الدولة المدنية؟

4/7/2012

ما أدري ما هو التعريف الدقيق لمصطلح (الدولة المدنية) الذي كثر استعماله حديثاً، ولكن هذا ما أجاب به ناقد للنسخة الأولى من هذا المقال: الدولة المدنية هي دولة ترابطت فيها مؤسسات الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني وتعاونت لتحقيق متطلبات الحياة الضرورية والحاجية. ومن المعاني المتداولة لهذا المصطلح أن تُدار الدولة من قبل مؤسسات يؤمها متخصصون أكفاء وفق المعايير الحديثة، مما ينفي صورة الاستبداد والاعتباطية.

وتجدر الملاحظة هنا إلى أن مصطلح الدولة المدنية كثر استخدامه نتيجةً للسجال العلماني الإسلامي في مسألة طبيعة الدولة بعد الربيع العربي. وفي سورية كان هذا المصطلح بمثابة حل وسط يُغفل فيه ذكر الدين أو الشريعة كما يُغفل ذكر العَلْمانية. وقد تستعمل هذه العبارة لتعني أن الحكم ليس بيد ثلة عسكرية. أما في غير ذلك فإن عبارة الدولة المدنية لا تخلو من تناقض داخلي إلى درجة يكاد المصطلح يفقد معناه.

فالدولة ليست مدنية –تعريفاً- وإنما هي مؤسسة حكمٍ تجسِّد السلطة. والسطلة في الدولة هي التي تحكم (المدني): تنظّمُه أو تتحكّم به أو تقمعه. الوصف الأول -تنظيم السلطة للحياة المدنية- لا ينطبق إلا على حالات خاصة، كأن تكون دولاً صغيرة متجانسة المكونات الداخلية، وغنية، وبعيدة عن بؤر الصراعات الجيوسياسية. ينطبق الوصف الثاني –التحكّم- على دول الديمقراطيات الصناعية، تلك الدول الكبرى المقتدرة اقتصادياً التي تضخمت فيها الدولة وتغولت ولكن يسرى هذا التغول من خلال مؤسسات الحكم البيروقراطي والترتيبة القانونية. وينطبق الوصف الثالث –القمع- على النظم الإستبدادية.

ويشار هنا إلى أن الناس في الِقدم لم تعش في كنف دولة تُحال إليها سيادة المجتمع –بتفاصيله- إلى الدولة. بل على العكس، عاشت البشرية معظم تاريخها تحت نظم صغيرة الدوائر حيث تجري معظم النشاطات في محلة الناس الخاصة وفي قريتهم وقريباً من حيز سكناهم، كما كانت روابط القبيلة هي من أهم سبل تنظيم المجتمع. الدولة الحديثة هي التي استقلت فيها السلطة السياسية استقلالاً شبه كامل عن المجتمع وشكلت شخصية مستقلة نسميها اليوم الدولة. وهذا الاستقلال الشديد هو مصدر كبير لشعور الغربة والتحكّم في مجتمعات الحداثة. الدولة الحديثة لها مؤسسات، وهي مؤسسات ديوانية بيروقراطية تزداد في الاتساع. والدولة الحديثة ما تفتأ تتمدّد وتسيطر على صُعد في الحياة كانت فيما قبل من الحيز الشخصي أو حيز الأسرة أو العشيرة أو البلدة.

وما سبق يظهر إشكالية مصطلح (الدولة المدنية)، فالدولة الحديثة ليست مدنية، بل هي حكومية تسلطية بامتياز، وإن كان تسلطها مغلف بأغلفة الرشدانية والبيروقراطية. لا مفرّ، الدولة هي الدولة، وهي التي تحتكر السلطة بناء على تفويض الشعب الذي يُفترض أنه –بحسب الدستور- المصدر الأساس للسلطة. ومن ناحية عملية، لا تفتأ قوى السيطرة السياسية الاقتصادية أن تستأسد وتتحكّم وتوجّه الاجتهادات القانونية نحو احتكار السلطة واقتناص المساحة الأكبر من السيادات والإمساك بها. وأكثر تعريف علمي رائج للدولة الحديثة هو أنها تلك السلطة التي تحتكر حق استخدام العنف. والمبرر المنطقي لهذا الاحتكار أنه ينفي التقاتل بين فئات المجتمع. ولكن لما رفع هذا المبدأ من الدائرة الإجرائية البحتة إلى المفهوم المجرد، اكتسبت الدولة الحديثة قسطاً طافحاً من حق استخدام العنف.

إن استحضار الذهن لطبيعة الدولة الحديثة محاولتها السيطرة على شُعب الحياة المختلفة أمر مهم جداً في فهم السياسي. ونشير إلى أن الدعوة إلى ما يسمى (المجتمع المدني) هي بالضبط جهد للتخفيف من غولاء الدولة الحديثة التي اعتدت على الخاص واكتسبت نوعاً من القداسة، وإن لم تكن هذه القداسة مسكوبة في شخص ملك أو امبرطور.

وأخيراً، إذا كان قد جرى تجنّب مصطلح العَلْمانية لأنه موهم ولمظنّة كونه مدخل إبعاد مقتضيات الدين عن الحياة، وإذا كان المطلوب تجنّب مصطلح الدين في سياق الدولة لمظنة الإكراه في شؤونه، فما هو المصطلح المناسب للدولة المرجوة؟ لعل الأوضح والأدقّ القول إنّ دولة العدل المبتغاة هي دولة مؤسسات يضبط القانون سلوكها، ويؤمّها ذووا الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم، وتتشارك مع قوى ومنظمات المجتمع المدني في إدارة شوؤن الحياة. ومرة أخرى، يبدو أن الأدبيات العربية قد طوّعت مفهوم “الدولة المدنية” وأرفقت به معاني معيّنة مناسبة لواقعنا المعاصر. وريثما يستقر معنى هذا المصطلح ويتحدّد بدقة، يبدو أن استعماله أصبح ضرورة في الخطاب العام.

د. مازن موفق هاشم

Tagged: , , ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: