حول أفكار الأستاذ جودت سعيد

يمكن مناقشة تراث الأستاذ جودت سعيد رحمه الله في أربعة أبعاد: البُعد الشخصي، ومبدأ اللاعنف، وحزمة أفكار السننيّة والفاعلية وتغيير ما في الأنفس، ومنهج التعامل مع النصوص.

١- بُعد السيرة الذاتية والأخلاق الشخصية في تراث جودت سعيد هو من أنضر أوجه حياته، وهو الذي لا يلتقطه المرء من الكتب بقدر ما يلتقطه بالحضور (والسماع) له. وفي هذا تجد خطاباً نابعاً من الأعماق يريد أن ينتشل المسلم من التقليد المذموم والتعصب المذهبي، ومن الأعراف الاجتماعية المحلّية التي تقدّدت والتي هي أصلاً ليست منسجمة مع رحابة الإسلام. وتجاه مسألة المرأة بخاصة تجد تقديراً للأنوثة من ناحية، وفسحاً للمجالات التي يمكن أن تساهم فيها النساء من ناحية أخرى. ويتوّج كل ذلك روحيةٌ ملهمة ونمط حياةٍ ومسلكٌ شخصي في غاية الاستقامة والزهد والحرقة وسلامة الصدر والعفو والبعد عن البغضاء…

٢- اللاعنف، وعلينا فهمه على مستويين: مجرد و تطبيقي.

على الصعيد المجرّد، الإيمانُ العميق للأستاذ جودت باللاعنف هو من أعظم ما نبّه إليه. فلقد وصلت البشرية -التي تدّعي قمة الحضارة- إلى مستويات من العنف العشوائي في قتل الناس وتدمير مرافق الحياة وإفساد البيئة… وصلت مبلغاً لا يمكن أن يقرّه دين أو مذهب أخلاقي.  فهل طوّر الأستاذ جودت في هذا نظرية متكاملة؟ أظن أن الجواب لا. وهناك سورتان في أمر القتال والمنابذة، والرسول صلى الله عليه وسلم شارك في المعارك بنفسه، وكان يحثّ المؤمنين على القتال ويحرّضهم عليه بأمرٍ قرآني.

على الصعيد التطبيقي. يذهب كثيرون في مناقشة فكرة اللاعنف إلى حالات خاصة، مثلاً غاندي والهند والإنكليز، أو الحالة الخاصة للثورة في سورية.  وكل يستجرّ الدلائل إلى طرفه، في حين أن الأمر يحتاج إلى تفصيل، فهو أمر مركّب ولا يستقيم فيه المنطق الثنائي. ومن ناحية أخرى، الاختلاف في انطباق الفكرة لا ينفي –بالضرورة– أساس الفكرة المجرّدة. بمعنى أن هناك حاجة إلى تحرير فيما إذا الإشكال في التطبيق أم في الفكرة.

٣- أما فكرة السننيّة والفاعلية فلا ينفرد بها الأستاذ جودت، بل هي عناصر موجودة في فريق من العلماء والمشايخ منذ بداية القرن العشرين، غير أن الأستاذ جودت ركّز عليها وأعطاها صغبته الخاصة وأغرب في تحديد مضامينها. وفكرة السننية واتخاذ الأسباب فكرة تردّدها الحركات الإسلامية، ويتفاعل معها بعمقٍ (وربما يحوِّرها) جمهور هذه الحركات، وخاصة عند اعتبار غلبة التخصصات الفنية.

كما أن التركيز الكبير لخطاب الأستاذ جودت على السننية ومسألة العقل امتزج مع وهم اتباع النموذج الأوربي، وهو لا ينفرد في هذا، بل عامة المشايخ الذين يحاولون الانفتاح وليس عندهم اطلاع على الغرب إلا من بعيد، ينزلقون في تطبيع الأنماط الحداثية. بعبارة أخرى، هناك افتراض أن طروحات العلوم الغربية هي كاملة الحياد، وكذا النمط المؤسسي للثقافة الأوربية وتنظيماته وأنماط سلوكه، وما علينا إلا الاقتداء بها. أو قل هي دعوة للتجديد من خلال التقليد. وفكرة أن عندنا الأخلاق وعندهم الوسائل، وأن المخرج هو في تزويجهما، هي فكرة سادرة يجري ترديدها في الخطاب النهضوي الإسلامي.

وإذ يكرّر خطاب الأستاذ جودت الاستفادة من التاريخ، لكن دراسة التاريخ غائبة في فكره، إلا استشهادات بحسب المزاج على الهامش.

بقي مسألة تغيير ما في الأنفس، والوهم بأنها وحدها وفي ذاتها كافية. وإذ لا جدال في مركزية إصلاح النفس، في هذا الطرح سلامة صدرٍ طافحة وذهولٌ عن قوانين الحياة. فمثلاً نشاهد أمام أعيننا قوة الأثر المؤسسي، من الإعلام إلى الترفيه إلى التعليم إلى نمط تأمين لقمة العيش…

وبشكل عام، خطابه في هذا البعد يبعث الأمل من جهة، ويحثّ على الجدّ في إعمال العقل في الحياة.

٤- طريقة التعامل مع النصوص هو أكثر ما يُشكل في خطاب جودت. وإذ أن همّ تجاوز الفهم السقيم للنصوص أمر محمود، لكن فهم النصوص بحسب المزاج وبدون ضوابط، وتطويع النص لينطبق مع رأيٍ شاذّ أمر في غاية الخطورة. ويبدو أن الأمر تدرّج في طرح جودت وظهر بشكل كثيف في كتبه اللاحقة. واستشهاده بالإنجيل لا حاجة له، ويُرسل رسالةً للسامع مفادها أنه ليس في الإسلام قول عدلٌ في هذه المسألة يغني ويقوِّم ويهيمن. ولذا يُعذَر مَن يغضب من هذا النوع من الاستشهاد ومِن التأويلات التي تُذكِّر بمنهج التفسير الإشاري بل والباطني. وهذه الطريقة في التعامل مع النصوص مشكلة بغض النظر عن مقبولية الفكرة المستَنتجة، فما يهمّ هنا هو المنهج؛ بمعنى أنه إذا كان المنهج خطأ ووقع على نتيجة صحيحة مرةً ما، فإنه يفتح باب الوقوع في الغلط الفاحش مراتٍ أخرى، ولا سيما عند الأتباع.

البعد الأول شخصي، والبعدان الثاني والثالث اجتهاديان ولو كان فيها انفراد وشطح. أما البُعد الرابع فمسلك خطير يمكن القطع بفساده.

بعد هذه المراجعة النقدية المختصرة (التي أرجو ألا يكون فيها بخس)، لا بدّ من التذكير بأنه كان لخطاب الأستاذ جودت فضل على الساحة الإسلامية حيث نبّه وأيقظ. ولقد استقت جماعاتٌ إسلامية عناصر من طرحه، استدخلتها على طريقتها الخاصة بعد تعديلها أو تشذيبها أو دمجها مع عناصر أخرى (ومعنى ذلك أن له فضل على كاتب هذه السطور، ولو بشكل غير مباشر).

يصعب جداً فصل طرح الأستاذ جودت سعيد عن شخصيته المتميزة التي تشعّ منها معاني التوكّل والترفّع عن متاع الدنيا، والغيرة على الأمة ومستقبلها. فرحمه الله رحمة واسعة وغفر له على خرقه للسنن البحثية، وهي سنّة عرض العلم على الآخرين من العلماء وأصحاب الفكر ومحاورتهم فيها بدل التغريد المنفرد.

One thought on “حول أفكار الأستاذ جودت سعيد

  1. nakba 2022/02/02 عند 3:20 م Reply

    ممتاز سمير طوير

    Sent from AT&T Yahoo Mail on Android

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: