إشكالية فهم مصطلح (تطبيق الشريعة)

مصطلح (تطبيق الشريعة) مصطلحٌ يُشعر بالثقة لأنه يستحضر في الذهن كمال الهداية الإلهية التي أنعم بها المولى الكريم على البشر.  غير أنّ استخدام هذا المصطلح قد يتطرّق إليه سوء الفهم.  

ومن الإشكالات أن يعتري الوهمُ فهمَ عبارة (تطبيق الشريعة).  فثمة من اقترن في ذهنه الاستعمال السياسي لهذا الشعار مع القسر والإكراه وملاحقة الأفراد لإجبارهم على القيام بالفرائض والمندوبات، وحجزهم عن تصرّفاتٍ يُهـيَّأ للقائمين على الأمر أنه يترتّب عليها مفسدة.  ولا يخفى تعدّد مصادر هذا الخلط، وقد يستحضر الكثير من الناس صورة حكم طالبان وجهلهم، أو التصرّفات الاعتباطية لبعض الكتائب المقاتلة في سورية.

وتشارك وسائل الإعلام في غبش الصورة عندما تتجاهل أنّ مسلك الوسطية هو التوجّه الغالب في التيار الإسلامي، ولا سيما على مستوى الممارسة.  وهذا لا ينفي وجود قصورٍ أو خلافٍ نظريّ في الفهم السياسي بين الحركات الإسلامية، غير أنه عندما تنفتح لها فرصة الممارسة نراها جميعاً تميل إلى البراغماتية لا إلى التشدّد، ولو كان في هذه البراغماتية هيامٌ نظري.  أما التصريحات المشكلة لبعض الوعّاظ، فإنها كذا، شطحات وعّاظ وفتاوى من ليس لهم معرفة في الحقل السياسي، ولقد بيّنتْ كثيرٌ من الدراسات أسباب ظاهرة التطرّف، فلا يصحّ تعميمها للدلالة على حقيقة المزاج الديني بين المسلمين.

وبغض النظر عن انطباعات الناس، ثمة وهمٌ قد يتطرّق إلى فهم مصطلح (تطبيق الشريعة).  ومن ذلك أنه قد يدعو الحركيين أن يحسبوا أنّ الشريعة (شيء) جاهزٌ ليس عليهم إلا (تطبيقه)، وأن المسألة هي بحث عن قولٍ في كتاب تراثي.  غير أن التحدّي هو في (تنزيل) النصوص على الواقع –بمعنى الانتقال من إطلاقية النص إلى خصوصية الحادثة- وفي فهم المناسبة وسبر الواقع لإجراء المطابقة بين الحُكم والواقع (تحقيق المناط).  كما ثمة من يحسب أنّ الشريعة هي مجرّد حزمة قوانين جامدة.

ولكن في هذا تضييقٌ لساحة الشريعة وانتقاصٌ من قدرها ودورها في الحياة.  فالشريعة هي رؤية كلّية لمبادئ خُلقية وتوصيات عملية في نسق حياة مجتمعات المسلمين، ولا يمكن اختزالها فيما نتج عنها من قوانين و أحكام في فترة ماضية من التاريخ.

ويزداد الإشكال عندما ينصرف الذهن إلى الدولة على أنها الحاضن الرئيس للشريعة.  فالسياسية المسلمة الراشدة لا تتدخّل في كثير من أنشطة الحياة وتتركها للمجتمع واختياراته الذاتية.  فمثلاً، ليس من المعقول أن تتدخّل السلطة السياسية في مسائل العبادات في الصلاة والصوم الحج.  وهل سمعنا مثلاً عن أي حكمٍ في تاريخنا المجيد قام بملاحقة الناس في شؤون صومهم أو في شؤون وضوئهم أو في صفة جمرات رميهم؟  وفي تاريخنا، كانت مسألة السلوك الشخصي والقيام بالعبادات من جملةِ مسيرة المجتمع، تحرسه الضوابط العُرفية ولا تتدخّل فيه السلطة السياسية إلا من باب (الحُسبة) في بيان الأصلح والأولى في تيسير الخيار المجتمعيّ، لا باب الفرض والقسر.  أما في مسألة الزكاة فللدولة دورٌ إداري، غير أنه ليس دوراً أصلياً لأنّ تأدية الزكاة فرضٌ فرديٌ يقوم به الناس طاعةً لما أمرهم به دينهم، وليس مجرّد انصياعٍ لسلطةٍ سياسية؛ ولو لم تــَجْـبِ السلطةُ السياسية الزكاةَ لما سقط حقّ تأديتها عن عنق الفرد.

ولقد كان حظّ الشريعة في مسائل الحُكم تقرير مبادئها العامة لا تفاصيلها.  فبما أنّ للترتيبات السياسية ارتباطاً كبيراً بالظروف الموضوعية للأقوام في مختلف الأصقاع والأزمنة، جاءت توجيهات الشريعة مقتضبة في هذا الصعيد؛ ولو كان فيها تفصيلٌ لحرم ذلك الشريعةَ من عالميّتها.  وتشمل مبادئ الشريعة في السياسة الشورى والعدل ورعاية المصالح العامة وما شابه ذلك من الهموم الكبرى، وتترك للمسلمين في مختلف عصورهم وظروفهم تقدير كيفية تنزيل هذه المبادئ على الواقع.  فـمبادئ الشريعة وكليّاتها هي الناظم للسياسة لإعطائها الوجهة الإسلامية.  وعلى مسلمي كلّ عصرٍ أن يجتهدوا في تفعيل هذه المبادئ وتحويلها من عالم المُثل إلى العالم التطبيقي في واقع الحياةكما يفتقر تطبيق الشريعة –في إطار الدولة- إلى المعرفةِ بوسائل تنظيمية و (خطط عمرانية) كما أطلق عليها ابن خلدون، اعتبرتها الشريعةُ من العاديات .

ويُساء فهم مصطلح (تطبيق الشريعة) حين يخلط الناس بين الشريعة والفقه، مما يعني أنهم يحاولون (تطبيق الفقه) لا الشريعة.  والشريعة هي الأصل، أما الفقه فلا يعدو أن يكون اجتهاداً بشرياً استمدّ رأيه من الشريعة.  وصحيحٌ أنه قام بهذا الاجتهاد علماء ذوو قدرٍ، لكنهم اجتهدوا وِسعهم في أمور زمانهم ومكانهم وظروفهم.  ولقد حذّر المجتهدون أنفسهم من تقليدهم تقليداً غير مستبصرٍ.  وهذا لا يعني عدم الاستئناس بالتراث الفقهي، وإنما أنه موضع تدبّر، فمادّة الفقه في مسائل السياسة مرهونةٌ ضرورةً بالظروف الموضوعية التي نشأ فيها.

وإنه إذا كان من أمّهات مسائل السياسة اليوم تأمين قوت الشعب في سياق منظومة عالمية استغلالية، وتأمين السكن لمدنٍ وبلدات يقطن فيها الملايين، وتأمين وسائل المواصلات والاتصال التي أصبحت حاجةً معاشيةً أكيدة، وإحكام الحماية العسكرية من الأعداء وسلاحهم المتطّور… فما عسى للمعرفة البشرية في الأزمنة الغابرة أن تمدّنا في هذه المجالات؟  ومرة ثانية، مبادئ الشريعة في السياسة هي التي لها علاقة بزمننا، وهي مبادئ عامة، وتقع المسؤولية على كل جيلٍ في الاجتهاد لتمثيلها في الواقع.

≈     ≈       ≈

إن ازدحام الساحة بالشعارات –ممن يستعملها بحسن نيةٍ أو ممن يراوغ فيها– يدعو إلى محاولة بيان مضمون الحُكم الإسلامي الرشيد الذي تضبط مبادئُ الشريعة وجهته.  وبذلك يكون مدخل مقاصد الشريعة هو المدخل القويم في الشأن السياسي.  ولقد تمّ اقتراح خمسة أبعادٍ مقاصدية للحُكم الراشد الذي (يطبّق الشريعة)؛ إنه ذاك الحُكم الذي يهتدي بالقيم العليا للإسلام محاولاً تحقيق خمسة شروط:

  1. يسعى إلى تحقيق العدالة في المجتمع.
  2. ويحرص على صيانة كرامة الأفراد (ذكرهم وأنثاهم) وحريات المجموعات بغض النظر عن الانتماء الديني أو القومي.
  3. ويتوجه نحو تأمين وحماية كفايات المعاش، على الصعيد الفردي والجماعي، قبل كماليتاتها.
  4. ويشجّع على الفضيلة ويضيّق على الرذيلة ويرفض الإكراه في مسائل الدين.
  5. ويحقّق أهدافه من خلال آليات التشاور والمشاركة والتمثيل والمحاسبة وضوابط القانون والعرف في جميع التشكيلات المجتمعية أدناها وأعلاها.

إنّ تصميم الأمة على القيام والنهوض، وقناعتها بضرورة الاستغناء عن الحلول المبسترة المستوردة، ورغبتها الأكيدة أن تعكس مؤسساتُ المجتمعِ الخصالَ والهوية الثقافية للأمة، يجعل من الضروري أن يكون واضحاً ما هو المقصود بحكمٍ له توجّه إسلامي وأن يتمّ استيعاب السيرورة العملية لهذا الحُكم استيعاباً يرفض الاكتفاء بالشعار.

مازن موفق هاشم

Tagged: , , , ,

2 thoughts on “إشكالية فهم مصطلح (تطبيق الشريعة)

  1. ايمن 2013/11/27 عند 12:44 م Reply

    جزاك الله خيرا

  2. Samir Twair 2013/11/30 عند 3:44 ص Reply

    EXCELLENT ARTICLE.THANK YOU.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: