وتظنون الظنونا

وفاءً لثورة الكرامة ينساب قطْرُ القلم ليتشرّف في محاولة إضاءة أحوالها في يوم ذكراها، ثم يستحي ويكاد ينضب دمعُه حين يدرك أنه ينعم بأمانٍ يفتقده فقداً شديداً كثيرٌ من الأطفال والأمهات والشيوخ والرجال والمستضعفين.

الأمل الخافت

ويدبّ الضعف البشري مخاطباً النفس سراً وتخفّياً أو جهراً وتشكّكاً…  لقد كان الثمن باهظاً جداً، ولمّا نذق طعم النصر بعدُ إلا أجزاءً تفلّتت من بين أيدينا وكاد يمحوها ما نزل بعدها من أهوال.

ويصغي المرء إلى الهتافات الأولى والمظاهرات والتجمّعات، فيغمره شعور غريب جداً…

لقد كان هنالك أملٌ، وكان الهدف واضحاً، وكانت النيات سليمة، وكان التآخي في أعلى درجاته، وكان البِشر يغمر الجوانح، وكان التصميم يملأ الكينونة…

كان كل ذلك برغم أنّ خطراً داهماً كان يحيط بالبطولة والإقدام والفداء، خطراً يمكن أن يقتطف الروح أو يُلقي الجسد في مصيرٍ من العذابٍ مجهول.

ولسان الحال يقول لا زلت مؤمناً وما غيّرت ولا بدّلت…

ما زلت مؤمناً كل الإيمان بثورتي، غير أن ضعفاً بشرياً عطِشاً للأمل اعتراني،

فسامحني ربي وارحم ضعفي.

القدَر التاريخي

برغم قسوة العيش وفساد النظام، لم تكن الثورة السورية مجرّد ثورةٍ في وجه نظامٍ سياسي أصبح مكروهاً، ولم تكن مجرّد حسرةٍ على رزق ضيّق، وإنما هي ثورة لتغيير وجهة البلد وصيغة اجتماعه.  ولم يفُتْ ذلك أناملَ الأولاد، فقد باح ما خطّوه على الجدران ما في ضمير شعبٍ كامل.

وعفوية الثورة كانت من نِعم الله، فلو كان وراء قيامها تنظيمٌ معيّن لجادل في سلامة قراره المجادلون ولتبادل الناس الاتهامات ولتقاذفوا في تحميل المسؤولية.

ولقد أردناها ثورةً مخمليةً تعيد للبلاد جمالها ورونقها، وأرادها العليم الخبير أن تكون ثورة ذات شوكةٍ تُزهق باطلاً في أرضٍ مباركة ما فتئ الزرع الطيّب يترعرع فيها ويتنشر في الأصقاع…

ويعجب المرء حين يستعرض التاريخ فيلحظ الارتباط الوثيق بين حال الأمة وحال بلاد الشام.

ومثل كل الثورات، تنقدح على حين غرةٍ من فرعون وملئه، فيبطش الباطل بطشته، فيدرك الناس أنهم تأخروا في انتفاضتهم ويتعجبون كيف ارتضوا لأنفسهم من قبلُ العيش في العذاب المهين.

إنّ الأحداث الفاصلة في عمر البشرية هي جزء من صيرورةٍ طويلةٍ تعتلجها مجموعة عوامل معقدة ومتراكبة، ولا يرى الأفراد إلا طرفاً منها من الجانب الذي يصيبهم لظاها، فيقعون في خطأ تقدير مداها وفي تشخيص حالها.

قرأنا في التاريخ أخبار هولاكو وتيمور لنك وسقوط بغداد، وما كنا نحسب يوماً أننا سنعيش أياماً من هذا النوع، وهي هذه المرة موثّقة بالصوت والصورة.

وسيخلّدها التاريخ نقطة داكنة في مسيرة البشرية، يليها فجرٌ وعزٌ وسؤدد.

إنه القدَر التاريخي المكتوب…

وإذا كان قدراً فلا ينفع فيه الهروب، ولا يثاب معه الضجر، ولا يجوز تجاهه السخط.

وتجرف الأقدار من يقف أمامها، وتبارك من يسبح في عُبابها.

لقد بُنيت سورية الدولة من مخلّفات الحطام العثماني على أسسٍ واهية، وكان لا بدّ للبناء أن ينهار عند شفا جُرفِه، سنّة تاريخية، سخط من سخط ورضي من رضي.

فالثورة الشامية هي انتفاضة التاريخ بعد أن دنّسه علوجٌ يكرهون ثقافة البلد وأرضها المباركة…

وكان إرث خمسة عشر قرناً يرنو على الأرض المباركة فيقول ماذا أحدثتم بعدي من إديولوجيات فاسدة.

وهذا الإرث الطيّب هو الذي تملّك مخيال الثورة وحفز الإنسان الفاعل الذي أُنيطت به مسؤولية التغيير، فانطلقت طاقةٌ ما كان أحد يظنّ أن الشعب يمتلكها…

وكذّب الواقعُ كلّ دارسٍ خاملٍ يقبع عن بُعدٍ يرطن بالأعجمية ويبشّر بسلامة نظام الزنادقة الأشرار، ويقطع بعدم إمكان قيام الثورة، كما كذّب كلّ من راهن على هزيمتها.

لو تفتح عمل الشيطان

ما الفُجاءة ببركانٍ تحتدم النار في أحشائه إلا غفلة.  غير أنّ هول المصاب يُطلق الشكوك، وما هي إلا شكوك من يريد أن يطمئن قلبه.

ويقول الشكُّ البريء متسائلاً: ماذا جنت الثورة؟  ومثل أي سؤالٍ خطأ في غير مكانه، لا يمكن أن يُجاب عليه.  أو يمكن أن يُجاب عليه بألف جوابٍ، لا يطيقه عقل المستعجل ومن شكّل الانتهاز مسرى حياته.

ويرتجف الشرف غضباً من غفلةٍ سمحت لزرعٍ خبيثٍ أن ينبت في أرضٍ مباركة، بعد أن تناسى خطره هملٌ سُذّجٌ واتجر معه نفعيون وتزاوج معه بُلهاء.

وإذا تُرك للشجرة الخبيثة أن تتجذّر ولم تُجتثّ من أصولها لترسّخت عبوديةٌ قاهرة، ولورَّثنا الجيل الذي يأتي بعدنا ما ورَّثه أوغادٌ من الجيل الذي أتى قبلنا، ذلك الجيل المفتون الذي ظنّ أنّ دروب باريس وموسكو تُخلّص قومه، ناسياً أو متناسياً أن عشيره هم جزءٌ من أمةٍ عندها أغنى رصيدٍ في تاريخ البشرية امتداداً زمنياً وجغرافياً.

يتيمة؟

إذا كانت الثورة يتيمةً فطوبى لمن يمسح رأسها، وسُخطاً لمن يبخل في التعاطف معها.

وهي عزيزةٌ من أصلٍ كريم، وإن الناس ليحبّونها، غير أنهم يخشون بأسها ويخافون من البوح بالتماهي مع جرأتها.

هي محبوبةٌ غير أنه ترتعد الفرائص من عزمها، إذ جعل الشياطينُ ثمن مساعدتها كبيراً وأُنس صداقتها خطيراً.  وحين يبتعد الناس عنها، يبتعدون خشيةً من أن تقصر بهم الأسباب في مدّ يدٍ تُقيل الحال وتستنقذ المصاب.

ولقد كان جدّها يتيماً، ومات مناصراه في عام حزنٍ، وأوذي وخُذل وحوصر…

وتنادي الثورة إلى من تكلني يا ربّ، إلى عدوٍ يتجهّمني أم إلى قريبٍ ملّكته أمري.  ثم يتماسك عزمها فتصدح قائلة: إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي…

الكاشفة الفاضحة

كشفت الثورة جميع العيوب، وإشكاليات الإعداد والتربية والتدريس والمناهج والخطب والمواعظ، وإشكاليات الانضباط وقدرات التخطيط والتنظيم.

وفضحت الثورة من خالف عملُه قولَه وحاد عن مسلك الذين يبلّغون الرسالة ويؤدون الأمانة.

وكان عليها أن تحرّر الحرفية النصيّة من أسرها وتدعوها إلى حسن التنزيل والغوص في فحوى المعاني.

وكان عليها أن تدفع مذهبية التقليد للاجتهاد ولتعي مقاصد الدين.

ولقد كان من قدَر الثورة وهي قلب بلاد الشام أن تنتظر تعافي ما يحيط بها بعد أن وصل ضخّ الدّم إلى تلك الأطراف.

فكان عليها أن تهزّ أرض الكنانة لتفيق من سباتها وتأخذ مكانها الذي يناسب وزنها.

وكان من نصيبها امتصاص النشوز الذي استهوى شباباً من بلاد المغرب.

وكان من نصيبها مداوة جروحٍ أعجمية نكّل بها الروس في بلاد الشمال.

وكان من قدَرها مواجهة عقدنا التاريخية.

كان من قدَرها دفع ثمن أوهام الشيعة العرب واختلاط الأمر عليهم بين المهديّ والدجّال.

وكان من قدَرها مواجهة القومية الدينية والأحلام الإمبراطورية لفارس.

لقد تعلّق مصير الثورة بكل التعفّنات التي ترسّبت في أغوار سورية في فترة ما قبل الانتفاضة.

وتعلّق مصيرها بكل ما اندلق في منخفضها الجيوسياسي من مخلّفات الآخرين.

وتعلّق مصيرها ببيان تهافت التشيّع الصفوي والتعصّب المذهبيّ والتنطّع القوميّ والأنانية الأقلويّة والنرجسيّة الليبرالية.

تعلّق انكشاف الغمّة بكل هذا، وتعلّق طبعاً بتخوّف المنظومة العالمية وربيبتها من يقظة المارد الشرقي.

وبعد ذلك هل يحقّ لذي لبٍّ أن ينساق مع الظنون.

مازن موفق هاشم

18-03-2015

Tagged: , , , ,

2 thoughts on “وتظنون الظنونا

  1. غير معروف 2015/03/18 عند 3:37 ص Reply

    رائعة ، صاغت كل مانحتاج إلى سماعه في هذه الذكرى

  2. ايمن 2015/03/18 عند 7:36 م Reply

    بارك الله بقلم يعتصر الما ويخط بعزه وصدق وصفه لداء اليم في قلب ينزف دما …. بارك الله بقلم مداده دمع عين ما فتئت تذرف رجاء بوعد الله …. اللهم بلغنا احدى الحسنين وعدا بانك انت الكافي … اليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه…. ان لم يكن بك غضب علينا فلسنا نبالي غير ان عافيتك خير لنا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: