق مقاصد الشريعة كانت معقودة في المجتمع والأمة لا في رأس الهرم السياسي.
  •  وصناعة الثقافة كانت محلّية.
  •  وكان القضاء مستقلاً، وكانت النظرية القانونية (الفقه و أصول الفقه) ليست مستقلة فحسب، وإنما خارج مؤسسة الحكم بالتمام.
  •  واعتمدت معظم نشاطات الناس ومعيشتهم على المحلّة الصغيرة لا على مركز الحكم أو الخليفة والسلطان.
  •  وهكذا تركّز دور الدولة فيما بقي من وظائف، وعلى رأسها الدفاع والعلاقات الخارجية والمالية العامة، كما تركّزت واجبات الأمن والجباية على صعيد الولاية.

إنّ عمق البُعد المدني في دول ما قبل الحداثة عامة وفي التجربة المسلمة خاصة أمرٌ حاسمٌ ينبغي أن لا تذهل عنه الأذهان.  ولقد تميّزت الحضارة المسلمة بتطويرها نظام الوقف، وله ميزة في غاية الأهمية إذ يقلّص تدخّل الدولة في كثيرٍ من شؤون الحياة.

4-  لا دينية ولا عَلْمانية:

الدولة المسلمة ليست دولةً دينيةَ بالمعنى الرائج ولا عَلْمانيةَ بالمعنى الفلسفي.  برغم أننا نرى إشكالية في إطلاق مصطلح (الدولة الإسلامية) لأن الإسلام كدين هو دوماً أسمى من التمظهر السياسي، ولأن ضبط ذلك المصطلح صعب جداً.

وإن الجليّ في التجرية المسلمة وفي النظرية المسلمة على حدّ سواءٍ أنها اعتبرت معظم فضاء الدولة هو فضاء العاديات والمصالح المرسلة.  غير أنّ ذلك لا يسمح لنا إطلاق صفة العَلْمانية على الدولة.  وما تعتمده الطروحاتُ العَلْمانية من الادّعاء بأنّ عَلْمانية الدولة هي حيادها هو تسطيح بالغٌ لا يستقيم، فالدولة لا تنفكّ عن استبطان رؤيةٍ معينة في تنظيم المجتمع.  كما أنّ مصطلح (العَلْمانية السياسية) مصطلح صحافيّ أكثر منه علمي.

وعلى كل حال، تعريف العلمانية هو الفصل في الموضوع، وما يلي هو تعريف جامع للثالوث الفلسفي للعَلْمانية:

  1. العَلْمانية هي الرؤية الكونية الكلية التي تحدّها المادية المطلقة في الفهم السببي؛
  2. وتحدّها النفعية المطلقة في النسق السلوكي؛
  3. وتحدّها النسبية المطلقة في السمت الأخلاقي.

وبالتالي تَختزل العَلْمانيةُ الدّينَ في فكرةٍ خرافيةٍ وترفضه منهلاً للقيم، وتمنع نزعة التدّين أن تنعكس في الحياة العامة وأن تساهم في ترتيب أولويات المجتمع.

أما عبارة فصل الدين عن الدولة فعبارةٌ متهافتة، ففصل السياسية عن دينٍ مابمعنى القيم والمبادئ السامية- أمر غير ممكن أو غير مرغوبٍ به، فلا بدّ للسياسة أن تستبطن قيماً ما، سواءاً أكانت قيم العَلْمانيّة الحداثية أو قيم الديانات السماوية أو قيم غيرها من ديانات العالم الكبرى كالبوذية والهندوسية، أو خليطاً من هذا و ذاك؛ أو تبقى سياسة الوحوش بلا أي ضابط أخلاقي.  كما أن المصطلح في أصله الأُروبي كان فصل الكنيسة عن الدولة، وليس فصل الدين عن الدولة؛ مما يعني ثانية أنه ليس له علاقة بالتجربة المسلمة.

مقدمة

أولاً: دولة الحداثة

ثانياً: نموذج الدولة المسلمة

خاتمة

Tagged: , , ,

2 thoughts on “مفهوم الدولة: مراجعة نقدية – نموذج الدولة المسلمة

  1. Samir Twair 2014/01/01 عند 3:04 م Reply

    very good analysis.

  2. […] ثانياً: نموذج الدولة المسلمة […]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: