ملاحظات تجاه مفهوم اللاعنف في السياق السوري

12/4/2012

مفهوم السلمية أو اللاعنف يمكن أن يعالج على مستويين، مستوى المبدأ من حيث محتواه الأخلاقي، ومستوى الوسيلة من حيث نجاعة العمل.

السلم ضمن المفهوم الأول أمر أحسب أنه مضمر في توجيهات الإسلام، كما أن تشريعاته تدفع نحو ذلك.  وعلى أعلى مستويات التجريد، نجد فلسفة الإسلام تطرح رؤية رفق وتعايش مع الكون، ورؤية تعارف بين الإنسان وأخيه الإنسان.  فالكون مخلوق وهو محلّ سير وتفكّر، والإنسان مستخلف ومهمته الإصلاح ومنع الفساد، وتوجيهات الشريعة تدعو إلى الصفح والدفع بالتي هي أحسن.  وهذه الرؤية ينبغي أن تؤطِّر تفصيلات توجيهات الشريعة، سواء على صعيد السلوك الفردي أو التنظيم الاجتماعي أو التعامل مع الآخر أو النشاط الاقتصادي واستدرار الأرزاق المكنونة (يعني عالم المادة).  وفي كل ذلك تقف الرؤية الإسلامية قبالة الرؤى الحداثية التي تستبطن مبدأ الصراع والسيطرة في كل وجه من الوجوه التي ذكرتها.

ومن هذا المنظور وعلى هذا المستوى التجريدي، اتفق مع ما كتبه الأخ نورس وأثْني على تعالي النفس عما يشدّها إلى طينتها وعلى رفض الفكر للتشيطن.

أما مفهوم السلمية أو اللاعنف على صعيد دوره في التغيير، فلي ملاحظات أوردها باختصار.

مدخل المقاومة المدنية هو الذي أعتبره صحيحاً.  وهو الأسلم والأقل كلفة وأقل تضحيات أثناء عملية التغيير وبعدها.  والمبدأ الذي يقول إنّ الخلاف داخل المجتمع الواحد علاجه السجال ومسالكه السياسية ولا يصحّ فيه استعمال استخدام السلاح والقتل يبدو لي مبدأ حكيماً.  غير إنه كأي مبدأ عام، تنزيله على الواقع يحتاج مراعاة هذا الواقع والتأكّد من أنّ النظرية تنطبق على الحالة وتناسبها.

وابتداء علينا أن نذكّر أنفسنا أنّ المقاومة اللاعنفية وتكتيكات (اللاتعاون) هي وسائل إكراهية يُقصد منها فرض التغيير وإنفاذه رغماً على الأنف، ويجري فيها التخطيط والمخاطرة والمواجهة والكرّ والفرّ واستنزاف قوة الآخر والحيلولة بينه وبين مكامن قدراته وتجريده من مكانته الرمزية.  أي أنه ليس من الدقيق تسميتها لاعنف، إذا استحضرنا المعنى الواسع للعنف.  وهذه الوسائل لا تمثل موقفاً تخاذلياً انسحابياً رافضاً لفكرة التدافع، كما أنها لا تعني ولا تتطابق مع موقف (تضحية الإشهاد)، أي التضحية من أجل إثبات المبدأ وتملّكه المنصة الأخلاقية.

بعد هذا الإيضاح أسرد احترازات على ما كُتب وأخصّ بعضه بالحالة السورية.

أشكّ بسلامة بعض التعميمات -وخصوصاً- النسب الرقمية المذكورة.  وإني لم أقرأ المراجع التي أحال إليها الكاتب فلا أستطيع تقييم محتواها إلا بما أشار إليه الأخ الكريم.  ومن ناحية علمية بحتة، يمكن أن يقال إنّ الثورات التي فشلت كانت ستفشل على كل حال بغض النظر عن الأسلوب.  وتحليل تجارب التغيير تستدعي معالجة مجموعة ليست صغيرة من المتحولات.  والمعضلة التي تذكرها منهجياتُ هذا العلم هو بالضبط مدى إمكانية المقارنة.  أي كيف تضبط كلّ المتحولات إلا واحداً فقط وتتركه يتغير لتراقب أثره (كما يجري عمله في التجارب المخبرية).  هذا أمر مستحيل في دراسة التجارب التاريخية.

كما أنّ حالات التغيير شديدة الارتباط بالسياق.  وإذا أخذنا ثورات الربيع العربي مثالاً، فلا شكّ بوجود كثير من أوجه التشابه بينها، لا أقلّها الخلفية الثقافية لشعوبها وتجربتها مع الاستعمار والواقع الاستبدادي التي ثارت عليه والسبب الدفين للثورة.  غير أنه برغم ذلك، تكاد كلّ تجربة من الثورات الأربع (تونس ومصر وليبية واليمن) تمثّل حالة فريدة.  وطبعاً، هذا لا يمنع أبداً عن البحث عن نواظم عامة؛ بل محاولة تحديد سنن مطّردة عمل راجح، له قيمة كبيرة وفائدة عظيمة.  كل المطلوب هو أنّ تطبيق المبدأ العام على الحالة الخاصة يحتاج دقة كبيرة.

وإذا كنا نتحدث عن التغيير فهو مصطلح واسع المعنى ويشمل طيفاً واسعاً من الدرجات؛ أي يرد السؤال عن ماهية التغيير الحاصل.  وإذا كنا نناقش نجاح الثورة، فما هو المقياس الذي يحدّد نجاحها.  فهل نجحت ثورة مصر وإلى أي درجة؟  وهل نجحت ثورة اليمن وإلى أي درجة، وإلى أي درجة نجحت كلاً من ليبية وتونس؟

وإني لأتفق مع الأخ الكاتب على كثير من ملاحظاته المحزنة حول واقع الثورة، وعلى رأس ذلك ضعف القيادة السياسية (المجلس الوطني) والنزاعات الإيديولوجية فيه.  ولعله يصحّ أن يقال أنّ نصف هذه المشكلة هي من القاعدة الجماهيرية وليس كلها من النخبة السياسية فحسب، وليست تشكيلة المجلس الوطني إلا انعكاساً عن طبيعة التركيبة السياسية السورية.  التعلّق بالمطالبة بالتدخل العسكري الخارجي مفهوم عندما نعتبر العسف الإجراميّ للنظام، ولكن هذا لا يغيّر من كونه موقفاً عاطفياً.  وعلينا أن نعترف أن المجلس الوطني اعترك مع هذا –جزئياً- بسبب ضغط الداخل والحراك الثوري.  ولا يعني هذا أن المدنيين لا يستحقون الحماية بأي وسيلة، وإنما لأن الإشارات الموضوعية تؤكد على نحو قاطع عدم نية التدخل العسكري المباشر في ذاك الوقت، فلما تضييع الوقت بالأماني.  ولا شكّ في أن ذلك الأمل أضرّ بالثورة أشهراً طوالاً وعبث بأولويات حركتها، وربما جعلها تخطئ في درجات التصعيد.  إعلام الثورة –برغم إبداعاته- لم يستطع أن يتطور ليصبح إعلام إنضاجٍ للوعي الجمعي للثورة، ولم يستطع تجاوز عتبة التعريف بالثورة والصدح بآلامها.  وأتفق مع مقتضى طرح الكاتب من أنّ الحراك السلمي في دمشق (وأماكن أخرى) ربما يتضاءل أو يعجز عن استمرار النمو بسبب استخدام السلاح.

وبشكل عام، وضع الثورات في كل العالم يعكس إشكالية كبرى، وهي دور العمق الثقافي عند الشعوب في رسم حاضرها ومستقبلها.  وبتحديد أكبر، الحركيون في الثورة يأخذهم الاستعجال ويعتمدون مبدأ حرق المراحل.  وبالنسبة للثورة السورية ربما يصح القول إن التقصير في اتخاذ الأسباب جرى في كلٍّ من محاولة تطبيق الوسائل السلمية ووسائل القوة العسكرية،؛ ففي كل منهما كان هناك تعجّل وعدم استيفاء للشروط.

ولكن وإن سلّمنا بوجود التقصيرات، هل كانت هذه الثلمات منفصلة عن الإجرام الساديّ للنظام؟  ألم يصل القمع درجة لا يتحمّلها بشر، وألم تصل الإهانة إلى درجة تعذر المرء فيما يفعل؟  ألم يتسبّب عسف النظام بحرمان الثورة من طبقة ريادة عندها خبرات لا يمتلكها وسطي الشارع الثوري؟  فهل يصحّ إذاً أن نلوم الشعب المسكين في هذه الحالة؟

وعلينا الاعتراف بأنه لا يمكننا الجزم بأنّ طريق اللاعنف كان سيُكلّل بالنجاح لو اتُبع.  وقد يقال، إذاً على الأقل كان هناك عجز عن الوصول إلى الهدف من غير أن يكون باهظ الثمن.  ولكن سلوك النظام حاصر هذا الخيار من اليوم الأول، فكان لا بدّ للمزاج الشعبي أن يتطور ويتشكّل على غير ذلك.  فالضمير الشعبي مستعدّ لتقديم تضحيات هائلة –وقد قدّم ذلك- من أجل التغيير.  أي أنه راضٍ أن يجرّب أي وسيلة للخلاص، ولو كان ثمن ذلك مرتفعاً جداً.

ثمة فكرة (لم ترد في مقالة الأخ نورس ولكن لها علاقة بموضعنا) تشترط سلامة الخروج بالسلاح بكون النظام السياسي غير شرعي.  وينبغي أن يكون واضحاً أنّ النظام الحاكم في سورية (منذ 1963) لم يتمتع يوماً بشرعية أعمق من التهديد بالبطش وشراء الضمائر.  وإذا كنّا نشترط القبول بقوة السلاح بعدم حيازة الدولة على شخصية اعتبارية معترفٍ بها عالمياً، فهذا الاعتبار مشكل من ناحية التصوّر الإسلامي الذي يجعل المجتمع هو المرجع، خلافاً للتصور الحداثي الذي وثَّن الدولة.  وعلى كل حال، لم يعُد لمعنى شرعية الدولة وسيادتها الوزن نفسه في سياق العولمة.

وكذلك يمكننا القول إنّ الشعب قد أسقط النظام داخلياً بحركة سلمية لاعنفية تألّقت فيها التضحياتُ على نحو رفيع كُتبت في صحائف التاريخ بأحرفٍ من نور…  وإذاً يمكننا القول إنّ تحدّي الثورة فيما بقي هو استنقاذ البلد من قبضة أعداء خارجيين لهم حلفاء في الداخل.  وطبعاً، هذه الفكرة يمكن أن يساء فهمها فينجرف التقييم ليخوّن من هم في الساحة الرمادية ويضعهم في خانة الأعداء.  ولكنها من باب اعتبار الفاعليات الجيوسياسية أمر راجح، واعتبار هذا البعد هو جزء من اكتمال التفكير السنني.  أي إذا سلّمنا بأنّ المقاومة العنفية تصحّ فقط في حال الاعتداء الخارجي ولا تصحّ في الخلاف السياسي الداخلي في المجتمع، يجري التساؤل فيما إذا كانت الحالة السورية هي كذلك أم أنها تقترب من حالة الاعتداء الخارجي.  طبيعة القمع والتخريب التي يمارسه النظام جعلته أشبه بعدو خارجي محتل، برغم مشكلة عدم التمايز الواضح للصفوف.

الأهم من كل ما سبق السؤال التالي: ما هو دور المثقف في هذا الحال؟  أوافق الكاتب في قوله إنّ “اختباء المثقّف خلف آلام الناس لا يعفيه من مسؤوليته التاريخية المتمثّلة في إظهار البصيرة والتعقّل والحكمة في ساعة الغضب والكرب”.  جوابي يكمن في سؤال آخر: إذا تطور الواقع إلى حالٍ جديد، أليس من واجب المثقف مواكبة ذلك الحال؟  إنّ إعراض المثقّف عن اعتبار الواقع، بغض النظر عما يراه من أخطاء أوصلت إلى هذا الواقع الجديد، يُضعف انتماءه العضوي للمجتمع الذي يحرص عليه.  مهمّة المثقّف الملتزم مواكبة حال المجتمع.  ولا يجوز ترك نصيحة الثورة بما له علاقة بالواقع، ولو أعرضت الثورة وزهدت بالنصائح الأولى.  ولا أحسب أنّ نصيحة الفرق التي تسلّحت برمي السلاح أمر معقول، فهو خيار قد حسم، وله مببرات كافية، ولا سيما عند أخذ التخاذل الدولي بعين الاعتبار.  كلّ الذي نرجوه الآن هو أن تتابع الثورة –بمجمل فاعلياتها- السير بخطين متوازيين رغم ما بين الطريقتين من تناقض.  ولا بديل عن إنضاج العملية السياسية، ولا بدّ من أن يتمّ ضبط عملية استعمال السلاح وأن نحمي أهله من التلاعب الخارجي به.  لقد دخلت في معادلة الصراع عوامل جديدة، شئنا أم أبينا، وعلى المثقّف التعامل معها بمسؤولية.  وإنه برغم كل الأخطار التي انفتحت على مستقبل الثورة في هذه الأيام، هناك أخطار أخرى تجعل الناتج النهائي أسوء إذا عجز المثقّف –ثانيةً- عن مخاطبة الواقع وإقناع أهله.

إنّ توضيح نظريةٍ يرى أصحابها أنه أسيئ فهمها –تبرئةً للذمة- أمر مشروع، ولكن ينبغي أن لا يجرّ إلى التلاوم، فهناك واجب الوقت المتمثّل في إكمال صيرورة النصح على نحوٍ له لصوقية بالواقع بدون ترفّع عما نكرهه ولو كنّا على صواب تام.  ليس على المثقف المؤمن بفكرة اللاعنف أن يغير ما يعتقد بصوابه، وإنما أن يفكر فيما إذا ما زال له دور في نصيحة الثورة ليس فيه لوم أو وعظ.

مازن موفق هاشم
المقال الذي جرى عليه التعقيب هو: الخيار الذي لم يجرب بعد!! الثورة السورية بين العسكرة والسلمية  – نورس مجيد

Tagged: , , ,

أضف تعليق