الخوارجية الإمامية

ثمة عوامل موضوعية تفسّر ظاهرة التطرّف، غير أنّ هذا لا يمنع من دراسة الطبيعة التصوريّة للغلوّ، إذ تقبع خلف الشذوذ في السلوك الثوري مشكلةٌ فكريةٌ بامتياز، ألا وهي معضلة تعامل البُعد المطلق في النصّ الديني مع الواقع المبتلى بالنسبيّة.  وما تبرير الإجرام باسم الدّين إلا تعبيرٌ عن انحرافٍ فكريٍ في هذه المسألة.  

ولا عجب أن ظهرت أول مشكلة في تعامل المطلق مع النسبي في الحقل السياسي، وذلك لأنّ الأمور السياسية تسعى إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد فتعتريها درجةٌ كبيرةٌ من النسبية.  ولذلك قلّت الأحاديث والآيات في حقل السياسية، واكتُفي ببضعة مبادئ عامة، على رأسها العدل و الشورى.  وحتى حقل الاقتصاد والمال الذي يُظنّ فيه التغيّر الشديد، من تطوّر وسائل الانتاج وتفتّق موارد جديدة للرزق، كان حظّه أكبر في التوجيهات الإسلامية انسجاماً مع درجة نسبيّته.

وتفجّرت مشكلة النسبي والمطلق عند الخلاف السياسي الأول، وانتهى الصدام بعد وقعة الجمل بإدراك عدم جدوى المواجهة بين ثُلّتين هبّتا للنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… انتهى هذا الصدام بوداعٍ ودموعٍ: والله إني لأعلم أنكِ زوجة رسول الله في الجنة… والله إني لأعلم أنكَ ما أردّتَ إلا خيراً.

ومثّل هذا درساً في عدم جدوى المواجهة بين ثُلل النصيحة من الصفوة دخل الضمير المجتمعي، غير أنّ هذا الدرس لم يدخل الفضاء السياسي.

لم تتشرّب المؤسسةُ السياسية فكرةَ رفض المواجهة المسلحة إلا يوم الصدام الثاني في صفّين، حين أدرك الفريقان خطورة مناخ الفتنة واقتنعا بأنّ التحكيم هو عين الحكمة.  ولكن استعصى هذا الدرس على أصحاب العقول الجافّة، برغم التمسّك الشديد لهؤلاء بظاهر الدّين وشدّة اجتهادهم في العبادة.  وحيث أنه ليس في منطق تلك العقول مساحة للنسبيّة التي تعتري مسائل الحكم والسياسة، انطلقت صرخة الجهل المركّب: “لا حُكم إلا لله” اعتراضاً على الدعوة إلى التحاكم إلى كتاب الله ورفضاً لفكرة إرجاع الأمر إلى العارفين بالتنزيل!  ولا يتوقّع المرء أن يستمع مثل هذا المنطق إلى من يعترض عليه ولا أن يفهم معنى الحوار.  ومرّت السنون وحلّ الاستقرار الرغد، فانقرضت تلك الفئة المارقة التي تجمع بين الحرفية والعدوانية.

ومن الجانب الآخر، تشكّلت في الحقل السياسي ردة فعلٍ عاطفية تتخيل صفاءاً انتفتْ ظروفُه الموضوعية، فتملّكتها الفكرة الراسخة في كثير من المجموعات البشرية القديمة في جعل الحكم مرتبطاً بالنسب؛ وكانت العرب تفتخر بالنسب فخراً كبيراً.  وما كان لهذه الفكرة غير العملية أن تنجح مع امتداد رقعة المسلمين، كما أنها لم تدرك نسبية الزمان والمكان في أمر إدارة شؤون البشر.  فما كان يصلح في زمن الراشدين في شأن الحُكم لا يصلح لما بعده، وما يصلح للمدنية المنوّرة لا يصلح لغيرها.  وتخفّت هذه المثالية تحت الأرض هرباً من تعقّب العدو السياسي، فتعفّنت الفكرة السياسية مع مرّ الزمن.  ولم يأتِ فساد الفكرة السياسية من باب التفسير الحرفيّ وإنما من نقيضة من التأويل الباطني، إضافةً إلى عناصر تسرّبت من الأديان الفارسية وغيرها؛ فقيل بحلولٍ قدسيٍ في شخص الإمام بعد إلباسه ثوب النسب النبويّ وجعل رابطة الدّم هذه شرط الإمامة وصفة القادّة إلى يوم الدين.

ونرى في كلّ من التوجهين العناصر التالية: (1) خيبة أملٍ مريرة في عدم انتظام الواقع مع المثال المرجو؛ (2) واستعداد كامل للتضحية؛ (3) والبحث عن نصٍ عاصمٍ قاطعٍ يعفي نفسه من عناء الاجتهاد التي تقتضيه النسبية الموضوعية لحياة البشر.

المصيبة الكبرى في زمننا هذا هو التزاوج الذي حصل بين هاتين البدعتين في التعامل مع النسبيّ.

فالطرح الخوارجي لفكر القاعدة لم يكتفِ بحرفيةٍ ظاهريةٍ عدوانيةٍ جاهلةٍ، بل أضفى على خياره السياسي الغيبية التي يُلصقها التشيّعُ الاثنا عشري بالإمام المعصوم الذي لا يصح إيمانٌ بلا الإقرار بمرجعيّته.  وبدل أن يجري تفهّم نسبية الممارسة السياسية، جُعلت الممارسة مطلقاً مُنحلاً في الدولة والخليفة المبايَع.   وكذلك فإن طرح التشيع الفارسي المعاصر، برغم أنه أكثر تعقيداً بكثير من بَوار الفكر الخوارجي، فإنه لم يكتفِ بتدليسٍ عدوانيٍ متجاهل، بل أضفى القدسيّة الدينيّة على المشروع الإمبراطوريّ الفارسي.

وهكذا انغمس كلٌ من هذين الفريقين بأعمال قتلٍ وإفسادٍ في الأرض مما لا يقبله مبدأٌ خلقيٌ ناهيك عن دينٍ خاتم، تعلّقاً بفكرة صحّة العمل إذا كان يخدم غيباً سياسياً ويقوّي الفرقة الناجية الوحيدة.

يصعب على الفهم القاعديّ إدراك أنّ فكرته في الحُكم استبضعتْ فكرةً شيعيةً إماميّةً من نوع عقيدة من يحاربونهم، وأنّ هذه الفكرة أضحت سرداباً لتناسخ شخصيةٍ باطنيةٍ للحاكم بأمر الله، حاشى الله من افتراءات المبطلين.  وبقي أن نقول أنّه تسرّب إلى الفكرتين أعلاه المفهوم الحداثي للدولة، وقداسة الدولة والتراب، مما جعل هذا الضرب من الفكر السياسي أبعد عن الشاكلة الإسلامية؛ وبيان هذا يحتاج حديثاً آخر.

وعوداً على بدء، أنبّه إلى فساد منهج الإسقاط التاريخي واستجرار الماضي لتفسير الحاضر، فالأسباب الموضوعية التي تولّد التطرّف معروفة.  وليس فحوى المقال أنّ ثمّة مسيرة متّصلة للتطرّف، وإنما هدف المقال بيان الإشكالية التصوريّة للغلوّ وتنكّبه للصراط المستقيم.

مازن موفق هاشم

18/5/2014

ملاحظة: الصحيح في اللغة أن يقال (الخارجية) وليس (الخوارجية)، غير أني خشيت أن لا يفهم المقصود من العنوان، فآثرت الخطأ النحوي على جلب الوهم.

Tagged: , , ,

3 thoughts on “الخوارجية الإمامية

  1. Samir Twair 2014/06/15 عند 4:49 ص Reply

    Thank you. It is an excellent article.

  2. ايمن بارودي 2014/06/16 عند 7:30 ص Reply

    تحليل رائع وعلى ذلك يطرح سؤالاً محيراً حول سبب عدم مراعاة النص المقدس لمحدودية عقول الناس، وان إطلاقه قد يؤدي إلى هذا الشقاق بين أتباعه.

    • مازن هاشم 2014/06/17 عند 3:25 م Reply

      شكراً لتفاعلك الأخ أيمن.
      لا يمكن لأي نص أن يحول دون سوء فهمه. وإن من الخصائص اللازمة للنص الهادي أن يكون عاماً وفيه كمون التأويل، وإلا لما تجاوز نفعه لحظة وبقعة نزوله. المشكلة ليست في النص وإنما في سوء فهمه وتطبيقه. وانظر مثلاً إلى القوانين الدقيقة والصارمة في صياغتها (مثلاً حد السرعة) وكيف يحتاج تطبيقها إلى مراعاة الواقع، كما لو كان هناك جريح وأسرعت به إلى المستشفى متجاوزاً حد السرعة القانوني. ولو افترضنا أنه نص القانون على السماح بتجاوز السرعة في الحالات الإسعافية، فقام سائق بانقاذٍ فيه سرعة ولكنه وقع في حادث مع سيارة أخرى، لصار هناك اختلاف في مدى سرعته وهل خاطر السائق في عملية الانقاذ أكثر مما يقتضيه الاجتهاد السليم.
      الخلاصة، لا مناص عن الاجتهاد وإعمال العقل في النصوص.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: