عبارة الدولة التعددية الذي ظهرت مؤخراً هي مثال عن الاستخدام السادر للمصطلحات، الذي نشهده في هذه الأيام في فترة مخاض سياسي غير واضح المعالم. فالدولة في حقيقتها ليست تعددية بل هي أقرب أن تكون واحدية! الدولة الحديثة يترافق معها دستور واحد لشعب واحد وقانون واحد ضمن حدود جغرافية واحدة…
طبعاً، يمكننا الكلام عن مجتمع تعدّدي، بمعنى أن فيه عدّة ملل أو أديان أو قوميات… غير أن الدولة الحديثة تستوعب هذه التعدّد وفق صيغة ما وتسعى جهدها لتقليص التعدد. الدولة الحديثة تميل إلى عدم الالتفات إلى التعدّد مقابل التركيز على واحدية المواطنة، في حين أنّ التشكيلات السياسية القديمة هي التي وضعت التعدّد نصب أعينها وربطت البنية السياسية بالبنية المجتمعية على نحو واضح. وكان آخر مثال على هذا في منطقة بلاد الشام هو نظام الملّة العثماني.
وإنه لمن المفارقة أنّ القول بالدولة التعددية الذي تدفع إليه القوى السياسية التي ترى التجربة الغربية النموذج الأصلح يفوتها أن هذه الدول نفسها لا تلتزم بهذا الخيال التعددي. فهل ترضى فرنسا باللغة العربية مكوناً ثقافياً للعرب الساكنين فيها على نحو ينعكس في سياسياتها؟ الولايات المتحدة الأمريكية بحسب الاتفاقية استسلام المكسيك اعترفت بحق المكسيكيين الحفاظ على لغتهم، ولكن رفض القيام بذلك والمواربة في تطبيق البرامج التعليمية ثنائية اللغة ما زالت قائمة إلى اليوم.
وليس أدلّ على إشكالية هذا المصطلح أنه لو حاولت ترجمة عبارة “الدولة التعددية” إلى اللغات الأجنية لكانت العبارة مضحكة ولا تستقيم وتعبّر عن اختلاط الفهم. ولكن اختلاط الفهم هذا يُصبح تقدّماً علينا أن نحتفل به عندما يتعلق بشؤوننا.
مرة ثانية، التعددية أمر وارد في وصف المجتمع ومكوناته، والنظام السياسي الناضح هو الذي يراعي التعددية على نحو أو آخر. أما ربط التعددية بالدولة نفسها –وفي نسختها الحداثية خصوصاً- فإنه يحوي على تناقضات.
ولا بدّ لنا من الإشارة أنه في غمرة الحديث عن التعددية والدفع المسيّس نحو ذلك، يذهب الوصف إلى التشخيص التفتيتيّ لمكوّنات المجتمع السوري بحيث ينفي عنه صفة القاعدة المشتركة والرابط الجامع للشعب. فبلد مثل سورية فيه تعدّد ديني مذهبي وقومي؛ ولكن فيه صفة غالبة لا يمكن أن تغيّب. وإذا قبلنا الأرقام والنسب الرسمية، فإن حوالي 90% من المواطنين السوريين عرب. ومن الناحية الدينية هناك حوالي 10% مسيحيون و 10% علويون، مما يعني أن حوالي 80% هم مسلمون سنة؛ والمسلمون السنة العرب هم حوالي 70%. فلا جدال إذاً أن هناك أغلبيات راجحة بغض النظر عن معيار التقسيم. وعلينا أن نستدرك فنقول إن هذا توصيف إحصائي عام لا يخلو من الاصطناعية. ومجتمع سورية ليس مجتمع أقليات وإنما مجتمع من مكونات متعددة بعضها قليل العدد. وذلك لأن هناك كثير من خطوط الوصل العرضية، ولأن الكتل التي تظهرها هذه النسب ليست كتلاً حقيقة مستقلة لا تنتمي إلى محيط أكبر أولا ترتبط بغيرها بأي رابط. فاللغة العربية وثقافتها تربط بين المختلفين دينياً، والإسلام يربط بين المختلفين قومياً، كما أن هناك روابط عرضية أصغر على المستوى المعيشي الواقع.
وأياً كان التقسيم، فلا جدال أن لمجتمعات بلاد الشام سمة غالبة برغم التنوع الداخلي فيها. إن أي دارس لمجتمعات بلاد الشام، أو حتى الزائر العابر، لا يمكن أن يفوته أنّه بصدد مجتمع عربي مسلم… فهو مجتمع تنعكس فيه تجليات الحضارة العربية الإسلامية انعكاساً واضحاً، وقيم المجتمع ترتبط بالإسلام وتاريخ المنطقة على نحو لا شك فيه. وإذا انتقلنا من الثقافة إلى الوقع اليومي للحياة، فلربما شاهد الزائر صفات متوسطية. وكل هذه العناصر تتمازج في نسيج متداخل الخيوط يميز هذه البلدان ويعطيها طابعها الخاص وشخصيتها الفريدة.
إن وصف المجتمع السوري بأنه فسيفساء وصف قد يصح، غير أنه إذا استعمل في السياق السياسي يصرف النظر عن الروابط الكبرى في المجتمع. نعم، الثقافة السورية حافظت على تنوع ثري، والسوريون يفخرون بذلك، ونسق الحضارة الإسلامية العربية هو الذي حافظ على هذا التنوع ومكّنه. أما نسق الحضارة الحديثة فإنه نسق يجرّد الأقوام من خصوصياتهم ويحوّلهم إلى أفراد مجنّدين للعمل والاستهلاك. التنوع في مجتمعنا تشهده في اللهجة وطريقة اللبس وفي أطباق الطعام…، وأهل الشام يفتخرون بهذا التنوع الطبيعي الذي يضفي ألواناً زاهية على حياتهم. غير أنّ هذا التنوع لا يمشي دوماً موازياً للانتماء القومي أو الديني، ولربما تألّقت الألوان لتميز حيّاً عن آخر. وهذا التنوع هو الذي يجعل الزائرين لبلادنا يعجبون بها وكأن التنوع والأريحية الشعبية تستر بعطرها سوءات الاستبداد السياسي.
والمفارقة أن الديمقراطية الليبرالية لا تراعي الخصوصيات الثقافية الإثنية، وإنما تهتم بمراعاة الأمزجة الشخصية (وتتحملها ولو اعتدت على المجتمع). وكما هو معروف، الذي حفظ مجتمعاتنا، برغم كل العبث الإداري والعسف السياسي، هي تلك البنى (التقليدية) من الأسرة والجوار والدين، واللُحم المكوكية المجتمعية والروبط الطبيعية الفطرية التي لا تراعيها “الدولة التعددية” بمعناها الحداثي.
التعددية ليست وصفاً للدولة بل هي وصف محتمل للمجتمع. وإن التوظيف السياسي لحقيقة التنوع في بلاد الشام مرفوض عندما يُراد منه نفي القواعد المشتركة للمجتمع، وحرمان البلد مما يضمن تماسكها ويجنّبها النزعات التفتيتية التجزيئية التي تمنع قيام كيان متعافٍ ذي اقتدار. أما كون المجتمع السوري ذا ألوان فهي حقيقة حياتية ولا يمكن لأي سياسة أن تتنكر لها ولو أرادت.
Tagged: التعددية, الثورة السورية, الحداثة, الربيع العربي
اترك تعليقًا