تسبّبت قوة الزلازال الشامي –الذي هو جزء من الثورة العربية الكبرى للقرن الهجري الخامس عشر– وامتداد موجاته في إحداث تغييرات في مركز الزلزال في سورية وتغييرات في التوازنات الإقليمية للدول المجاورة والمرتبطة بها تاريخياً. وسبّبت هذه التغيرات الإقليمية بدورها إعادة توزيع بعض الأدوار على المستوى العالمي. ولذلك أضحت مسارات الثورة السورية مرتبطة بالمسارات الإقليمية والدولية، ارتباطاً تبادلياً يؤثر ويتأثر بها. وفيما يلي مناقشة للديناميّات الرئيسة التي تعتلج المنطقة، وهي حركيّات مُركّبة مُعقّدة تحوي على أضادّها ولا تسير على خط مستقيم باتجاه واحد.
أولاً. تآكلُ المحاور وتطورّها
لقد فَقَدَ ما يُدعى محور الممانعة (سورية و إيران + حزب الله) معناه على الصعيدين العملي والإديولوجي. فمدّعي الممانعة يدمّر كل ما يُمكّن على الممانعة ويحيل الوطن إلى قحلٍ فقيرٍ مثخنٍ بالجراج. وإيران التي تدّعي الوقوف ضدّ الإمبريالية تتابع التنسيق معها ضدّ من يحاول الانعتاق من ذيول الاستعمار. ولذا فإنه خليقٌ بأن يسمى هذا المحور (محور المزاودة). وها هو يساوم ثمن توظيفه وكيل أعمالٍ للشيطان الأكبر ويدفع أكثر من رعبون واحدٍ من أجل هذا الغرض.
أما ما يسمى محور الاعتدال (دول الخليج والأردن ومصر)، أو محور التواكل والاعتماد على الغير، فإنه فَقَدَ أيضاً معناه على الصعيدين العملي والإديولوجي. فلا اعتدال مع اصطفافه ضدّ التغيير الذي تتطلّع إليه الشعوب. وإذ يعتمد هذا المحور على لعبه دور الوكيل عن الإرادة العالمية الغربية، فإنه بدأت استناداته بالتآكل بعد حدوث التغيّر في أولويات كفيله.
ويحوي تآكل هذين المحورين أضّاده: ارتياحٌ عالمي له وتخوّف منه بآن. وهي عوامل تسارع في اكتمال تآكله وعوامل تسعى إلى تبطيئ انهياره ريثما تنضج البدائل. وعوامل داخلية تحاول اعتصار ما بقي من وظائفه، وعوامل أخرى تسارع في تفتّته لكي تنجو أجزاءٌ منه ويُعاد توظيفها.
ولقد ترافق تآكل المحورين مع تنامي محور جديد تقوده تركيا يمكن أن نطلق عليه (محور المناجزة). وهو المحور الذي يعتمد مدافعة القوى الدولية وفق الموازنة والمفاضلة بين مصفوفةٍ من المصالح. فلا يتّصدى للقوى الدولية مبارزةً، ولكنه يعيد صياغة ارتباطاته مع هذه القوى ببطئٍ وحذرٍ، ويسعى تدريجياً إلى إنشاء روابط جديدةٍ واستناداتٍ بديلة.
ولذلك فإنه من الخطأ الكبير الظنّ أنه يمكن أن تجري السياسات في المستقبل قريباً من المنحى القديم المعتاد. عنوان المرحلة هو مفاجأت واقعٍ جديد، واقعِ تغيّر التموضعات العالمية وتغيّر أحمال الأوزان في المنظومة الدولية.
ثانياً. ذوبان الأطر السياسية وتجذّر الاجتماعية
حدود الدول في غالب المنطقة العربية هي حدود اصطناعية لا تتطابق مع التوزّعات الثقافية أو الفئوية. ولم والشعوب التي عاشت ضمن هذه الحدود لم ينعموا بمقتضياتها كحدود دولة-شعب ذات مؤسساتٍ تجلب لمواطنيها السعادة والأمن، وإنما تدبّروا أمورهم وفق علائق طبيعية أوّلية تحاول جبر عجز هذه المؤسسات بالمراوحة معها أو الالتفاف عليها، مع الحرص على اتقاء شرّ ارتباطاتها الاستخبارية القمعية. وأدّى تخريب نسق الحياة الاعتيادي إلى محاولة الناس إيجاد بدائل معاشية اقتصادية ولوجستية تستغني عن الدولة.
وفي سورية تفتّت الإطار السياسي للدولة بثورة الشعب على نظامٍ استبدادي بغيض، وتهاوت شرعية هذا النظام بتحدّي أسس قيام النظام، ألا وهو القمع الاستئصالي. وأمعن النظام في نحر نفسه بانطوائه الطائفي وتحويل الجيش وقوى الاستخبار إلى ميليشيات إجرامية تخرّب الحياة وتقتل الحجر. واكتمل هذا التفتّت باستدعاء الميليشيا اللبنانية وبالارتهان للإرادة الإيرانية وتسليمها زمام الأمور في البلد.
وحدثت موجات هجرةٍ ولجوء إلى الدول المحيطة نتيجة القمع الوحشي للنظام وتدمير المدن والبلدات، فهدّدت هذه الموجات التوازنات الدِموغرافية في الدول التي هبطت فيها، وآذنت بإذكاء مشاكلها النائمة. وباعتبار عدم تطابق الحدود الثقافية والسياسية وباعتبار الانزياحات التي حدثت نتيجة للثورة ولطريقة مواجهتها من قِبل النظام، تشكّلت مناطق خارجة وخواصر رخوة، استجلبت العناصر المقاتلة العابرة للحدود وأصبحت الحيّز الطبيعي لنشاط المجموعات الجهادية.
وبذلك لم يعُد يمسك الوطن إلا وشائجه الاجتماعية وترابطاته الثقافية ونسق حياته المعيشي. وتتناغم مصابرةُ هذه الروابط مع أصل فكرة الربيع العربي والرغبة في العيش بحرية في مناخٍ يُكرّم ثقافة المنطقة ولا يعتدي عليها بفرضٍ خارجي. وكان طبيعياً أن تصعد أهمية المخيال التاريخي للأمة ومركزية الخلفية الحضارية المسلمة للمنطقة.
وسوف يكون طبيعاً أن يعلو المحليّ ويأخذ أولوية سابقة على العام، وأن ينكفئ الناس على خاصة أمرهم لتأمين ضروريات معاشهم. ومحاذياً لذلك تورمّت ولاءات طائفية تحمل أحلام تشكيل إقطاعيات على أساس طائفي، تترافق مع تهجير في المناطق المحاذية لها وتفريغها من السكان. وما كان لدولة في عالمنا المعاصر أن تدوم إذا لم يكن لها إنجاز ولم تتمتع بشرعية دستورية وليس لها جذور ثقافية تاريخية.
ثالثاً. الصعود الإيراني التفتيتي:
تبنّت إيران من يوم نجاح ثورتها ضدّ الشاه في 1979 مشروع نهضةٍ وطنية. وبغضّ النظر عمّا يمكن أن يُقال فيها من ناحية توجّهها المذهبي أو نعرتها القومية أو موقفها اللاأخلاقي من الثورية السورية، ليس ثمة خلاف أنه من ناحية الأسباب الموضوعية تابعت إيران خطاها في مشروعها بعزيمةٍ واستمرارية. كما لم تُثنها النتائج الكارثية للحرب العراقية-الإيرانية عن متابعة المسير، بل دعتها لتوسيع خطّتها باتجاهين: اتجاه التصنيع الحربي، واتجاه التبشير الشيعي.
وتستيطع إيران المحظية بمخزون نفطي وغازي يحقق لها فوائض مالية تخصيصها لمشاريع معينة، في حين تترك الحركة الاقتصادية لشعبها –الذي يمتلك مهارات عالية ومستوى ثقافي عالٍ– إلى تدبّر الحياة المعاشية. ولا يعني هذا أنّ السياسات الاقتصادية الإيرانية كانت كلها صائبة، وإنما أنه مكّنها المال والخبرة من الاعتماد على النفس. وعانت إيران من حصارٍ ومقاطعة استطاعت الالتفاف عليهما إلى الآونة الأخيرة، إلى أن أوصلها طمعُها والتدخل في الثورة السورية إلى لحظة يأس واضطرارٍ للتراجع وتغيير الدور.
ولم يكن العامل الاقتصادي إلا عامل تيسير للمشاريع، أما العامل الحاسم فكان التمكّن السياسي للحكم الإيراني الممسك بشدّة بكل مؤسسات الدولة؛ وهو ما تحتاجه الدول الفتية عند ابتداء نهضتها. واجتمع لهذا التمكّن السياسي أساس ديني، فالنظام السياسي الإيراني غريبٌ من ناحية مزاوجته بين المؤسساتية الشبيهة بالديمقراطية واحتكار السلطة السياسية في يد النخبة الدينية التي هي بآن مرجيعة شعبية. وتكاد النخبة الدينية تضمن ولاء قطاعاتٍ واسعة من الشعب الإيراني، وخاصة غير العَلْماني الليبرالي الكاره للنظام. وأضف إلى ذلك أن النظام الإيراني الحاكم كان قد طهّر نفوذ فلول الشاه بعد نجاح الثورة الإيرانية في الجيش وقوى الاستخبار، ولم يقف عند هذا بل بنى جسماً أمنياً خاصاً بسلطة النخبة الدينية، ألا وهو الحرس الثوري. وليس معنى هذا أنه ليس للإمساك الشديد بكل مرافق الحُكم أثر سلبي، ولقد عجزت محاولة الإصلاح من داخل المؤسسة ثم فشلت الثورة الإصلاحية التي أخمدها النظام الإيراني بقسوة بالغة.
وهكذا اجتمع لإيران تمكّن سياسي بالغ، وموارد اقتصادية فائضة تضاعفت مع ارتفاع سعر الطاقة، وعقدة دينية قومية وظّفها النظام في توطيد مشروعه الوطني وفي محاولة الصعود الإقليمي. واستغلّت إيران في ذلك الشرخ الأكبر في تاريخ المسلمين، وحوّلت أكثر المجتمعات الشيعية التي تسكن بلاد أكثرياتٍ سنية إلى بؤر مساندةٍ لسياساتها ولظهورها. وساهمت ردود الفعل الخليجية –الساذجة أو المميتة– في تقوية العزم الأقلويّ الشيعي التي تقوده إيران. وإلى جانب فرق الولاء المذهبي وما استطاعت أن تشتريه من ذمم، أنشأت إيران أو تعاقدت مع جماعاتٍ إجرامية في أنحاء العالم تستعملها للضغط الآني في مرواغات السياسة الدولية.
واستغلت إيران الورطة الأمريكية في العراق، وكانت قد تعاونت معها في أفغانستان، وتابعت خطاها في إعادة مجد إمبرطورية شيعية فارسية مستغلّة الغياب العربي وترهّل سياساته ووقوعه في قبضة ديكتاتوريات ليس لها مشروع وطني أو أدنى الالتزام بأولوياته، بما في ذلك ارتماء النظام السوري المأزوم في الحضن الإيراني.
ثم انقدحت الثورة العربية، فهدّدت الانفراد الإيراني، ومثّلت الثورة السورية بخاصة أكبر تهديد للنفوذ الإيراني في المشرق العربي. فألقت إيران بكل ثقلها لدعم نظامٍ مجرمٍ معادٍ للدين، أملاً في الحفاظ على تدعيم موقعها الجيوسياسي. فتسبّب هذا الدعم غير المشروط وزجّ ميلاشيتها اللبنانية في معركة غير مضمونة النتائج –الأمر الذي تواقت مع زيادة المحاصرة الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية– بعسرٍ اقتصاديٍ في إيران وعجزٍ عن متابعة المشاريع العسكرية والنووية واضطرارٍ للتراجع.
وكان من نتائج دعم النظام السوري ضدّ ثورة كرامةٍ ذات روحٍ مسلمةٍ السقوطُ المدوّي للدعاوى المذهبية لإيران، ولهذا أهمية سياسية عملية، إذ حوّلت المواقف الحيادية تجاها إلى مواقف سلبية. واضطرت إيران إلى أن تضع مشروعها النووي للمساومة، وإن كانت ما زالت تحاول التراجع فيه قليلاً أو كثيراً من أجل شرعنته مستغلة في ذلك ورطات داخلية للولايات المتحدة الأمريكية ودول أروبة الغربية.
وهكذا قبلت إيران أن تكون وكيل أعمالٍ جديدٍ للقوى العالمية، يقوم بتفتيت التماسك الاجتماعي في المحيط العربي إلى غربها والمحيط العجمي المجاور لها. وسوف تحاول لعب أدوارها الجديدة بتفانٍ كامل، ولعلّ أول ما يُسند إليها هو محاربة (الإرهاب السنّي). وإذا لم يستطع غيث الثورة السورية إطفاء النار الإيرانية، فإنه على الأقل قد فوت على إيران فرصة التمكّن المستقرّ على شاطئ المتوسط؛ فلن يكون إلا وجود قابل للاستنزاف.
رابعاً: تركيا وسياسيات التوازن الحرج
إن السلوك التركي هو من أهم العوامل الإقليمية المؤثرة في الثورة السورية. وبرغم أنها لا تتدخل في الشأن السوري على النحو الإيراني، إلا أنّ هذا عائد لطبيعة النظام التركي وليس عائداً لقلة اهتمامه بسورية أو أنه غير قلق لشأنها. فالمهمة الرسالية التي تتبناها إيران هي بناء جسم سياسي تابع مركزياً لطهران عبر سيطرة مجموعات إديولوجية شيعية في الأطراف المحيطة، في حين أنّ المهمة الرسالية لأنقرة هي صيغة تكامل سياسي اقتصادي مرن.
غير أنّ السياسة التركية مقيّدةٌ بكثيرٍ من المعوّقات التي تحول دون مشاركتها المباشرة على نحوٍ مادي في الثورة، ولذلك لم تقدّم تركيا السلاح للثورة، وإنما اكتفت بتسهيل مرور ذلك –وبالقدر الذي تسمح به المعادلة الدولية– إلى جانب الدعم السياسي الكامل واحتضان القوى السياسية للثورة السورية. ويأتي على رأس القيود التي تواجهها تركيا عدم التمكّن السياسي المطلق لحزب العدالة والتنمية الحاكم المناصر للقضية السورية، حيث أنّ نظامها السياسي نظام ديمقراطي مكشوف على تقلّبات المزاج العام، ذلك المزاج الذي يخشى من عواقب الانغماس في مستنقعٍ لا تقوى عليه دول عظمى فما بالك بدولة لم تترسّخ بعدُ أسس نهضتها.
وزيادة على هذا، ثمة كتلة شعبية كبيرة ربما تبلغ خُمس الناخبين ذات هوى عَلْماني قومي ويساري ممن هم أعداء للحزب وبرامجه. وصحيحٌ أنّ قدرتهم على التحريك الشعبي محدودة كما أظهرت أحداث حديقة غِزي، إلا أنه يتلقى هذا التوجه الدعم العالمي سياسياً وإعلامياً. كما يتقاطع هذا التوجّه السياسي مع توجّه العلويين التُرك الذين يشكّلون عُشر السكان؛ ويدعم هؤلاء حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي، وهم غير ناشطين سياسياً بعدُ، وأخشى ما تخشاه أنقرة أن تتسبّب سياساتها تجاه الثورة السورية تفعيل هذه الكتلة سياسياً. أما العلويون النصيريون التُرك ذو الأصل العربي في لواء اسكندرون فقد ارتكسوا حقاً تجاه مواقف الحكومة التركية وأيدوا النظام السوري قولاً وأحياناً فعلاً.
وتشكل المسألة الكردية العامل الأثقل في سياسية تركيا، ولم يكن بدّ لتركيا من تسكين هذه المشكلة قبل الانغماس في القضية السورية. وكان من بركات الثورة السورية على تركيا أن فتحت فرصةً لحزب العدالة والتنمية الحاكم أن يمضي قدُماً في التصالح مع الكُرد إدراكاً بالظلم الذي ألحقته بهم سياساتُ القوميين والجرائم التي ارتكبت بحقّهم، وضرورة التحوّل من استراتيجية محاربة حزب العمال الكردستاني الذي يقوم بالعمليات الإرهابية إلى طيّ هذه الصفحة بالعفو عن أعضائه مقابل الانسحاب ووضعهم السلاح.
ولم يكن الأمر مصادفة أنه لما تمّت المصالحة مع الكُرد وانفتحت فرصةٌ لتركيا أن تلعب دوراً أكبر في المسألة السورية، تغيرت الرياح العالمية وزادت في خذلانها الثورة. وسبب ذلك أنّ القوى العالمية –بما في ذلك إسرائيل– يُقلقها الصعودُ التركي بالقدر الذي يقلقها استواء الثورة السورية على أسسٍ غير أقلوية. ويضاف إلى ذلك المواقف النرجسية لبعض دول الخليج التي تغار من تركيا.
وإنّ سياسات تركيا مقيدةٌ من ناحية اقتصادية، وذلك لأنها بلدٌ فقيرٌ في موارد الطاقة، وهو في أشدّ الحاجة إليها من أجل نهضته، وهو معتمدٌ في ذلك على مصدرين أساسيين، روسية وإيران. فهل من قيدٍ تجاه المسألة السورية أكثر إشكالاً من هذا القيد؟
لقد كان التحوّل الأخير للسياسية التركية تجاه الثورة السورية من الموقع المبادر إلى الموقع المدافع ضرورة استراتيجية راجحة. فبعد ما استنكفت الولايات المتحدة عن ضربةٍ وعدت بها –وأعلنت تركيا مساندتها– وعقدت صفقة الكيمياوي التي تمدّد عمر النظام السوري ثم بدأت بالتفاوض حول نووي إيران؛ بعد ذلك كان لا بدّ لتركيا أن تعدّل سياساتها قبل أن ينقلب فواتُ فرصةِ زيادةِ التمكّنِ الإقليمي إلى تراجعٍ كبير يمكن أن يزلزل أسس القيام التركي. فلا يمكن للموقف التركي أن يمشي معاكساً بآنٍ للمواقف الأمريكية والأروبية والروسية والإقليمية بما في ذلك العربية؛ ولم يعد بإمكان تركيا متابعة سياسيتها الخارجية بعمقٍ أخلاقي يهدف إلى تصفير المشاكل مع الجيران.
وهكذا تفلّت من يدِ الثورة السورية أكبر دعمٍ راشدٍ لها، بكيدٍ أجنبي وأنانيةٍ عربية وعدم نضجٍ في سلوك كل أطراف الثورة: وسوسة السياسيين الليبراليين من النفوذ التركي، وأنانية بعض السياسيين الإسلاميين واعتباطية تحركهم، و هياج العمل المسلّح، وفوضى العمل الشعبي في الداخل. غير أنّ الأهمية الاستراتيجية لسورية وثورتها باقية بالنسبة لتركيا، وتفاوض تركيا مع إيران له تبعات على المستقبل السوري، كما يمكن أن تتطور الأمور فيعود لتركيا دور أكبر ومن نوعٍ جديد.
خامساً: المغالبة الإقليمية
لا تشكّ إسرائيل في أن كسر قيد الاستبداد في البلاد العربية هو في غير صالحها، وتعرف أنه لا يمكنها السيطرة على العوامل الذاتية التي تغلي في بوتقة الثورة العربية. ولذا فإنه تراقب إسرائيل الوضع العربي مراقبة حثيثة وتحاول استثمار نقاط الضعف في ثورات بلاده، وتدعم كلّ عمل يساهم في تمرّد مضادّ أو في حراكٍ فوضوي ينتقص من نضوج ثمار الثورة العربية.
وتتعامل إسرائيل بحذر –وعلى اختلاف داخلي في الموقف الأصوب- مع المتغيرات العالمية المتلاطمة، ومنها رغبة الولايات المتحدة الأمريكية تقليص انخراطها في المنطقة، والمشروع النووي الإيراني، والصعود التركي. ويأتي على رأس اهتماماتها تطور الأوضاع في الجوارين المحيطين بها، الجوار الشامي والجوار المصري. وسوف يرتسم المشهد السوري في المستقبل على وقع التوازنات بين إيران وتركيا من جهة، وكل منهما ودول الخليج من جهة أخرى.
سادساً. التعددية القطبية للعالم
تحوّلُ عالمنا إلى عالمٍ متعدّد القطبية يفسّر كثيراً من الألغاز ويحمي من التفسيرات المتعجّلة. فهذا التحوّل هو الذي يقبع خلف التغيرات التي نشهدها في القوى الدولية الكبرى والصاعدة، كما أنه هو الذي يفسّر –على مستوى التجريد– السلوكَ الأمريكي والروسي، وليس منطق الصفقات. وإنّ نجاح القوى الإقليمية التي استطاعت أن تُثبت نفسها، مثل إيران وتركيا، هو جزء من التعددية القطبية لعالمنا اليوم، وهي صيرورة تاريخية وتطوّر منظوماتي وليس مجرّد نجاحٍ اقتصادي لدولة ما.
ولم ينتكس العالم إلى وضعية الحرب الباردة، بل هو نوع من التوازن الجديد الذي تحدوه قوى متعددة جداً تمتدّ من القارة الأمريكية الجنوبية إلى الصين والهند وإلى أُروبة، بالإضافة إلى قوى صغيرة ليس لها أثر كبير بذاتها ولكن لها أثر معتبر بسبب علائقها مع غيرها من الأقطاب الرئيسة أو الجانبية. وتدخل في ذلك المصالح الاقتصادية وعلى رأسها النفط والغاز الذي يزداد الطلب عليه بسبب طفرات التنمية. كما تقبع خلف ذلك عوامل بيئية ودِمغرافية، على رأسها تناقص الولادات في الشمال (باستثناء أمريكة) وأزمات شحّ الماء والغذاء المتوافر للأمم أو سوء توزيعهما.
≈ ≈ ≈
إنه لا يمكن التعامل السليم مع تطورات الثورة العربية بفصائلها القُطْرية المختلفة إلا مع اعتبار التغيّرات الجيوسياسية التي تأخذ المنطقة ككلّ. وتدخل في هذه التغيرات دينامياتٌ عالمية وإقليمية متراكبة.
وهذا الملخص العام هو مختصر لدراسةٍ جاريةٍ، وتفصّل الحلقات القادمة بإذن الله في كلّ من المحاور الستة المذكورة من أجل اكتمال الفهم وضبطه، بحيث يكون كل محورٍ عنوان لموضوعٍ مستقلٍ مذيّلٍ باستنتاجاتٍ عملية.
وعلى الله التكلان…
د. مازن موفق هاشم
20/10/2013
Tagged: الثورة السورية, الربيع العربي
بارك الله بك وجزاك عنا كل خير على هذا المنظور الشمولي الذي يغيب عن نسبة لابأس بها من كتاباتنا
جزاك الله خيرا..
وآمل أن نقرأ المزيد حول كل نقطة على حدة..
كما آمل أن نجد “اجتهادا سياسيا” مكملا حول ما يترتب -بمنظور الثورة أو منظور من يحمل هم الثورة بإخلاص- على التطورات المذكورة، لا سيما موقف تركيا.
بارك الله بعلمك وزادك من كل خير
سلّم الله قلمك و فتح عليك … تعبيرا محور المزاودة و محور التواكل توصيف دقيق لدورهما