ملخص
وإذ تتطلّع النفوس إلى انتهاء محنة الشام بعد قريبٍ من سنتين من الفداء والتضحية، فداء وتضحية واستبسال وثبات أذهل الضمير العربي والإسلامي وكلّ من عنده فضلة عقل أو قلب… ظهرت بوادر إمكانية الحسم وإن كان ما يزال تحفّه تحدّيات ليست يسيرة. ومعادلة الحسم معادلة معقدة ذات أبعاد ثلاثة تتعلّق بالمقاومة المحليّة، وبالتدافعات الإقليميّة، وبالخيارات الدوليّة. ومقابل القراءات اليائسة التي تقترب من درجة التفسير التآمري أو التفسير الجبري الذي يبثّ روح اليأس والتقاعد، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تستحضر العوامل التي تجعل الحسم محفوفاً بالتحديات كنتيجة متوقّعة لطبيعة المعضلة السورية وانعكاساتها الإقليمية.
يرى التحليل التالي أنّ مرحلة الحسم التي وصلت إليها الثورة السورية ذات أبعاد ثلاثة: الحراك الثوري، من وجهيّ القدرة العسكرية وإدارة المناطق المتفلّتة؛ والموقف الدولي؛ والموقف الإقليمي. وتقاطع فاعليات هذه الأبعاد هو الذي يحدّد المنتج النهائي. وسأعتبر أنّ المسيرة الثورية مستمرة، وأقلّب النظر في الموقفين الدولي والإقليمي اللذين يعملان معاً ويؤثر واحدٌ في الآخر. وبناء على ذلك يجري تقدير الناتج المتوقّع (انظر الجدول أدناه).
العوامل البارزة في معادلة الحسم والناتج المتوقع
الحراك الثوري |
الموقف الدولي |
الموقف الإقليمي |
الناتج المتوقع |
استمرار إنجاز قوى التحرير الوطني و |
مماطلة |
تركيا: انسحابي إيران: زج أقصى |
|
استمرار إنجاز قوى التحرير الوطني و |
الدعم الانتقائي |
تركيا: دفاعي إيران: مناورة حذرة |
|
استمرار إنجاز قوى التحرير الوطني و |
الواقعية |
تركيا: دعم مبادر إيران: تخفيف الخسائر وتأمين مواطئ قدم |
|
استمرار إنجازات قوى التحرير الوطني و حسن إدارة المناطق المحرّرة يمشيان جنباً إلى جنب. وكل نقص في واحد منهما ينعكس نقصاً في الآخر. وهذا الإنجاز على الأرض، بطرفيه العسكري والمدني، هو الذي يضطر القوى الدولية المتباطئة أن تحزم أمرها، فالإنجاز الثوري هو الذي أجبر العالم على أن يدرك أن الثورة منتصرة ولو بعد حين، وأنه لا يمكن إرجاع عقارب ساعة التاريخ.
السيناريوهات الثلاثة تتوازى مع المواقف الدولية التي تتناغم معها المواقف الإقليمية. وضمن المواقف الدولية تهمنا بالخصوص دولتان، تركيا وإيران. السيناريو الأول هو الجاري، وهو الذي تعوّق فيه القوى الدولية تقدّم الثورة، وتؤجل وتماطل وتعد… وفي مثل هذه الحال، لا يمكن لتركيا أن تغامر لوحدها… ويبدو أن معضلة القوى الدولية أنها تريد تحجيم إيران بسبب نوويّها ونواياها الامبرطورية… تريد تحجيمها من غير أن يُترجم ذلك صعوداً تركياً يُفسد التوازن بين ثلاثة أكبر لاعبين إقليميين في المنطقة. وهذا ما يُفسر، إلى جانب أسباب أخرى، الحذر الكبير الذي تتميز به المسيرة التركية، إلى جانب تبنّي سياسية دفاعية انسحابية، فيها تشكّي وإصرار على شراكة الناتو. وبالمقابل تستغلّ إيران تردّد الموقف الدولي من سقوط مدويٍ للنظام في دمشق، فتزجّ أقصى ما عندها، سواء مباشرة أو عن طريق الخط الحزبلاوي أو الخط العراقي. وهذا الخيار الأول يعطي فسحة من الوقت للمؤسسة الأمنية في سورية لأن تعيد تشكيلتها وتتأقلم مع الوضع الجديد ولو سقطت رموز النظام. والبطء في الحسم نتيجة إطالة فترة الاحتضار تزيد الاحتقان الطائفي بسبب ممارسات النظام، وهذا بدوره يمهّد لتشكيل كيان علوي، ولا أقول دولة، في منطقة الساحل. وفي هذه الحال، النظام كحاكمٍ للبلد يموت موتاً تدريجياً بطيئاً، وكل ما في الأمر أن الموقف الدولي يجعل مصاب المدنيين أعظم ويساهم في تأجيل إمكانية نهضة البلد.
السيناريو الثاني هو ما ينصح به الخبراء الأمريكيون في الدعم “الانتقائي” لقوى الثورة، ويقصدون ويصرّحون بأنه يعني دعم (القوى العلمانية) على بحسب تعبيرهم. وفي ذلك تسيير للأمور بطريقة تقلّل الاستفادة التركية برغم أن آثار الثورة السورية سوف يكون لها تبعات جمة على تركيا، على الأقل بسبب المسألة الكردية. وبالمقابل، وضمن هذا الخيار، سوف تناور إيران وتدعم أيضاً عناصر (علمانية)، إذ تعرف أن زخم المقاومة على الأرض معادٍ لها بالكلية بسبب وقوفها الأعمى مع النظام المجرم. وهذا المزيج من الفاعليات يدفع نحو تناحر قوى الثورة بحسب الدعم الانقائي من مختلف الأطراف، فينشئ في البلد ما يحذّر منه الغرب: التقاتل الفئوي على الطريقة العراقية. وفي النهاية، يسقط النظام بعد حين بسبب تقطّع أوصاله.
السيناريو الثالث هو تقبل المجتمع الدولي بأن الربيع العربي قد غيّر المنطقة بأكملها، على مستوى الثقافة السياسية وعلى مستوى الانتماء والهوية، وأنه لا خيار له إلا في التعامل الجدّي مع الواقع الجديد. وفي هذه الحال سوف يكون الدور التركي مبادراً، بما في ذلك استخدام قوتها (الناعمة). أما إيران فسوف لا تستسلم وستحاول أن تبقي لنفسها نفوذاً عبر الفلول.
التحليل التفصيلي
برغم البطئ الظاهر في تقدّم قوى الثورة، الخط البياني العام هو خط صاعد باستمرار. والحقيقة أنّ إنجاز الثورة السورية هو سريع إذا ما قيس بمقياس الوسائل المتاحة للمقاومة. وفظاعة الانتقام من المدنيين الذي يقوم به النظام الغاشم هو الذي يراكم الآلام و يشعر بطول المدة. ولقد تراجع النظام عن مناطق في غاية الأهمية، وتكاد خساراته النوعية تتراكم يومياً إن لم يكن أسبوعياً. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ النظام غير قادر على الانتقام. بل ما زالت عنده قوة تخريبية كبيرة بسبب ما يحتكر من أسلحة ثقيلة في وجه مدنيين عزّل وسلاح خفيف.
إنّ استمرار إنجازات قوى التحرير الوطني مرهونة بحسن إدارة المناطق المتفلّتة التي تنهزم فيها قوات النظام الغاشم وتنسحب. وذلك لأن حسن الإدارة هذا هو الضمان للتأييد الشعبي من المدنيين، فهم يدفعون ثمناً غالياً من أجل هذا التحرير. والخلاف أو الصدام بين القوى في المناطق المحرّرة يستهلك الطاقات ويبددها.
أولاً: استمرارية الحراك الثوري
تفترض المعادلة أعلاه أنّ الحراك الثوري سيستمرّ بقوّته الحالية. ولا ينبع هذا الافتراض من فراغ، ومبرر القبول به هو الاعتماد الكبير للمقاومة المسلحة على مصادر محلية. فالسلاح الخفيف الذي غنمته المقاومة كبير نسيباً في حجمه، وتُفترض كفايته لطبيعة المهمات التي تقوم بها. فعمليات السيطرة على كتائب ومطارات وأفواج تحقّقت من خلال الأسلحة المتوافرة داخلياً وإلى جانب بعض الابتكارات البسيطة، وليس هناك ما يدعو إلى تراجع هذه القدرات؛ بل الإنجاز يوفّر تنوعاً في الأسلحة والذخيرة لم يكن متوافراً من قبل، ولو بقي في حدود السلاح الخفيف والمتوسط البدائي. وبغضّ النظر عن حجم السلاح الخفيف المتسرّب من الخارج نسبةً للذي يجري تأمينه من الداخل، منع هذا الأول من الوصول من الدول المجاورة بضبط حدودها لم يعد بالسهل عند هذه النقطة المتقدمة من المواجهات، إذ يغلب أن قد تأسّست عمليات الإدخال هذا وارتبطت بمصالح ودوافع.
العنصر الثاني ضمن البعد الأول هو حسن إدارة المناطق التي خرجت من قبضة النظام المركزي. وهذا العنصر حيوي جداً ولو كان لا يظهر بأن له علاقة بالحسم. فحسن إدارة المناطق المحرّرة يرسّخ الحاضنة الشعبية، وهي أعلى ضمانة لاستمرارية المقاومة المسلحة وأفضل ظهير. وحُسن الإدارة هذا يخفّف الأحمال اللوجستية على الحراك الثوري عامّة، ويوفّر طاقات مدنية تصبّ في صالح الحراك على نحو أو آخر. ولا يقلّ عن ذلك أهمية الرسالة التي يبعثها حُسن الإدارة إلى الأطراف الدولية والإقليمية. فالقوى الدولية تتعلّل بأنّ زوال النظام سوف يكون كارثياً على حياة المدنيين وعلى الأقليات، وأنه سوف يُفضي إلى احتكار العناصر المتطرّفة لمقاليد الأمور. وحُسن الإدارة المحلية سوف يكون أكبر دليل على أنّ وسطيّ المواطن السوريّ هو الذي سيدير الحياة العادية، بل وسيعكس صورة لتألق المجتمع المدني لم تشهدها سورية طوال عهد الظغيان، وهو تألّق شاهدنا لمعاته وأشعته في أوائل أيام الثورة وفي أي فرصة سنحت للمدني أن يظهر ولا يُقمع. والإدارة المدنية هذه سوف تكون إعلاناً صارخاً من أنّ إطار سلمية الثورة ما زال هو الحاكم لتوجّه الثورة السورية المجيدة، وأنه ليس شعاراً يُرفع تبريراً اعتذارياً. وتجاه رسالة الطمأنة ذكرت كلاً من الأطراف الدولية والإقليمية. وذلك لأنه مقابل الموقف الأشبه بالنفاقيّ للقوى الدولية، الدول المجاورة لسورية لديها اهتمام مبرّر ومفهوم تجاه الاستقرار المدنيّ في جارتها الثائرة. إنّ من أهم ما ينبغي أن يدركه الحراك الثوري -وأنا واثق أنه يدركه، وإثباته هنا هو من باب الإشهار- أنّ السلامة المستقبلية لسورية منوطة بأعناق الشعب السوري كله وليس مقتصراً على الفصيل الثائر المسلّح. وإنه مفهوم بالتمام أنه في لهيب المعركة التي تخوضها الفصائل المسلحة ببسالة وإقدام، الفصائل غير المسلّحة ما زالت متمسّكة بأهداف الثورة وتعبّر عن ذلك بجرأة منقطعة النظير وبصبرٍ يُظهر الترّفع الأخلاقي للحراك الثوري جملة ويُثير أقصى درجات الاحترام والتقدير.
ثانياً: الموقف الدولي
الموقف الدولي المتذبذب أو المرواغ واضح على نحو يحدث حالة قرفٍ من دعاوى الديمقراطية والحرص على السلام العالمي وكون حقوق الإنسان هي أولوية في السياسات المعاصرة. وقد كتبتُ سابقاً مقالة قصيرة بعنوان “السلاح النوعي ونوع الإنسان” ألفت النظر فيها إلى أنّ السلاح المضادّ لحمم الموت التي يرميها النظام الغاشم من الطائرات هو بذاته لا يحسم المعركة وإنما يحمي المدنيين فحسب. فالمسلّم به عسكرياً أنّ القوات الأرضية هي التي تحسم المعارك. كما أنّ بدائية استعمال السلاح الجوّي من قِبَل النظام يكاد لا يؤثر في مسيرة المواجهات مع قوات التحرير الوطني، وإنما هو مصمّم للانتقام من المدنيين وللتدمير المتعمّد لإضعاف إمكانية النهوض في المستقبل. وتبرير عدم تزويد القوى الدولية بالسلاح الدفاعي ضد الطائرات بحجة أنه ربما يقع بأيدي غير المرغوبين بهم لا يستقيم كحجة. فتقنية تتبع النقطة الجغرافية (جي پي إس) تكفي هذا الإشكال، بالإضافة إلى تقنية رمز التشغيل المتصل لاسلكياً، وبالإضافة إلى التحكم بعدم سوء استعماله من خلال التحكم بذخيرته غير المتوافرة في السوق السوداء.
والموقف الدولي يمكن أن يتراوح بين ثلاثة: المماطلة أو الدعم الانقائي أو القبول بالأمر الواقع.
ا- المماطلة
ما نشاهده من مواقف دولية في هذه الأيام هو نوع من تعويق الحراك الثوري، وإن كان لا يخلو من الإشارات المختلطة التي لها دلالات متعدّدة. والكلام في الحوار مع النظام مهما كان منمّقاً ومتوارياً ومحشوّاً في ثنايا دبلوماسيّة التصريحات صار من الصعب جداً فهم مناسبته. فالقوى الدولية تُدرك أنّ الحوار مع نظامٍ يقتل شعبه ويدمّر منازلهم ومرافقهم العامّة هو ضرب من المحال السياسيّ ولا يُمكن بحال اعتباره حكمة و”مرونة” وحقناً للدماء. ومناورات مبعوث الأمم المتحدة تتبرّأ منها مبادئ الديانات الإبراهيمية والمبادئ البيئية للحفاظ على الأخضر واليابس معاً. فهل هذا النوع من الثرثرة التفاوضية هو لشراء الوقت فقط؟
ب- الدعم الانتقائي
الدعم الانتقائي هو الذي صرّح به عددٌ من المسؤولين الغربيين، وهو ما أوصى به عدد من الخبراء من قبلُ. وفكرة الدعم الانقائي قائمة على أنه لا يمكن لدولة مقتدرة أن تمنح من قوتها أو تدعم “إناساً لا نعرفهم” أو لا نثق بهم ثقة كافية. وتعتذر هنا سياسات مذهب (الواقعية الصُرفة) بأنّ التحكّم بالدعم هو الأسلم بغض النظر عن أنّ البخل به سيكون له ثمن باهظ من القتلى والجرحى والمعوّقين والثكالى والمشرّدين…
والدعم الانتقائي معناه بناء علاقات مع بعض قوى الثورة التي تُبدي مرونة، وإنشاء فرق أو تبنّي فرق موجودة تقبل بإعطاء الولاء للداعم. ومرة ثانية، من وجهة الواقعية الصرفة يبدو هذا التصرّف متوقّعاً؛ غير أنّ المحذور يكمن في أنّ أيّ قوة غير ملتحمةٍ التحاماً عضوياً وكاملاً مع الحراك الثوري –وبقاعدته المدنية الشعبية العريضة تحديداً- سينزلق في تصرفات فئوية أنانية تتمحور حول إديولوجيته المفضّلة، فيساهم في تفتيت انسيابة النسيج الاجتماعي وفي عدم تلاقي التوجّهات المختلفة في المجتمع وتوافقها على صيغة سِلم مطمئن له فرص الاستمرار الطويل.
ج- الواقعية
موقف القبول بما آل إليه الواقع يقتضي الإدراك الحدسيّ لهذا الواقع بكل تعاريجه وتلافيفه، بما في ذلك سبر ضمير قطاعات واسعة من الشعب عاشت تحت وطأة التنكيل نصف قرن واتخذت قراراً لا رجعة فيه، لا تثنيه كل فظاعات الإجرام التي يقوم بها النظام منذ تفجّر الثورة. هذا الإدراك غير المستكنف وغير المتعالي على الواقع، تعالي البعيد غير المكترث الذي يقلّب صفحات منتقاة عقيمة في القانون الدوليّ أو السياسية…
إن القناعة باستحالة استمرار النظام أن يحكم البلد أمر توصّل إليه القادة والخبراء في العالم منذ سنة خلت. غير أنّ القوى العالمية والإقليمية ما زالت تخادع البديهة بانكار متلازمة ما هم مقتنعون به. فاستحالة اسمترار النظام الحالي بالحكم تقترن به متلازمة منطقية وعملية، ألا وهي الرضى بغيره ولو لم يكن هذا الجديد كامل وضوح المعالم. وإنّ طلب وضوح معالم البديل وضوحاً كاملاً على مستوى الفكر السياسي وعلى المستوى المؤسسي طلب تعجيزيّ. فما من قوة ثورية إلا وهي مُجمعة على الرحيل التام للنظام، والأهم من ذلك، مُجمعة على تقويض أساسه الأمنيّ الاستئصاليّ. ومهما بدا من تطابقٍ بين هذا الأساس الأمني وطائفة معيّنة، فإنّ قوى الثورة مهتمّة بأساسه لا بمظهره، ولا أدلّ على ذلك رفضها استمرار التشكيلة الأمنية ولو تحت قيادة شخصيات من “الأغلبية”. ولا يقتصر اتفاق قوى الثورة على أزالة النظام وتشكيلته، بل هي تتفق على البديل أيضاً. فما من قوة من قوى المعارضة والثورة إلا وتنظر إلى نظام يتبنّى وسائل الحكم الديمقراطية الحديثة، ويعتمد الانتخاب وسيلة والمؤسسات التي يؤمها الأكفاء إدارة لشؤون البلد. كما أنّ هناك إجماع على أنّ النظام الجديد ينبغي أن يُطلق طاقات المجتمع المدني لأمة موهوبة، وأن يحرّر اقتصادها من أغلال محبطة. وكل خلاف بعد ذلك هو خلاف في التفاصيل الذي هو من طبيعة السياسية. ومن نافلة القول أنّ هناك إجماع بين قوى الثورة على صون حرية الناس وكرامتهم، فلهذا ثاروا، ومثله رفضهم للحرب الطائفية أو تفكيك البلاد إلى كيانات طائفية.
هذا الفهم الذي ينظر إلى المجرى الدافق للتيار ولا يتعلّق بالطحالب التي يرميها نهر ماءٍ عذبٍ على الأطراف هو المطلوب. وليس هذا الفهم فهماً رومانسيّاً، فالرومانسية هي التي تتوقّع مثالاً لا خوارم فيه. ولا يجوز لأي تحليل جادّ أن يخلع صفة الخوارم على الأصل، بل عليه أن يعترف بالغالب الغامر لكي يعرف كيف يداوي الناشز. وما كان لمحلّل ولا خبير إلا وأن يدرك أنّ فظاعة إجرام النظام سوف تولّد ردود فعل جانبية غير مرغوب بها، ما كان لها أن لا تظهر إلا إذا كنا نتعامل مع عالم غير عالم البشر.
ثالثاً: الموقف الإقليمي
لا يخفى أنّ المواقف الإقليمية هي في غاية الأهمية، وعلى رأس ذلك الموقفان التركي والإيراني. فمن ناحية تركيا، الثورة السورية هزّت السكون التركيّ وأوصلته إلى زاوية حرجة تكاد تطيح بالشعبية الرائجة لرئيسه الغنضفر. وبرغم كل خيبات أمل الشعب السوري من المواقف التركية، هذه المواقف مفهومة تماماً. فمن ناحية المزاج الشعبي يعيش الأتراك لحظات يدركون فيها مثالب تاريخية وقعوا فيها، وما من شيء أكره عليهم من أن ينغمسوا في حراك تتصادم فيه القوميات والإثنيات؛ والعقدة الكردية ما زالت تلاحقهم في حاضرهم، ناهيك عن الذكرى الأرمنيّة. وتقوّي هذا المزاج حقيقةُ الرفاه التي ذاق طعمه الشعب بالابتعاد عن سياسات العسكر والسياسات الخشنة، وبالتوحّد مع خيالٍ تنمويٍّ حداثي. وقد يقال إنّه من الناحية السياسية، لا يمكن لتركيا أن تحافظ على مكانتها من غير مواقف أكثر حزماً تجاه المسألة السورية. هذا صحيح وتدركه الإدارة التركية، ولكن ليس هذا هو ما يراه سبعون بالمئة من الشعب التركي. وأخيراً، فإنّ الإدارة التركية تدرك أنها لا يمكنها حمل عبئ تداعيات الثورة السورية لوحدها، لأن تركيا تقوم عملياً بمدافعة تحركات محور روسي إيراني، فلا بدّ للمستفيدين الأُخر من هذه المدافعة أن يشاروكوا تركيا الغُرم بما سيغنمونه. دور دول الخليج أيضاً محوري، وهو بدهي لا داعي لشرحه.
إيران من الطرف الآخر تواجه تحدياً يقوّض ما عملت له عقوداً بتصميمٍ ودهاءٍ متناهيين. وطبيعة الحكم في إيران وتبنّيه لإديولوجية صلبة تجعله مستعداً لخوض غمار مواجهات ليس للأطراف الدولية والإقليمية شهية لفتح بابها. والحليف اللبناني أيضاً يدرك أنه خسر خسارة كبرى بسبب التعّنت الإديولوجي، مما يجعله مستعداً لمغامراتٍ يعرف أنه تتعوّذ منها الدول المحيطة تعوّذها من الشيطان. وبعد كل التراجع في تمكّن المشروع الإيراني نتيجة الثورة السورية الخارقة، تبذل إيران ما استطاعت للحفاظ على مواطئ قدم لها مستغلّة تناقضات الموقف الدولي. فمن جهة تتحالف مع روسية التي تملأ رؤوس قائدها أولويات من الحرب الباردة. وصحيح أنّ هذه الأولويات تدفع روسية باتجاه مخالف لحركة التاريخ ونحو استراتيجية مرشّحة أن تقوّض الانتعاش الاقتصاديّ الذي استند إلى ارتفاع سعر النفط فحسب وليس إلى حكمة في الإدارة، فإنّ إيران تستثمر لحظات عناد الدبّ الروسي الذي يحسب أنه يمكر مكر الثعلب لا غباء النعامة. وهذه المواقف تفسّر أيضاً تردّد الموقف التركي الذي يعرف أنه يواجه عناداً من أقوى جارٍ عسكري له يعتمد عليه في موارد النفط، ويواجه سُعاراً إديولوجياً من نظامٍ لا مانع عنده من أن يدمي رأسه ورأس خصمه ولو لم يخرج من ذلك بربح محقّق. والأهم من كلّ ذلك، تدرك إيران أنه رغم تفارق الأجندات مع الغرب، دول الغرب تحتاج إيران لتوازن قوة تركيا في المنطقة. فالموقع الجيوسياسي لتركيا يجعلها من أكبر الرابحين بعد نجاح الثورة الشامية، ويفتح الباب أمام كمونها المالي والخبراتي والاستراتيجي على نحو ترتفع فيه في المعادلة الأوربية وتغيّر معادلة شرق الحوض المتوسّط التي تقبع فيه إسرائيل. وهذه هي المفارقة الكبرى، وهي الرغبة في تحجيم إيران من غير تقوية تركيا. المفارقة الكبرى تكمن في أنّ أشد الأطرف قلقاً من إيران وبرنامجها النووي وسياستها النطاحيّة ترغب بقدرٍ من الثقل الإيران لتحقّق به التوازن المفضّل لها في المنطقة. ولكن التحكّم بالموازنة بين القوّتين الإقليميّتين إلى جانب إسرائيل التي دخلت معالم قدرٍ جديد لا مفرّ منه بعد الربيع العربي… هذا التحكّم أجهضه كرهٌ شاميٌّ تأصل لكلِّ ما يمتّ لإيران وروسية بصلة، كره امتزج بمخيال تاريخيّ ودينيّ. وهل تتوقّع أن لا يبغض الناس ما يصبغ خبزَهم بدم الأطفال والنساء بغضاً لا يمحيه إلا تعاقب الأجيال؟
رابعاً: الناتج المتوقع
استمرار الموقف الدولي في ممطالة لا داعي لها وفي التردّد في توفير الشروط المناسبة لإنهاء المحنة والاكتفاء بما يساعد على استمرار الثورة دون درجة الحسم… إنّ الاستمرار في هذا يفتح باب احتمالات مخيفة. فهذا الموقف يضاعف آلام الشعب الذي يموت وتدمّر حياته تحت مرأى العالمين العربي والدولي… وناهيك عن إزهاق الأرواح وجراح الأجساد وعاهاته التي يتركها في هذا الجيل، إطالة الأمد تخرّب الحياة المدنية لأجيال قادمة. كما أنّ استمرار الأمر على ما هو يوصل الاقتصاد إلى نقطة لا يمكن استنهاضه بعدها. ونتيجة للزج الطائفي الذي يمارسه النظام، تنشأ في هذه الحالة انتقامات طائفية كردّ عليه، وهذا بدوره ينقل النظام إلى خياره الأخير من محاولة تشكيل كيان له في المنطقة الساحلية. وتشكيل هذا الكيان ليس أمراً يمكن حدوثه في يوم وليلة، وإنما يستلزم سنيناً ويترافق ضرورة مع تطهير طائفي. وفي النهاية، لن يكون هذا الكيان الطائفي ولا ما تنحّى عنه مستقراً، ولن يهدأ التناوش بين الكيان والمحيط به، ولن يحصل استقرار متخيّل من خلال حشر الفرقاء في وضع تامّ الاعتمادية على القوى الخارجية. النظام الحالي في هذه الحالة سوف يموت موتاً بطيئاً وتتشكّل بدله مخلوقات مشوهة ليس واحداً منها عنده قوة استمرار الحياة…
السيناريو الثاني هو ممارسة القوى الدولية للدعم الانتقائي. وتجاه ذلك تتخذ تركيا الموقف الدفاعي لأن في مجتمعها تعدديات طائفية قومية يحول دون تفجّرها إدارة سياسية قوية واقتصاد مزدهر. ولكن إذا وصل تفاقم التعدد الطائفي القومي في الجارة السورية إلى أقصاه ولم يوجّه نحو الانفراج بل نحو التأزيم، فهذا يولّد نظائره في المجتمع التركي. وفي هذه الحالة، تناور إيران مناورة حذرة وتعتبر بأن دورها في إفساد أي استقرار في المنطقة هدف جيد استطاعت تحقيقه بعد أن حجبت عن نفسها النتائج الأكثر كارثية بسبب الثورة السورية. ولا يخفى أنّ هذا الخيار لا يُنهي المشكلة وإنما يغير طبيعتها. فالمشكلة اليوم تتمثّل في نظام يقتل شعبه و مقاومة باسلة تردّ الاعتداء الوحشي. الدعم الانتقائي هو بالتعريف استقطاب لفئات معينة دون الأخرى، ليُستبدل همّ التحرير الوطني بهمّ آخر ضيّق. وليس ما يدعى بـ (الحل السياسي) هو الذي يحمي مستقبل البلد من نزاع يدور في حلقة مفرغة كما يحلو للأطراف الدولية أن تدّعي، وإنما الحيلولة دون الحسم هي التي توصل إلى ذلك النوع من التقاتل بين فئات الشعب من غير منتصر. وهذا المدخل يطيل فترة النزاع فتتيح فرصةً للمؤسسة الأمنية القائمة أن تتأقلم مع الظرف. كما يفسح المجال لمختلف القوى المحلية أن تختار داعمها المفضّل لتصبح العقدة الجيوسياسية السورية مسرحاً لتصفية حسابات خارجية. النظام الغاشم سوف يزول في النهاية، ولكنه يزول بتقطّع أوصاله وتقطيع أوصال حياة البلد أيضاً.
السيناريو الثالث يقتضي وقفة صريحة تجاه ما آلت إليه المنطقة العربية وإدراك ما وصلت إليه الثورة السورية وما غيّرته على أرض الواقع وفي فضاء الهوية والانتماء أيضاً. وهذا الطرف الثاني من التغيير هو الذي يتعنّت تجاهه الفهم الدولي لعدم انطباقه مع أمانيه. إنّ تجاوب المجتمع الدولي مع استحقاقاته تجاه الشعب السوري كجزء من المجتمع الدولي، وتذليل السبيل لتركيا لتقوم بدعم مبادر كامل وكافٍ، وكبح جنوح الحلم الامبروطوري الإيراني… هذه مجتمعة هي التي تفسح المجال لأن تتفاوض قوى الثورة تفاوضاً تتّسق فيه صورة الإدارة السياسية لسورية مع صورة إرادة التحرير، وعندها فقط يلج البلد في فضاء السِلم الاجتماعي وينفسح المجال لوضع أول لَبنات إعادة بناء المجتمع والدولة. هذا ليس حلماً بعيد المنال، بل هو ممكن في غضون بضعة أشهر إذا توقّف التعويق الدولي… وعندها سوف يزول النظام اختناقاً لا حرباً، اختناقاً بسبب تغير البيئة التي تحيط به ويتنفس منها سمومه التي تغذي طبعه اللئيم وسلوكه الشرير.
مازن موفق هاشم
1/1/2013
Tagged: التدخل الخارجي, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
Excellent article. You did a very good job and it should be published everywhere in Arabic in all the Arab newspapers.
جزاك الله خيرا وزادك علما