بعد بلوغ سمعة المجلس الوطني الحضيض، ويمناسبة انتخاب ثاني رئيس له، شعرت أنه من المناسب التفكّر ببعض الأسباب التي ساهمت في عطالة المجلس وفي وصول صيته إلى ما وصل إليه.
ولا بدّ ابتداء التذكير بأن تأسيس المجلس كان بذاته إنجازاً مهماً. وما عليك إلا أن تتذكر طبيعة شعبنا حتى تدرك قيمة جمع الناس تحت لواء واحد. ويجري القول عادة أنّ (التصحر السياسي) هو وراء الانقسامات الكثيرة التي يشهدها الحراك السياسي. ولكني أعتقد خلاف ذلك، فالتشوّف السياسي والادعائية هي التي تقتبع خلف التشرذم. وتشتهر شكوى شكري القوتلي في هذا، ومثله ما كتب مصطفى السباعي عن كهلين درويشين من ركاب الباص يستعرضان آراءهما في السياسات الدولية. وإذ لا ينكر أثر ضعف الممارسة السياسية والمران عليها، إلا أن إبداعية الشعب السوري ونزعته الاستثمارية وثقته المفرطة بنفسه هي الشرط النفسي الذي يقف خلف التشرذم السياسي، إلى جانب ثقافة الدكاكين. والنظر في سلوك ساسة لبنان -حيث لا تصحّر سياسي- هناك يعطينا فكرة. ولأبيّن هذه النقطة وجّهت السؤال التالي في محاضرة لي مخاطباً الرجال خصوصاً: من منكم يعتقد أنه لا يصلح أن يكون رئيساً للمجلس الوطني؟ إنّ مجرد ظنّ جميع الحاضرين بأهليتهم لهذا المنصب فيه دلالة كافية.
غير أني في هذه العجالة سوف لا أركّز على الشروط النفسية والنزعة الثقافية، لأني أشعر أنه ينتج عن هذه الطريقة في المعالجة استسلام جبريّ يسترسل في التندّر ويصرف الأذهان عن التفكير في الحلول. وإنما سوف ألفت النظر إلى ممارسات ساهمتْ بشكل مباشر في الوصول إلى ما وصلنا إليه، وهي مما يمكن تغييره إذا أدركناها وتفحّصنا أوجهها.
مطالبة المجلس بما لا يُحسنه
للإنصاف علينا أن نذكّر أنفسنا بما أردنا أن يقوم به المجلس الوطني. ببساطة، أردناه أن يجعل الثورة تنتصر بشكل معجز. طولب المجلس بالقيام بأعباء لا يمكنه القيام بها، وعندما تبيّن عجزه غضبنا.
انصبّ اللوم على المجلس الوطني لتقصيره في العمل الإغاثي. ولكن هل سألنا أنفسنا إذا كان هذا هو هدف تأسيس المجلس! لو كان هذا هو الهدف لكان سهلاً إقامة هذا الجسم ولما احتجنا إلى مؤتمر ثم مؤتمر لإنقاذه ثم محاولة أخيرة نجحت في التجميع. وهل العمل الإغاثي يحتاج إلى تجميع أطياف العلمانيين مع أطياف الإسلاميين مع ما بينهما من توجّهات؟ بل إن تجميع هؤلاء الفرقاء المتشاكسين فيه إضرار لمشروع إغاثي محدّد الغاية. فهناك مؤسسات قائمة عندها خبرة بالعمل الإغاثي، ومطالبة المجلس بالقيام بهذا هو تكرير للجهود. وكما هو معلوم، جمع الأموال في الخارج أصبح يخضع لشروط قاسية، والمؤسسات الإغاثية الموجودة أثبتت شفافيتها واستوفت شروط حركتها. كما أننا نعرف أنّ الحافز الديني هو الأقوى في جمع التبرعات، فما حكمة جمع القومي والليبرالي واليساري في هذا العمل، وهل سينتهضون همم الناس بالحديث عن خصال صدام حسين و جمال عبد الناصر، أم مآثر مونتسكيه و روسو، أم فضائل كارل ماركس و الاتحاد السوفيتي؟!
ونعلم أنه لم يُسمح للمجلس الوطني بافتتاح حساب مصرفي حتى في تركية الديمقراطية الرأسمالية. وعندما كان يُفتتح حساب باسم فرد ويُكتشف من حركة المال أنه يُستخدم لتمويل الثورة يغلق مباشرة. ونعلم أنّ السماح بذلك لم يأت إلا بعد سنة من عمر الثورة بعد اجتماع الأصدقاء في تونس. أي أنه لم يسمح بتيسير نقل المال إلا عندما اتُخذ قرار المساعدة المالية الدولية. والمفارقة أنّ حجم الدعم المالي المطلوب ينوء به الأفراد ويستلزم مقدرة الدول، ولكن الدعم الدولي هو مساعدة وتحكّم بآن واحد. وعلى كل حال، وصلت خمستا ملايين من التبرعات الدولية، وتوقف الأمر بعد ذلك، وتمّ صرف أكثر هذا المبلغ على العمل الإغاثي.
لا يخفى أنّ كارثية الوضع الإنساني في سورية الثورة هي التي تدعو إلى التأكيد على الإغاثي، ويتحرّج الكاتب عندما يشير إلى ما أشرت إليه خشية إساءة الفهم بأنّ الإغاثي غير مهم. لا شك أنه مهم جداً، ولا شك أنه يجب أن تنبري له جهود كثيرة. كل الذي يُشار إليه هو أنّ المؤسسة التي تضطلع بالعمل الإغاثي ينبغي أن تكون مؤسسة مناسبة. والمؤسسة المناسبة هي غير السياسية لأن مطلبها إنساني عام، وهذا من شروط العمل الإغاثي. مهمة المجلس الوطني هي العمل السياسي، وهذا ما أدركه الحراك الثوري، والطلب من المجلس غير ذلك إشغال له عن أولى مهماته.
الاكتساب على حساب الثورة
شكاوى التقصير في العمل الإغاثي كانت تقترن بعض الأحيان بشائعات حو ل مال يتلاعب به المجلس الوطني. وتنتشر الشائعات في العالم الافتراضي بمثل العبارة التالية: “وصلني ممن أثق به أن أعضاء المجلس الوطني يتقاضون أجراً قدره… ويذكر ما يطيب له من أرقام”.
الواقع أنّ المجلس الوطني فقير، وهذه هي أحد مشاكله الرئيسية! نعم هو كذا كمؤسسة…
إنّ أهم مظاهر ضعف المجلس هو افتقاده لمالٍ يفي بالمهمات الملقاة على عاتقه، ولولا تبرعات من سوريين ميسورين، لما أمكن للمجلس أن يقوم بأي شيء مطلقاً. ويظهر أنه يغيب عن أذهان الناس أنّ أعضاء المجلس الوطني متفرقون بين قارات الأرض، ولا بدّ من اجتماعهم من أجل الفاعلية في التحرك، ولا بدّ من إقامة المؤتمرات واللقاء الشخصي بين الأعضاء لكي يتم الاتفاق على ألف أمر، ولا يغني في ذلك بريد الكتروني أو لقاء افتراضي. وأذكر أنّ أحدهم قال لي –مستنكراً- إنّ كلفة مؤتمر تونس في كانون الأول من سنة 2011 بلغت كذا، وذكر رقماً كبيراً. ولا أدري إذا كان الرقم صحيحاً، ولكن قمت بعملية حسابية بسيطة ضربت فيها عدد الحضور بكلفة بطاقة الطائرة والفندق، فكان المجموع رقماً كبيراً. وأذكر أنّ بعض من حضروا تحمّلوا نفقة السفر أنفسهم، وهم من أصحاب الدخول المتوسطة. ثم سمعت بعدها من يُعنّف المجلس الوطني لأنه لا يجتمع مراراً بكامل طاقمه، وتساءلت إذا كان يدرك كلفة الاجتماعات وحجم التهكّم الجاهز والتقييم السلبي المسبق. ولا مراء في أنّ صعوبة الاجتماع ساهمتْ في انفراد ثلّة صغيرة بالقرارات.
وتظهر إشكالية فقر المجلس الوطني في أمر محوري، ألا وهو وجوب تفرّغ أعضاء المكتب التنفيذي وأعضاء من الأمانة العامة. وإلى الآن ليس هناك متفرغين يموَّلون من داخل المجلس. وهل يمكن أن يستقيم العمل وليس لرئاسة المجلس من يقوم بالخدمات السكرتارية أو يجيب الهاتف أو من يقوم بالتدقيق اللغوي أو غير ذلك من الطواقم الداعمة؟ وهل هناك شك في الضرورة القصوى لمن يتفرّغ للقيام بالدراسات ورسم الخطط. وهل نرضى بعدم وجود ذلك في شركة تجارية، فكيف بأمر يتعلق بمصير شعب وأمة؟
فإذا سملّنا بضرورة الاحتياجات المذكورة، وغيرها كثير، أطرح السؤال الصعب: هل الأولى أن تصرف الأموال –حين تأتي- على النفقات الضرورية لقيام جسم سياسي أم على الإغاثة؟
بقي أن أذكّر بعبارات “سياسيو فنادق النجوم الخمسة” لأقول: أين يمكن أن يجتمع غرباء قادمون من عدة بلدان. للأسف، ليس في المجتمع الحديث مجالس ضيافة مجانية، ولا بد للناس أن تجتمع في قاعات الفنادق، والفنادق الصغيرة ليس عندها قاعات اجتماع. هناك قاعات معارض لا توحي بالفخامة، لكنها أعلى كلفة من قاعات الفنادق. أنا ضد أي سرف في النفقات وأمقته مقتاً شديداً، بما في ذلك درجة السفر بالطائرة إذا كانت من مال عام. وربما حصل بعض السرف، ولكن الشائعات المبالغ بها التي أسمعها لا تتطابق مع صورة الواقع التي استطعتُ تشكيلها. ولقد أكّد لي ثلاثة أعضاء بارزين في المجلس الوطني أنه إلى الآن ليس هناك فساد في نفقات المجلس، ويدعم صدقية قولهم أنهم من المعارضة داخل المجلس ومن الذين ينتقدونه نقداً قوياً ومن الذين لم يفوزوا بمنصب فيه. وبالمناسبة، المفروض أن المجلس الوطني تعاقد مع الشركة المحاسبية المشهورة (KPMG) للتدقيق في دفاتره، وكان هذا شرطاً لتسلم المساعدات منذ مؤتمر أصدقاء سورية في تونس.
وإلى الآن، لا يتقاضى أحد من أعضاء المجلس الوطني أجراً، فهل هذه علامة إيجابية أم مؤشر يدعو إلى القلق؟ إنّها لمشكلة تنظيمية حقاً، فالمسؤولية والمحاسبة والضبط تأتي مع التوظيف المقترن براتب وبمواصفات محددة للعمل. والتطوّع الفردي محلّ تقدير واحترام، أما الذين يُموَّلون من طرف كُتلهم الخاصة خارج المجلس الوطني فلا بدّ أن يدفعوا باتجاه أولويات كُتلهم؛ وهذا مما يساهم في صعوبة الوصول إلى القرارات.
سبّحة التدخل العسكري
من يظنّ أن الدول الاستعمارية، مثل الولايات المتحدة الأمريكة أو بريطانيا أو فرنسا، تقوم بمجهود حربي بناء على طلب النشطاء لا يفقه في السياسية الدولية شيئاً. ولم يقرأ التاريخ من يظنّ أنّ سياسات الدول التي توصف بالديمقراطية تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان.
ليس غريباً أن يصرخ الذي يأنّ تحت العذاب بطلب المعونة، ولكن العتب على الثلّة المثقفة في البلدان الغربية أن تحسب أنّ دعاية في صحيفة تُجبر الدولة على اتخاذ القرارات في السياسة الخارجية. أم أنّ دخول أروقة عواصم الدول الكبرى ولقاء مسؤوليها يخمر النشطاء بعبق السلطان؟ جملة الأمر أنه عندما تريد هذه الدول التدخّل انطلاقاً من أولوياتها الاستراتيجية وحسابات مصالحها، تحثّ المجموعات المدنية على الإشادة بهذا التدخّل والمساعدة في إدارته. فإذا تحلّى هؤلاء بالنّزاهة وسلامة الفهم السياسي، يكن دورهم إيجابي، على الأقل ليقطعوا الطريق على الانتهازيين؛ أي أنني لا أقصد أنّ أي حركة على مستوى عواصم الدول الكبرى هي حركة مرفوضة -وإن كانت معرضة للاستعياب- فالأمر يعتمد على النباهة السياسية وعمق الفهم. وهذا طبعاً بعد افتراض أنّ الشعب اعتبر التدخّل مقبولاً بناء على أنّ هناك التقاء بين المصلحة الوطنية ومصلحة الدول الداعمة.
والعجيب أنّ مسألة طلب التدخّل العسكري أصبحت كالفرقان بين المخلص للثورة والذي لا يكترث بها. ووصل الأمر ببعض الناس الإصرار على القول بطلب التدخّل ولو كنا نعرف أنّ الدول الغربية القادرة لن تتدخل! وأحد أسباب هذا المنطق الغريب هو تدليس بعض المتحدّثين الغربيين، وذلك لأنهم يتعلّلون بأنّ الممثلين السياسيين للثورة لا يطالبون بالتدخّل. ولكن ليس هذا الجواب إلا ذراً للرماد في العيون، مثله مثل التعلّل بالفيتو الروسي والصيني.
لن أطيل في عرض السجال المعروف في هذه النقطة، ولا شكّ أنّه عكّرت على فهم قضية التدخّل العسكري بعضُ الأطراف المراوغة التي يصبّ فحوى خطابها في مصلحة النظام. المهم في التحليل أن يشير إلى ما ترتّب على التعلّق الذهني والنفسي بإنقاذ دولي أكيد. الذي ترتّب عليه هو اضطراب أولويات الثورة. ودرجة التصعيد في المواجهة هي من أهم الأمور في إدارة المعارك. والأمل بتدخل عسكري وشيك أفسد التحكّم بخيارات الثورة ووسائل المقاومة، وصرف نظرها عن الحلول التي تعتمد على الذات. كما صرف النظر عن المطالبة بأنواع من الدعم اللوجستي التي يمكن تصور الاستجابة إليها. أقول ولم تنفع نصائح الغيورين من المتخصصين الذين لم يقصروا في التنبيه على خطورة ترتيب المسيرة الثورية وفق حساب التدخل العسكري. وهل لنا أن نتذكّر أن الإنجاز الفلسطيني حدث فقط بعدما صُرف النظر عن الدعم الدولي؟
الذي جرى في هذه المسألة أنّ الضغط الجماهيري البريء –المفهومة أسبابه- كان يدفع المتحرّكين السياسيين نحو حالة من (الفكر الجمعي الذهولي) وترديد حلم الوعد بالتدخّل. وأصبح قبول الخطاب السياسي مرتكزاً على الانضمام إلى جوقة التدخّل. وإعلامياً، أصبح سبّ النظام والخلاف حول التدخّل الأجنبي مضموناً متضخماً، يُلهي عن المضامين التي تُنضج العملية السياسية وتفيد الثورة فعلاً.
لامهنية الأداء
لائحة تقصير المجلس الوطني لائحة طويلة، ولم أجد عنواناً مناسباً لهذه الفقرة، إلا أن يكون طويلاً يستغرق صفحات. وكان اختياري لنقطة اللامهنية لأنها أنفع ما يجب الانتباه إليه، ولأنها مما يمكن تداركه؛ وإلا فما الفائدة في وصف الحال وكأنه قدر لا يمكن تغييره.
وقد يقول البعض إنّ سلوك بعض قيادات المجلس الوطني تميّزت بالأنانية وحبّ الزعامة. لا أشك في هذا. ولكن نعرف أنّ سياسـيي العالم كله عندهم نرجسية أيضاً، غير أنهم يتصرّفون بمهنية، وضوابط منظوماتهم السياسية تجبرهم على ذلك. فليلتفت نظرنا إذاً إلى السلوك الممكن تغييره.
لا بدّ للثورة من جسم سياسي ناضج، والأصل أن يكون كله مرتكزاً في الداخل، ولكن بسبب الظرف القمعي الهائل تضطر الثورات إلى جسم خارجي. وهناك ثلاثة مهمّات تتصدّر واجبات المجلس الوطني يُطلب أن يبلغ فيها مستوى مهنياً لائقاً، وسوف أشير إليها بعكس ترتيب أهميتها:
أولاً، بناء العلاقات الدولية ورعايتها. ولكن لنسأل أنفسنا، ما الذي يمكن أن تفعله معارضة ضعيفة عند اتصالها بالدول الكبرى؟ لا شيء يقوّي موقف المعارضة في سجالها مع الخارج مثل قوة الحراك الداخلي واستناد شرعية الخارج إلى الداخل. غير أنّ حراك الثورة رفع سقف المطالب إلى درجة قزّم فيها المجلس. وعلينا أن لا ننسى أنّ الدول الداعمة أو التي تنوي الدعم تحتاج المجلس كأداة تواصل مع الثورة، ولكنها تفضّل أن يكون ضعيفاً مهتزّاً كي لا يقوى على المفاوضة ويرضى بالفتات. وبسبب الانقسامات الداخلية الإيديولوجية والدكاكينية، وصل وضع المجلس إلى درجة مخزية أفقتده الاحترام، فاجتمع على المجلس ضغطان، ضغط من الخارج وآخر من الداخل، مما زاد في تخبّط حركته في محاولة إرضاء مختلف الأطراف. وإنه لمن الخطير أن تفوق الشرعيةُ الخارجية للمجلس شرعيتَه الداخلية.
ثانياً، تطوير الرؤى لمستقبل سورية. وهذا لن يتمّ بغير تفاهم الأضداد من قوميين وليبراليين ويساريين وإخوان مسلمين وإسلاميين غير منتمين ومسلمين محافظين. وتتقاطع مع هذه الفوارق انتماءات كردية وآشورية أو انتماءات دينية أو طائفية. فهل هناك شك في أنّ الوصول إلى قرار مع اختلاف المرجعيات الفكرية أمر شاق جداً؟ وهل هناك شك في أنه باعتبار التلوينة الإديولوجية لأعضاء المجلس لا بدّ من التوافق والوصول إلى نقطة وسط، من غير تجاوز الخطوط الحمراء، طبعاً؟ ويضمّ هذا دراسة نموذج الحكم المناسب لسورية، والتخطيط للتحديات الاقتصادية المقبلة، وكيفية التعامل مع المسائل القضائية لتحقيق العدل؛ فلا يمكن ترك مثل هذه القضايا المفصلية إلى ما بعد تغيير النظام.
ثالث المهمات هي تعاون المجلس الوطني مع الحراك في الداخل على رسم الخطط لحاضر الثورة ودعم مسيرتها وتعزيز فرص انتصارها وتمكين مستقبل البلد. وكان أداء المجلس الوطني في هذا البُعد شديد الضعف، وتجلّى ذلك في فرديّة اتخاذ القرارات وفي تضارب تصريحات مسؤولين بارزين فيه. كما تجلّت اللامهنية على نحو بارزٍ في تشكيل بعض الأفراد تنظيمات خاصة بهم. ومن أنواع ذلك أيضاً التمويل الخاص لفصائل في الثورة؛ والتمويل الخاص يُمكن أن ينظر إليه سبباً في تأخّر تبلور المجلس أو نتيجة عنه، فالحاجة الماسّـة للمال في الداخل لا يمكن أن تنتظر مأسـسـة المجلس التي بدت مستعصية. ولم يستطع المجلس الجزم في أمور فاصلة، سواء أكانت مسألة الاتفاق مع هيئة التنسيق أو في موقفه من الجيش الحر. ويظهر قصور التخطيط وضبابية الرؤية في الموقف من أنواع المقاومة، سلمية أكانت أو مسلحة. فإذا كان المجلس –مثلاً- يدعم فكرة العصيان المدني، فهل قام بالتخطيط لما يلزمه من تهييء ودعم. مسألة دعم المقاومة المسلحة أكثر تعقيداً وتخضع لاعتبارات كثيرة منها دولي. ولا يخفى أنّ المقاومة المسلحة يجب أن تنتظم بالكلية تحت سلطة مدنية تتحلّى بشرعية كاملة. وللأسف، لم ينضج المجلس كجهاز إداري ولم يكتسب الشرعية الكافية ليكون على مستوى هذه المهمة الخطيرة.
ويمكننا أن ندرج مهمّة رابعة، ألا وهي المهمّة الإعلامية. وكان تقصير المجلس الوطني في هذا فاضحاً، وخاصة بما يتعلق بتواصله مع الثورة التي يمثلها. وبيانات المجلس تصدر بين الفينة والأخرى كمن استفاق من غيبوية. ومرة ثانية، لا شيء يُفسّر هذا إلا غياب المهنية. فلا استطاع المجلس أن يُقنع الناس بتوجّهه، ولا أن يبيّن وجهة نظره، ولا أن يُعلم الناس ببعض إنجازاته. وطبعاً المهمّة الإعلامية هي جزء من المعركة.
* * *
إنّ لائحة اتهامات المجلس الوطني طويلة. ولقد تميّزت تصرفات بعض أعضائه بأنانية شديدة، وتميّزت أخرى بعدم وجود الخبرة. ولا يفوت الناظر في أمر المجلس ملاحظة أنّ أداء المعارضة التقليدية كان الأكثر سوءاً، بغض النظر عن انتمائها الإديولوجي. ولقد آثرتُ أن أُفرد ذكر اللامهنية كعلّة كبرى لأنها هي الوجه الممكن تحسينه.
المجلس بحاجة إلى عملية إصلاح جذرية. وبرأيي، لا يتمّ هذا بغير تصغير حجمه. ولا يتمّ أيضاً إلا بأعفاء كلّ أعضاء المكتب التنفيذي من مهامهم. ثم يُشرع بعدها بالتفكير بهيكلية جديدة والجميع متساوون على صعيد واحد؛ ويحتاج التفصيل في هذا إلى دراسة مستقلّة.
وأخيراً أنبّه القارئ إلى أني لست عضواً في المجلس الوطني، وإني كباحثٍ آخر من يدافع عن مؤسسة، وخاصة إذا كانت مؤسسة سياسية. وكانت قناعتي باحتياج الثورة إلى ذراعٍ سياسيٍ هي ما دعتني إلى الكتابة في ذلك على وجه يحلّل العوامل التي أحالت المجلس إلى جسم عاجز يقصّر في حقّ الثورة بشكل مشين.
فهل اتضح كيف جرى خذلان ثورتنا؟ لا أحد غيرنا -نحن الشعب السوري- خذل الثورة بالنميمة واللامهنية واعتباطية الفهم السياسي والاستقطاب الفئوي البعيد عن روح الثورة. وكلّها مما يمكن الشفاء منها إن أردنا. ولا بدّ لنا من إيقاف مسيرة التدهور السياسي والارتفاع إلى مستوى المهمة: قد هيئوك لأمر لو فطنت له ***** فاربأ بنفسك أن ترعى مـع الهمـل
نسألك ربنا السداد في الفهم والحكمة في القرار.
Tagged: المجلس الوطني السوري, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
اترك تعليقًا