كم هو مؤلم أنّ الجواب على أسئلةٍ مثل: “لماذا لم نقطف ثمار الربيع؟” و” لماذا تأخر نجاح الثورة، مهما فصّلتَ من أسباب، غير شافٍ لكثيرٍ من الناس.
فهل هو صحيحٌ بأننا لم نقطف “الثمار”؟ وهل تأخّر “الانتصار” فعلاً؟ ربما يساعد على الفهم أن نطرح قبل ذلك أسئلةً أخرى: ما هي “الثمار” المرجوة أصلاً؟ وما معنى “تأخر”؟وما معنى “انتصار”؟
المفارقة أنّ الحديث اليومي للناس يوحي بأنّ تغييرات هامة قد حصلت فعلاً، وهي تعكس نفسها بأشكال متنوعة تضم طيفاً واسعاً من الأفكار والمشاعر، وتعيش معنا ولو لم تكن ملموسةً مادياً في اللحظة الراهنة.
والحقيقة أنّ أي لحظةٍ من اللحظات الفاصلة في مسيرة الربيع العربي لم تذهب أدراج الرياح، ولو بدا أحياناً أنها غابت، أو حصل ما حرقَ تفاؤلها واستبدله، مؤقتاً، بحيرةٍ وتساؤل. فعزّة البائع البسيط في تونس لازالت ذكرى شاخصةً في التاريخ، وصورة ميدان التحرير كأيقونةٍ تحكي القدرة الجماعية للشعوب لم تنطمس في ذاكرة العالم، والجرأة المعجزة والثبات الرائع للسوريين في شوارع بلادهم لاتزال أعمق تعبير عن صلابة الإرادة البشرية. كل هذا يبقى صحيحاً رغم محاولات الالتفاف على الثورات، ورغم تحالف خوالف الاستبداد الداخلي مع أطماع السيطرة الخارجية، ورغم كل القصور الثوري.
هل ثمة ثورة بلا أخطاء وقصور؟ وكيف نتكلّم عن انتصارٍ ناجزٍ كأنه كان محفوظاً في قفصٍ امتلكنا فجأة مفاتيحه؟ على العكس من ذلك، قد يكون المقامُ الآن مقام رصد التقصير في جملة مجالات من أهمها الثقة الطافحة بالنفس عند الشباب المتحرّك، وبطأ استجابة المثقّف، واعتباطية قرار السياسي. وإذا عُذر الشباب الطامح وطَهرَت تضحياتُهم سيئاتِ استعجالهم، فهل يُعذر الفرقاء الآخرون؟
هل يُقبل من المفكّرين والمثقّفين أن ينزلقوا إلى مدارك التسطيح التي ترسم عملية التحوّل الديمقراطي كعمليةٍ مكتبيةٍ تُكرّر فيها عباراتٌ قديمة لمفكّري عصر التنوير؟ وهل يُقبل منهم عدم الحياء المنهجي من الاستحضار المتكرر للثورة الفرنسية، وهي التي حدثت في زمنٍ تاريخيٍ مختلف وسياقٍ حضاري مُغاير؟ وإذا كان ثمة دورٌ حاسم للمفكرين فهو التأكيد على مفهوم الصيرورة، وأن التغييرات التاريخية ليست عملية استنساخٍ وتقليد، وأنه ليس هناك (كاتالوجات) جاهزة للدمقرطة، وأن الاستفادة الواجبة من تجارب الآخرين هي عملية تدبّرٍ وتقدير.
وقبل كل شيء، فإن فكرة التوطين هي حقلٌ واسع لعمل المثقفين على نحوٍ مُجملٍ وتفصيلي. أما المُجمل فمنه التنبيه والتذكير بأن نقل التجارب هو أشبهُ بزرع الأعضاء التي يقابلها الجسد بالرفض، فلا بدَّ من التطوير الذاتي الداخلي. وأما التفصيلي ففيه رسم الخطط التي تُمكِّن هذا التوطين أن يحدث ولذاك الرفض ألا يحدث، وعمادُ ذلك الاستحضارُ الكامل للخلفية الحضارية العربية المسلمة لبلادنا، فهذا الاستحضار شرطٌ أوليٌّ تُرسم بعده الخطوات عملية.
وحين ننتقل إلى الجناح السياسي للربيع العربي، فهل يُقبل ممن شارك في هذا المجال أن يجبُن عن القيادة وعن مواجهة الجموع الهادرة بحقيقة التحدّيات التي تواجه البلد؟ وما معنى أن يقوم رئيسٌ منتخبٌ لدولةٍ فقيرةٍ أن يعدَ شعبه بالرغد! أما قرأ قصّة يوسف والوعدَ بالعمل الدؤوب سبعَ سنين تأكل ما كان قد ادُخر من ثمارها سنينٌ عجافٌ تالية؟ وكيف نفسّر استمرار قيادات التمنّي التي لم تكفّ عن الإيحاء بأن تدخّلاً غربياً حاسماً هو أمرٌ واردٌ ووشيك، بل واعتبارُ من يعترض على هذا مفرّطاً في حقّ الشعب.
ربما وجبَ الاعتراف بأن الأسئلة الخائفة والمتشكّكة هي أسئلةٌ بريئة، وبأنّ سبب ورودها مُفسّرٌ ومتوقّع. ولو أمعنّا النظر في هذه الأسئلة لوجدناها تنبثقُ من فهمٍ يغيب عنه الاختلاف في حركة الزمن بين حسابات الأفراد وحسابات التاريخ.
فالصغيرُ قليل الخبرة بتقلّب الأزمان يعدُّ نموه بالأيام، وحين يكبر المرء يدرك أنّ لأحوال الدنيا مآلات متفاوتة. وربما يمتدّ العمر بالمرء الى سنٍّ يكاد فيها مرور اليوم والأسبوع والشهر لا يعني كثيراً، إذ أنّ الحال اضحت حال استعدادٍ لمغادرة الحياة إلى عالم أُخروي بلا زمان….
إن الآلام العظيمة التي ترافق سيرورة التغيير تكون دائماً طويلةً جداً في حسابات الأفراد. وحقّ أن تكون كذلك لأن فيها غالباً ما لا يحتمله فردٌ بشر.
لكن لمسيرة التاريخ حساباتٍ من نوع آخر.
لهذا يتحدث الناس عن العصر الفلاني وهم يقصدون فترةً امتدت قروناً، ويعدّون تطور الأحداث بالعقود لا بالشهور والسنين، وكأنّ العقد هو شهرُ التاريخ أو أسبوعه.
والتاريخ يتفاعل مع الجغرافيا، فكلما اتسعت الجغرافيا كبُرت الوحدات الملائمة للحديث عن التغيير. وما الثورة العربية، وفرعها الشامي خصوصاً، إلا زلزالٌ وصلت ارتداداتُه إلى بقاعٍ شاسعةٍ تتلاطم فيها الأمواج الجيوسياسية، وبركانٌ سبر أعماقاً تاريخية تعتصر في طبقاتها تجارب الشعوب، وولوجٌ في فضاءات ثقافية تتألّق فيها الهويات والأفكار وتتعارض…
هذه هي حدود التغيير الحضاري الذي يعتلج به زمننا، بإدراكٍ منّا أو غفلة.
اللهم إنا نسألك صبراً وتثبيتا…
د. مازن موفق هاشم
Tagged: الثورة السورية, الربيع العربي
اترك تعليقًا