حول عملية اتخاذ القرار الأمريكي في الشأن السوري – مقابلة تيار العدالة الوطني
– الشعب بين سادر ومعارض
– التوجهات الحزبية
– هل هناك معارضة في النظام الأمريكي؟
– دواعي التدخل
– مأزق الإدارة
– سوء التهييء
14/9/2013
السلام عليكم…
ينتابني في هذه الأيام شيء من الحرج عندما يُطلب مني التكلّم في شأن سورية، فالأمور أصبحت واضحة تكاد لا تخفى على أحد. وذلك يفرحني لأنه دلالة على النضج العام. وعندما نقول هذه ثورة شعبية فمما يعنيه هذا أن ثمة إدراك كبير ليس فقط لخطر الاستبداد، وإنما أيضاً لديناميات الاستبداد ولحركيّاته الصغرى؛ وهذا مهم جداً.
ولذلك أرى دوري هو مساعدة تنظيم التفكير وإضاءة زوايا يحصل فيها حيرة. وأخشى أن تقودنا المسرحية التي حصلت إلى تفسيرٍ تآمريّ بحت. نعم، هنالك تآمر بمعنى الاجتماع والتخطيط، غير أنه يعتدي المنطق التآمري للتفسير على المنطق السببي ويزيد فهم الواقع غبشاً. ولن أغوص في أبعادٍ نظرية وإنما أشير إلى أمور عملية أرجو أن يكون فيها فائدة.
الشعب بين سادر ومعارض:
أبتدىء بما يشاع أن الولايات المتحدة أو الغرب يُحرج إذا صار كذا وكذا، وأنه لا تسمح له قيمه الديمقراطية بأن يتحمّل انتهاكات حقوق الإنسان. وللأسف راهن الحراك السياسي السوري يوماً على هذا. وليس هناك دليل على هذه الطُرفة، بل الدليل على عكسها! وإذا أخذنا الأحداث الجارية، فهل رأينا مظاهرات حاشدة أو غير حاشدة من أجل سورية. لا أريد هنا الدخول في جدلٍ تجاه الالتزام القيمي للغرب بالديمقراطية، ولا الخوض النظري فيها كفلسفة حياتية. كل الذي أريده أننا أمام واقعة، فلنجلب الأدلة المادية الواقعية ولنكفّ عن التفكير بالتمنّي.
المظاهرات التي خرجت -وأتكلم عن الولايات المتحدة الأمريكية- خرجت مناهضة للتدخّل العسكري وليس معه. وهي صغيرة جداً على كل حال، وما هي القيمة الحقيقية لبضعة مئات يرفعون لافتات في واشنطن. غير أن معارضة التدخّل حاضرة بقوة في العالم الافتراضي، وهو عالم للناشطين فقط. أما عموم الأمريكيين فغير شاعرين بما يحصل في سورية، وغير مهتمين بمثل هذه الأمور أصلاً. والتغطية الإخبارية قليلة من ناحية عددها ناهيك عن أنها سطحية.
تنقسم التوجّهات المناوئة لأي تدخّل إلى مجموعتين أساسيتين: السلاميون البيئيون، وهم أصحاب الضمير الحيّ، ويمكن وصف مذهبهم بأنه (صوفي حلولي لاتوحيدي). وتملأ هذا التيار مشاعر إنسانية طيبة مخلوطة بلاواقعية، وهو مزيج من توجهات متعددة يجمع بينها شعور خزيٍ أو إثمٍ بأنهم مواطنون في بلدٍ يتبنّى مبادئ ديمقراطية راقية ولم يفتأ يُنشب الحروب.
والقسم الثاني هو اليسار، وهو الأقوى بين مناهضي التدخّل. وموقفه هو موقف النكاية، ومنطقه تآمري بحت. فمن الواضح أن اليسار يتّخذ مواقفه نكاية بـ (الإمبريالية)، فأياً ما تقوم به أمريكة الرأسمالية لا بدّ أن يقولوا بعكسه. وأتكلم عن مواقفهم بشكل عام ولا أتكلم عن موقفهم بالنسبة لسورية خصوصاً أو بالنسبة للضربة التي كانت مزمعة. فالموقف من الضربة هو أمر اجتهادي تختلف فيه العقول، وللناس الحقّ في أن لا ترى صوابه وأن تعارضه. المراد هو أن موقف اليسار عادة هو موقف نكاية رافض دوماً، وهو شديد الإديولوجية.
وبالمناسبة، آن لنا أن نفهم اليسار الغربي الذي يقف عادة مع القضايا العادلة للعالم الثالث (فلسطين مثلاً)، فنفسّره وكأنه متطابق مع منظرونا بشكل كامل. وكانت آخر العجائب -غير المفاجئة- مواقف روبرت فيسك و غالاوي. وأنا لا أذهب إلى التخوين أو إلى التفسير من ناحية المصالح الشخصية، وإنما تفسير المواقف استناداً إلى التوجه الفكري لأصحابها. وأترك السياسة للسياسيين وكيفية الاستفادة العملية من اليسار وفق مبدأ تشكيل تحالفات (coalition) حول قضايا محدّدة (وهذه هي استراتيجية العمل السياسي المسلم في الولايات المتحدة). الذي يهمّني فكرياً هو أن لا يختلط الأمر، فلا نستطيع أن نفصل أي موقف عن خلفيته الفكرية النظرية، وهذه الخلفية هي التي تُحدد المسيرة على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى. وإنه من الأسلم تفسير مواقف اليسار بأنها عقدة فكرية ومنهج في تفسير الكون، لأن الفكر الماركسي مليء بالثنائيات الضديّة، ويعرّف المجتمع بأنه طبقتين متنافرتين متصارعتين لا يمكن التصالح بينهما ولا يجمع بينهما شيء.
التيار الثاني الشعبي الذي يمكن أن نرصد له مواقف هو المسيحيين، ولا سيما أنهم يرون أن الصراع يحدث في جوار إسرائيل. ونجد نسبة معتبرة من الشعب تؤمن بأن ما يجري في سورية هو جزء من نبوءات الإنجيل تجاه نهاية الزمان. وحيث يؤمن المسيحيون الأصوليون بأنه سيحدث هرج واقتتال كبير في آخر الزمان، فإن نسبة لا بأس بها من الشعب ترى أنّ ضربة أمريكية يمكن أن تؤدي إلى المعركة الكبرى أرماغدون (Armageddon) التي يعود فيها المسيح ويهزم الدجال والشيطان. ولا تعني نهاية العالم لهؤلاء المسيحيين مطلق اليأس، وإنما تعني أيضاً أنّ النهاية هي بداية لعالم جديد. (النسبتان أعلاه هما 32% و 26% بالترتيب المذكور بحسب استبيان قامت به مؤسسة مسيحية غير مشهورة، فلا أستطيع الركون إلى سلامة الطريقة العلمية للاستبيان ولا إذا كانت عيّنة الاستبيان عشوائية).
والخلاصة، يعارض بشدّة كلٌ من توجه الدفاع عن حقوق الإنسان وتوجه اليسار التدخلَ العسكري الأمريكي. ويضمر المسيحيون مواقف لها صلة باعتقاداتهم الدينية الغيبية، ويغمرهم نوع من المزاج السوداوي تجاه ما يجري في سورية. والخيار السياسي لهؤلاء المتديّنين هو الحزب الجمهوري في حين أن خيار الفريق الأول هو الحزب الديمقراطي. أما عامة الشعب فسادرة. ولقد ظهرت عبارات تشفّي بين العنصريين تتعجب قائلة: عربٌ يقتلون عرباً، ما الضير في ذلك؟!
التوجهات الحزبية تجاه التدخل:
وربما يقال، إنه لا يهمّ معرفة رأي الشعوب (حتى في الأنظمة الديمقراطية) بقدر معرفة مواقف السياسيين. وهذا صحيح لأنه عندما يقتنع السياسيون بأمر يذهبون إليه ولا يتبعون رأي العامة، أو يجدون طريقة للالتفاف عليه. ألا نذكر زمن الرئيس بوش الثاني وبعدما ساءت الأمور في العراق، فصوّت الناس للديمقراطيين بشكل كبير فأخذ حزبهم الأكثرية في كلٍ من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، واعتُبر هذا الانتخاب استفتاءاً شعبياً على ضرورة الانسحاب التدريجي من العراق. فماذا فعلت إدارة بوش؟ بعثت المزيد من القوات إلى العراق!
إنّ المواقف السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية من التدخّل في بلادنا متعددة، ويمكن أن نحدّد التوجهات العامة التالية.
الحزب الديمقراطي فيه خطّان واضحان:
الأول هو خط (الليبراليين الملتزمين) الذين يقولون إنه ليس بإمكان أمريكة أن تكون شرطي العالم فتقفز لكل صراع على هذه الأرض. ويؤكدون أن الدبلوماسية على المدى البعيد هي أفضل بكثير من الحرب، ونتائجها أو الخسائر الجانبية أو نتائجها غير المتوقعة أقل بكثير، ولو لم تحصّل ما تحصّله الحرب من حسم سريع. فالديبلوماسية هي غالباً أفضل من الحرب. وعند هؤلاء غرام بأروبة ويتمنّون لأمريكة أن تصبح مثل أروبة والأروبيين. ولكنهم في الوقت نفسه يؤمنون بالتدخّل الإنساني من أجل الإنقاذ، فهم ليسوا سليميين لاعنفيين بشكل محض.
القسم الثاني من الحزب الديمقراطي هم (الليبراليون الواقعيون)، ويقولون بعدم التدخّل إلا إذا كان هناك خطر محدق (imminent threat). ويذكّرون بأن أحسن استراتيجية في تاريخ أمريكة كانت الاحتواء الاحتياطي (containment)، وهو ما يوافق عليه أغلب المؤرّخين. أي لا تواجه، واضغط واحتوِ وحاصِر… واقبل بالقليل لتحصل على الكثير مع الزمن.
وبشكل عام، يميل الديمقراطيين إلى التركيز على البرامج الاجتماعية التي يخشون أن تمتصّ الحربُ ميزانياتها.
أما الحزب الجمهوري ففيه تنوع أكبر:
أولاً، هنالك التوجه الإمبريالي. وهو الذي يتبنّى طريقة اضرب واسحق. وإليه انتمت شلّة الرئيس بوش الابن، ويندرج ماكين تحت هذا الصنف. وبالمناسبة، هذا التوجه غاضب من أوباما لأن خطّته المعلنة كانت عبارة عن ضربات خفيفة فقط، وهذا غير كافٍ برأيهم.
ثانياً، الواقعيون المكيافيلّيون الذين يؤمنون حقاً أن الفوضى الكاملة في المنطقة خيارٌ ليس سيّئاً ويحقق مصالح الولايات المتحدة بانغماس هذه المجتمعات في نزاعٍ لا ينتهي.
ثالثاً، هنالك ما يمكن أن نسميه اليمين الانعزالي، وهذه النزعة (isolationism) موجودة قديماً في أمريكة ويتحدّث عنها المؤرخون، ويمثّلها اليوم حزب الشباب المحافظ المعروف باسم حركة الشاي.
وبشكل عام، يجمع التوجه الجمهوري بين عدم الاكتراث بما يعتبره عالماً (متخلّفاً) و رغبة التدخّل الخشن لفرض نموذج يرونه يخدم مصالح أمريكة.
هل هناك معارضة في النظام الأمريكي؟
وأريد أن ألفت النظر إلى قضية قد تبدو غريبة. فلعله يصحّ القول إنه ليس هناك معارضة بالمعنى الكامل في النظام الأمريكي. إذ هل يمكن اعتبار الحزبين الجمهوري والديمقراطي معارضين لبعضهما البعض مع العلم أنه حينما يمسك حزبٌ منهما السلطة يكون عادة للحزب الثاني أكثر من خمسٍ وأربعين بالمئة من مقاعد المجلسين (الشيوخ والنواب). وقد يكون لحزبٍ أكثريةٌ في واحد من المجلسين وللحزب الآخر أكثرية في المجلس الثاني (كما هو الحال الآن حيث الغلبة للديمقراطيين في مجلس الشيوخ والغلبة للجمهوريين في مجلس النواب). فلا معنى هنا للمعارضة بمعنى المعارضة، وإنما هنالك (بِزنِس)… تنافس بين المتنفّذين، سواءاً المتنفّذين كشخصيات سياسية أو المتنفذين كشركات… هناك لوبي، والعاملين فيه كُثر بمعدل 25 شخص مسجّل رسمياً لكل عضوٍ في الكونغرس!
ويحضر السؤال هنا، أين (المجتمع المدني) الذي اشتهرت به الولايات المتحدة؟ نعم، هناك عدد هائل من المؤسسات اللاربحية في كل نواحي الحياة، لكن ما كان منها في الحقل السياسي فله اهتمامات جزئية جداً، أو هو جزء لا يتجزأ من العمل الحزبي المسيّس. خذ مثال على ذلك ضخامة حراك المجتمع المدني في واشنطن في مسألة قانونية إجهاض الحمل. ومثال آخر هو “الجمعية الوطنية للبندقية” التي همّها إبقاء حمل السلاح قانونياً وبلا أي قيد؛ وبالمناسبة، لهذه المنظمة الأهلية قوة سياسية هائلة، ولكنها محصورة في ذاك المطلب الجزئي. أما في السياسة الخارجية، وباستثناء مراكز الدراسات، فوجود هذه المؤسسات ضعيف، وأكثرها مُسيّس ويُعتبر جزءاً من منظومة السيطرة. وربما يصحّ القول إنّ المجتمع المدني الفاعل على مستوى واشنطن هو (الوول ستريت)، وبذلك نرجع إلى سيطرة رأس المال وشركات السلاح والنفط وما شابهها.
دواعي التدخل:
هل حدث احتياج للتدخّل؟ نعم، وهذا لا ينافي المسرحية الأمريكية الروسية التي سـتنكشف تفاصيلها في المستقبل. وليس لحاجة التدخّل لها علاقة بحقوق الإنسان على وجه الإيجاب. يجري التدخّل حين يكون هناك مصلحة استراتيجية راجحة، أو مصلحة جزئية وكلفة التدخّل محتملة. ووقع الحرج في الحالة السورية بسبب أنه لم تتطابق رؤية الرئيس الاستراتيجية مع الصيغة الإديولوجية (حقوقة الإنسان) التي تُرفع ويعنون بها التدخّل.
فمنذ البداية كان الخبراء يقولون إنّ دواعي التدخّل ثلاثة: زعزعة الثورة السورية للاستقرار الإقليمي، وتهديد سلامة الأقليات، ووقوع سلاح فعال بأيدي المقاومة. وإذا راجعنا السجل الواقعي للثورة نرى أنّ هذه الثلاثة تكاد تكون قد تحققت. وهذا الذي دفع الآليات المؤسسية نحو ضربٍ من التدخّل بعدما أصبح الوقوف جانباً غير وارد. أما الكيماوي فكان سبباً مباشراً، أو أنه السبب القادح المحرّك. وطبعاً، في استعمال السلاح الكيماوي مخالفةٌ استعراضية للقانون الدولي، مما يعني أنه مزعج جداً لا تسهل معه إشاحة الوجه. هو محرجٌ للصيت وليس لطيب الأخلاق…، هو محرجٌ للرياء الذي يتبختر به النظام العالمي.
مأزق الإدارة:
كان ما سبق هو سياق المأزق الذي وصلت الإدارة الأمريكية، ويمكننا تتبع بعض التفاصيل التي توضّح الصورة. وعلينا أن نتذكّر أن الرسالة السياسية لأوباما (أوباما القانوني المثقف، وهو أول مثقف أتى لرئاسة الولايات المتحدة منذ زمن بعيد جداً) هي إعادة البلد لرشدها بعد جنون الإدارة السابقة… ومن جملة هذه الرسالة السياسية أو العهدة التي برقبته والتي دخل السباق الانتخابي وفقها، والتي يؤمن بها حقيقة ويؤمن بها كثير من الليبراليين أمثاله، هي ضرورة الانسلال من الحروب التي غاصت فيها أمريكة والتركيز على المشاكل الداخلية الكثيرة للبلد. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الواقع الجديد للعالم وتراجع موضع الولايات المتحدة الأمريكية منه. فلقد تناقصت أهمية الشرق الأوسط من ناحية اقتراب الاكتفاء الذاتي لأمريكة بالنفط، وازدادت أهمية مواجهة الصين ومحيطها، إضافة إلى ضعف الحال الاقتصادي للمعسكر الغربي في أُروبة وأمريكة. وبشكل عام، يغمر الولايات المتحدة الأمريكية شعور وهنٍ وقرفٍ من الحروب.
ودعنا نتذكّر، لو حدث التدخّل العسكري المباشر في سورية لكان هو الثالث في بلاد المسلمين في 12 سنة فقط. ولقد بدأ الاعتراف بأن حرب أفغانستان كانت انتقاماً وتنفيساً عن الغضب، ولم يكن لاستمرارها فائدة. وثمة إدراك أنّ حرب العراق كانت مغامرة كاوبويية نتج عنها استنزاف ماليّ وكارثة جيوسياسية عرفت إيران كيف تستغلّها. يدرك السياسيون هذا بعمق، ويدركه الشعب على مستوى اللاشعور، فهم يحسّون هذا إحساساً مادياً في حياتهم وفي مهنهم.
ومن جهة ثانية، كانت غالبية الخبراء الاستراتيجيين في مراكز الدراسات تصرخ منذ سنة ونصف أن علينا أن نتدخّل بشكل ما، وإذا لم نتدخّل الآن فسوف نُجبر على تدخّلٍ لاحقٍ وبشروط أسوأ. ولنا أن نلاحظ أنّ الرئيس أوباما كان قد ضمّ إلى إدارته كلاً من سوزان رايس مستشارةً للأمن القومي و سامانثا باوَر ممثّلةً للبلد في الأمم المتحدة، وكأنه يتحضّر لما رآه قادماً، وذلك لأنّ كلاهما ليبراليّتين تؤمنان بضرورة التدخّل من أجل حقوق الإنسان (سامانثا باور هي صاحبة كتابٍ مشهور كتبته بعد أحداث البوسنة، يجلب الدلائل على تقاعس الإدارات الأمريكية عن النجدة من أجل حقوق الإنسان، ويقرّعها على ذلك).
غير أنّ السياسة العملية لإدارة أوباما كانت أشبه بالغائبة، تكتفي بإصدار التصريحات بين الفينة والأخرى. والمفارقة أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تتدخّل مباشرة ولكنها تضع شروطاً على الدول الإقليمية لطبيعة دعمها للثورة، مثلاً في حرصها عدم وصول سلاحٍ فعّال إلى الثورة. ويمكن أن نقول إنّ إدارة أوباما قد صحت من غفلتها بعد الكيمياوي في أن الشروط الثلاثة التي ذكرناها قاربت الاستواء.
ويتجاوز الكونغرس في العادة خلافاته عندما يكون الأمر مسألة خارجية مهمة ولا يخذل الرئيس. لكن هذه المرة كان هنالك عاملان. فكما ذكرت، الرأي الأمريكي العام الغالب اليوم هو الحرص على معالجة الوضع الداخلي السيئ: البطالة وتراجع الخدمات… فهل تتصور أن هنالك حدائق عامة تُغلق أو تُهمل، ومكتبات عامة يُقصّر دوامها؟ عندما يسمع ذلك شخص من بلادنا قد لا يجد أهمية له، لكن للمواطن الذي يعيش في دولةٍ وعدُها الرفاه، والرفاه معقل شرعيّتها ومحروم منه أكثر من نصف الشعب، هي مسألة كبيرة. ويشعر الناس بتراجع الخدمات العامة على نحوٍ محسوس، في حين أنه من الصعب على المواطن إن خاطبته بشيء مجرّد (أن هناك مصلحة استراتيجية لأمريكة) أن يتفاعل معها. كما أن هناك استحقاقات سياسية حاصرت الإدارة، فالميزانية العامة لأمريكة سوف تنفد أواخر هذا الشهر التاسع، وسوف يتعارك الديمقراطيون مع الجمهوريين، فإما أن تقرّ الميزانية أو تُغلق الحكومة، بمعنى لا يعود هناك أوامر صرف. كما أنه من المتوقع وصول الحد الأقصى للديون إلى أقصاه قريباً. ويعني ذلك أن ثمة مشاجرات عنيفة قادمة، وكلها تتعلّق بالمسائل الداخلية.
ونضيف هنا إلى أن هنالك تصدّع في العملية الديمقراطية في أمريكة. ويقال عادة إنّ الديمقراطية هي نقاش مستمر حتى يوصل إلى الرأي الأصوب. الآن الأمر هو (حوار طرشان) فلا يسمع أحدٌ أحداً. ولذلك لا يصدر القرار إلا قُبيل أن تنزل المقصلة بساعات، فتُعقد الصفقة بعد التنازلات. هذا هو واقع الكونغرس الأمريكي اليوم، فالمحاورة تحوّلت إلى مكايدة، ولا نستطيع أن ننسب لذلك عقلانية أو رشاداً.
سوء التهييء:
تطوّر الأحداث وكثرة المنذرين من داخل الإدارة بضرورة فعل شيءٍ اضطر الرئيس أن يفعل شيئاً ولو مُكرهاً، تجرّه التطورات إليها جرّ المتردّد. وكثيرون يقولون إن أوباما ندم يوم نطق بكلمتي (الخط الأحمر) ولامه بعض المحلّلين من يومذاك. وأتى الأمر من غير تهييء للشعب. وينبّه الدارسون إلى أنه يحتاج عادة التهييء للحرب ستة أشهر. وإدارة أوباما التي وُصف أسلوبها بأنه (القيادة من الخلف) كانت غائبة، وتغطية الإعلام ضئيلة، ثم ازدادت قليلاً لكن بقي الخبر السوري ضائع بين ألف خبرٍ ودعاية.
ومن المهم الانتباه إلى أنّه تبنّى الإعلامُ التصنيف الأممي بأن ما يجري في سورية هو حرب أهلية، ولهذه التسمية تبعات كثيرة أهمها على مستوى القانون الدولي. وبالتركيز على قصة الإرهابيين كان الإعلام يبرّر عملياً تأجيل اتخاذ قرارٍ. ويتطور التشخيص الآن إلى رسم صورة أن هنالك فريقين متخاصمين كلاهما سيئ. نعم، النظام السوريّ متجاوز أكثر وعنده أسلحة أكثر فتكاً وعنده قدرة أكبر على البطش، لكن للمعارضة نصيبها من الفظاعات بما في ذلك تقطيع الرؤوس وإخراج القلب وأكله… الخ. والأهم من ذلك، أن للنظام السوري جهة نستطيع مخاطبتها وتهديدها أو الضغط عليها، ولكن ليس للثورة المسلحة رأس يمكن التخاطب معه أو التفاوض. وبشكل عام هنالك في الإعلام الأمريكي نبرة انتقاصٍ تجاه الجسم السياسي للثورة وعبارات تشكيك بالمقاومة المسلحة من الأيام الأولى.
كما أنه لم يسمع الشعب الأمريكي بسورية من قبلُ، ولا أظنّ أني أبالغ إن قلت أن كثيراً من أعضاء الكونغرس لا يستطيعون تحديد موقع سورية على الخريطة، وإن استطاعوا فلا يعرفون عنها شيئاً إلا أنها جارٌ معادٍ لإسرائيل.
وعلى المستوى السياسي، لم تشرح الإدارة الأمريكية المهمّة للكونغرس شرحاً مقنعاً. ووجد المخططون العسكريون صعوبةً في ترجمة المَهمة التي حُدّدت لهم إلى خطّة عسكرية: ضرباتٌ محدودة ولكن يحب أن تزعج نظاماً شرساً لا يبالي؛ وإضعافٌ لقدرات النظام من غير أن تشلّه؛ وإجبارٌ للنظام على قبول شروط قاسية من غير إسقاطه! وتجاه هذه المهمة الغامضة، جاء العرض الروسي -بغض النظر إن كان رُتّب آخر لحظة أم لا- عرضاً مغرياً ومخرجاً لأوباما. ومن قبل ذلك استبقه أوباما بأن حوّل المسألة إلى الكونغرس، وهذا ما أوعز للروس أن أوباما لا يريد الحرب حقاً أو أنه متردّد وأن الإغراء بصفقة سوف يثني عزمه. ولطلب موافقة الكونغرس معنيان: يدرك أوباما المثقّف أن المسألة لا تنتهي بضربات بسيطة، وعندما كان يقول إنها ضربات قصيرة وبسيطة هو لتخفيف المعارضة، لكن عندما يتكلّم أعضاء إدارته في دوائر القرار يقولون إن على الضربات أن تكون موجعة وواسعة. ولذلك كان بعض المعارضين الجمهوريين يقولون دعه يصارحنا بالحقيقة ونحن مستعدون لتأييده عند ذلك. أما المعنى الثاني للإحالة إلى الكونغرس فهي إدراك أوباما أن قضية التدخّل لها تبعاتها، إذ ليس أحد مرشّح للإمساك بالأمور في سورية لو سقط النظام، ولا يريد مزيد الانغماس ولا أن تكون هذه الحرب مسجّلة باسمه، ويريد توزيع المسؤولية بتوقيع الكونغرس.
وبالمناسبة وعلى الهامش، أيّد اللوبي الاسرائيلي بمنظمته القوية الوازنة (إيباك) التدخّل، ونشرت موقفها في مقالة في النيويورك تايمز، وكانت صريحة في أنها محرجة فلا تريد أن تظهر بمظهر من يفرض على ممثلي الكونغرس ما لا يحبّه الشعب الأمريكي.
افتقاد الخطة الكبرى!
سوف أختم بفكرة من الصعب جداً على المتفرّج الخارجي استساغتها. لا يستطيع أن يصدّق مَن ليس له دراية بالولايات المتحدة الأمريكية كيف تتصرّف هذه الدولة -بكل خبرائها ومراكز دراساتها ومستشاريها- تجاه المسألة السورية بالشكل الاعتباطي الذي حدث. غير أنّ مثل هذا التخبّط كثيراً ما حدث في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. فالمنظومة الأمريكية ضخمة وتتعثر بأطرافها المترامية ومؤسساتها المتراكبة؛ وهذا ما يدعو إلى التفسيرات التآمرية، وتُنسى العطالة الكبيرة للجسم الضخم.
هل يمكننا أن نصدّق أنه ليس للولايات المتحدة الأمريكية خطة كبرى (master plan)، أو أن هذه الخطة باهتة المعالم؟ الذي يوجد هو العديد من الخطط الجزئية. هنالك في علم الإدارة ما يسمى بــ التخطيط التحسّبي للطوارىء (contingency planning). وبسبب ضخامة القوة أمريكة ومواردها الهائلة جداً، يمكن الركون إلى هذا التخطيط الاستثنائي الجزئي والاطمئنان إليه، كما أنّ ديناميكية المنظومة تسمح لها تفعيل هذه الخطط وضمّها إلى بعضها البعض عند الحاجة. ولا شكّ في أن عند هذه البلد خططاً جاهزة للتدخّل في أي بقعة ساخنة من بقاع الأرض، وتُحدَّث باستمرار وبحسب التطورات والتغيّرات. غير أنه ليس هنالك اتفاق على الخطة الكبرى: ما هو العمل تجاه صعود الصين والهند، وهل ينبغي إعطاء اهتمام أكبر لإفريقية، وماذا نفعل بالبرازيل وأخواتها، وما هو الموقف من الصديقة أُروبة التي لا تعرف كيف تلملم أمرها، وكيف نتعامل مع التحدّي الروسي والمبارزة الإيرانية، وماذا نفعل ببلاء الشرق الأوسط… تجاه كل ذلك ثمة أبحاث وأبحاث، وهنالك خطط احترازية تقوم بها عشرات مراكز الدراسات، ولكن لا توجد سياسة متكاملة يتبنّاها العقل السياسي الجمعي لأمريكة. ولذلك –وبسبب أنّ صبر أمريكة ينفد بسرعة- نرى أن التدخّلات الأمريكية غالباً ما تنتهي بكثير من التبعات غير المتوقعة (unintended consequences) بعد بضعة سنوات. ويمكننا القول إنّ الذي عليه اتفاق هو الخطوط العامة التالية: (1) نشر النفوذ عبر الربط الاقتصادي عن طريق الشركات الكبرى؛ (2) والربط الثقافي عن طريق الإعلام والمثقفين والمؤسسات المدنية الموالية؛ (3) وحراسة هذا بالقوة. أما الخطّة الكبرى التي تحقّق هذه النظرة العامة فإنها دوماً في تقلّب. والذي يعرف طبيعة النظام الأمريكي هذه هو الأقدر على التأثير فيها. وأخيراً، نجد أن التموضع الحضاري تجاه بلادنا أوضح عند الإسرائليين، في حين أن عامة الإمريكيين يتراوح تموضعهم بين عدم الشعور بالأخوة الحضارية أو الشعور بالتنافر الحضاري.
أكتفي بهذا القدر وأستمتع إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.
Tagged: التدخل الخارجي, الثورة السورية, الربيع العربي
بين الجذب والنبذ وبين المصلحه والأخلاق وبين الحق والباطل وبين السبب والمسبب تنعقد اقدر الامه الشاميه فيصطدم الحاضر بالتاريخ والعلمانية بالدين والامبرياليه بالحريه فالجنين في طور الولاده فلا يعرف الصهاينة كيفيه وأده ولا يعرف العلمانيون كيفيه تشويهه ولا يعرف الصفيويون كيفيه خنقه والعامه بين مصدق ومعرض
بين السبب والقدر تكمن مفاتيح الحل ولان صياغه فكر أمه بحاجه الى حكمه نخبتها وفصل خطاب قادتها ستطول الثوره السوريه حتى يصاغ البأس في الأمه جمعاء والحكمة في النخبه المنتقاه فيكون فكرها ودورها على قدر قدرها وريادتها
مواقع الأقدار الشاميه تقع بين تخبط الغرب وتردد السياسيين ورعب الصهاينه فعين على الواقع وعين على الوعد الرباني في القران او العهد القديم او الجديد ولا أكون مبالغا ان قلت ان التخبط والعشوائية في السياسات نحو بلاد الشام هي مكر رباني في وقت الكل يعاني من مشاكل اقتصاديه والكل يشتكي من السيطره الصهيونية