مفهوم الدولة: مراجعة نقدية – مقدمة
أولاً: دولة الحداثة شمولية بطبيعتها
ثمة اختلافٌ جذريٌ بين طبيعة الدولة ومكانها كما عرفَها التاريخ والدولة في السياق الحداثي. وهذا لا يخصّ تاريخ المسلمين فحسب، وإنما تاريخ كل الأنظمة السياسية لما قبل الحداثة؛ غير أنه في الحالة المسلمة أكثر وضوحاً وافتراقاً. وبعيداً عن الطروح الجزئية المعتجلة التي تملّكها غرام الدولة الحديثة، نموذج هذه الدولة هو شموليّ بطبيعته يتمدّد للسيطرة على كل مناحي الحياة.
ولتوضيح ذلك نناقش باختصار فكرة الدولة/الشعب، وأوجه السيطرة في هذا النوع من الدولة، ومسألة الديمقراطية.
1- صيغة الدولة/الشعب:
توصف دول الحداثة في أنها دولة/شعب، ويُضمر هذا الوصف في الطرح العام معاني التقدّم والانفكاك عن التشكيلات السياسية القديمة وأنماطها القبلية والملكية… كما يسبغ عليه صفات المعقولية والمساواة. وعلينا التحقّق من صحّة هذا الوصف ومدى تطابقه مع حال الدول المسلمة.
وننبه ابتداءاً أنه وُلدت أكثر الدول الحديثة نتيجة حروب، ورسمت حروبُ الحداثة الأروبية حدودَ هذه الدول، مما ينفي عنها صفات النموذج الصافي الجدير بالاقتداء. ولقد نتج عن تفاعل الفسلفات الوضعية مع الواقع العملي لأروبة دولاً يُشار إليها بعبارة (nation-state) وتُرجمت إلى العربية بعبارة دولة/أمة. لكن هذه ترجمة مشكلة، والأنسب للمعنى هو دولة/شعب، إذ يمكننا القول إنّ مصطلح الأمة غير موجود في الثقافة الغربية، ولا تتمتّع الكلمات المشابهة لكلمة الأمة في اللغات الأروبية بخصائص المفهوم الإسلامي لمصطلح الأمة. فالمفهوم الإسلامي للأمة لا يجعل منها جماعة سياسية نفعية، وإنما حاضناً للقيم الإسلامية وراعياً لها.
وفي سياق الدولة/الشعب أصبحت صيغة العقد الاجتماعي صيغة أفرادٍ يرتبطون بنظام حكمٍ من خلال منظومة حقوق. ومقابل الولاء لدولةٍ تَعِد بالثراء وتمكّن من الاستمتاع، ينصاع المواطن وينقاد. وما هذا إلا وعدٌ بجنةٍ أرضيةٍ بعدما حلّ في الثقافة وعلوم الاجتماع والإنسان تصوّران: التصوّر الفرويديّ والتصوّر الدارويني. التصوّر الفرويديّ اعتبر الفرد صندوق شهواتٍ تستعر و مشاعر عدوانٍ تتأجّج (لوبيدو)، و طبّع التصوّرُ الدارويني قانونَ غابٍ مُتخيّل: البقاء للأشرس (وليس البقاء للأصلح، ونجد مرة ثانية إشكالية ترجمة المصطلحات)؛ وقلت إنه متخيّل لأن الحيوانات تفترس للحاجة لا للإكثار.
فهذا هو السياق الفكري التصوريّ الذي انبنى عليه مفهوم المواطنة الغربيّ وترعّرت فيه الهويّات. ونشأت الدولة القومية ضمن هذا السياج الفكري والنفسي بتعصّبها وضيق أفقها الأخلاقي. فالهوية الحداثية هي هوية لفردٍ مواطنٍ في حيّزٍ جغرافيٍ تتحدّد حقوقُه من خلال دستور.
وإذا أردنا أن نصيغ هذه العبارة بالسلب تصبح كالتالي: الهوية الحداثية هي هوية فردٍ مواطنٍ لا تتحدّد حقوقه من خلال مبدأ متعالٍ، ولا من خلال انتماءٍ أُمِّيٍّ (من أمّة) لبشرٍ لهم تاريخ معنويّ، ولا من خلال الطهارة الداخلية للفرد. وإذا لم تكن مواطناً فأنت (بدون)؛ يعني لا شيء، فلا يحقّ لك تسجيل زواجك في سجلٍ ولا تعليم أولادك في مدرسة ولا إسعاف مريضك في مستشفى. ومقابل هذه القسوة احتوت الدساتير الحديثة على (حقوق) للموطنين فيها ضمانٌ نظريٌ لما تفرزه المنظومة الاصطناعية.
وإنه هذا هو التناقض الذي ينبغي أن نعيَه. فمقابل أنّه تفضي منظومة دولة الحداثة إلى السيطرة والتحكّم، وجدت بعض الأفكار النبيلة للمفكّرين طريقها إلى وثائق الإدارة التي تنظّم السياسية، وتمثّلت في حركات اجتماعية وفي حركات تغيير معارضة.
2- التحكم والحرية:
إنّ التحكّم والسيطرة هو التعبيرُ الأعمقُ عن الدولة الحديثة. ويمكن أن ندلّل عليه ابتداءاً من تماهي فكرة السيطرة مع الفلسفة الوضعية، فتخيّلُ إمكانية السيطرة على الطبيعة من خلال علمٍ تجريبيٍ وازاته الرغبةُ بالسيطرة على البشرية من خلال علومٍ اجتماعية تجري فيها الهندسة القسرية لإخراج إنسانٍ (سوبرهيومان).
ومثلما تباعدت فكرةُ السيطرة على الطبيعة عن مفهوم الاستخلاف في الأرض والرفقِ بها، تباعدت النظرةُ الاجتماعية عن رعاية سَعة الحياة الإنسانية بأبعادها الروحية والأخلاقية. وأحاطت بكلا الفكرتين فلسفةٌ ماديةٌ ضيّقة تحفّها فكرة الصراع مع الكون من جهة وتمجيد نزواتِ الإنسان من جهة أخرى.
ويمكننا التأكيد أنه لم يكن فكر الفلاسفة السياسيين الغربيين كلّه تحرّرياً، وإن أرادوا التحرّر من الكنيسة والسلطة التقليدية للمجتمع، بل ترواحت طروحاتهم بين رؤية تسلطية للدولة ورؤية أقل تسلطاً. وبالنسبة لدول الدِمقراطيات الصناعية، يمثّل طرحُ هوبز الذي يُطبّع تغوّل الدولة القاعدةَ الفلسفية للدولة، ويمثّل طرحُ مكيافيلّي النفعيّ غير الأخلاقي نمطَ سلوكها السياسي، ويمثّل طرح لوك/روسو روحها الإدارية على شكل ضوابط قانونية وملطّفات ليبرالية.
وقد يقال لقد جرى في بعض البلدان الغربية ما يُطلق عليه لفظ (التفاهم الدِمقراطي) أو (المساومة الدِمقراطية الكبرى). هذا صحيح، غير أنّ التفاهم الدِمقراطي جرى لاحقاً وبعد تمكّن الظلم، ولم يتشكّل العقدُ السياسي ابتداءاً من رابطة أخلاقية ولا استناداً إلى منطلقٍ إنساني، وإنما تشكّل وفق صيغة قومية حِيْكَتْ مِن خيوط وهمٍ اصطفائي (تفوق الرجل الأبيض). وجرى استغلال الشعوب الأصلية والمهاجرة، ثم قيل: (وقت مستقطع)، دعنا نلعب اللعبة الدِمقراطية. ولا عجب إذاً أن نجد المجموعات الفقيرة يومذاك ما زالت فقيرة مهمشة إلى يومنا هذا، إلا أفرادٌ تسمح لهم المنظومةُ دخول دائرة (المحظوظين) بعد أن يسبّحوا بحمد تلك المنظومة، فيكون ذلك برهاناً ظاهرياً على (عدالة) المنظومة وأنّ المشكلة هي مشكلة شخصية في المتخلّفين لا في المنظومة ذاتها.
وعلينا الإشارة إلى أنّ هامش الحريةِ الواسعِ الموجودِ في بلدان الدمقراطيات الصناعية هو انعكاسٌ لرغدها الاقتصاديِ أكثر مما هو حرية مطلقة كما يتصوّرها القابعون في القبضات الدكتاتورية. ويلاحظ جلياً أنّ معظم الحريات التي ينعم بها الناس هي حريات تسوّقٍ واستمتاعٍ، وهي مما يقوّي الاستناد الرئيس لهذه الدول؛ وإنّ الادخار والإعراض عن الاقتناء هو الذي يهدّد الدولة الحديثة. ولذلك يصح وصفُ هذه الحريات بأنها حريات استلابية، فهي تقوّي الشركات العملاقة التي أصبحت تسيطر على مسيرة الحياة العملية، وتقوّي الدولة التي أحكمت الإمساك بأجهزة الردع (مؤسسات إنفاذ القانون) ناهيك أنّ هذه الشركات على الصعيد الشخصي تستذلّ الإنسان وتُخضعُه لضغط شهوةِ احتياجاتٍ لا تنتهي.
ومن طرفٍ آخر، تميّز طرح مفهوم الحريات وحقوق الإنسان في السياق الغربي بعقدة الكنيسة وعقدة الهروب من الدين. ولذلك لم تترافق فكرة الواجبات مع فكرة الحقوق. وإنّ نزعة المطلبية للحقوق من غير مسؤوليةٍ عن الواجبات هي وصفة للأنانية الاجتماعية، وهي مخرّبة للمجتمعات الفقيرة ومتوسطة الدخل. وما زالت دول الدِمقراطيات الصناعية قادرة على التعامل مع هذا النازع الأنانيّ لأن الطبقات الغنيّة أقدرُ على التحكّم بالمطلبية، وما تعطيه بيدها اليمين تستطيع أن تستعيده بيدها الشمال؛ إلا في ساعات احتقان تتفجّر بين الفينة والأخرى. أما في البلدان التي تحاول أن تمكّن لنفسها في منظومة دولية شديدة الإمساك، فإنّه تُعجز المطلبيّةُ الحقوقيّة المجتمعَ عن السير وفق أولويات تمكّنه.
ولقد اعتدت دولة الحداثة على المؤسسات التقليدية للمجتمع المتمثلة في الأسرة وعلاقات القربى والجوار وبيوت العبادة. وسبب ذلك أنه تمالك النموذج الحداثي عُجبٌ بمؤسساته الاصطناعية، وافترض أنها بدائل أكثر عقلانية عن النسق القديم للعيش. غير أنّ الواقع العمليّ كان مخيباً جداً؛ وكمثال، نجد أنّه استمرّ الفقر وتضاعفت التعاسة برغم أنّه تنفق أموالٌ ضخمة على المؤسسة الاصطناعية التي يفترض تغطية هذا الوجه (التأمينات الاجتماعية). وما زالت الحداثة تكتشف كل يوم الدور الحيوي لتلك المؤسسات التقليدية. ولقد قاد ذلك إلى العودة إلى التركيز على أهمية المجتمع المدني كتفعيلٍ لمجتمع تصدّأت حيويته، وللتخفيف من جفاف بيروقراطية النظم الحديثة، ولتقليم سلطاتِ دولةٍ تغوّلت. ولكنها وقعت في تضييق معنى المجتمع المدني فلم تدخل فيه الأسرة وعلاقات القربى والنشاطات الدينية.
3- آليات الدِمقراطية مقابل الدِمقطراية اللِبرالية:
تتعامل بعضُ الكتاباتِ العربية مع الدِمقراطية وكأنها اختراع اكتُشف في مخبرٍ وجرى تبنّيه من قِبَل حكّامٍ آثروه على الاستبداد. وهذا خيال مُعجزاتيّ منقطعٌ عن فهم الأسباب. وهناك كتابات تصوّر الدِمقراطية أنها كانت ممارسة اتبعتها أَثِينة اليونان، ثمّ تبنّتها وثيقةُ الماغنا كارتا في إنكلترة، ثم فصّلت فيها الدول الأُوربية والثورتان الفرنسية والأمريكية. وهذا تسطيح يناسب مادة للخطاب الشعبوي من أجل الافتخار بالنفس.
إنّ تطوّر النظام الديمقراطي كان أكثر تراكيبية من الطروح الرائجة، سواءاً التي تعتبره أمراً ناجزاً أو التي تصوّرُه فسيلةً طيّبةً نمت بالتدريج. فلقد تولّد النظام الديمقراطي نتيجة سيرورات اقتصادية واجتماعية وسياسية بالغة التعقيد. ونشير بالخصوص إلى ثلاثة فاعليات: (1) شكّل الصراع مع سلطة الكنيسة وطبيعة تطوّر النصرانية وبزوغ البروتستانتيّة جزءاً من فاعلياتها المحرِّكة؛ (2) وشكّلت الرشدنة و التطوّر البيروقراطي مستنداً لها؛ (3) وشكّلت الرأسمالية وتطلعّها العالمي محركاً مغذياً لها.
إنّ تفاعل هذه الأبعاد الثلاثة في سياق تاريخي معين هو الذي شكّل الدِمقراطية الحديثة. ولذلك فإنّ تخيّل إمكان استيراد الدِمقراطية جاهزة كما تستورد الآلات هو خيال ساذج، فما هكذا تتطوّر المجتمعات. ويضاف إلى ذلك أنه يتآكل النظام الدِمقراطي ويتفرّغ من مضمونه بسبب نفوذ المال والدعاية.
ولقد أصبحت كلمة (الدِيمقراطية) كلمةٌ فضفاضة تُستعمل في سياقات متعددة جداً، فأحياناً يقصد منها ما يتعلّق بنظام الحكم البرلماني، وأحياناً يقصد بها سلوك التنافس السياسي الانتخابي، وأحياناً تشير إلى الثقافة السياسية، وأحياناً تومئ إلى النمط اللِبرالي في الأخلاق والتعامل. ويتعلّق إذاً الموقف من مفهوم الديمقراطية بما يقصده هذا المصطلح تحديداً.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ فكرة اختيار ممثلين عن القوم –مما يُعتبر اليوم صفة أساسية للممارسة الدِمقراطية- هي فكرةٌ قديمة جداً ومارستها الأقوام في غابر الزمان وإلى يومنا هذا: نقباء بني إسرائيل الاثنى عشر، ونقباء بيعة الأنصار، ونقباء الـلويا جركا في أفغانستان. وكذلك فإنّ فكرة تشاورِ أهلِ الحكمةِ في المجتمع فكرةٌ قديمة جداً مارستها النظم القبلية في تاريخ البشرية على نحو ناجعٍ حيث كان كبار القومِ المتشاورين جزءاً لا يتجزّأ من الرحم الاجتماعية للقبيلة، ويُجرون تشاوراتٍ جزئية على نحو عفويّ مع الإرادة الجمعية لهذه القبائل، بما في ذلك النساء. وإذا كان بُعْدا التمثيل والتشاور قديمين وليسا مختصّين بالدِمقراطية الحديثة، ظهر أنّ المقصود بتسويق الدِمقراطية في السجال العالمي هو المضمون اللِبراليّ. وما الموقف من تجارب الثورة العربية إلا دليلٌ واضح على ذلك.
بيد أنه ينبغي التأكيد أن الدِمقراطية كآلياتٍ هي موضع تفكّر واستفادة. فلقد تراكمت تجارب بشرية وخبراتٌ كثيرةٌ في المسائل التنظيمية للمارسة السياسية. ولا يخفى أنّ الأشكال القديمة للتمثيل والتشاور لم تعد متيسّرة بسبب الازدياد الهائل في عدد السكان وتوزّع الناس. وثمة مجالٌ كبيرٌ للتعلّم في قضايا إدارية سياسية، مثل طرق المصادقة على القوانين، وفي التصميم العام للهيكلية الإدارية للدولة ومسائل اللامركزية والفدرالية، ألخ.
مقدمة
أولاً: دولة الحداثة
ثانياً: نموذج الدولة المسلمة
خاتمة
Tagged: فصل الدين عن الدولة, الحداثة, الدولة الإسلامية, السجال الإسلامي العلماني
[…] أولاً: دولة الحداثة […]