كيف أوصل نفسه إلى حتفه

ربما لا يختلف المراقبون أنّ نظام الحكم في سورية تتدهور قدراته وأنه وصل إلى وضع خطير ما ظنّ يوماً أنه يمكن أن يصل إليه.  واتبع النظام الحاكم في سورية استراتيجية ذات ثلاث أبعاد: تركيز قوة كافية في العاصمة السياسية والتحكّم عن بُعد بالعاصمة الاقتصادية، وعدم السماح بالخروج الكامل لأي منطقة من يده، وسحق المفاصل الاستراتيجية التي يمكن أن تكون نقطة بداية للانفراط.  غير أنّ هذه الاستراتيجية الثلاثية التي بدت معقولة في يوم من الأيام سرعان ما تآكلت ووقعت في التخبّط الداخلي.  وما يلي تحليل لمسيرة التراجع التي قادها التكبّر الفرعوني من جهة والصبر الشعبي من جهة أخرى.

كبت العاصمتين

تركيز القوى في دمشق مفهوم ولا يحتاج إلى شرح طويل، والمركزية الشديدة للحكم واستبداديته تؤكّد هذه الحاجة.  فالنظام الغاشم ركّز قوى القمع في العاصمة التي تمثّلها فروع للاستخبارات تجاوزت العشرة، وكتائب الجيش الموالية، كالفرقة الرابعة، بالإضافة إلى الحرس الجمهوري آخر الحصون وآمنها.  هذا إلى جانب فرق الجيش الأخرى التي يقودها أو يسيطر عليها ضباط الطائفة والمخابرات بآن.  ويضاف إلى ذلك أجهزة حزب البعث التي تعمل كقنوات لاستقطاب الفساد، وإلى جانب الفرع التنفيذي للحكومة من وزارات وإدارات التي تجمّعت فيها الدوافع النفعية وحاجة العيش في ضوء انسداد فرص العمل.  وهكذا تراكمت في العاصمة خلاصة عناصر السوء التي تساعد على الكبت.  ومثّلت العاصمة نموذجاً كلياً يجري طباعته طبق الأصل وعلى حجم مصغّر في الأماكن الأخرى، كاستطلات أخطبوط شرير يخنق أمة بكاملها.  وتدعّم الوجود الفيزيائي للنظام في دمشق بعشوائيات لعسكر الطائفة الموالية في مناطق قريبة من قصور الطغمة الحاكمة.  وفي حلب تهيّأت للنظام استناداتٌ محلية، إذ استطاع أن يلعب على التناقضات الموجودة في المدينة وجوارها، ويتحالف مع رؤوس أموالها كما فعل في دمشق، ويستغل تديّن الدروشة، ويعتمد على عصابات المهرّبين، بالإضافة إلى سلسلة سابغة من الفاعليات الاجتماعية.

غير أنّه يرافق التركيز على المدن الكبرى شعورٌ كاذبٌ بالسيطرة، فيُـزيَّن لمستبدِّ المركز أنّ كل أصقاع البلد راسخة رسوخ مركزه؛ وهذا ممكن في حال عدم اهتزاز الشرعية لا عند تآكلها.  كما لا يتصوّر النظام الاستئصالي إمكان استغناء الأطراف عن المركزين السياسي والاقتصادي،  وهذا عين الوهم وخاصة لنظام فاشلٍ مثل النظام السوري الذي لا يصل للأطراف من (خيراته) إلا قليل الخدمات وجمع الضرائب والتحكّم عن بُعد عن طريق العملاء المحليّين؛ بالإضافة إلى القمع عند اللزوم.

القمع الشامل لكل المناطق

البعد الثاني من الاستراتيجية هو إبقاء كل المناطق تحت لظى القمع، وعدم السماح لأي منها العيش بأمان بعيدة عنه.  وقد يقتضي المنطق في الحالة العادية أن يغضّ المركز عن منطقة ما إذا كانت هامشية ولم تكن عديدة السكان، أو ليست ذات ثقل اقتصادي أو ليست ذات موقع استراتيجي.  فمثل هذه المواقع لا تؤثر مباشرة على قيام النظام ولا تؤثر كثيراً في قوته لو غابت عن المشهد.

غير أنّ لأنظمة الطغيان والجبروت منطق آخر.  والطغمة الحاكمة تدرك أنّ إعطاء فرصة لأي بلدة أن تعيش مطمئنة بلا قمع يجعلها (تثور مدنياً)… أي ستنقدح فيها المظاهرات المناوئة للنظام الفاسد، وسيدير الناس أمورهم بأنفسهم، وسيستنشقون حرية غياب القمع برغم كل صعوبات الحياة، وهو ما حدث في الشهور الأولى للثورة…؛ إن مثل هذا التحرر المحلّي الذي لا يُسقط بذاته نظاماً عسكرياً  قمعياً يهزّ شرعية النظام هزاً قوياً.  فشرعية الأنظمة القمعية لا تستند إلى انتخاب أو تفويض  أو توافق شعبي، وإنما تستند إلى قدرتها على الإسكات بكل الوسائل وإلى كل الحدود بما في ذلك الموت تحت التعذيب.

أي أنه من ناحية عسكرية وفي مواجهة مقوامة وطنية مسلحة، يمكن نظرياً للنظام أن يتجاهل غياب سيطرته الكاملة على بعض المناطق غير المحورية، ولا سيمنا إذا كانت بعيدة وشبه معزولة؛ غير أنّ طبيعة انبناء شرعيته لا تسمح بهذا، مما يُترجم عملياً إلى استنزاف لقدرات النظام.  وهذا لا يختلف في جوهره عن استنزاف النظام قدراته في ملاحقة المخابرات للنشاطات المدنية التي لا تضرّه في ساعات الصفاء، ولكنه لا يحتمل وجودها ونمو نشاطها لانعدام الشرعية الطبيعية لحكمه.  وهكذا تشتّت قوات النظام في عرض البلاد.

ولم يكن لهذا الأمر إشكال في البداية حين كان بإمكان النظام إرسال قطع الجيش (العادية) إلى تلك المناطق.  ويمكننا أن نصف هذه القطع بأن عناصرها (عاديين) يعني أغلبهم ليسوا علويين وهم مثل غيرهم من وسطيّ الشعب لا يحبّون النظام ولكنهم ليسوا مهيئين لمواجهته؛ ويأتمر هؤلاء بأمر ضباطٍ موالين للحكم.  غير أنّه لجنون النظام وخسّته واستعماله القوة حقداً وانتقاماً لا ضبطاً وإمساكاً، جعل كثيراً من هؤلاء الـ (عاديين) يفكرون في الانشقاق؛ وفعلاً ازدادت وتيرة الانشقاق بين العسكريين.  وعندها صار النظام يخشى بعث القطع غير كاملة الولاء، واستبدل ذلك بالكتائب الموالية ينقلها من منطقة إلى أخرى لتعيث في الأرض الفساد وتقتل وتحرق.

وتطوّر الأمر في النهاية، وبسبب انهاك القوات الموالية وعدم كفايتها، إلى اعتماد القصف من بُعد.  وأصبح للنظام في كلّ أنحاء البلد مناطق إجرام محصّنة تقصف البلدات التي حولها.  ورغم كل الإضعاف في صفوف الشعب الذي يسبّبه هذا القصف، هو بذاته يخرج من هذه البلدات مقاتلين عقدوا العزم أن يموتوا دون كرامتهم وأموالهم وأن يشتركوا في معركة التحرير الوطني ضدّ ما أصبح الشعب يعتبره (استعمار داخلي).

واعتمدت خطة النظام الإبقاء على أقل قدرٍ ممكن من القوات في المناطق البعيدة، وتزويد القطعات القريبة منها بالذخائر لتقصف المدن والبلدات؛ وهذا القصف والقصف بالطائرات لا تتشتت به القوات.  وحيث أنه لا يكفي هذا الدرجة من التخريب، يبعث النظام كتائب شديدة الولاء للانتقام من المناطق الثائرة بين الحين والآخر.  قصف سكن المدنيين ومرافق حياتهم يجعل الحياة جحيماً ويستنزف الطاقات ويُفني الأرزاق المخزونة، وإن كان لا يضمن الحسم.  أمل النظام هو أنّ التدمير سوف يغيّر مواقف الحواضن الشعبية للثورة ويجعلها تقبل بالنظام بسبب الثمن الباهظ الذي يكلّفها الاصطفاف مع المقاومة المسلّحة.  وكان ممكناً لهذا العنصر من الخطة أن ينجح لو كان التدمير غير سابغٍ ومن نوع العقوبة العابرة؛ فالتمادي في خيارٍ يقلب أثره إلى العكس.

المناطق المفصلية

البُعد الثالث من استراتيجية النظام هو خنق المناطق المفصلية.  هذه المناطق قد لا تكون مهمة من ناحية حجمها السكاني أو من ناحية اقتصادها، ولكنها تشكّل عرىً استراتيجية إذا خرجت من قبضة النظام فستكون الموضع التي يبدأ انفراط العقد من ناحيته، ثم يتتابع الانفراط بمتوالية تزداد حجماً وقوة.  ومثّلت درعا وإدلب وحمص عقداً استراتيجية ثلاثة عاجلها النظام بمحاولة السيطرة التامة.

درعا البعيدة القريبة

درعا كانت أول هذه العقد.  وذلك لأن درعا كانت مهد الثورة الحقيقي وأحداثها هي التي قدحت الثورة، وكلّ ما كان قبلها هو أقرب للمهيّئات.  والمهيّئات ضرورية، ويمكن أن تتبّعها أياماً أو أشهراً قبل الحدث الفاصل، كما يمكن ربطها بتطورات لسنين خلت أو لعقود.  غليان قلوب شعبٍ يتطلّع للانعتاق من نظام بغيض انفجر في درعا، وحملت هذه المدينة على كاهلها عبأً ثقيلاً لشهرين متتابعين.  العنف وشدّة القمع التي استخدمها النظام مع هذه المنطقة كان له اعتبارات استراتيجية بحتة، بغض النظر عن قصد جعلها عبرة لمن يعتبر.  فخروج درعا من يد النظام معناه أنّ حوران كلها ستخرج، وسيمتدّ اللهيب ليصل إلى قريب من العاصمة.  وفعلاً شيئاً شبيهاً من هذا حصل، إذ تفلّتت كثير من بلدات أرض حوران –ولو جزئياً- من قبضة النظام، وكان النظام يعاودها باستمرار فيقمعها قمعاً شديداً.

ودرعا مدينة حدودية، والحدود دوماً تسمح بتواصل مع الخارج ليس سهلاً ضبطه.  وعندما نشأت المقاومة المسلحة، اعترك النظام مع الفرق الفعالة في مناطق الجنوب، وهذه الفرق اعتمدت أسلوب الكرّ والفرّ، ولم تقع في خطأ المواجهة المباشرة ومحاولة الإمساك بالأرض والإقامة بها كما حدث في مناطق أخرى.  ثمّ وجدت المقاومة أنّ طبيعة تضاريس المنطقة تفرض تحديات، وأنّ توجهها نحو دمشق ومناطق أخرى هو أكثر جدوى.  ومن وجهة نظر النظام، الإمساك بمناطق الجنوب مهم جداً، فصحيح أنّ الدولة المحاذية جنوباً لا يخوّلها وضعها المغامرةَ، لكن نظامها ليس حليفاً للنظام السوريّ، فالأردن بنظر عصابة دمشق لا يمكن أن يُركن إليه.

إدلب الخاصرة الخطيرة

وتمثّل إدلب العروة الاستراتيجية الثانية التي واجهها النظام بحملات عسكرية متتابعة بنية السحق الكامل، وكانت منطقة جبل الزاوية أول المناطق التي استعمل النظام ضدّها الطائرات الحربية.  وبالإضافة إلى الأثر السياديّ للتفريط بأي قطعة أرض، وهو الأمر الذي يقضم شرعية الحُكم، المنطقة التي تخرج من يد النظام خروجاً شبه كاملٍ وتصبح منطقة (محررة) سرعان ما تتحوّل إلى منطقة تعبئة للثوار.  فالثورة شعبيةٌ، والشعب يدعم ويناصر الثوار، وإن كان يصيبه الإرهاق أحياناً ويفكّر في الثمن الغالي الذي يُدفع.  وإدلب خاصرة استراتيجية من ناحية محاذاتها للحدود التركية ومن ناحية طبيعتها الجغرافية.  وهي أنسب من منطقة درعا لتكون مركزاً ثورياً دائم الاشتعال بسبب جغرافيتها وبسب بُعدها عن مركز العاصمة.  ومناطق إدلب متصلة مع مناطق حلب، وهناك تواصل سكاني بين ريفيها ومع المدينة بسبب الهجرات الداخلية للقوة العاملة.  فغليانٌ في إدلب يُترجم سخونة متعاظمة في المناطق المحيطة بحلب.

وعموماً، تركيز النظام على الشمال مفهوم من باب أنّ الدولة المحاذية من جهته لها رغبة في تغيير النظام، وإن كانت تريد أن تتحقّق شروط الاستقرار قبل حدوث هذا التغيير.  أما خروج المنطقة الغربية من يد النظام فغير متصور بسبب طبيعة التركيبة السكانية لقاطنيه.  خروج المنطقة الشرقية من قبضة النظام لا يهدّده مباشرة، وذلك لبُعد هذه المنطقة عن المركز وانعزالها النسبيّ عن غيرها من البلدات ببادية واسعة، ولأنّ جوارها الدولي من ناحية الشرق متعاطف مع النظام ولن يقدّم تسهيلاتٍ للثورة.  وربما نستطيع القول إنّ خروج الجبهة الشرقية تُقلق بغداد بقدر ما تُقلق الإدارة في دمشق.  ويغلب أنّ محاولة المحافظة على الشرق كانت بضغط من إيران، لكي لا تؤثر على معادلة توازن القوى في العراق.  وعلى كلّ حال، الاهتمام البالغ في الشرق شتّت قدرات النظام إلى حدٍّ ما.

حمص عقدة الوصل

منطقة حمص هي عقدة استراتيجية بامتياز.  فهي صلة الوصل مع شمال سورية، وهي بوابة المنطقة الساحلية التي يكثر فيها عدد الطائفة الموالية للنظام، وهي القريبة من الحدود اللبنانية الشمالية التي يقطنها سنّة متعاطفون مع الثورة السورية.  وربما هذا الذي يفسّر التركيز الكبير الذي أولاه النظام لحمص وجارتها الشمالية الرستن، إذ تقعان على خط الإمدادات نحو الشمال.  ولقد مثّلت حمص صعوداً استثنائياً للحراك المدني، وازاه صعود في نظيرتها الشمالية حماة، فشكّلا نموذجاً لعصيان مدني يُغري بالاقتداء، حيث امتزج الفنّ الشعبي مع الأدب مع الخطابة الحماسية مع التخطيط الدقيق مع التكاتف السكاني بالإضافة إلى التعالي عن الطائفية.  هذا الحراك الخلّاب كان لا بدّ أن يُقمع بشدة وبوحشية، وأن تُضرب فيما بعد حماياته المسلّحة باعتبار الموقع الاستراتيجي لحمص، وهو الذي يفسّر استمرار قصف ما دُمِّر وما هجره أهله.  وموقع الجوار الحمصي، بما في ذلك تلكلخ غرباً هو أيضاً استراتيجي لأن ما يليه مباشرة من جهة الساحل هو منطقة طرطوس الموالية للنظام بحكم تركيبتها السكانية.  بمعنى أن منطقة حمص هي حجر عثرة تنفتح بعدها الأرض على منطقة مساندة.  المنطقة الساحلية لها أهمية ذاتية كمدن وبلدات فيها علويون كثر وتوازي جبال العلويين، ولها أهمية أخرى لكونها خطّ إمدادٍ بديلٍ نحو الشمال وعبر طريق اللاذقية-حلب، ومدخلاً لمحاصرة إدلب أيضاً.  وأخيراً، الموقع المركزي لمنطقة حمص، بما في ذلك القصير وتلكلخ، هو استراتيجي أيضاً لقربه من الحدود اللبنانية التي كان يتسرّب منها سلاحٌ وذخيرة، وخاصة قبل توافر ذلك من الغنائم.

إبقاء الخط مفتوحاً إلى المنطقة الساحلية أمر حيوي جداً للنظام بغض النظر.  ففي الحقيقة ليس للنظام في الساحل دعم كامل، وإنما نموّ الحراك الثوري فيه صعب.  ويعرف النظام أنّه إذا انعزل الساحل وفقد موالوه فيه التواصل مع المركز في دمشق، فإنه يمكن أن يحدث في مدنه حراك ثوريّ مستقل يتغذّى على العوامل الداخلية من التعدّد الطائفي.  وفعلاً في المرحلة التي كان فيها الحراك السلمي ممكن، كانت الفاعليات الثورية هناك قوية، وهي الآن متربصة تنتظر الفرصة المناسبة فحسب.  والأهمية الخاصة للساحل تكمن أيضاً في أنّ النشاط الثوري فيه وانعزاله يحرم النظام من مكامن تجنيد شباب الطائفة العلوية ممن يُعتبرون موالين خُلَّص وموثوقين.  كما أنّ للساحل أهمية رمزية ومعاشية للقوات الموالية من النظام التي تقاتل بشراسة.  فعناصر هذه القوات وإن طالت معيشتُها لعقودٍ في محيطي دمشق وحمص، تنظر إلى قرى الساحل ومدنه إلى أنها الأمل المستقبلي؛ ولبعضهم فيها عوائل وأقارب وأصدقاء.  هذا ناهيك عن فكرةٍ رائجةٍ بين أفراد الطائفة في تشكيل دولة علوية في الساحل إذا ساء كثيراً مجرى الأحداث.  وأخيراً، فإن منطقة الساحل مهمة للنظام لأنّ فيها موانئ يمكن أن تزوّد بالسلاح الثقيل الذي لا يسهل نقله من لبنان أو من العراق لبعد المسافة ولطبيعة التضاريس ولإمكان التعرّض إلى قوافله.

التكبر الفرعوني

إنّ استراتيجية النظام –التي بدت يوماً محكمة- أفسدتها الخطط التي أُثقلت بالعمى الطائفي.  والاطمئنان إلى وعود القوى الدولية التي تعيش حالة إنكار للواقع ومخالفة للحسّ السليم زاد في غيّه.

فالتركيز على المناطق الشرقية البعيدة والتنكيل فيها شتّت قوة النظام، ولم يفلح في النهاية.  وتدريجياً أصبحت مناطق دير الزور شبه محررة، بما في ذلك المدينة الحدودية البوكمال؛ والقصف من بُعد لا يُرجع هذه المناطق ولا يجعلها في جعبة النظام.  وأرض حوران المهد الأول للثورة ما زالت على تصميمها، وبركانها الحارق لا يدع عين النظام الغاشم أن تغفو لحظة في سهولها.  ولقد مكّن الثبات المبكر لهذه المنطقة للثورة أن تتضاعف أحجامها.

والاستبسال في منطقة حمص عاصمة الثورة في وجه التصرفات الهمجية والانتقام النذل فوّت على النظام نجاح عنصر هام من خطته.  ولقد حملت حمص الثورة على كاهلها شهوراً، وثباتها مكّن للثورة في باقي الأماكن من أن تنضج وتكبر.

المقاومة في ريف إدلب، المتميز بجغرافيته، عجز النظام عن هزيمتها أيضاً.  أما مدينة حلب التي تأخّر فيها الحراك المدنيّ لأسباب معروفة، أدّت التصرفاتُ الخسيسة لعملاء النظام فيها إلى تفجرّ المدينة اللاحق بعد أن كُمد شهوراً.  وقد لعبت إدلب دوراً وظيفياً داعماً لحركة التحرير في ريف حلب ثم المدينة نفسها.

التعامل مع حلب بالتهديم الذي لم تسلم منه المناطق الأثرية، أزّم العلاقة بين أحيائها وبين ريفها ومدينتها، وحرق كل أوراق النظام فيها ووضع منطقة حلب في موضع اللاعودة.  وطبعاً، النظام عجز عن بعث قواتٍ أرضيةٍ كافية إلى حلب حفاظاً على تركيز قواته في دمشق وحمص ولسعة المدينة واحتياجها لأعدادٍ كبيرة من قطعات الجيش الموالية، ولعدم ثقته بباقي قطعات الجيش النظامي خشية انشقاقها عند الاقتراب من برّ أمان الحدود التركية.

وفي دمشق، حاول النظام في الشهور الأولى ضبط نزواته القمعية في التعامل معها.  والإمساك بدمشق اعتمد على إبقاء حجمٍ كبيرٍ جداً من قوات المخابرات والمرتزقة في الدائرة التقليدية للمدينة، بالإضافة إلى التجمعات العسكرية للجيش المحيطة بالمدينة.  ثم ما لبث أن انفلتت التصرفاتُ الهمجية للمرتزقة التي تركزت على أحياء المدينة الطرفية وعلى ما يسمى بالريف الدمشقي، فعمّقت الحراك الثوري في المنطقة كلّها.  وهل هناك نظام حكمٍ فيه بقية عقلٍ يقصف أحياء عاصمته، ولو كانت متطرفة، قصفاً بالطيران والمدافع؟

ويبدو أنّ النظام صدّق كذبته من أنّ دمشق موالية له وتجاهل الحراك الثوري المدني القوي من اليوم الأول.  كما امتازت دمشق بالتحامٍ نسبيٍّ بين ريفها ومدينتها؛ والتقسيم بين بلدات ريفها والمدينة هو اصطلاحيّ إداري أكثر من حقيقي، إلا من حيث عدد الأشجار الموجودة في كل منهما.  فالتواصل بينهما قائم بتقارب المسافات، وبتشارك المصالح المعيشية، وبالاعتماد المتبادل بينهما، وبسكنى أهل المدينة في الأطراف وأهل الريف في المدينة.  وما يسمى ريف دمشق متمدّن نسبياً من حيث تشكيلته البنيوية، وما كان يوماً يعتبر بلدة ريفية أصبح اليوم امتداداً للمدينة.  أضف إلى ذلك الدعم المالي والإغاثي الذي قدّمه مخزون العاصمة المالي للحراك الثوري وكونها معبر كثير من الحوالات النقدية، لندرك أنّ الصيت الذي أُذيع عن دمشق ضلّل رأي النظام والرأي العالمي على حدّ سواء.  وحراك منطقة دمشق الذي شكّل فيه الريف والأحياء المحيطة بالمدينة محركه القوي وجعل منها مخزوناً ثورياً متميزاً في اقتداره… هذا الحراك في عقر العاصمة وحواليها كان قاصماً باعتبار ما فيها من التركيز الأمني وما فيها من عناصر الطائفة العلوية الذي يقدّر عددهم بسبعة مئة ألف، بالإضفة إلى موالين من جميع المحافظات –ولو كانوا مجرّد منتفعين- ممن يعملون في سلك الدولة.

نعرف اليوم أنّ الاستراتيجية الثلاثية للنظام تخبّطت وفشلت بالنهاية.  فالشمال خرج عن السيطرة برغم ما يتلقّى من ضربات انتقامية، وكذا الشرق.  ومناطق جديدة في الرقة أيضاً خرجت من قبضة النظام، بالإضافة إلى مناطق في الحسكة ظنّ النظام أنها بيد أعوانه.  الجنوب على شفا بركان ينتظر اللحظة المناسبة، وقد شاهدنا نزره في تقدم كتائب المقاومة في حوران وسيطرتها على مناطق حدودية.  والمناطق الساحلية هادئة هدوء ما قبل العاصفة، تنتظر الوقت المناسب.  منطقة دمشق التي وضعَ النظامُ فيها كلّ ثقله شهدت منذ أيام اقتحام مطار مرج السلطان العسكري والمطار الاحتياطي وكتيبة الرادار في الغوطة الشرقية.

حمم الموت التي تلقيها قوات النظام الغاشم من الطائرات والمدافع على معظم مناطق سورية تزيد الألم ولا تحسم المعركة.  ووقع النظام في شرّ أعماله وارتدّ عليه عبث التنكيل.  نسأل الغفور الرحيم الذي لا يضيع عنده عمل عامل من ذكر أو أنثى أن يأذن بالفرج القريب.

مازن هاشم

   1/12/2012

Tagged: , , ,

One thought on “كيف أوصل نفسه إلى حتفه

  1. غير معروف 2012/12/03 عند 12:42 م Reply

    ما شاء الله. تحليل زكي وواعي للتفاصيل الدقيقة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: