ميلاد أمة-6: خاتمة

وبعد، فقد كتبتُ في موضوع يصعب أن ينجو المرء فيه من اللوم فيما فعل.  وليس هذا الذي يهمّني بقدر ما يهمني عدم إساءة الفهم.  ولقد بذلت جهداً أن تكون العبارات دقيقة، ولكن أنّى للعبارة ألا تخون قصد الكاتب، وأنّى لها أن تخاطب في آن حساسيّات كل أطياف القرّاء.  ويعرف الكُتّاب أنّ من يريد ألا يوجّه إليه أي انتقاد –ولو كان غير عادلٍ وفي غير مكانه- عليه أن يكفّ عن الكتابة ولا يتكلّم في موضوع ذي شأن.

وسوف يصِف الحداثيون المثاليون منطق الرسالة بأنه “طائفي” لأنه عالج مسألة الطائفية بلغة غير اعتذارية.  ولكن أفضل ما نقوم به من أجل السلم الأهلي في هذه المرحلة الحرجة هو عرض أفكارنا ومشاعرنا ومخاوفنا “على المكشوف” وبأدبٍ، لكن بدون مداورةٍ ولا كثير مداراة.  فثمة مشكلة طائفية في سورية لا شك، ولا بدّ من أن تواجهها المجموعات المختلفة من أجل أن تفهم آلام وآمال بعضها بعضاً.

وكأي تحليلٍ علمي فإنه يُـقدّم دقة العبارة على مراعاة مشاعر الناس، فالكتابة الجادّة ليست من نوعِ خطب المجاملة في العلاقات العامة.  وعلميّة أي معالجةٍ لا تعني أنها نهائية، بل يرِد فيها التعقيبُ والاستدراك.  ويمكن للكاتب أن يتحاور مع من يعقّب ويستدرك، غير أنه لا يوجد كثيرٌ من الفائدة في الحوار مع من يرفض مسلّمات طرحٍ ما.

مسلّمتان اثنتان شكّلتا ناظم التحليل في هذه الدراسة:

الأولى أنّ منطقة بلاد الشام وما حولها والمنطقة العربية عموماً تتمتّع بخلفية حضارية تاريخية مسلمة.  والفرض المستبطن هو أنّ هذه الخلفية هي ذات قيمة كبيرة بغضّ النظر عمّا يعتري التاريخ والتجربة البشرية من أخطاء.  والفرض المستصحب معها أنّ عامة الشعب السوري –وإن كان ليس كلّه– يحترم هذه الخلفية ويريد أن يعيش على نحو أو آخرٍ مستظلاً بظلالها.

المسلّمة الثانية هي أن الفلسفة الغربية للاجتماع لا تناسب مجتمعاتنا العربية المسلمة.  ولا يعني ذلك إجراء قطيعة مع التجربة العالمية، وإنما رفض نجاعة استيرادها على نحوٍ آليّ قسريّ.  ولا تعيش مجتمعاتنا العربية منقطعة عن تيارات الثقافة العالمية، بل تتفاعل مع معطى الحداثة وما زالت تنسج لنفسها من عناصر الحداثة ما تراه مناسباً.

ومن لا يقبل هاتين المسلّمتين –برغم كثرة الشواهد عليهما– سوف يصطدم مع كثيرٍ من تفاصيل الدراسة أو يحمّلها غير ما أُريدَ منها.

ويمكن لسوء الفهم أن يأتي من الطرفين، الموافق والمخالف.  ويحسن الانتباه إلى أنه جرى استعمال عبارة “الحضارة” لأن المعطيات الحضارية تكون عادة نتاج مجموع فرق المجتمع.  كما جرى استعمال عبارة الخلفية “المسلمة” وليس الإسلامية لكي يؤخذ البُعد الثقافي بالحسبان وما يضمّ من رحابة التأقلمات.  ويعني ذلك على الصعيد السياسي أنّ قيم الإسلام أو التاريخ الحضاري للإسلام يشكّل مخيالاً وطنياً لا يمكن تجاوزه.  وهذا بالضبط هو محلّ إشكالية الطروح النخبوية الأقلوية.  ومن جهة أخرى، لا تعني الإشارة إلى الخلفية الحضارية الإسلامية التي استبطنت الدراسةُ محوريّـتها أنّ كلّ أفراد الشعب السوري يعشق مجالس المشايخ وينصاع لآرائهم وفتاويهم، كما لا تعني أيضاً أنّ غالبية الشعب هي من صنف أعضاء الجماعات الإسلامية تلتزم بمعتقداتها الحركية أو نظامها التربوي.

وإذا أخذنا المسلَّمتين معاً، فلا يعود هناك معنى لأكثر اعتراضات الطرح العَلْماني.  والسبب الجوهري لعدم وجاهة الاعتراضات أنها تضع الخلفية الحضارية المسلمة ندّاً للتفاعل مع الحداثة وما آلت إليه أوضاع الاجتماع البشري، وتقدّس الرؤية الحداثية اللبرالية ولا تقبل تفنيد منطلقاتها.

ويدّعي الطرح الحداثي المحض أنّ استصحاب الهويّـات الدينية معناه تطييف المجتمع.  هذا واردٌ في الفهم المغلق للإسلام في بعض المؤلّفات المختصرة. ولكن أمهات الكتب في تراث المسلمين فيها رحابة لاستيعاب الآخر ما لا يدريه أصحاب الطرح الحداثي (وربما يغفل عنه بعض المسلمين أيضاً). ودع عنك ما في بطون الكتب، فالممارسة المسلمة على مرّ الدهور بدون استثناء شاهد على رفعة نظامها الاجتماعي التآلفي.

وعلى كل حال، ليس ثمة أي دليل على أنّ الطروح غير الدينية هي أقلّ تطييفاً.  فمثلاً، ليست القومية ببعيدة عن العنصرية إذا فُهمت على وجهها الأوروبي من الاجتماع وفق مفهوم دولة-شعب؛ ولذلك قلنا بمحورية العروبة بمعنى بُعدها الثقافي والذاكراتي وفي عمقها اللغوي، ورفضنا القومية العربية بالمعنى التعصّبي.

كما يدّعي الطرح الحداثي أنّ الدّين يدعو إلى انقسامات عمودية معقلها الهويات، مكان الانقسامات الأفقية التي تجري موازية للأحوال المعيشية للناس في مجتمعات الحداثة.  وفي هذا أيضاً قصورُ فهمٍ لواقع الحداثة واختلاف سيرورة نشأة مجتمعاتها، وفيه تسليمٌ بعالمية النموذج الأوروبي.  وذلك لأن النظرة المتفحّصة تظهر أنّ هنالك فروقاً كبيرةً في تطبيقات هذا النموذج، كما أنه لم تختفِ الانقسامات العمودية والفئوية في تلك المجتمعات، بل تضخّمت بالإضافة إلى حضور الانقسامات الطبقية والمصلحية.

وختاماً، ينبغي التأكيد على أنّ الارتباط الوجداني بالحضارة الإسلامية لا ينافي –بل يمكن أن يحفز- فكرة الاحتفاء برابطة الوطن والتعايش المشترك بين الفئات المختلفة للشعب، تعايش سلمي رحماوي.  كما أنّ استصحاب نسق الحضارة الإسلامية ليس فيه رفضٌ أصلي لتنظيم المجتمع وفق أساليب معاصرة ومؤسسات مدنية ثبتت نجاعتها، ولا يتعارض مع فكرة جريان القانون بالتساوي بغضّ النظر عن التصنيف المجتمعي؛ إذ يتحرّك العقد الوطني على صعيد الحياة والعيش الفعلي المشترك. وإن عالَم المخيال والدوافع والقيم يدخل حيّز السياسة من ناحية الوجهة وما يراد للآليات الديمقراطية أن تصل إليه، وليس من الناحية الفنّية للآلية السياسية.

Tagged: , , , ,

أضف تعليق