للعَلْمانية نظرة خاصة بها تجاه الكون والمادة و الاقتصاد والمال و السياسة والحكم و الأخلاق والقيم، ولذا وصفُها بأنها ليست ديناً أو مذهباً أو إديولوجيا وإنما طريقة في الحكم دعايةٌ ساذجة أو خادعة. فما هو البديل المناسب للعَلْمانية هل هي الدينيّة؟
الديني والدنيوي
في دين يقرّر رسولُه أن في بُضْع المرء صَدَقةً ينتفي الفصامُ بين عالَمي الدين والدنيا. عدم استحضار هذه الفكرة الأساسية تجعل السجال مع المخالف العَلْماني مثل (حوار الطرشان) بلا لغة إشارة موحّدة. فرفض العَلْمانية لا يعني القول بدينيّةٍ على الطريقة الكنسيّة. وهناك صعوبة إضافية في وجه التفاهم هنا، وهي أن العَلْمانية هي المسيطرة ومنظومة الحياة المعاصرة هي من صنعها. ففي حين يقتصر الخطاب الديني اليوم على الفكري والأخلاقي (إضافة إلى رؤية عملية)، لا تقتصر العَلْمانية على وجهٍ فكري أخلاقي فحسب بل تضمّ وجهاً تطبيقياً يسري في الواقع، وتطالب الندّ الذي يشكّ بها بنموذج واقعي ناجز. وهكذا ينزلق النقاش مباشرةً إلى مقابلة تضادٍّ بين الفكري الأخلاقي من الطرف الأول و التطبيقي من الطرف الثاني. ولسان حال الخطاب الديني يقول، منظومتَك العَلْمانية خانقة تطارد التجلّيات التطبيقية التي أريدها، فكيف تطالبني بنموذجٍ تطبيقيٍ ناجزٍ وصافٍ.
ولتوضيح موضع الخلاف، أضرب أمثلة مبسّطة على شكل معادلة:
العَلْمانية الرأسمالية = الفلسفة النفعية + التنافس الطبقي + آليات السوق
العَلْمانية الاشتراكية = الفلسفة النفعية + الصراع الطبقي + التخطيط المركزي
وحين يرفض (الدينيُ) العَلْمانيةَ في هذا المثال، فإنه يرفض طرفيها الفلسفي والأخلاقي، وليس بالضرورة الطرف التطبيقي الثالث الذي هو موضع اجتهاد. ورفضه لا يعني استبدالاً لآليات السوق والتخطيط بشيءٍ بديل أتى بها الكهنوت الديني.
العَلْمانية السياسية = الفلسفة النفعية + الليبرالية + الآليات الدِمقراطية
والرفض هنا هو أيضاً يخصّ الطرفين الفلسفي والأخلاقي، وليس الآليات التي هي موضع تفكّر من حيث مناسبتها. ولاحظ أن الخطاب الغربي المناهض لبلادنا العربية يرى المشكلة في أننا نريد دِمقراطية بلا لِبرالية، أو بعبارتهم الأجنبية، “ديمقراطية لاليبرالية” ==> النزاع هو في ساحة الأخلاقي.
ومرة ثانية، ثنائية الديني/الدنيوي لا تستقيم مع الرؤية الإسلامية، وحين يتمّ رفض المضامين الفلسفية المجرّدة للعَلْمانية لا يعني ذلك رفض للدنيا ووسائلها التي هي مجال اجتهادٍ بشري، ولا يعني أنّ البديل هو أن تتحكّم بالناس ثلةٌ دينية. كلّ الذي نقوله هو أنّ السياسة هي التي تخدم قيم المجتمع وتعمل على تحقيق أولوياته من وجهة نظر معينة.
يُطرح السؤال هنا عن الدول (المسلمة) في تاريخنا، وإذا كان يصحّ أن نسميها دولاً (إسلامية)، أو أنها مثّلت حكماً دينياً ثيوقرطياً.
التجارب التاريخية المسلمة
لا أعرف مؤرخاً –مسلماً أو غير مسلم– أو من هو في حقل الدراسات الحضارية المقارنة يدّعي أن التجارب المسلمة في التاريخ كانت نظماً ثيوقراطية. فمن ناحية، لم يكن الفقهاء هم الحكام، ومن ناحية أخرى كانت معظم مجالات الحياة ليست في يد الدولة وليست تحت سلطتها، وإنما تحت سلطة المجتمع. نعم، كان العلماء والوعاظ ملتحمون مع المجتمع، يؤثّرون به ويتأثّرون به، ولكنهم لم يملكوا منصباً دينياً سياسياً. نموذج الحكم في الإسلام كان مختلفاً عن نظم أوربة الكنسية الباباوية، وعن نظم الأمم الشرقية في آسيا التي أعطت للملك وللإمبراطور صفة قدسية.
ويفيد هنا تلخيص ما كان خارج نطاق الدولة بحسب التجربة المسلمة:
- الفضاء الأخلاقي
- الساحة الفكرية
- الحقول العلمية
- الأسرة
- المجتمع الأهلي
- الوقف
- فلسفة التعليم (ومناهجها)
- الخيارات الفردية غير المتعدّية
- الفلسفة القانونية
- الفتوى ومنصبها (إلى أواخر العهد العثماني)
إذاً، لا يمكن لسلطة سياسية لا تمسك بكل هذه الحقول المذكورة (بل هي مُلزمة بها) أن توصف بأنها (دينية) بالمعنى الثيوقراطي.
فإذا انتقلنا إلى أيامنا هذه، فهل الطرح الإسلامي المعاصر يبتعد حقاً عما ذُكر؟
تنوّع الطروح الدينية
يحتاج الأمر إلى كلمة حق. الطرح الإسلامي الشعبي في أيامنا هذه فيه اختلاط، وعلى أطرافه وفي بعض منابره صياغاتٌ مشكلة وتُصادم النموذج الإسلامي. ويمكننا أن نميّز أربعة طروح شعبية:
- الطرح الصوفيّ الطرقيّ يستقيل من الدنيا تاركاً للدولة جلّ الفضاءات محتفظاً لنفسه زاويا الذكر.
- الطرح الفقهي العلمائي متنوعٌ منه ما هو ذو نزعة استقلالية، ويشوب بعضه الآخر رغبة في سلطةٍ مركزيةٍ “مرجعية”، ويرضى عملياً بترك بعض البنود المذكورة أعلاه للدولة بناءً على أمنية الاعتراف به في حقل الفتوى والقول الفاصل من قِبل المؤسسة “الشريفة”…
وضمن الطرح الفقهي يتميّز الخطاب الذي يصف نفسه بأنه “سلفي” بالقفزات النصيّة التي تنتقل بشكل مفاجئ من موقع هجران السياسة إلى موقع رغبة الاستئثار الكامل. - الطرح الإصلاحي همّه المجال الاجتماعي ويزاحم الدولة في ذاك الفضاء فحسب، ويزهد بالسياسة ما سلِمت مساجدُه وحِلق تدريسه، إضافة إلى مجال الأسرة والنشاط الاجتماعي الخيري.
- الطرح الجماعاتي الذي يتميّز بإصراره على شمولية الإسلام، ولذا هو في حال مدافعة مع الدولة تصل حدّ الصدام أحياناً. وبغضّ النظر عن الموقف من تفاصيل هذا الطرح رفضاً أو قبولاً أو استدراكاً، لا يمكن –من ناحية علمية بحتة– وصف نموذجه بأنه ثيوقراطي. بل إن المفارقة هي أن ما يُوصف بالـ (الإسلام السياسي) هو أبعد التيارات عن النموذج الديني السياسي بمفهومه الغربي التاريخي.
أي أنّ الواقع يحكي أصنافاً متنوعة من الخطاب الديني، ليس أياً منها ثيوقراطياً بالمعنى الكامل. والمفارقة الناطقة هي أنه حين تحظى شخصيات من الطرح الفقهي على رضى الدولة سرعان ما ينفر منها ضمير الناس ويرون أنهم “علماء السلطان” لا يوثق بهم. أما الطرح الانتقامي الغاضب الذي يدّعي لنفسه صفة الجهاد فيتميّز بضحالته الفكرية وتمسّكه بأطراف الأقوال والنصوص، وهو تعبير عن ظاهرة اجتماعية سياسية أكثر من حالة إديولوجية، ونموذجه المرتجى نموذج هجين فيه كثير من عناصر دولة الحداثة العَلْمانية، وفي نسخته الداعشية ضمّ إلى ذلك عناصر إمامية شيعية، ويمثّل نموذج حكمٍ فاشيّ استالينيّ أكثر من كونه طرحاً ثيوقراطياً. النموذج الإيراني الشيعي للحكم يتحوّل باستمرار نحو نموذج أرستقراطي إقطاعي على نحوٍ ثيوقراطي فعلاً.
دِمقراطية غير لِبرالية
نعود لما ألمحنا إليه من الاتهام الذي يوجّه لمجتمعاتنا من قِبل الغرب ومن قِبل النخب العَلْمانية العربية في أن المنظور الإسلامي للدِمقراطية هو غير لِبرالي. هذا صحيح. ولكن هل اشتراط اللِبرالية في الدِمقراطية وقذف ما عداها إلا تعصّب فكري وانغلاق؟
يُجيب الليبراليون الإديولوجيون بأنه لا بدّ من اللِبرالية لأنها تمثّل خلاصة تطوّر التجربة البشرية وتوسيعها لمفهوم الحرية. لكن الأمر ليس (حرية) مقابل (لا حرية)، فليس من عاقلٍ ينافح عن الظلم أو التضييق على الناس، فهذا مما تنفر منه النفوس فطرةً. المسألة هي مسألة نوع الحرية، أو مفاضلة بين نسقٍ للحرية ونسق آخر.
النموذج اللِبرالي للحريات هو جزء من فلسفتها الغارقة في كلٍ من المادية والفردية. والمادية البحتة لا تعير اهتماماً بما يشوّش على الأبعاد الروحية في الحياة؛ أو قل لا تحمي “الحريات الروحانية”. والفردية المتطرّفة لا تعير اهتماماً كافياً بالحقوق الجماعية وتسمح عملياً بالاعتداء عليها وتقّدم عليها النشوز الفردي والأنانية الرغباوية.
ولو فكّرنا ملياً بنمط الحرية اللِبرالية لوجدناها قريناً للنظام الرأسمالي الذي فيه درجة من استرقاق البشر. إنه نموذج يعطيك حريات بيد، ويسلب منك حريات بيد أخرى.
النموذج اللِبرالي نموذج أوربي له خصوصيته التاريخية. وهناك نموذج محافظ هو خيار المجتمعات الشرقية، فهل من اعتراض على ذلك؟
خاتمة
الحقل السياسي في النظرة الإسلامية هو من مجال العاديات الذي ليس فيه بالجملة حكمٌ فقهيٌ محدّد، وإنما يهتدي بالوجهة الخلقية للدين ويستصحب كليّات الشريعة من العدل والرحمة وتحقيق مصالح العباد وفق صيغة تبتعد عن المادية الضيقة والأنانية الفردية وهيمنة مؤسسات الدولة على الحيز الخاص. هو حقل فيه تخصّص فنّي بـ (الصنعة)، لا انفصالاً عن هدي الدين ولا استحواذاً على الدين باسم السياسة.
الخطاب العَلْماني يُفصّل معنى العَلْمانية على القدّ الذي يناسب جدَلهم. فيُطرح مفهوم عَلْمانية الدولة تحت شعار رفض تدخل الدّين –كمؤسسة أو جماعة– في الحكم، ثم سرعان ما يمدّون المعنى ويوسّعون مقتضياته لتكون العَلْمانية (يعني خيارتها القِيمية والعملية) هي المرجعية المطلقة التي تُقصي المرجعيات الأخرى تحت ستار اللافرق وبقوة الاستبداد السياسي.
اللالبراية لا تعني اللاحرية ضرورةً، فثمة حرية محافظة هي أعقل وأحكم وأشمل. ورفض العَلْمانية هو رفض لفلسفتها ولنمطها الأخلاقي، وليس طلباً لثيوقراطية لم تعرفها مجتمعاتنا المسلمة ولا يمكن أن تترسّخ فيها لافتقارها لأسسها الدينية الإسلامية أصلاً.
مازن موفق هاشم
2015-11-20
ملاحظة: هذا المقال متابعة ورديف لمقالي المختصر “حياد العَلْمانية؟“
Tagged: فصل الدين عن الدولة, الحداثة, الحركات الإسلامية, الدولة الإسلامية, السجال الإسلامي العلماني
اترك تعليقًا