سواء سيكون التدخل العسكري المباشر للدول الراعية للنظام العالمي على شكل ضرباتٍ قاصمة لمواقع حساسة أو نزعٍ تدريجي لأنواع من الأسحلة أو مزيج من الاثنين أو غير ذلك… سوف يجري هذا بدون استشارة مَن يتأثّر بالقرار… ويعني هذا أنّ التشدّق بشجب هذا التدخّل غضبٌ يصرف عن العمل وأنّ التصفيق له بحرارة سلامةُ صدرٍ طافحة. فما دام أنه وقع خارج خيارنا الحرّ فالجدال فيه سفسطة. المطلوب أن نعي أننا نواجه فصلاً جديداً من فصول الثورة، فصلاً سيكون مليئاً بتحدّيات من نوع مختلف، وعلينا أن نتعامل معها بواقعيّة جِدّية.
قرار من؟
ألا ينبغي أن يكون لافتاً للنظر أنّ الشعب الصامد الذي يُهرك لـ (نجدته) والقوى المقاتلة التي جعلت التدخّل ضرورة ليس لها أي حظّ في القرار، لا في جملته ولا في تفاصيله؟ كما أنه لم يُستشر الائتلاف لقوى المعارضة والثورة السورية، ولا المنظمات السورية في المهجر في الولايات المتحدة الأمريكية وأروربة التي يعمرها مواطنون، ولم يصل إلى هذه الفرق إلا تسريباتٌ استحواذية يمكن أن تقرأها في الصحف. وربما نجد لهذا عذراً بسبب أنّ هؤلاء السوريين العرب غير غربيّين (ولو تجنّسوا)، أو أنهم غريبين وسمرةُ ثقافتهم تحول دون مشاركتهم في مثل هذه القضايا المصيرية.
ولكن ما يثير العَجب أيضاً أنّ عامّة المواطينين الأمريكيين لم يُترك لهم مطلق القرار، وإن حصلت استشارتهم بشكل غير مباشر. نعم، طُلب تصويت النواب، والنائب يصوّت وفق قناعته الخاصة مع مراعاة رأي من يمثّلهم إذا كانت نسبة كبيرة منهم تميل إلى قرار ما، ولكن هذا ليس مضموناً. وكما هو معروف، للكونغرس الأمريكي جسمان، والصورة أعلاه هي صورة مجلس النواب الذي فيه تمثيل شعبي واضح؛ أما مجلس الشيوخ (ممثلان عن كل ولاية) والمتوقّع أن يصوّت مع قرار الرئيس فليس له عمق تمثيلي. ثم إنّ التصويت مع قرار الرئيس أو ضدّه لا يتّصل بقضية سورية وحدها كما يبدو على السطح، وإنما له صلة أيضاً بالقضايا السياسية العالقة (الميزانية، الحد الأعلى لديون الحكومة، التأمين الطبي الشامل). وفي السنوات الماضية ازدادت حدّة المنكفات السياسية فلا يوصل إلى قرار إلا آخر لحظة، في حين أنه جرت العادة في تاريخ أمريكة أن يجري تجاوز المسائل العالقة من أجل (المصلحة القومية)، وهي أحد النقاط التي يُتوقع أن تؤكد عليها مقابلاتُ أوباما اليوم وخطابه غداً.
حقاً، فالسياسية الخارجية محتكرةٌ من النخب الحاكمة بحسب ما يرون فيه مصلحة استراتيجية، وإن كان يجري تهييئ الشعب بتصريحات المسؤولين المتتالية والمتدرّجة في الشدّة، ويساهم الإعلام في تطبيع هذه القرارات مع النقد والتحليل. ولو كان لقرار التدخل العسكري أن يعتمد على إرادة الشعوب الغربية فإنه بين الثلثين إلى ثلاثة الأرباع منهم، كما تُظهر استبيانات الرأي، يقولون بعدم التدخّل. وإنكلترة التي صوّت برلمانها بـــ لا، سيكون لها دور فعال على مستوى الدعم اللوجستي (ولها الآن في البحر الأبيض المتوسط باخرة هجوم بري/بحري وحاملة طائرات عمودية وغواصة واثنتان من الفرقاطات). وبالمناسبة، في الحالة الليبية صوت 567 من أعضاء البرلمان البريطاني لجانب المشاركة مقابل 13 للرفض، فهل هذه النسبة العالية التي فاقت أي قرار في تاريخ المملكة تعبّر حقاً عن التعاطف أم عن أمرٍ آخر؟ وليس سبب الفتور بالضرورة هو كره العرب المسلمين، وإنما اعتبارات أكثرها يتّصل بأولوية الإنفاق على البرامج الداخلية وخشية الانغماس في حرب خارج الحدود يصعب حسمها. ولكن لا نستطيع إنكار أنّ غياب الشعور بالأخوّة الحضارية يدفع الشعوب الغربية إلى تجاهل قضايانا العادلة.
وإذ أؤكد تفرّد السلطة التنفيذية بقرارات الحرب في الأنظمة الرئاسية، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسة، وتتفاوت باقي البلدان الأروبية فيما بينها، فإني لا أقصد أبداً تأكيد عقلية (حجار الشطرنج) أو أنّ القوى الدولية الكبرى على كل شيء قادرة. وما الربيع العربي وثورته إلا تأكيد على محورية إرادة الشعوب ودورها في تغيير مسيرة التاريخ. وإنما أنبّه إلى خلفيات التدخّل التي تضعنا قبالة مسؤولياتٍ جديدةٍ سوف نذهل عنها إذا أسكَرَنا غرامُ الديمقراطية في تفسير السلوك الدولي فأسلمنا أمرنا، أو إذا تمسّكنا بعنادٍ غيبيّ لا يحسب للأسباب المادية حساباً.
تدخل خارجي؟
تحتاج عبارة (التدّخل الخارجي) إلى احترازاتٍ كثيرة، لا لأن روسية وإيران تتدخّلان على نحو كبير، وإنما لأن من نقول إنه سوف يتدخل عسكرياً (الولايات المتحدة وحلفاؤها) كانوا قد تدخّلوا أيضاً منذ زمن بعيد. فمن جهة، وضعت هذه القوى عقوباتٍ اقتصادية على إيران، ومن جهة أخرى أعطت الضوء الأخضر للمليشيا الحزبلاوية التابعة لإيران أن تدخل سورية. ولقد سمحت لدول الخليج بتمرير التبرعات وتوريد سلاحٍ خفيفٍ، وفي الوقت نفسه منعت السلاح النوعي أن يدخل سورية. فلم تكتفِ هذه الدول الكبرى بعدم تسليح الثوار، بل قامت بمنع وصول السلاح لهم ولو عن طريق الأصدقاء مثل ليبيا. أفليس كلّ هذا تدخّل؟
ومن قبلُ ساهمت هذه الدول في إضعاف تشكّل المعارضة السياسية بعدم تمويل المجلس الوطني وبالتضييق على ما يصله من مال. وهذا تدخلٌ مبكرٌ في المرحلة الجنينيّة الحرجة. ثم انصبت جهود التدخّل لتغيير تشكيلة أعضاء الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة والسورية. وكانت آخر أوجه التدخّل الشامل في مسيرة الربيع العربي هو تصميم انقلابٍ ناعمٍ في قطرٍ عربي والتخطيط لانقلاب خشنٍ في مصرٍ آخرٍ من أمصار المسلمين.
لا للجدل، ولم ينتهِ وقت العمل:
يدعونا ما سبق إلى التأكيد على أنّ (الجدال التنابزي) في أمر لا يتحكّم به المرء هو سفسطة. فالتدخّل قديم، ومعظمه كان ضد مصلحة الثورة. ومعنى ذلك أنّ علينا أن نتفكّر بمصلحة الثورة في هذه المرحلة الجديدة. ولا أقصد عدم ضرورة إجراء المناقشات العميقة في تداعيات هذا النوع من التدخّل وضرورة تشكيل فهمٍ ناضج تجاهه. كل الذي نريده هو رفض الانشغال بالفَوَران الذهني/النفسي أو الانغماس في الشعاراتية.
ومن الشعاراتية الاكتفاء بإطلاق الأحكام المجملة: هم معنا… هم ضدنا… هم يكرهون العرب أو المسلمين. طيّب، ماذا بعدُ وما العمل؟
وعلينا تذكّر أنه لا يمكن لأي كيانٍ سياسي أن يعيش في معزل عن محيطه الخارجي، ولا سيما في عصرنا هذا الذي سبّبت فاعلياتُ العولمة زيادة تأثير البلدان على بعضها البعض. أي أن كلمة (التدخل الخارجي) أضحت لا تعدو أن تكون بداهة لأن الحال الطبيعي هو وجود المؤثرات الخارجية. الأمر الجديد هو أنّ هذه المؤثرات الخارجية أخذت شكلاً خطيراً، ألا وهو القوة العسكرية. وآثار القوة العسكرية حاسمة ولا يمكن عكسها بسهولة.
* * *
لقد كان القدر الجيوسياسي لبلاد الشام أن تتربّع على أرض استراتيجة تتقاطع عندها حدود القارات والامبروطوريات. ولقد كان القدر الحضاري للمنطقة أن تتربّع على أرض مهد الأديان. ولقد كان قدر التاريخ السياسي المسلم أن تكون في هذه المنطقة المباركة أول عاصمة كبرى. هذا الذي أعطاها كمونها، وهذا الذي جعلها مستعصية على الاختزال والتبسيط. ولن ينفع في هذا مذهبُ إرجاءٍ جبريٍّ يتنكّب عن الأخذ بالأسباب، ولا مذهبٌ قدريّ يدّعي لنفسه مطلق القدرة والمشئية. وإنما المطلوب تسليمٌ واثقٌ ممن عرف حقاً أنه (ما لنا غيرك يا الله)، تسليمٌ متكّل غير متواكل، مُقدِم غير مُدبِر، يتحرّك وفق رؤية استراتجية بعيدة تستحضر ما آلت إليه الأوضاع.
د. مازن موفق هاشم
9/9/2013
Tagged: الاحتواء والتوظيف, التدخل الخارجي, التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
بارک الله بک
تحليل واقعي بكل تفاصيله لكنني شخصيا أحب الوقوف على جملتين رغم أنهما قد تبدوان أنهما عابرتين نسبيا
الأولى هي أننا نقف على عتبة فصل جديد من فصول الثورة والثانيه هي أنّ علينا أن نتفكّر بمصلحة الثورة في هذه المرحلة الجديدة. ولعل من أجل العبارات أيضا هي مصطلح ( الجدال التنابذي ) فهاتين الكلمتين على قصر صياغتهما إلا أنهما للأسف تمثلان واقعا نعيش فيه وليس مجرد حالة عابرة
إذا يمكنني تلخيص كلامي ( المستخرج أصلا من المقالة ) أننا أمام مرحلة جديده قادمة توجب علينا مسؤوليات من نوع آخر بينما للأسف واقعنا تلخص جزءا كبيرا منه عبارة أننا بحالة جدال تنابذي .
كل ما سبق ومعه ما نعيش به من ألم تعجز الكلمات عن وصفه يدعونا لأن نتساءل وماذا بعد ومن أي ستأتي الحكمة التي تجعلنا نفهم مصلحة الثورة بالمرحلة الجديده القادمة وكيف نعمل بها . وسؤالي هنا هو سؤال استفساري ليس ومن استنكاريا جدليا . عسى أن أجد له من يجيب
أما أننا في مرحلة جديدة فلأنها سوف تكون مليئة بالمناورات السياسية على نحو بفوق المناورات في السابق (وقد بدأت)، فهي جزء من تطور الأوضاع، ومن الاقتراب من النهاية ولو كانت نهاية غير مثالية. كونها حالة غير مثالية فوق طاقتنا، أما ابتعادها أكثر عن الأمل فهو من صنع أيدينا.
ولا مفر لنا إلا أن نتعلّم، لأن ثمن عدم التعلم هو الموت وربماأصعب منه: العبودية للفجار. وسوف ننضج في النهاية، إما مقبلين بخيارنا و بالـ (زور).
مرحبا أنا صاحب التعليق السابق لكن سبقني ضغط Enter قبل إدخال بياناتي
أيضا سأقف عند تعليقك الأخير يا أستاذ مازن عند عبارتك ” أما الابتعاد أكثر عن الأمل فهو من صنع أيدينا ” وهنا أحب أن أسألك إذا ما الذي على أيدينا فعلة كي تتجه النهاية أكثر للمثالية . ووسؤالي هذه المرة ليس استفساريا إنما جدليا لأنني أعتقد أن على المثقفين والنخب الفكرية في هذه المرحلة وصل حلقة مفرغة في ثورتنا . فإذا رغبت في توضيح كلامي أكثر فراسلني على الفيس بوك فنحن أصدقاء وأنا أرغب بالتواصل معك .