يستدعي الجواب علىٰ سؤال الثورة السورية لعام 2024 تمحيصاً في جوانب المسألة، ولا سيما في سياق تكاثر التحليلات الشاكّة التي أصبحت تملأ العالم الافتراضي.
والنقاش يستلزم استدعاء نقاطٍ منهجية في التحليل وقواعد أصولية في أوزان الأدلّة. فلا يخفىٰ في تحليل المشهد الذي نحن بصدده من كثرة الشواهد (والتي ينبغي أن نحكّم فيها قواعد قبول الخبر). فدعنا نفكّر بما هو كلِّي في المسألة وما هو جزئي، بحيث نؤطِّر الجزئي بالكلّي. إن عدم ضبط علاقة الجزئي بالكلي هو سبب الاعتراك في فهم تاريخنا وواقعنا الحالي علىٰ حدّ سواء.
أنساق في السّلوك السياسي
دعنا ابتداءً نستذكر أنساقاً مطّردة في السلوك السياسي:
(1) الظروف الاستثنائية تولّد ردود فعلٍ استثنائية.
(2) اختراق الحركات العنفية أمر مطّرد.
(3) انفصال الحركة عن الأمة يعزّز الخصال الخارجية (=الخوارجية) فكراً وسلوكاً.
(4) الاضطلاع بمهام خدمة الأمة وإدارتها وادّعاء ذلك يدفع تدريجياً باتجاه الاعتدال.
(5) الانفراد بالحُكم ديدن المتغلِّب المنقِذ (وبقدر ما يكون الإنقاذ بطولياً وغير متوقعٍ يزداد دافع التفرّد عند الغالب ويزداد تقبّل التغلّب عند مَن جرىٰ تحريره).
وتفيدنا النقاط أعلاه بالتفريق بين داعش والقاعدة، حيث يمكن توظيف الأولىٰ ضدّ مصالح الأمة في حين ينحصر إمكان توظيف الثانية في مهمّة معينة بدت مشتركة؛ وهذا ممّا يمهّد لفهم “هيئة التحرير” المكروهة حتىٰ من الفصائل المسلّحة الأخرىٰ والتي لم تجد في النهاية بداً من التعاون معها والانخراط تحتها في عملية التحرير.
الواقع السياسي الإداري
دعنا نلتفت للواقع ونستذكر بعض ما عليه شواهد معروفة في الواقع السوري بما فيه الشمال المحرَّر:
- العجز الإداري وقلّة الخبرة سمة غالبة
- الثقافة السياسة للشعب ثقافة غير ناضجة وغير واقعية، تعلو فيها الشخصنة والنظرة الضيقة للمصالح
- الاقتتال الفصائلي وقيام الهيئة بانتهاكات
- إخفاق البيروقراطية التركية في توجيه الحكومة المؤقتة
- النجاح الأكبر للمنطقة الغربية من المحرَّر تحت سلطة الهيئة
- النضوج المتدرّج للاحتياجات الأوسع للمواجهة (يعني ممّا يتجاوز الحالة القتالية، حيث إن الجهوزية ليست منفصلة بالتمام عن البيئة السكانية التي تعيش فيها الفصائل)
- الدفع التركي المستمرّ نحو التطبيع المدني للشمال، باستثناء قوّة يمكن توظيفها ضدّ التمرّد الكردي.
إذا كان لاعبو السياسة الرسمية من السوريين في الخارج علىٰ ضربين: (أ) ضرب مُستوعَب جرىٰ شراؤه أو تخدّر ضميره يتحرّك في غيبوية الأحلام البراغماتية. (ب) ضربٌ أسكرته المواصفات الفنّية المِهنية في أصول السياسة، بحيث غفل أن ما يصلح للحال المستقرّ لا يصلح لعملية التغيير والتحرير (ناهيك بأن ما يبجّله من أدبيات الديمقراطية ووسائلها له خصوصية ثقافية وتاريخية، وأنه أصبح في بلاده متقدّداً لا يصلح لحلّ أزماتهم فكيف بغيرهم)…؛ إذا كان هذا، فإنه –من ناحية مقابلة– هناك لاعبو سياسة في الداخل يعيشون حال التوتّر بين العرش والمقصلة.
أكثر الذي ذُكر أعلاه أنساق عامّة مشهودة، ويمكننا الآن الانتباه إلىٰ تفصيلات مهمة.
لم تتوقف أنقرة عن محاولة الاستفادة من الفصائل في الشمال، واحتارت في ذلك وتاهت بسببٍ من جهتها وبسببٍ من جانب زئبقية الفصائل، سواء كانت زئبقية شطارةٍ أو زئبقية اعتباط. ومعلوم أنّ المعيار الأول عند أنقرة ليس تقىٰ الفصائل أو التزامها الوطني (بغض النظر عن تعريف معنىٰ الالتزام وتحدده)، وإنما المعيار هو القدرة علىٰ الضبط (ضبط الفصيل لصفوفه) والقابلية للانصياع للأوامر والتوجيهات. ولذا كان خيار أنقرة هو الفصائل غير الهيئة، وكانت في حيرة من أمرها في التعامل مع الهيئة. ولا يخفىٰ أن إضعاف الهيئة لم يكن خياراً راجحاً لأنقرة، سواء من ناحية تهديد الفوضىٰ أو الهجرات أو زيادة ولوج النظام السوري في المساحات التي تسيطر عليها. ولكن وجدت أنقرة –في النهاية– أن هيئة تحرير الشام– هي الأكثر انتظاماً وضبطاً، وقرّرت اعتمادها برغم أنها مدرجة منظمةً إرهابية.
القوىٰ الخارجية
الوجود الروسي في الشمال الغربي والإطلالة الساحلية مسألة استراتيجية كبرىٰ هي حلمٌ منذ عهد القياصرة. وهذا يدعو إلىٰ اعتبار التحركات فيه (تخفيف عدد|تغيير مواقع) أنها تكتيك اضطراري في ساعة حرجة، ولها علاقة بأزمة روسيا في أكرانيا؛ أي أن التحركات ليست دعماً للثورة ولا خذلاناً للنظام.
الوجود الأمريكي في سورية ليس متجذّراً مقارنة بالروسي، وهذا ممّا يشكو منه الخبراء الأمريكيين والمستشارين؛ فيساهم في تحديد مدىٰ نفوذهم وطبيعته. هذا لا يعني أنه ليس عند الولايات المتحدة أية نفوذ (وإغراء الدولار ليس لن نظير) أو أنه ليس لهم جواسيس. ولا يخفىٰ أن مسألة التجسّس بوجود التقنيات العالية أصبحت يسيرة (وعمّت رواياتٌ بأنه لا تلتزم الفصائل بأدنىٰ درجات السلامة الالكترونية). غير أنه ليس أحداً من المتابعين للشأن الأمريكي في سورية إلا ويدرك أن واشنطن تفضّل التعامل مع سورية عن بُعدٍ وتحدّد انخراطها المباشر إلىٰ أدنىٰ مستوىٰ ممكن وأن تعتمد الوكلاء.
ثمَّ إن طريقة عمل القوىٰ الخارجية (بما فيها الولايات المتحدة) أنه إذا وجدت أمراً قد توجّه فلا تقف في وجهه، لأن الوقوف مكلفٌ وقد يُخفق. بل تحاول شيئاً من تبييض الوجه، فتقوم –بدل المواجهة المباشرة– ببعض المجاملات، وتتربّص فرصة انحصار الوضع الجديد فتحاول ابتزازه ودفعه باتجاه خياراتها.
تقلّب الزمن وانفتاح الفرص
لحظة الطوفان غيّرت الحسابات، ولحظة الپيجر حدّدت نقطة الصفر لسَوغ الانطلاق.
ولا ينتهز الفرصَ النائمُ، ولم يغادر الحذر قوىٰ الشمال السوري، حيث كانت تفكّر دوماً بأنه قد تدور حولها الدوائر.
وكان الجولاني قد صرّح في 2023-05 أنه وصل إلىٰ جهوزية غير مسبوقة، وأن الجبهة سوف تتوجّه نحو حلب. لم يكن للنظام السوري الذي تطرق بابه مختلف الدول أن يلتفت لمثل هذا التصريح، وحتىٰ المراقبون لربما فهموا تصريح الجولاني علىٰ أنه رغبة في تحسين وضع الهيئة والسيطرة علىٰ بعض أرياف حلب (وغفلة المراقبين نسقٌ مطّرد، ولذا يقوم بعض المحللين بالمبالغة العشوائية والتهويش، وهي –للمفارقة– تزيد في الغفلة).
ما ذكره الجولاني في المقابلة في أنه غادر نشوة الشباب ونضج ليس محض ترويجٍ دعائيٍ، لأن مثل هذا التحوّل مشهود في الحركات الراديكالية. ومن ناحية أخرىٰ فإن طموح الشرع للحكم تعاظمت موضوعياً مع تصاعد مراجعاته الفكرية من جهة، ومع انفتاح فرصٍ من جهة أخرىٰ. محاولة إعادة طرح نفسه في أثواب جديدة ليس دليلاً علىٰ مؤامرة خارجية.
وهكذا أُكرهت أنقرة علىٰ التعامل مع الهيئة بسبب إثبات نفسها في القدرة علىٰ ضبط المساحات الخاضعة لها؛ بل كانت المساحة الخاضعة للهيئة أكثر انتظاماً من المساحات الخاضعة للنفود التركي). وهكذا نضجت ساحة عملٍ تتلاقىٰ فيها الرغبة التركية مع أحلام الهيئة. وحدث هذا في سياق انكشاف تواصل كبار الشخصيات في محيط الهيئة مع المخابرات العالمية (بما في ذلك ما اتُهمت به المرجعيات الشرعية ثمَّ اغتيال واحد منها). ثمَّ ظهر علىٰ نحوٍ واضح محاولات الجولاني تأكيد “اعتداله” وإعادة سكب شخصيته باسمه الأصلي أحمد الشرع والكشف عن وجهه في المقابلات التلفزيونية. ولا شكّ في أنّه أنصت الشرعُ إلىٰ النصائح التركية في خطابه وسلوكه معاً.
ومن الجهة المقابلة هناك النظام السوري المتهالك في قواه الذاتية، والذي –من جهة أخرىٰ– أتقن نهج خدمة الأطراف بما يمنحه مبرّر الاستمرار. كما اعتمد النظام السوري البائد سياسة التأجيل بناء علىٰ أن الضغوط الخارجية عليه سرعان ما تتلاشىٰ بسبب تغيّر طلبات القوى الخارجية وظروفهم (بما في ذلك تأجيل أي تغيير إلىٰ أن يستلم ترامب الإدارة).
المشروع التركي-الروسي
نحتاج استحضار النسق العام للسياسة التركية، والذي يتمثّل في الحذر الشديد والحسابات الدقيقة. ولا ننسىٰ أن النظام الاقتصادي التركي يجبرها علىٰ الالتزام برغباتٍ أمريكية في عامّة السّلوك، ومثالها الأوضح امتناعها عن تصفية جيوب المجموعات الكردية المسلّحة بنفسها برغم أنها تمتلك القوّة لفعل ذلك، في حين أنه إذا فعلته مجموعاتٌ سورية فهذا ممّا يمكن التنصّل منه (إلىٰ حدٍّ ما). ولا يمكن أن ننسىٰ أن أي تضييقٍ قانوني علىٰ تركيا يؤثّر علىٰ الفرص الانتخابية ويضرّ اقتصادها (وعلىٰ تطوير صناعاتها الحربية).
أما النسق الكلِّي الروسي فهو الحفاظ علىٰ ما أمكن من النفوذ قرب البحر المتوسّط.
ولقد حانت لحظة الضغط علىٰ النظام السوري من أجل تطبيعه وإلجام سلوكه الرذيل، إضافة إلىٰ إكمال عملية إخراج ما لم يعد له وظيفة من النفوذ الإيراني في سورية، الذي هو من جملة نتائج المشروع الروسي-التركي من مشاركة “المعارضة”، لتحقيق مصلحة تركية في الشمال السوري. فما هي المصلحة الروسية؟ ربما هناك ما يتعلّق من سلوك تركيا في الملف الأوكراني وخاصّة أن هذا الملفّ قادمٌ –علىٰ غالب التقدير– إلىٰ عملية مفاوضة يُطلب فيها تفهماً للحاجات الروسية من قِبل تركيا.
وهكذا وجد النظام نفسه عالقاً بين ضغوطٍ في اتجاهات متعاكسة، حيث ليس سهلاً عليه تجاهل الضغط الإيراني (الذي ربما وصل إلىٰ حدّ تهديد رأس الرئيس). وإننا لنستطيع القول بثقة إن النظام السوري الذي سرَّب معلوماتٍ ساهمت في اغتيال شخصياتٍ عسكرية إيرانية، هو –في الوقت نفسه– يخشىٰ إيران. وبدقّة أكبر يغلب أن تسريب هذه المعلومات لم يكن أمراً مركزياً بأمرٍ من رؤوس النظام. وذلك أنه كان قد تحوّلت السيطرة للنظام السوري من سيطرةٍ مركزية إلىٰ سيطرةٍ أشبه بشبكة مافيات من أجهزة المخابرات المتعدّدة (والكلام هنا ليس عن فروع المخابرات، وإنما عن أجهزتها المتعدّدة: جهاز أمن الدولة، جهاز الأمن العسكري، المخابرات الجوية…) التي يحظىٰ كلاً منها باستقلالية عملٍ شبه مستقلّة، إضافة إلىٰ فرق الجيش.
وعلىٰ الصعيد الدولي تشكّلت لحظةُ توافقٍ واسعٍ حول هدف تطبيع النظام السوري والحدّ من سلوكه المشاغب بين كلّ الفرقاء: أمريكا وروسيا وإسرائيل، وكذا دول الخليج.
في مثل هذه الظروف جرىٰ التفاهم الروسي-التركي علىٰ الضغط علىٰ النظام السوري للتطبيع من خلال عملية عسكرية في الشمال (بشرط الاعتماد علىٰ القوّة الذاتية للهيئة وعدم استخدام الترك لسلاحهم إلا دعماً لوجستياً). وهذه العملية من شأنها أن تُنهي أدوار الفرق السورية الراديكالية في الشمال المحرّر، حيث سوف يجري –عملياً– اختيار الأجسام السياسية المترهّلة (مثل الائتلاف) وشخصيات أخرىٰ لاهثة.
أما ما حدث من انهيارٍ للنظام السوري، فلا يوجد دلائل علىٰ وجود رغبة عند أيٍ من الفرقاء في تغيير هذا النظام وإنما لجم سلوكه الرذِل؛ بل الدلائل توكّد الرغبة في بقائه بعد إضعافه (انظر تفنيد سردية “حلفاء النظام تخلّوا عنه” لعلي باكير). وفي سياق التنافس الإقليمي، جرىٰ تنافسٌ بين الرغبة السعودية-الإماراتية والمشروع التركي-الروسي.
التطوّرات الميدانية
الإنجاز الخاطف في الشمال وتفكّك الفوج 25 نبّه الروس إلىٰ حال جهوزية قوىٰ النظام (بحسب تقرير استراتيجي). وإن روسيا –بحكم وضع أكرانيا– ليست في معرض زيادة انغماسها في أي مسرحٍ جديد تعرفه جيداً أنه رمال متحركة فيه لاعبون كثُر.
ويشار إلىٰ أن إسرائيل كانت في حالة “عمىٰ” عن حقيقة الوضع في الشمال السوري (بحسب نشرة استراتيجية إسرائيلية).
عارضت تركيا تقدّم الثوار، نحو حماة، لكن لا يتوقّع أن يكون قد أساءهم –فيما بعد– السقوط السريع لحماة، حيث إنها خطٌّ معقول وغير مكلفٍ لمنتهىٰ ساحة النفوذ التركي (وكانت ممّا ترجوه تركيا منذ أوائل الثورة).
تصاعد طموح الجولاني والهيئة بعدما سقطت حماة وبعدما وجدت أن المواجهة في حمص كانت محدودة، فتقرّر تجاوز المدنية وعدم الانشغال بها. وربما لم يكن قراراً واعياً بقدر ما هو غلبة عطالة الجسم المتحرّك.
هل كانت متابعة الزحف جنوباً خفّة وركضاً نحو المأزق؟ ربما نعم، وربما لو اكتفت الهيئة بالشمال بما فيه حماة لكان أسهل عليها وأدوم لسلطتها. ولكن ما كان لتنظيمٍ ثوريٍ أن يقف، حتىٰ ولو كان الوقوف أبعد عن احتمال الإخفاق اللاحق. وما كان للعاطفة الثورية للمنضمّين إلىٰ الثورة أن تقنع بما في اليد (استحضر صورة الرجل الحمصي الملتحي برجلٍ واحدة).
وربما يصحّ القول إن تركيا كانت تفضّل التوقف في حماة أو حمص، لأنه يُحسِّن وضعها من جهة، ويُبعد تطوّراتٍ جديدةٍ ناتجة عن التوسّع لا تملك التحكّم بها. بمعنىٰ أن تحرير دمشق غيّر المعادلة التركية بالكلّية، فأصبح عليها رسم استراتيجية جديدة. وفي مقابل إمكان انفرادها في النصف الشمالي من سورية، يمكن أن تتفلّت بعض الخيوط من يدها بسبب تحرير كلّ سورية، أو قل –علىٰ الأقل– تُضاعف المطلوب من الجهود التركية.
كانت لحظة تحرير حمص جرس إنذارٍ لنظام الطغيان. وكلّ نظام طغيانٍ يغرق في أوهام قوّته (نسق تاريخي). لقد بقي النظام السوري البائد واثقاً بقوّته الباطشة، وإن أخافه العزوف الروسي. العزوف الروسي أصبح أكثر وضوحاً وأسهل تفسيراً بعد تمدّد الثوّار جنوباً، بمعنىٰ أن محاذرة الانغماس أصبحت أولىٰ بعدما تراكمت إنجازات الثوّار. قامت روسيا ببعض القصف (بما في ذلك جسراً حيوياً)، وأدركت أن تدحرج الكرة الثورية قد سبقتها.
الموقف الشعبي
ينبغي علينا استحضار الموقف الشعبي العام بعد تراكم الإنجازات الصغيرة. فلقد كان خروج الناس بالآلاف المؤلّفة رسالةً واضحة للنظام بأن الذي عليه مواجهته ليس مجرّد الجهد العسكري الثوري، وإنما جموع النّاس ومَن انضم منهم للقافلة الثوار. بل لم يحدث في كلّ سنيّ الثورة أن تزامن الجهر الشعبي بالعصيان في كلّ أصقاع البلد. وكان أن افترض النظام أن عامّة الناس قد تمّ كبت أملهم إلىٰ درجة الإقعاد، وها هم ينتفضون ثانية. والأبلغ دلالةً هو سبّ الرئيس وعائلته وليس محض السرور بالحرية فحسب، وكذا تحطيم تماثيل الرئيس وأبيه. وكلّ هذا حصل ولمّا تستتبّ الأمور للقوة الثورية. وترافق هذا مع هذا تحرير السجون في المساحات التي تمّ السيطرة عليها (استحضر صورة النساء يركضن من السجن وما فعله بالضمير الجمعي).
وهناك بعد شعبي ثانٍ، وهو أنه طالما خوّف النظام الأقلّيات (وطائفته تحديداً والشيعة بعدما ناصروا النظام)، وها هم الثوّار يطمئنون الأقلّيات قولاً وفعلاً (تذكّر مشهد أهالي بلدتي نبُّل والزهراء الشيعيتين والتخيير بين البقاء أم الالتحاق بأزواجهم الفارّين، حيث كانت هاتين البلدتين مصدر القصف والتنكيل بالمناطق المحرّرة). وإذا كان هذا السّلوك الرسمي للقوات العسكرية للثورة يؤكّد أنه استجابة إلىٰ النصائح التركية، لكن السّلوك العفوي أكثر دلالة. إن وجوه شباب الثورة ما زالت تُعجز الأفهام. هؤلاء الشباب هم ممّن تشرَّد وربما هُدم بيته وقُتل أبوه وأخوه. وربما حينما تشرّد كان طفلاً أو شاباً لا يتجاوز عمره عشرة سنين. كيف لمثل هؤلاء ألا يحقدوا؟ بل لم تجد في قلوبهم –كما تجلّىٰ في نبرتهم وفي وجوهم– إلا التسليم والعفو. إنه حقاً لمستوى أخلاقياً رفيعاً، وإن مفهوم {ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ} لسنّة عامّة وكلّية ينبغي استصحابها.
دومينو السقوط وفاعلياته
أصدر نظام دمشق أوامره بالتصدّي وبعث بفرق نخبٍ عسكرية نحو حمص، وجرىٰ اشتباك محدود. لم تشغل القوّة الثورية الهادرة نفسها في نقطة حمص، ها وقد أصحبت الحيازة على الجائزة الكبرىٰ احتمالاً معقولاً (السيطرة علىٰ دمشق). لقد أثبتت الرشاقة التكتيكية لقوةٍ ثوريةٍ خفيفة تفوّقها علىٰ جيشٍ تصدّأ (استحضر ما حصل لروسيا في أوكرانيا في أوّل الأمر، حيث إن الرشاقة التكتيكية للقوات الأوكرانية أنجزت ما لم يكن بالحسبان).
وكان أن ساعد سقوط دمشق توجّه فصيلٍ ثوري اختارته عمّان من درعا في الجنوب السوري ووجّهته شمالاً باتجاه دمشق. ومن المعروف أنه منذ أوائل الثورة كان علىٰ القوىٰ الثورية في أرض حوران أن تراعي الأولويات الأردنية، مثلما ترعىٰ قوات الشمال الأولويات التركية (ونذكِّر بأن غرفة “الموك” كانت في تلك المنطقة، ترسم الحدّ الأعلىٰ لما يمكن فعله وتوقيت ذلك). ولا يُعقل إلا أن تبادر الأردن بعملٍ ما حين اقتراب ثوار الشمال من دمشق، وفعلاً دفعت الأردن بالفصيل الأكثر ثقة عندها نحو دمشق. ولمثل هذا التحرّك فوائد مزدوجة، من ناحية طمأنة النظام السوري لو لم يسقط (يعني بأننا لم نسمح للأكثر راديكالية من الثوار بالتوجّه نحو العاصمة)، ومن ناحية عدم انفراد الفصيل الأكثر راديكالية (الهيئة) في الإنجاز، ومن ناحية المنّ علىٰ الثورة –لاحقاً– بأن موقف الأردن كان إيجابياً، ومن ناحية الحاضنة الإسلامية في الأردن نفسه من أننا مع قوىٰ التحرير. إنه لا مراء في أنّ الأردن يكره النظام السوري البائد كرهاً شديداً ويخشىٰ أذاه، ولكن في الوقت نفسه ليس هناك نظام سياسي إلا ويشعر بالقلق من احتمال عدم استقرارٍ مفاجئ في جواره. وكيفما فسّرنا تحرّك الفصيل من الجنوب الأردني نحو دمشق، فإنه استجابةً لواقعٍ وليس ابتداراً له وإنشاءً.
وألفت النظر أني لم أقع علىٰ أي تقريرٍ من تقارير مراكز التدابير الأمريكية يفيد بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية أو حلفاءها كانوا يتوقّعون سقوط النظام؛ بل أفادت تقاريرهم المفاجأة بما حدث. (وبالمناسبة، لا تتورّع هذه المراكز من ذكر الدور الأمريكي في الأحداث العالمية عندما يكون لها دور، وإن كانوا يذكرونه علىٰ نحو مقبولٍ مبرّرٍ؛ إلا ما كان من عمليات استخبارية خاطفة).
ودعنا ننتبه إلىٰ الأثر النفسي في الحروب. قوات النظام (التي أغلبها مجنّدين) هي في حال معنوي خائر. القادة العسكريون من الطائفة الحاكمة يغمرهم شعور الكِبر والقوّة الدنيئة التي لا يقف في وجهها شيء، وأن الآخر محقور “مهينٌ ولا يكاد يُبين”. ومن جهة أخرىٰ سرعان ما ينقلب تعاليهم خوفاً وهلعاً، ولا سيما من لحىٰ طالما وصفوها بالإرهاب” (هذه نسق مطّرد).
عجز الدبابات عن التحرّك في دمشق وغيرها بسبب عدم وجود المازوت ليس سببه مؤامرة خارجية؛ بل هو نتيجة طبيعية لترهّل النظام الحاكم وتماديه في غيِّـه (هذا نسق عام). وكانت أن وصلت أنباء فرار قوىٰ الجيش في المحافظات الأخرىٰ، ممّا يدعو الفصائل الأخرىٰ للفرار أيضاً. إنّ الموالين في هذه الحالة أكثر هلعاً وأسرع في محاولة الفرار بعد أن يئسوا أن تكون حصونهم مانعة من غضبة الإيمان، وبعدما أدركوا أنهم أوتوا من حيث لم يحتسبوا. وحيث أنّ الرتب العالية هي مِن الطائفة النصيرية ومِن أرذال الموالين من غير الطائفة، وأنهم هم الذي يُفترض فيهم الإمساك بالأمور كان أوّل الفارّين؛ فكان لفرارهم أكبر أثر في الانهيار السريع.
ومن اللافت أن أطراف دمشق (المعضمية مثلاً) خرجت تنادي بالإسقاط ولمّا تصل بعدُ قوىٰ الثورة دمشقَ، واثقة بأن سقوط النظام تحصيل حاصل. وكذا تمّ التهليل (حي المهاجرين مثلاً) في ذاك الوقت المبكّر، وصار الناس يتكلمون بشكل صريحٍ في الشوارع. ولمن يعرف طبيعة النظام وما غرسه من خوفٍ مدعّمٍ بأساليب فظيعة للانتقام، يدرك مدىٰ التجاوب الشعبي حتىٰ في أخطر المدن ومعقل قوّة النظام. وكان سكان دمشق أن لاحظوا فرار أهل أفراد الجيش في الأحياء العشوائية النصيرية، كما نُقلت لهم أخبارٌ مبكّرة عن فرار شخصيةٍ دمشقية معروفة من بطانة النظام السوري البائد برفقة سيّده (أخو الرئيس).
مناقشة التفسيرات التآمرية
كان ما سبق محاولة لفهم أحداثٍ تسارعت في أحد عشرة يوماً مشهودة. ونستعرض أدناه بعض الاعتراضات والشكوك والتأويلات التي تبدو جانبت الصوار. وقبل التفصيل ألفت النظر إلىٰ العبارة التي تمَّ تكرارها: “نسق عام مطّرد”. ومعنىٰ ذلك أن مقتضىٰ النسق العام شاهدٌ كليّ يفوق ويتقدّم علىٰ الشواهد الجزئية. وبمعنىٰ أن الشواهد الجزئية ينبغي أن تؤطَّر النسق الكلِّي، ولا يمكن أن تلغيه (أي النسق) إذا بدا هناك تعارض بينهما وعند طروء التعارض إما أن ننحّي جانباً الخبر الجزئي (لعلّه تتّضح ملابساته فيما بعد)، أو نُخضعه لتأويلٍ يقتضيه النسق الكلّي. وكمثال جيد علىٰ الدليل الجزئي رفع العلم الجديد في موسكو، فلا يصحّ إرهاق هذا الدليل الصغير بالاستنتاجات، ولا بدّ من تأطيره ضمن ما هو أكبر منه أو تركه ابتداءً. فمثلاً ممكن تأويله أنه إشارة رمزية من روسيا (لا تكلّفها شيء) من أجل طرح نفسها أنها صديق مستقبلي، وأنه لا داعي للسلطة الجديدة فتح ملف القاعدة الجوية الروسية في حْميم والمرفأ في طرطوس.
صرّح الخامنئي أن إسقاط النظام السوري خطّة صهيونية أميركية. وإذ لا يفاجئنا هذا الادّعاء، فإن المفاجأة هو أن بعض المناصرين للثورة يشتركون في هذا الاعتقاد –همساً أو تصريحاً– مع فرق أساسي: الادّعاء الأول مبني علىٰ أن المشروع الإيراني مشروع ضدّ إسرائيل، في حين أن الادّعاء الثاني مبني علىٰ التسليم بالقدرات الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية والخطط الجهنمية لـCIA.
وحين نحلّل نبرة خطاب بعض هؤلاء (في المهجر)، لا يصعب ملاحظة انحسار الثقة بالنفس إلىٰ درجة إنكار المشاهَد والالتجاء إلى تفسيرٍ تآمريٍ عن قوىٰ تتلاعب بأقدار الشعوب علىٰ “رقعة شطرنج”. ولا تخفى المفارقة أنه يُستعمل مثال الشطرنج على غير وجهه المنطقي، فالمباراة في الشطرنج ليست مثل المباراة في لعبة الورق، وإنما هي استراتيجيات وتخطيط ومراوغة بين لاعبين مختلفين في أهدافهما، وقد يحاصر البندقُ الوزيرَ ويَكشُّه.
ودعنا نستعرض بعض الدلائل التي يوردها المتشكّكون لنبيّن أنها لا تلتزم بشروط الاستنتاج المنطقي.
إسرائيل
دعوىٰ أن إسرائيل ترغب بإزاحة النظام من العجب العجاب. وذلك أنه لم يوجد في منطقة المشرق مَن خدم الأهداف الإسرائيلية كما خدمها النظام السوري النصيري. ويمكن أن نلخّص الأهداف الإسرائيلية (والأمريكية) تجاه جوارها العربي في ثلاثة: (1) انتزاع المواقع الاستراتيجية، (2) والإضعاف الاقتصاد، (3) وخلخلة التماسك الاجتماعي وخاصّة في صيغته الإسلامية المحافظة. ولقد قام النظام الطائفي البائد بتحقيق هذه الأهداف على أتمّ وجه. ويُعتبر تسليم هضبات الجولان في 1967م خدمة ثمينة من النظام البائد تؤهّله للمحافظة عليه من قِبل إسرائيل للأبد.
وابتداءً لم تكن إسرائيل غائبة عن النظام السوري طول أيام حكم الرئيس الأب، وتزايد هذا في فترة حكم الابن. وصفوف الجيش والمخابرات والنخبة السياسية مخترقة بشكل كامل؛ فإذاً ليس هناك مبرّر للتغيير بناء علىٰ هذه الحجة.
وهناك سؤال تجاه المناورة الإسرائيلية في الجولان بعد نجاح الثورة بسقوط دمشق، ولكنّه سؤال ابتزاز. إن الجولان محتلٌّ، وفلسطين كلها محتلّة، وكلها أجزاء من بلاد الشام. ولا يخفىٰ علىٰ عاقلٍ أن التجارة بالشعارات غير مجدٍ، وأن الإعداد للتحرير يمرّ عبر تحرير الشعب من الاستعباد وتعزيز ثقافته الأصيلة ورفع سوية التعليم وإصلاح المؤسّسات… إلخ.
ويذكّرنا البعض بأنه لولا طوفان الأقصىٰ لما كانت الثورة السورية لعام 2024م ممكنة. وهذا مما تدركه البديهة، فلولا أخطأ حزبله الحسابات ولو كان يعرف أنه مخترَق للنخاع، لما غامر فتمَّ تدميره؛ فانقشعت عن سورية قوّةٌ تدميرية مثّلت القوّة العسكرية الأرضية رديفاً للقوة الجوية الروسية. إن الحزب شريكٌ فعلي حاضر وجزء لا يتجزّأ من بطش النظام السوري وفظائعه ما أصبح معروفاً عن السجون والمعتقلات السورية، ناهيك بأن حزبله وظهيره الإيراني يقومان بالخلخلة الاجتماعية من خلال جهود التشييع.
ولا بدَّ هنا من الإشارة إلىٰ أن عربدة القوّة العسكرية الإسرائيلية هي جزء من مشهدٍ سياسي دولي أكبر تتقاطع فيه الانزياحات، والنظام البائد كان سيستجيب للضغوط الخارجية أضعاف ما قد تسكت عنه أو تعجز عن ردّه سورية الجديدة بعد ثورة عام 2024. وينبغي ألا يكون هناك مقدار ذرة من شكٍّ أن إسرائيل بعد الثورة السورية الثانية يتملّكها الذعر من امتداد روح هذه الثورة لبلدٍ عربي آخر (وهذا ممّا صرّح به بعض خبرائهم الاستراتيجيين). ولو امتدّت ثورة الشام لشكّلت قطار ثوراتٍ تتفلّت من النظام الدولي، ثوراتٍ يُستبعد إمكان إيقافها ولو شاركت فيها الولايات المتحدة مباشرة، لأن محاولة إيقافها توسّع دائرة حربٍ إقليمية مفتوحة؛ فيغدو التصالح معها أكثر احتمالاً.
دورس الربيع العربي
لا يمكن نسيان دروس الربيع العربي في موجته الأولىٰ وموقف إسرائيل والمعسكر الغربي منها (بما في ذلك روسيا). فلماذا لم يتمّ القبول بحكومة مرسي/الإخوان، برغم أن هذا الإنجاز كان في الحدود الدنيا. بمعنىٰ أن استلام الإخوان للرئاسة لم يفكّك مؤسسات النظام القديم: فلا الجيش جرىٰ فيه تغيير كبير (وهو الجيش المسلّح أمريكياً والذي بينهما تواصل دائم)، ولا تمّ حلّ جهاز المخابرات، ولا تمّت إعادة هيكلة نظام الشرطة. فلماذا صير إلىٰ إسقاط النظام الذي أفرزته الثورة؟ مثال تونس أبلغ، فطرح حزب النهضة طرحٌ ديمقراطي منذ عقود، وسجاله مع الجهات العَلمانية قائم ومطّرد، فلماذا قام الغرب (فرنسا) بإجهاض التجربة؟
التقسيم
وهناك دعوىٰ التقسيم. سورية قبل عام 2024-12 كانت أربعة أقسام: المحرّر في الشمال الغربي في يد أصحاب ثورة 2011م، ومعظم شرق سورية من ناحية الفرات بيد القوّة الكردية (التي تسلّحها الولايات المتحدة وتدافع عنها الدول الأوربية ودرّبتها يوماً إسرائيل وحزبله)، أما غرب سورية من دمشق إلىٰ حلب بما في ذلك الساحل فمع النظام، والقسم الرابع هو الجنوب درعا وجبل الدروز في حالة بينية هو تحت سلطة النظام رسمياً ولكنّه متفلّت إلىٰ حدٍّ كبير. بعد سقوط دمشق في 2024-12-08 بيد الثوّار صارت سورية قسمين: كلّ سورية من جهة، والمنطقة الكردية من جهة أخرىٰ؛ وهذه الثانية في طوّر الانتزاع.
ودعنا نلاحظ أمراً في دعوىٰ التقسيم، وهو أن الشاهد الدامغ أن التقسيم تراجع، كما أن قوىٰ التحرير انصبّت من كلّ ناحية، فما الذي يدعو إلىٰ الطعن بالثورة بحجّة التقسيم؟ إنه الخوار النفسي أمام خيالات القوّة المتناهية للأعداء، علاوة علىٰ لاعقلانية الاستنتاج.
الولايات المتحدة
أما عن دور الولايات المتحدة، فلا شكّ أنها تمتلك أدواتٍ عديدةً ومخيفة في المنطقة. ولكنّها لا تتحكّم بكل شيء، وليست إرادتها قدَراً. وإنه من بديهيات علم السياسة أنه ليس هناك قوّة مطلقة. إن القوّة العالمية الأمريكية مركّبة من ثلاثي القوىٰ العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. والواقع أنه تفضّل الولايات المتحدة الأمريكية أقل الأدوات خشونةً ولا تستعمل قوّة الجيش (ذي الكلف العالية) إلا علىٰ سبيل الكيّ آخر الدواء. وإلا فإن الضغوط الديبلوماسية (التي وراءها دبابات ومسيَّرات) مفضّلة وفاعلة، ولا سيما أن الولايات المتحدة (والمعسكر الغربي عموماً) صاغت القوانين الدولية ومحافلها لخدمة أهدافها. أما القوّة الاقتصادية فأمرها معروف في إغراق سوق البلدان “النامية” بما لا تحتاجه، بحيث ينصرف القطع النادر علىٰ الكماليات وبحيث يتقلّص الاعتماد علىٰ النّفس في الضروريات وينعدم الأمن الغذائي. ويُطرح السؤال عن جهاز الاستخبارات وأنه لم يُذكر أعلاه. يمكن أن يُعتبر جهاز الاستخبارات عنصراً رابعاً للقوة، والأولىٰ اعتباره عنصراً مساعداً من أجل تسليك القوىٰ الثلاثة المذكورة من الضغط العسكري والدبلوماسي والاقتصادي وإحكام أثرهم. ودعنا لا ننسىٰ القوّة الثقافية الأمريكية، فجموع من النّاس مستسلمةٌ لها علىٰ طول طيف واسع، من التقليعات إلىٰ الفكر.
وهناك دعوىٰ أن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب بإزاحة روسيا من سورية. ولا بدَّ للجواب من استحضار نقطة منهجية في أصول الاستنتاج. فلنسلِّم أن أمريكا عندها هذه الرغبة، لكن هل يلزم من هذا أنها هي التي أوعزت بالثورة؟ الجواب لا، والبطلان المنطقي للزوم واضح. يعني يمكن القول إن من الآثار الجانبية للثورة ما يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية فأثر علىٰ سلوكها وتعاملها من “الهيئة” المدرجة في لائحة الإرهاب، ولكن لا يصحّ رفع هذا القول إلىٰ مستوىٰ التسبّب. بعبارة أخرىٰ، الدعوىٰ أعلاه تجعل النتيجة سبباً والسبب نتيجة!
ثمَّ مَن قال إن روسيا انسحبت من سورية بالكلّية؟ نعم حدث ما يضغط علىٰ استمرار وجودها، ولكن لن يتمّ ذلك إلا إذا ألغي عقد الاستئجار طويل الأمد لمرفأ طرطوس وتمّ تفكيك مطار حْميميم. ولا شكّ أن صورة روسيا اهتزّت في امتداداتها في إفريقيا، حيث اضطرت روسيا (في النهاية وفي سياق معركتها الفاصلة في أوكرانيا) إلىٰ عدم الوقوع في وحل الدفاع عن نظام نخرٍ متهالكٍ رفض خطّتها المشتركة مع تركيا. وبفرض أنه خرجت روسيا، فهذا ليس دليلاً كافياً للادعاء بأن أمريكا هي التي خطّطت للثورة. نعم، يمكن للقضية الروسية أن تكون عاملاً في الموقف الأمريكي، حيث أبدت الدول الغربية بعض الليونة في التعامل مع تغييرٍ قام به مَن تعاديه وتعادي حليفه (الهيئة وتركيا).
الخطاب اليساري
ولْنسمح لأنفسنا بالتعجّب من الخطاب اليساري والقومي العربي (بما فيه بعض الأصوات الفلسطينية) الذي ما زال يضمر ارتياحاً وثقة بروسيا. روسيا دولة أوربية استعمارية تحجز الكمون الإسلامي لمئات الملايين من المسلمين وسط آسيا الوسطىٰ وفي جنوبها، ولا شكّ في أن ضعف روسيا يصبّ في صالح الأمّة. وتجاه الشأن السوري خاصّة، دعنا نتذكّر أنه كانت السماء السورية مقسومة بين الطائرات الأمريكية والروسية وفق مذكّرة تفاهم.
الانهيار السريع
تعود الشكوك فتسأل: أين كانت الفرقة الرابعة، وهي فرقة نخبة فيها آليات أحدث ومعظم طواقمها من الطائفة النصيرية؟ ولقد تمّ الجواب علىٰ أن القوّة العسكرية معقودة بقياداتها، فحين هرب أخو الرئيس (الذي يشرف علىٰ هذه الفرقة) وهربت الرتب العليا مثقلين بما سرقوه من ثروات (وهم أجبن النّاس حين ينكشفون)، فكيف يمكن لفرقةٍ عسكرية أن تستمرّ والذي يعطي الأوامر غائب، ولا سيما أنهم شاهدوا التلكؤ الروسي.
إنه ليس مريباً أبداً أن يحصل الانهيار العسكري؛ بل هو مطرد لمن يقرأ تاريخ المعارك. ومن أهم دواعي الانهيار: (1) ضعف العقيدة القتالية، (2) إهمال الجنود، وعلى رأس ذلك قلّة الطعام وجودته، (3) وعدم الثقة بالقادة (وتخلّيهم عن الجنود في ساعة أزمةٍ قاصمة للظهر). وكلٌ من هذه الشروط تحقّق في الحالة السورية، فلا حاجة للريبة. ولْنتذكّر انكفاء القوات الأمريكية المدجّجة أمام الثوار الأفغان بسلاح بسيط.
لا مراء أن سرعة الانهيار تثير الشكوك، لكن دعنا نتذكّر السرعة التي انهار فيها النظام السوفيتي وما حوله من النظم الشيوعية القمعية. ولو استحضرنا ما نعرفه من النخر الذي كان يعمّ الإدارة السياسية والعسكرية لزال العجب. إن إنجاز المباغتة في النزاعات والانهيار السريع للقوة السادرة المعجبة بنفسها أمرٌ مطّرد؛ حيث يتدمّرُ ما صنع المترفون من حماياتٍ وينهدمُ ما كانوا يعرُشون.
الدور التركي
هناك دلائل كافية علىٰ الدعم التركي وتنسيق قوىٰ الثورة معها. ولكن اللافت للنظر (ويمكن أن نعده صادماً) تواضع الدعم التركي. فممّا شاهدناه من الأسلحة والمعدّات، كانت بدائية إلىٰ حدٍّ بعيد. وربما كان أثر مسيّرة شاهين نفسي أكثر من ميداني. أما الخطط الميدانية في المعارك فربما يمكن عزوها إلىٰ الخبرة الذاتية للثوار، ولا سيما أنهم أهل الأرض ويعرفون بدقّة منعرجاتها ومواضع التأييد ومواضع الخطر وأصول التحييد.
يمثَّل الدعم اللوجستي والمعلوماتي التركي (إضافة إلىٰ دعم مالي من الدوحة ولا سيما بعد تقدّم العمليات والسيطرة علىٰ المناطق) عاملاً مهماً شدَّ عزم الفعل الثورة ومكّن من إنجازٍ بأقل الخسائر. غير أن الأهمّ هو السّلوك العملي للقوة الفتية الصاعدة وتكتيكاتها القتالية التي حقّقت شرط المباغتة.
وبمناسبة النفوذ التركي المستقبلي، العرب تجاه ذلك بين حالمٍ منتشٍ وكارهٍ مخوِّن. وهذا موضوع آخر.
خاتمة
لا يقصد التحليل أعلاه الدفاع عن الواقع الذي أصبح قائماً، وإنما إضاءة زوايا هذا الواقع وتتبّع الاستنتاجات الشائعة، حيث إن منها ما يخالف أصول التحليل ويتصادم مع قواعد التفكير. التفسير الطهوري المشخصن (تقي/مخلص) تفكير ساذج، مثلما هو التفسير الاتهامي ونحر الذات.
وثمّة مفارقة في أن الخلفية الراديكالية للجهة التي تزعّمت عملية التحرير كانت شرطاً لإحكام الإنجاز، ومن جهة أخرىٰ سوف تبقىٰ تلاحقها خارجياً علىٰ نحو تضييق قانوني وداخلياً علىٰ نحو شكوك من شرائح شعبية معيّنة. ومن جهة ثالثة يُطلب أن تكون المراجعات التي تجريها أي مجموعةٍ حركية أن تتجاوز الانصياع إلىٰ ضرورات الواقع وأن يجري التغيير علىٰ مستوىٰ منهجية التفكير.
سلوك قوىٰ الثورة وخطابها كان مفاجئاً للجميع، ومن جهة أخرىٰ محدودية قدرة الإدارة الجديدة أمر واضح أيضاً. وتجلّىٰ أولاً بالتعامل مع
السجون ومراكز المخابرات، حيث فُقدت وثائق لها أهمية بالغة. ولا غرابة في هذا، فإن استلام إدارة بلدٍ كاملٍ علىٰ نحوٍ مفاجئ لمهمّة تعجز عنها أي إدارة.
لا يمكن الركون إلىٰ ما تمّ إنجازه، بل الخطوب تحيط به، ودعنا نتذكّر أن مؤتمر العقبة لم يُدع له طرف سوري. والمتوقع ألا يتمّ الإمهال سنة أو نحو ذلك حتى تتعثر جهود الإصلاح (على الطريقة المصرية أو التونسية)، وإنما أن يكون مباغتة في أقرب فرصة إن سنحت.
ولعلّ أخطر مكمنين هما الاقتصاد وبقايا النظام البائد. ليس في سورية طبقة سياسية إدارية متجذّرة، ولكن هناك أعداد كبيرة من المخبرين (وخاصّة من الطائفة وممَّن التجأوا إلىٰ قراهم في الساحل) ومن الموظفين الصغار ممَّن يلفّهم الفقر وتعوزهم الأخلاق. ومرّ علىٰ هؤلاء أسبوعان بلا دخل، أو بلا رِشىٰ وسرقات وابتزاز. وهؤلاء يمكن تجنيدهم من قوىٰ خارجية. ودعنا نأمل بأن الإجماع الشعبي والوعي والخوف من العودة إلىٰ الحال السابق يمكنه أن يقف في وجه هؤلاء.
الخطر الآخر هو الوضع الاقتصادي المتهالك من جهة وارتفاع سقف التوقّعات من جهة أخرىٰ. وهذا هو المرشح أن يكون أمضىٰ سلاحٍ في وجه الإدارة الجديدة، ولا سيما أن هناك عقوبات أمريكية/دولية ضدّ سورية ولا ندري فيما إذا كانت سوف تُرفع. ولقد جرت العادة أن الولايات المتحدة تشترط رفع العقوبات بالموافقة علىٰ تنازلات مؤلمة، وحتىٰ لو تمّت التنازلات لما كان مضموناً رفع العقوبات (كما حدث مع السودان).
وهناك أمر آخر مقلق إن حدث، وهو تمديد فترة الحسم القانوني الإداري والخلاف عليه واستعصاء الوصول إلىٰ ما يرضي القوىٰ المتصدّرة للحلّ. وعلىٰ كلّ حال فلا شكّ أن هناك حاجة الاستمرار في العزم الثوري والإمساك الحذِر بالمفاصل من جهة أخرىٰ؛ وهو ممّا تضغط ضدّه كلّ الأيدي التي تدّعي مدّ يد المساعدة.
نسأله تعالىٰ المنّ واللطف.
مازن هاشم
2024-12-19
Tagged: التدخل الخارجي, التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي
شكرا لك دكتور مازن
لكن اسمحلي أن أقول أن مناقشتكم لمسألة التشكيك لم تكن متوازنة وأغفلت كثيرا من التقارير والأخبار والحقائق، وإن كان لاجتماع الفصائل على المعركة أثر كبير في نجاح العمل في بدايته (وبلا أدنى شك).
.
ابتداءً، المعركة (ردع العدوان) سبقها منذ سنوات إصرار تركيا على (استعادة حلب للمعارضة) بهدف إرجاع اللاجئين لديها. هذه حقيقة. كما أن الروس عند احتلالهم حلب 2016، كان من الاتفاق عدم دخول النظام إلى شرق مدينة حلب (التي كانت بيد الثورة ثم سقطت في حينه) وأن يكون بيد الروس وهذا ما حصل، ثم دخلت الميليشيات الإيرانية لتأمين الأمور الأمنية بالاشتراك مع الروس. لم يستطع بشار أن يزور حلب ليعلن النصر.
.
الدول لا تعطي نواياها ولا ما تخططه ولا قاررات مطبخها الاستبخاراتي أو السياسي أو العسكري للفصائل لا الهيئة ولا الفصائل الأخرى في الجيش الوطني، بل إنها تمارس نوعا من التهيئة لقراراتها بطرق مختلفة، تدير بالتوازي معه حالة الخلافات والتناحر الذي كان بين الفصائل عامّة.
.
الجولاني كان دوره استمرار البغي على الفصائل حتى يهيمن على الفصائل جميعا فلا يُستثنى من (العزم التركي) لأنه مقروء (وكلنا كمراقبين ومن لديه خبرة في قراءة المشهد العام السياسي والأمني في المنطقة) يعلم أن تركيا هدفها الرئيس كان (حلب) لإنهاء معضلة اللاجئين، بعد فشل المحاولات الكثيرة قبلها، ومن ضمنها بناء قرى داخل المحرر بديلا عن المخيمات (وفشل فشلا ذريعا).
ليس صعبا التقاط تلك الحالة.
.
قرار المعركة اتخذ في المطبخ، والدعم القطري بل وأزيد السعودي هو الجانب المالي، وأما تركيا فهي قائدة المعركة (لوجستيا وإدارة للمعلومات).
.
الفكرة، دكتور مازن، أن المعركة هذه كان الهدف منها هو إعادة التوازن إلى السيطرة على الأراضي بهدف إرغام الأسد على النزول على القرار 2254 والاستجابة لمجهود الاتراك (السابق) مع مجهودات اللجنة العربية (خطوة مقابل خطوة) لدفع بشار للقبول بالحل السياسي الدولي. فكان الهدف من المعركة هو عودة الأمور إلى ما قبل الهجوم الروسي الإيراني مع النظام الساحق على مناطق الشمال وانحسار الجغرافيا المحررة حتى أخذوا سراقب وخان شيخون والمعرة وريف حلب الغربي والغاب وريف حماة الشمالي، بعد بغي الجولاني على الفصائل وتهجير أكثر من 15000 مقاتل ثائر من مناطقه بدعوى توحيد الثورة واتهامات للفصائل أنها ستدخل الجيش التركي!
وكان الخلاف حول هل يضاف لها مدينة حماة أو لا ..
.
نعم لقد كانت المعركة بهذا الحد والقدر، والأدلة كثيرة منها قصف الأرتال الطائفية الرافضية التي كانت تتجه لدعم النظام من قبل التحالف الدولي والجيش الإسرائيلي، وكذلك قصف مناطق حزبالة في القصير والقلمون وما حولها لإجبار حزبالة على الانسحاب وعدم قدرته على مساندة النظام. وكذلك الروس الذي لم يقم بدوره، بل واضح تماما الترتيب التركي الروسي، بل حتى الإيراني الذي أجرى انسحابا تكتيكيا بعد معرفته بالتفاهمات الأمريكية التركية الروسية حول هذه المعركة.
.
الذي حصل بعد ذلك، هو المفاجأة , وهو انهيار النظام غير المتوقع من قبل الجميع (هذا هو الانتصار الرباني الذي منّ الله به على أمتنا وسوريتنا) .. هذا الذي لم يحسبه ولم يتوقعه ولم يظنه الدول لا أمريكا ولا الكيان ولا غيرهم.
.
بالتالي يجب ألا نكون مساهمين في خداع أهلنا وشعبنا ولا تصنيم شخصية (الجولاني) الذي يحصل اليوم بكل أسف، ووضع سوريا الصعب جدا بسبب تصدير جهة كان دورها (سلبيا جدا طيلة مراحل الثورة) ، ليغسل ذلك كله (في سردية مضللة بأنه خطط ودبر ونفذ) ولم يكن احد راضيا عن ذلك!
.
تقبل مروري دكتورنا الحبيب
حسام
الأخ الكريم حسام:
شكراً علىٰ اهتمامكم وتعقيبكم، وبصراحة لم أجد فيما تفضّلتم به مناقضة لما ناقشته الورقة، وإنما تفصيل واختلاف في الرسالة العامّة للمقال.
وربما شعرتَ أن بعض العبارات ضعيفة في حسمها تسبقها كلمة “لعلّ” أو “ربما”. وسبب هذا أني أكون شبه متأكّد لكن ليس عندي معلومة تسمح لي باستعمال لفظٍ قاطع. يعني القضية منهجية، وأنا مراقب من بعيد ولست متفرّغاً، وأدلي برأيي علىٰ وجل.
نعم أتفق الدول لا تُعلم الآخر بخططها.
الدور الدولي حاضر علىٰ الدوام، ولذا لا ينبغي إفراده أو تصديره في هذه اللحظة. فالمفرق في الأمر أن الطرف الدولي لم يرَ في توسيع رقعة السيطرة بأس؛ بل رأىٰ أن ذلك يصبّ في مصلحته الآنية. ومعنىٰ هذا أن العامل الحرج (أو المتغير بلغة الإحصاء) هو السّلوك الثوري المبادر في لحظة مناسبة. وإلا فلِم لم تسمح بذلك القوىٰ الدولية من قبلُ أو لم تفعل ما ساعده بشكل مباشر أو غير مباشر.
البغي علىٰ الفصائل معروف، وقد أكّد المقال علىٰ أن همّ تركيا كان توحيد الفصائل، ولكنّها أخفقت لمدة طويلة في ذلك، وأحسب أن سبب ذلك كان خططها غير المناسبة وتدخلاتها المتضاربة بين وزارة الداخلية والجيش والمخابرات. ولعلّ العامل الحاسم هذه المرّة هو العامل “الحقّاني”.
عبارة “قرار المعركة اتخذ في المطبخ…” عبارة غير محبّذة عندي لأنها مفضية للبخس، ولو لم يكن هناك قوّة علىٰ الأرض لما كان لهذا القرار أي قيمة. وثمّة مفارقة في أنه إذا لم تنتبه الحركة (أي حركة) إلىٰ الظروف الدولية، جرىٰ انتقادها بأنها درويشة، أما حين ترعىٰ الظروف الدولية نسبنا الفضل لغير الحركة. المِفصل في الأمر هو التوظيف في غير صالح البلد. فهل جرىٰ توظيف بغير صالح البلد؟ أظنّ لا. حسناً، فهل لهذا التعاون ثمن؟ بالتأكيد نعم، وقد تحيف تبعات هذا الثمن علىٰ صورة الحالة المثالية وما كان المرء يرجوه.
أتفق معاً بالتمام أن الهدف كان “إرغام الأسد على النزول على القرار 2254”. وهذه هي النقطة التي تُبهر دارس التغيّرات التاريخية (وأنا تلميذ في هذه المدرسة). بمعنىٰ أن الهدف كان متواضعاً، بل ربما في غير المصلحة البعيدة للبلد، ولكن حصل “مكر التاريخ” علىٰ نحو يتجاوز الحسابات، وهو مما يملأنا بشعور المنة والفضل منه تعالىٰ.
ذكر تعليقكم الارتكاسات الدولية ومنها “الإيراني الذي أجرى انسحابا تكتيكيا بعد معرفته بالتفاهمات الأمريكية التركية الروسية حول هذه المعركة.” طيب، فماذا يعني ذلك؟ هل يعني أنها مؤامرة، أم يعني أنه تحت شروط معيّنة تتصرف الدول تصرّفات غير متوقّعة، توهم البعض أن هناك ترتيبات جاهزة تُلغي قيمة الفعل الذاتي.
أخي حسام. أجد نفسي متوافقاً (عموماً) مع كلّ تعليقاتك إلا الفقرة الأخيرة حول “تصنيم” شخصية الجولاني. وأظنّ أن هذه فقرة تقصد بها التعليقات في الفضاء الافتراضي ولا تخصّ مقالي الذي ليس فيه أي مديح شخصي، بل وصف، وربما يجد البعض أن وصف القائد بالبرجماتية فيه قدر من التجريح. ولعلّ لفظاً واحداً غير مناسب في الفقرة قبل الأخيرة هو الذي سبب الوهم، وقد عدلته.
ومرّة ثانية، شكراً لتعليقاتكم ودمتم بخير.
مازن