30 رمضان 1433
إن في توافق العشر الأخير من شهر رمضان مع بداية العشر الأخير من ثورة الشام المباركة دورساً وعبراً. وإذ تعهدت الأقدارُ الإلهية مسيرة الثورة فحمتها من الإخفاق والتراجع، فإنها بتقدير العزيز العليم سوف تنجو من محاولات الاختطاف والالتفاف. وإذ يضعف الجسد في نهاية رمضان لتعلو الروح وتخلص النيات ويتمّ التسليم، فإنه يصعب أن لا نرى يد الرعاية الربانية أخذت بيد الثورة فاستنهضتها من عثراتها وأخطائها وبلّغتها درجةً عالية في مراقي الفلاح ما كان لأحدٍ أن يتصوّر إمكان الوصول إليها.
ولما كان شهر رمضان شهر مراجعة وإنابة ومجاهدة، فليس أولى في هذا الوقت من محاسبة النفس والاعتراف بالتقصير. فما كان للثورة –وهي جهد بشري- أن تنجو من الخطأ، ولكن فضلها أن تبرأ من الذنب وتصوّب المسيرة بعد أن أضاءت أنوارُ المجاهدةِ معالمَ الطريق.
ثلث المصابرة
الثلث الأول لمسيرة الثورة شهد همّة عالية في التجرّد من كل آثام الركامات الثقافية. فانطلقت الثورة بشكل فطري تتوق إلى الحرية والكرامة بحركة تتجاوز كل الشروخ الاجتماعية المتولّدة من التشكّل التعسفي لبلد سميّ سورية، وأعلنت بالفعل والقول أنها تسعى لمشروع وطني يسع جميع مكونات الشعب الذي تظلّه سماء واحدة. وإذ كانت الثورة تعرف أنها تقارع نظاما طائفيا بغيض، فإنها مع ذلك رفضت الخطاب الطائفي وأصرّت على تأكيد مفهومٍ للمواطنة يتساوى فيه الجميع على الصعيد العام ويسمح للخاص أن يتجلّى في مساحته المرصودة له. ولقد انصبّ همّ الحراك الثوري على تطهير النفس من حظوظها، فبرغم العسف الشديد الذي واجهه من أول يوم، فإن الحراك أصرّ على مواجهة الرصاص بصدور مفتوحة عاكساً أجلى صور الفداء والترفّع عن الاديولوجيات الضيقة: “الله، سورية، حرية وبس”، وجاهد للاتصال بالمصدر الذي لا تفنى ذخائره مشتاق إلى عوالمَ تُحرِّر مِن أسار الدينا: “إلى الجنة رايحين شهداء بالملايين…”
لم يخلُ الثلث الأول ومسيرة التحرر النفسي من ذهول، والشكيمة الفكرية للثورة أصابها هنات. فكان هناك سباحة في أحلام ديمقراطية وقصور في فهم السياسات الدولية، إلى أن تبيّن أن الواقع السياسي العالمي يكاد يكون منقطعاً كل الانقطاع عن المبادئ الانسانية التي يتغنّى بها. وفي غمرة هذا الذهول، تمنّت الثورة ما هو في غير صالحها… تمنّت في مرحلة مبكرة جداً التدخّل العسكري الخارجي. ومثّل هذا التمني براءة في التفكير واتكالية كان لا بدّ أن يتطهّر منها المخلصون. فمن قال إنّ القوى الدولية المهيمنة تتمنّى أصلاً أن تنتصر ثورة بلاد الشام؟ وما معنى طلب النصرة ممن يحب أن تنهزم وتفنى؟ فالسلوك الدولي في الفترة المبكرة كان واضحاً في اكتفائه بالكلام والاجراءات الاستعراضية التي لا تخرج عن الضغط على النظام لـ (تعديل سلوكه) فحسب، بانتظار أن تخبو الثورة ولا يحدث تغيير جذري.
ثم انبلج الفهم الواضح متمثلاً في شعار “يا الله ما لنا غيرك يا الله” وانعكس في الواقع إلى أقصى مداه. ولعل آلام التشنيع الفظيع الذي قام به النظام والقتل والتعذيب كان وراء التأخر النسبي لإدراك وجوب الاعتماد الكامل على النفس، وكان سبب الإعراض عن النصائح في هذا والتحسّس منها. ولْنتخيل أنّ التدخل العسكري حصل مبكراً، فلكان حجم الضحايا عندها قريباً مما ذهب إلى الآن، ولادّعى من ساعد لنفسه الفضل ولَشرط شروطه التي تزهق ما ثارت عليه الثورة وتعيد المسيرة الوطنية إلى سجن نظام استبدادي جديد تحت أثواب مغايرة. أما إذا أتت مساعدة الآن بعد أن اقتربت الثورة من خط النهاية –وخاصة إذا اقتصر الأمر على التسليح- فإنها ستكون مساعدة جانبية إضافية لا أكثر.
ثلث المدافعة
في الثلث الثاني من رحلة الإنابة والتحرّر، أضافت الثورة إلى حراكها المدني وسيلةً جديدة تتّخذ من المقاومة المسلحة درأً ضد التفظيع الذي يقوم به النظام الوحشي. وكأن لسان حال الثورة يقول أنها عزمت على أن لا يقتصر إنجازها على دور الشهادة وإقامة الحجّة فحسب، وإنما لتسعى أن يتحقق الوعد بالتمكين من خلال وسائل تتّسم بالواقعية الجدية في التعامل مع الأحداث.
فبعد أن شهد أول رمضان من مسيرة الثورة التفافاً شعبياً واسعاً حول أهداف الثورة، وبعد أن أدرك النظام استمرار خساراته وتراجع قوته أمام اتساع حجم الإجماع الشعبي على تطهير البلد من الاستبداد، عمدت ممارساته الإجرامية إلى تصعيد القمع وإلى التنكيل الجماعي وارتكاب المجازر. وأبدت المقاومة المسلحة ضبطاً للنفس منقطع النظير. فبرغم أنّ السلاح يُغري حامله بتجاوز حدّ الدفع المقبول، التزمت المقاومة المسلحة بالضوابط الأخلاقية، فلم تتوجه نحو الانتقام أو التدمير، وإنما إلى إشهار السلاح فقط في وجه من لا يرعوي عن القمع، وإشاحته وإعطاء الأمان لمن يسلّم ويكفّ عن قتال الإرادة الشعبية. وإذ سعى النظام من البداية إلى تحويل المواجهة إلى مسالك طائفية، فإنه وبعد تزلزل أقدامه في وجه مقاومة مسلحة ملتزمة بأولويات الوطن بالغ في ذلك بارتكاب ما يندى له الجبين. وبرغم ذلك أبدى الحراك الثوري نضوجاً وحكمة بالغة في رفضه الانزلاق في متاهات الطائفية. وإذ تعاظم الشعور بدور البُعد الطائفي في تشكيلة قوى النظام وفي دافعيّتها، فإن المقاومة المسلحة الشريفة رفضت أن تنجرّ إلى مواجهات طائفية وكذّبت بأفعالها وانضباطها كل افتراءات الحرب الأهلية… فلم تعتدِ على مناطق بناءً على مكوّنها الطائفي، ولم تستهدف المدنيين بناء على انتماء طائفي، وإنما وجهت ضرباتها للقوات التي تعتدي على المدنيين والتي تحمي النظام الشرير.
ولكن لم يخلُ الثلث الثاني من مسيرة التحرّر من الذهول أيضاً، والشكيمة الفكرية للثورة أصابها هنات. فكان هناك استعجال ومحاولة لحرق المراحل. فكما هو معروف، لا تملك الثورة إلى الآن إلا السلاح الخفيف بالإضافة إلى اليسير من مضادات الدروع، ولم تصل أي مساعدات خارجية لسلاح نوعي. وحرب العصابات وحرب الشوارع تقتضيان أن لا يكون الهدف هو المحافظة على قطعة أرض، وإنما إنهاك الجيش النظامي بضربات سريعة موجعة. الهدف ليس هو إلحاق الهزيمة من خلال السحق وإنما إيقاع العدو في العجز من خلال الإعياء. وقد تتمّ السيطرة على مساحات من الأرض، غير أن هذه السيطرة هي سيطرة استراتيجية عمادها عجز القوات النظامية عن الانتشار الواسع في كل مكان، وليس عمادها القوة الفيزيائية العددية التي تشغل تلك الأرض المحرّرة عملياً.
فكرة الحسم في مثل هذا الوضع هي أشبه بالشهوة الحلال التي يُطلب الترفّع عنها. لغة الحسم واردة عندما يمكن الكلام عن موازين قوى، وغير واردة في سياق ثورة شعبية لها ذراع مسلح. فالثورة قوية بعمقها الشعبي وليس بما عندها من السلاح. الفوز بعاصمةٍ يتمترس فيها نظامٌ متوحّش يحشر نخب قواته فيها أمر غير متصوّر، إلا إذا امتلك الطرف المهاجم قواتاً كاسحة. الهدف الجوهري لحرب المدن في العاصمة أن ترفع من مستوى خوف النظام الغاشم لكي لا يجرأ أن يحرّك قواته نحو المناطق البعيدة التي تتفلت من يده تدريجياً. ويتحقق هذا بضربات نوعية تقضّ المضجع الفرعوني في هرمه الذي يحسبه آمناً، كما يتحقق بضربات غير نوعية تُفقد حرّاس هامان النوم وتستنفر قواهم بأدنى التحرّشات. ويوفّر ذلك للمقاومة المسلحة قوات لتضرب خطوط إمداد العدو في طول البلاد وعرضها على نحو يُعجز النظام، فلا هو قادر على ملاحقتها جميعاً وإلا تشتت قواته، ولا هو قادر على تعزيز قواته في مدن ونقاط استراتيجية تحاول الخروج من قبضته. وفي النهاية تصبح العاصمة المحصّنة جدُراً بلا معنى تعزل أكثر مما تحمي، ويصبح مركز الحكم فيها غير قادر على بسط سيطرته أو القيام بالمهام التي تضطلع بها عادة العاصمة والتي تبرر كونها عاصمة ومركز حكم.
هذه الهنات ليست هنات المقاومة المسلحة فحسب، وإنما هي هنات الإعلام أيضاً وهنات توقعات الجمهور المناصر للثورة وتعليقاتهم في شبكات التواصل الالكتروني. وتوقعات الناس واستعداداتهم مهمة جداً لأنهم هم الذين يشكلون القاعدة الشعبية الحاضنة للمقاومة. فقيمة المقاومة الشعبية المسلحة ليست بما عندها من قليل السلاح وإنما بالالتفاف الشعبي حولها، وبالتفاهم والتناغم مع الحراك المدني الواسع.
ثلث الانعتاق
أمور الدنيا تجري وفق أسباب مخلوقة مفهومة. غير إنه عند تحقّق الإخلاص وتجرّد النفس يُكرم المولى العزيز عباده بما لم يكن بالحسبان. ويبدو أنّ الرعاية الربانية هي التي أخذت بيد ثورة الشام تستنهضها من عثراتها وتُكرمها بالموافقات التي تعزّز المسيرة. ويصعب تجاهل ما نحسبه إكرام رباني في توقيت رمضان، فلقد جاء رمضان الثورة الأول في أنسب وقت يساعد على بلورة توجّه الثورة وتكبير ساحة الحراك، وكذا كان توقيت رمضانها الثاني. ثورة بلاد الشام ليست مجرد ثورة على نظام حكم ظالم غاشم، وإنما هي فوق ذلك عزم على استنقاذ شخصية الأمة وروحها بعد أن أسست لتشويهها قوى الاستعمار لقرن خلى وأوكلت مقاليدها إلى إديولوجيات نخبوية وعقدٍ أقلوية غريبة عن النسق الحضاري للأرض المباركة مهد ديانات التوحيد.
قد يغيب عن البعض أن الثورة قد انتصرت… ولقد سقط النظام وسقطت شرعيته منذ زمن بعيد، إن كان له يوماً شرعية… النزال اليوم هو نزال حول المستقبل ومحاولة للالتفاف حول الثورة وإنجازاتها. التحدي العسكري -على ضخامة ما يبدو عليه- ربما يهون أمام التحدّي السياسي الذي يواجهنا. وسوف يُحال دون الحسم العسكري ما لم يتمّ تبلورٌ سياسي يعِد باستقرار البلد بعد تطهيره من رجس الاستبداد. التحدّي اليوم أن يتمّ توافق القوى السياسية، بما في ذلك عناصر جديدة داخل سورية أفرزتها الثورة، وعناصر من المجلس الوطني برغم كل العتب عليه، وعناصر من المقاومة المسلحة. وسوف تضغط القوى الدولية لضم عناصر (مقبولة نسبياً) من النظام البائد، ويترك للثورة في الداخل أن تقبل بهذا أو ترفضه رفضاً كاملاً.
لم تكن هفوات النفس والعقل عبثاً وإنما جزءاً طبيعياً من المسيرة البشرية المبتلاة بالقصور… وما كان الخطأ ليضير ثورة مجيدة اعتمدت على نفسها وأحدثت تغيراً مدهشاً بتضحيات أبنائها وأموال أهليها ما دام لسان حالها يقول: خير الخطائين التوّابون.
Tagged: التصعيد الثوري, التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
اترك تعليقًا