قبل عشرة أسابيع اختارت الثورة اسم (جمعة الحظر الجوي)، وأصبح الموقف من قبوله النظري والمناداة به كمثل الفرقان الذي يميز بين من هو مع الثورة ومن يريد إفشالها، فخلط هذا التقييم السريع بين موقف التمني المشفق والموقف الذي يقيّم فكرة التدخل العسكري من زاوية استراتيجية ومن باب احتمال تحقّقها العملي.
ثم عاد في الأسابيع القليلة الماضية التأكيد على الشعار القديم: (يا الله ما لنا غيرك يا الله)، أو بعبارة بنش/إدلب (الشعب يريد عناية ربانية) ليؤكد يقظةً عقلية نفسية في حراك الثورة يملؤها التسليم بقدرٍ مرٍّ كالعلقم وثبات عالي الهمة كعلو الجبال.
تمني أبابيل من الطائرات ترجم الشياطين اللعينة التي أذاقت الناس صنوف العسف أمر مفهوم، وبدا للثورة أمراً مقبولاً برغم كرهه المبدئي. وبدا أيضاً أن ثمنه ليس أكثر من القتل والهدم وتخريب الحياة والاعتداء على الحرمات وتحويل الحياة اليومية إلى جحيم لا يطاق. وفوق ذلك يزفّ هذا التمني صورة خلاص ٍفوريٍّ يشفي صدور قوم صابرين ويقلب المجنّ في أيام قليلة.
والتبرير المنطقي لفكرة العون العسكري من الخارج أنّ النظام سوف يفقد سيطرته على الموقف بعد سقوط أول دزينةٍ من القنابل، فتنفتح لعناصر الجيش المغلوبة على أمرها فرصة انعتاقٍ لطالما حلموا بها. والقسم الثائر من الشعب يصبح أقدر على التحرك، والرماديون الذين قلوبهم مع الثورة لكن ظروفهم لم تسمح بالمشاركة المباشرة أو أنهم هابوا نتائج تحركهم يتحولون آنياً إلى قوى فاعلة بعد أن كانوا رصيداً خامداً. وأخيراً طلائع الجيش السوري الحرّ تصبح سيد الموقف.
التدويل أم التدخل العسكري؟
هناك ثلاثة إشكاليات أساسية في التصور المتفائل للتدخل العسكري، وقبل أن أناقش هذه الإشكاليات، أشير إلى أن التعبير عن هذا التصور أصبح غير موفق بعد تحديده لوسائل معينة (الحظر الجوي، والمنطقة العازلة، والتدخل العسكري)، فالمطالبات القديمة بـ (حماية المدنيين) أحسن صياغة لأنها تترك الباب مفتوحاً لخيارات متعددة بحسب الظروف، ولأنها تضع العالم أمام مسؤولية إنسانية أخلاقية.
أول إشكاليات الصورة المتفائلة للتدخل العسكري هي أنها رواية لأحسن سيناريو ممكن. غير أنّ التخطيط العاقل هو الذي يحسب أيضاً أسوء سيناريو ويتجنّب الوقوع في غواية التمني. ويأتي الجواب على هذا الاعتراض بأنّ الشعب راضٍ بأي ثمن… المهم هو الخلاص، ثم نتدبّر أمرنا على نحو أو آخر، فلا يمكن أن يكون الوضع على أسوء مما هو عليه الآن. ولكن الأَولى حساب سيناريوهات أكثر واقعية، لا لتحجز عن أخذ قرار مصيري وإنما ليكون الشعب على بيّنة أكبر.
المشكلة الثانية في الصورة المتفائلة أعلاه هي عدم أخذ تبعات التدخل ومترافقاته بعين الاعتبار. فبقدر ما يسيتطيع الحراك الداخلي أن ينجز بنفسه ويقلل الدور الخارجي، لا يكون هناك منّة من الخارج وتلاعب في مستقبل سورية. ومنذ أول دعوة للتدخل إلى الآن، أنجزت الثورة إنجازات مهمة تتمثل في شبه خروج بعض المناطق من القبضة المباشرة للنظام، وتطور الحراك في مناطق كانت هامدة، مع الوعي الكامل بأن هذا الإنجاز –كأي إنجاز- سالت من أجله دماء وفاضت أرواح.
دور المساعدة الخارجية في أحسن سيناريو دور جزئي يتصوره الناس دفعة صغيرة لصنم يتهاوى. غير إنه في حالة وسط أو أقرب إلى السيء من السيناريوهات، يكون للخارج دور أكبر من دفعة أخيرة، ولأمسك بعدها بيده بعددٍ كبير من الخيوط لا ترجوه الثورة ولا ضحَّت من أجله. وإذ لا يشك أحد في أنّ التدخل العسكري لو حصل لن يكون (لوجه الله)، فحريّ أن يجري التفكير في بعض تبعات هذا. ولا نقصد التبعات من وجه الضحايا والدمار والاقتتال فحسب، وإنما تمكين فرق انتهازية ومكوّنات لا تحقّق ما طمحت الثورة إليه.
المشكلة الثالثة والكبرى في خيال التدخل العسكري الخارجي أن صاحب الأمر لا يبدو أبداً مستعداً للقيام به. وليس هناك أي إشارة بأن التدخّل وشيك، بل المؤشرات تومئ إلى نفيه، وهذا ما تؤكد عليه صفوة المحللين للشأن السوري*. إنّ العوامل التي تحجز عن التدخل لا يمكن أن تفوت ناظر: الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر فيها أروبة والولايات المتحدة الأمريكية، وقرب موعد الانتخابات الأمريكية والفرنسية، والانسحاب من العراق بعجز ظاهر لم يمرّ عليه طويلاً… كلّ ذلك يجعل احتمال التدخل العسكري ضئيلاً. ولا ينفع هنا إساءة فهم العبارات العامة لبعض المسؤولين التي تؤكد أنه إذا لزم الأمر التدخل بالمنطقة فالولايات المتحدة الأمريكية قادرة عليه، فهذا صحيح من باب أنّ عند هذه القوة العالمية خططاً جاهزة للتدخل في كل بقاع الأرض، وخاصة الساخنة منها وما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط. ولكن هذا من باب الإعداد والتخطيط والاحتراز من المفاجأة لا من باب نية الفعل والعزم عليه، فبعد الهجوم الياباني على مرفأ بيرل أخذت الولايات المتحدة على نفسها عهداً أن لا تباغَت.
ويقال إنّ قبول فكرة التدخل العسكري أو إبقاؤه خياراً مفتوحاً يخيف النظام. ويصعب الجزم بدرجة قلق النظام من ذلك، فبرغم أنّ المنطقي ارتعاد رموزه من هذا الاحتمال، إلا أنّ الأغلب أن النظام يركن إلى تطمينات الاستراتيجيين الإيرانيين والروس الذين يؤكدون أنه لن يكون هناك تدخل وشيك.
حاول النظام السوري أن يرفع كلفة التدخل العسكري من خلال نوع السلاح الذي اقتناه. والأرجح أن هذا لن ينفعه كثيراً فيما إذا صار هناك تدخل فعلي، فلن تصمد طويلاً القوات السورية تحت إمرة النظام أمام أي تدخّل مدعوم بالقدرات العسكرية المتفوّقة. وليس هذا بسبب الفارق التقني الشاسع فحسب، وإنما الأهم من ذلك هو العجز الإداري للقيادة العسكرية السورية وللغياب الواسع للعقيدة القتالية؛ وليس عند النظام حيلة للإرباك إلا دسّ القوات في الأماكن السكانية. إن الذي رفع حقيقة كلفة التدخل هو إيران. وذلك لأنه إذا جرى التدخل العسكري بقوة بسيطة تناسب ضعف القوات السورية، لاستغلت إيران هذا الوضع ومكّنت من توجيه ضربات مُهينة (بشكل غير مباشر وعن طريق حلفائها) لكبرياء الناتو والولايات المتحدة الأمريكية. وهذا بدوره يُجبر أي تدخل أن يحسب هذا الحساب ويحشد مسبقاً حشداً كبيراً مكلفاً، فقط ليتمّ درء احتمال الاستغلال الإيراني، ولو كانت إيران غير راغبة في مواجهة مفتوحة.
موقف روسيا من شأنه أن يرفع الثمن السياسي للتدخل. لروسيا حسابات استراتيجية تجعلها تصرّ على دعم سورية تفوق بكثير مصالحها الاقتصادية. وكان يقال إنّ الدب الروسي دوماً يتطلع إلى غمس أرجله في مياه دافئة، عبر أفغانستان باتجاه المحيط الهندي. واليوم يمكن أن يقال ذلك عبر إيران والعراق وسورية باتجاه البحر الأبيض المتوسط. والدول الناضجة تداهن في المصالح لا في الأمور الاستراتيجية، وروسيا يمكن أن تغيّر موقفها في تسوية شاملة مع القوى الغربية. وتجاه هذا إذا أرادت القوى الغربية التدخل لربما تفضّل تجاوز مجلس الأمن، والاستناد عوضاً عن ذلك إلى بنود أخرى من القانون الدولي وإلى ترتيبات سياسية أخرى، وكل ذلك يرفع الكلفة السياسية للتدخل.
ما سبق يقتضي الاستنتاج بأنَّ قدر الثورة أن تعتمد على نفسها وتزيد من استثمار الامكانات الذاتيّة للشعب السوري، برغم أن ذلك يعني استمرار الآلام والتضحيات والصبر على العسف والتخريب والإجرام…
والاعتماد على النفس لا ينافي ما ذُكر من التدويل في مستهلّ هذه الفقرة. فسورية ككيان اجتماعي هي جزء من البشر، وككيان اقتصادي جزء من تبادلات عولمية، وككيان سياسي جزء من المجتمع الدولي وعضو في الأمم المتحدة. والأهم من ذلك كله أنّ مطالب الشعب السوري ليست مطالب خصوصية نفعية نرجسية، وإنما مطالب إنسانية في غاية الوضوح. والوضع السوري هو مدوَّل أصلاً، سواء من ناحية موقعها الجغرافي من إسرائيل، الذي ازداد إشكالية بعد الثورة المصرية، أو من ناحية تحالفها الاستراتيجي مع إيران، أو من الناحية التركية ووضع الكرد، أو من ناحية الدول العربية الأخرى المحاذية أو المجاورة. صعوبة الحالة السورية أنها مشتبكة دولياً وإقليمياً إلى درجة كبيرة، والحلّ ليس له خيار إلا وأن يتعامل مع عناصر التدويل هذه. لكن السؤال المعضل هو كيف يتمّ هذا؛ كيف تدير الفاعليات الدولية وتوظّفها لصالحك الوطني على نحو يحقق أكبر قدر من أهداف الثورة بأقل ثمن ممكن.
كمون ثوري يتعاظم؟
يبدو أن تسمية الجمعة الماضية بجمعة (إن تنصروا الله ينصركم)، تحمل في روحها توبة استراتيجية أدركتها فطرة الثورة. وربما أدرك الحراك الثوري أن الأمل بالخارج يُخمد عزم الداخل. ومبكراً أشار البعض إلى أنّ من أسباب تأخر الحراك في حلب هو خيال الكثيرين من أهلها أنهم سوف يصحون يوماً على أزيز الدبابات التركية.
وحيث أنّ دمشق وحلب هما من أهم الكمون المتبقي، من المناسب الإشارة السريعة لأربعة عوامل ساهمت في طبيعة كل تحرك منهما (مع إدراك الفوارق بين الحالتين). أولاً، تركيز كثافة القوى القمعية فيهما بسبب الأهمية السياسية والرمزية البالغة للعاصمة، وللحجم السكاني لدمشق وحلب، ولثقلهما الاقتصادي أيضاً. ثانياً، من ناحية التركيبة السكانية، لا يمكننا أن ننسى كثرة غير الدمشقيين الذين يعيشون في دمشق ممن هم جزء من النظام أو من الموالين له، بما في ذلك علويون كثر؛ وبرغم أنّ الأقل دخلاً منهم يعيش في أحياء خاصة على أطراف المدينة، فإنّ العدد الأكبر من الموالين يعيش بشكل متداخل مع غيرهم في شتى أحياء المدينة، وكل ذلك يخفض إمكانية التحرك الجماعي على نحو ضخم. ثالثاً، مقارنة بغيرهما من المدن، هناك كثافة أكبر للمنتفعين في هاتين المدينتين، سواء أكانوا من أهلها الأصليين أم من سواهم؛ والمتضررون عادة أسرع استجابة، وكذا من عندهم رصيد نفسي/فكري مقاوم، سواء أكان هذا الرصيد دينياً أو غير ذلك . رابعاً، من العوامل الفاعلة في المدن الكبرى قلة التجانس في الأحياء والضعف النسبي للتناصر وانخفاض مستوى الثقة بالمحيط، مما يُعلي من شعور التوجس. ولذا لا يستغرب أن الحراك في دمشق كان أقوى في الأحياء المتجانسة سكانياً، ولا سيما عند توافر محفِّز شعبي ديني. ونشأت في حلب حالة خاصة استطاع فيها النظام تجنيد عملاء داخليين بكثافة، وضبط هذه القوى شبه المدنية أقوى من أي ضبط رسمي.
بعض هذه العوامل المذكورة عوامل هيكلية لا يمكن تغييرها. والجهد البشري لا ينفق عزيزه على تغيير العوامل الهيكلية الثابتة، وإنما يلتف حولها، كما لو واجهت الماء صخور وعقبات، استدار الماء حولها وتابع مسيرته. أي أنه لما كان تغيير التوزع السكاني غير ممكن، توجّه زخم الحراك إلى مسارات أخرى بعدما عجز عن التجمع في الساحات الكبرى. ويدرك النظام أنَّ تفلّت مدينة كبيرة لا يمكن ضبطها فيما بعد، بينما إذا تفلّتت مدينة صغيرة يمكن تأجيل قمعها والانتقام منها. ومعروف في تكتيكات التحريك أن الأمر الحاسم هو الوصول السريع والمفاجئ لقوى المعارضة إلى كتلة حرجة تعجز قوى الأمن عن مواجهتها، ولا ينفع بعدها استدعاء مزيد من القوى الأمنية لأنّ الكتلة المعارضة تكبر بمتوالية هندسية أسرع من الاستنفار القمعي أو تفوق قدراته.
أما العوامل غير الهيكلية، فالحراك سعى للتعامل معها بطريقة أو أخرى. فمثلاً، تجاه العملاء الداخليين نجحت حمص، وكذا أجزاء من الريف بالضغط عليهم وتحجيم دورهم. مواجهة التركيز القمعي في العاصمة يصعب مواجهته مواجهة مباشرة، وإن كان بعض شباب الثورة يصرّ على ذلك بجرأة بالغة. وبشكل عام، يمكن رفع كلفة الضبط بالتناوش المستمر مع قوى القمع الراجلة دون أن يصل ذلك إلى مواجهة مفتوحة. والحراك الداخلي يحسب هذه المعادلة بدقة، فالمقاومة اللاعنفية السلبية التي تتسبّب في بعض الأذى للشبيحة أو تفضح صورهم أو تعطّل مركباتهم أو تحرمهم النوم… مثل هذه الوسائل ترفع كلفة القمع بشكل حادّ ويمكن أيضاً أن تستنزف قوى الأمن. والإبداعات التي قامت بها فرق في دمشق ربما تبدو فاترة جداً مقارنة بما يجري في المناطق الملتهبة، ولكنها ذات فعالية وتنهك الأمن، إذ أنّ لاشرعية النظام لا تسمح له حتى بتحمل أعمال رمزية بحتة، فيحتاج استنفار قواه لأرهف التحديات.
يلزم التنبيه هنا إلى محدودية فاعلية القمع العالي. فالضغط العالي المستمر التي تمارسه قوات النظام في المدن الكبرى أوجد ثغرات أمنية متقطعة في أطرافها. وريف دمشق مثالٌ على هذه الفجوات التي مهّدت إلى التهابه. فبالإضافة إلى أنّ الأرياف أكثر تضرراً من النظام، وبالإضافة إلى عوامل أخرى جرت الإشارة إليها، الانشغال الأولي عن البلدات المحيطة بالمدن قدح حراكاً قوياً في هذه البلدات المتماسكة وأوصلها إلى نقطة متقدمة نسبياً. والقمع الذي سلِّط عليها فيما بعد والعجز عن امتصاص الغضب ما زادها إلا التهاباً وتصميماً. وخضعت أكثر مدن سورية لهذه الديناميكية، حيث كان هناك تبادل في أدوار المقاومة أو تناوب بين المدينة والبلدات المحيطة بها. والتهاب الوضع في الأحزمة الريفية حول المدن يجعل من المدينة جزيرة هدوءٍ وهمية معرّضة لأن ينتشر الحريق إلى أطرافها في أي لحظة. إن استمرار هذا الوضع، برغم ثمنه الإنساني العالي وصعوبته الحياتية التي لا تكاد تطاق، يدفع المناطق إلى مزيد من الابتعاد عن دائرة سيطرة الحكم. وسنعود إلى هذه النقطة في نهاية التقرير.
الدفاع العسكري المسلح
غالب عناصر الجيش هم من أبناء هذا الوطن الذين التظوا بنار النظام، وليست ظاهرة الانشقاق بغريبة، وإن كانت تحمل مخاطر هائلة لمن يحاول القيام بها. وهكذا كان أول تشكّل لفصائل الجيش السوري الحرّ على الأطراف الشمالية وفي منطقة جبل الزاوية الذي يتمتع بميزة جغرافية وقريباً من الحدود الدولية. وبعد تجاوز صعوبات بالغة، أصبح دور فصائل الجيش السوري الحر حيوياً في حمص ومناطق أخرى، يقوم مقام الحارس الذي يمكِّن الحراك القيام بأشكالٍ من العصيان المدني. تحرّك فصائل الجيش السوري الحرّ في المناطق الأخرى أصعب بكثير.
النشاط القوي للجيش السوري الحرّ يمكن أن يكون فاعلاً بالخصوص عند توافر أربعة شروط:
أولا،ً حين تكون المدينة بعيدة عن المركز دمشق. وذلك لأن العاصمة سوف تبقى آخر معاقل الحكم وأشد ما يدافع عنه، ولا يمكن أن يفرغها من القوات الموالية جداً، ومستعد لأن يبذل كل جهده لسحق أي تحدٍّ قريب من مرتعه. ولكن برغم ذلك، توافر عوامل أخرى قد تسمح لدورٍ للمقاومة الدفاعية المسلحة، كما هو الحال في مناطق الزبداني ومضايا قرب دمشق لكونها مناطق جبلية وبينها وبين لبنان مسارات مفتوحة منذ زمن بعيد.
ثانياً، كون المدينة وسطاً في حجمها يعزز فرص الدفاع. وذلك لأن المدينة الكبيرة تُعجز المقاومة عن الإحاطة بها، والمدينة الصغيرة يسهل حشد أعداد كبيرة لسحق حركتها. ومثال ذلك الرستن، الذي انتقلت بعدها المقاومة المسلحة إلى مدينة أكبر لها عمق سكاني وعمراني وخدماتي يساهم في التزويد بأساسيات الحياة.
ثالثاً: قرب المدينة من الحدود الدولية يخوّلها أن تفتح خطوط إمداد مستمرة ومتعددة، بحيث إذا أُغلق واحد يُستحدث آخر. ومناطق إدلب وحمص مثال على ذلك، وكذا درعا إلى حدِّ ما. دير الزور مؤهلة للعب هذا الدور، وإن كانت الحدود الدولية المتاخمة لها مترامية الأطراف.
رابعاً، عدم وجود تداخل سكاني بين الموالين للنظام والثائرين ضدّه، وإلا لفقد التجمّع المقاوم سرّية القنوات الشعبية التي تسانده.
كل الذي ذكر عن دور محتملٍ للجيش السوري الحرّ متصور من زاوية استرتيجية دفاعية بحتة. وأسباب ذلك واضحة يتوّجها اثنان: لأن القوة التي يحتاجها المدافع المرابط على ثغر أقل بكثير من المهاجم، ولأنه إذا هاجم الجيشُ الحرّ قوات الجيش تحت إمرة النظام فإن تلك القوات سوف تردّ على النار بالنار غريزياً بغض النظر عن درجة ولائها للنظام. ويترجّح هذا عند تذكر أنّ ظروف الجيش السوري الحرّ صعبة جداً، وهو جسم افتراضي لحدٍّ كبير ينتظر الفرص المواتية ليكامل تكوينه، كما أنه ليس هناك إمكان كبير للتنسيق مع القيادة أو مع الفصائل الأخرى. عمليات كرٍّ وفرٍّ تضرب مواقع حساسة للنظام لها أثر كبير على زعزعة ثقة النظام بنفسه، وتستقطب التأييد والإمداد من الشعب الثائر، ولكنها أيضاً يمكن أن تدعو النظام للقيام بمغامرة تدميرٍ شامل واسع.
تعميق الإنجاز السياسي
لا بدّ لأي ثورة شعبية من طليعة سياسية تترجم الكفاح الميداني إلى إنجاز سياسي. وبسبب أنّ البنية الستالينية للنظام السوري منذ أسّسه حزب البعث ومروراً بالطفرة التطورية التي جعلته عائلياً ومحاطاً ببطانة لصوصِ النيوليبرالية الاقتصادية، استحال وجود مكوّن سياسي مكتمل داخل الوطن، وما كان منه من داخل الوطن جرى استيعابه بشكل أو آخر. وهنا برز دور المعارضة في الخارج ومسؤوليتها الأخلاقية عن خدمة الثورة. والحقيقة أن تقسيم المعارضة إلى داخل وخارج ليس مفيداً ولا يعكس إلا القدرة على التحرّك. فالتشكيلة السياسية الفكرية للداخل والخارج متشابهة أو متطابقة، ومعظم المشتركين في المعارضة في الخارج هم طريدو النظام.
غير أنّ التشابه في سمات المعارضة في الداخل والخارج يقابله تحديات مختلفة تدعو كل فريق إلى رؤية مختلفة للأولويات، بل ولطبيعة العملية السياسية ذاتها. ويمكننا أن نؤكد أن الداخل تتصدر اهتمامته الأولويات قريبة المدى، بينما تتصدر اهتمامات الخارج الأولويات متوسطة المدى، وكأن الأول يدرك أن ليس عنده فسحة عملية للتعامل مع احتياجات المدى المتوسط والثاني يدرك أن ليس عنده قدرة عملية كبيرة على التعامل مع الاحتياجات الآنية. وهذا بدوره ولّد شعور فتورٍ في العلاقة بين الحراك الثوري الداخلي وبين الحراك الخارجي المنظم بعد أن تعلّق الأمل به تعلقاً كبيراً عكسه شعار (المجلس الوطني يمثلني)، وهو المجلس الذي يحوي فعلاً على عناصر تمثل الداخل. وبدل أن تترتّب العلاقة على نحو توزيع في الأدوار بحسب الموقع والقدرات، حلَّ محلّه التلاوم.
شعارات الفترة الأخيرة فيها دلالة واضحة على فتور العلاقة بين الجسم الحركي في الداخل والجسم السياسي في الخارج. هذه الشعارات أضحت بمثابة إعلان عن موقف سياسي للداخل: حظر جوي، منطقة عازلة، طرد السفراء، تجميد العضوية، تدويل القضية. وطريقة تعاطي هذه الشعارات تشير إلى أن الحراك الداخلي يعتبر (أو كان يعتبر) أنّ سلوك القوى الدولية يأتي من باب الدفاع عن حقوق الإنسان (القوى الغربية) أو نصرة الأخ المظلوم (تركيا). ولا يخفى أنّ هذه الشعارات التي تعكس المزاج الشعبي ليس لها أثر على الفعل الدولي إلا كرسالة طمأنة أنه إذا أردتم فعل كذا فلا مانع بل نرحب.
الرسالة الثانية التي تتضمّنها هذه الشعارات هي رسالة عدم تسليمٍ كاملٍ للمجلس الوطني، فتأخذ دوره وتتكلم بالنيابة عن نفسها. غير إنه من المفروض أن يضطلع المجلس الوطني بوظائف العمل السياسي، بالتنسيق والتشاور مع الحراك الداخلي. والأدوار المنوطة بالمجلس الوطني أدوار بالغة الأهمية، فبالإضافة إلى الدور الديبلوماسي وإبراز وجوهٍ للقضية السورية تصبح معروفة دولياً، وبالإضافة إلى تطوير خطابٍ للثورة متفهّم عالمياً، وبالإضافة إلى محاورة الدول وحثّها على تقريب مواقفها من الثورة، المفترض أن تشمل أدوار المجلس رسم خطة استراتيجية شاملة تحوي على ثلاثة أبعاد: دور المقاومة المدنية، ودور الجيش السوري الحرّ، وتطوير العملية السياسية كالسير نحو مجلس انتقالي أو حكومة منفى. وبالإضافة إلى رسم استراتيجية مرحلة ما قبل زوال النظام، المطلوب أن تعمل على بلورة رؤيتها وخططها للمرحلة الانتقالية لما بعد زوال النظام. هذه مهمات هائلة بالغة التعقيد وتحتاج إلى طواقم وإمكانات لائقة.
وإذا كان تشكيل المجلس الوطني يعدّ إنجازاً بحدّ ذاته، قعد فيه على طاولة الحوار فرقاء من خلفيات فكرية متنافرة، من قومي وليبرالي ويساري وإسلامي، بالإضافة إلى أبعاد أخرى في تكوينه كالبعد الكردي أو الآشوري، وبالإضافة إلى أنّ هناك تنوع وتقاطع داخل كل مجموعة؛ فإن المطلوب هو الاتفاق على أجندة عمل والمباشرة بتنفيذها. إنَّ اجتماع هؤلاء الفرقاء في جو أخوي أو غير عدائي –وإن كان لا يخلو من خلاف حول أمور مفصلية أحياناً- واتفاقهم الواضح على طبيعة مستقبل الدولة السورية حفز أمل السوريين، غير إنه لكي لا يتبخر هذا الأمل لا بدّ للمجلس الوطني من تكثيف إنجازاته. المدافعون عن المجلس الوطني يذكِّرون الناس بإنّ ظروف المجلس ليست بالتي تسهّل العمل المنتج: فالمتفرّغون من أعضائه قلائل، وميزانيته ضئيلة، وأفراده متفرّقون في بلاد عدة. فإذا وضعنا هذا الواقع المتواضع لإمكانيات المجلس الوطني مقابل توقعات الحراك الداخلي، فهمنا خيبات الأمل القوية التي تزلزل الأرض تحت المجلس الوطني وتُنقص من المحصلة النهائية لقوة الثورة.
مصدر التوتر بين الحراك الداخلي المجلس الوطني يكمن في أمرين. الأول هو أنّ جسم الثورة يرى أنّ كثيراً ممن اعتلى صهوة المجلس الوطني لا يمثل حقاً الحراك الداخلي. ولكنّ المجلس الوطني ليس مجلس تمثيل وإن كان فيه تمثيل للفرقاء، وطبيعة تشكّل الساحة السياسية أنه يعتلي منصتها المتحرّك سياسياً بغض النظر عن تمثيله، فالشبكة الجاهزة أو شبه الجاهزة هي التي تحتل مساحة أكبر في الفضاء السياسي. الثاني هو أن العملية السياسية بطيئة بطبيعتها، وهي أقل حدّية من العمل الثوري، وتضطرّ أحياناً إلى شيء من المداهنة تراه مقبولاً مقارنة مع الكسب الذي ترتّب عنها.
وزوبعة محاولة الاتفاق مع هيئة التنسيق كشفت إشكالية اتخاذ القرار ضمن المجلس الوطني وإشكالية التؤدة السياسية في الحراك الثوري. وفكرة الاتفاق لا تعدو أن تكون اجتهاداً بين موقفين: الموقف الذي يرى أنّ هيئة التنسيق لا تمثل أحداً في الحراك وهي جزء من النظام ويعطيها الاتفاق شرعية لا تستحقها، والموقف الذي يرى أنّ التظلّل بمظلة الجامعة العربية –مهما كانت خرقاء- فيها طمأنه لأطراف دولية تحتاج الثورةُ دعمها وفيها استمالة لشرائح متردّدة من الشعب السوري. هذا أمر اجتهادي، والمجلس الوطني ليس صديقاً لهيئة التنسيق بل يعاديها صراحة، ومحاولة الاتفاق –وليس الوفاق- كانت مناورة سياسية اختلفت فيها الآراء داخل المجلس. وطبعاً، المعوّل في الاتفاقات هو شروطها لا مع من تجري، فالاتفاقات واردة بين المتخالفين الأعداء أيضاً. وبالنسبة لمن هم مقتنعون أنّه ليس في الأفق تدخل أجنبي يحمي المدنيين، لا يرون في تجريب المعبر العربي تعريضاً للثائرين لمزيد من أخطار القمع. وعلى كل حال، لم يكن ردّ فعل شارع الثورة مفاجئاً، إذ رفض صيغة الاتفاق رفضاً قاطعاً وهدّد بسحب ثقته من المجلس الوطني، وشكّلت هذه الهزة فرصة للمجلس الوطني لمأسسة أسلوب إدارته.
والمراقب الخارجي لا يفوته أن يلاحظ أنه وصل الوضع السياسي إلى نقطة أصبح فيها الحراك الداخلي، الذي يقوم بالتضحيات والذي عليه التعويل، لا يهمّه إلا همّ الساعة وضائق الصدر بأي مناقشة لرؤية بعيدة، ولو أتتْ من ريادته الداخلية. وبسبب أنّ الحراك الداخلي على مستوى الشارع الملتهب هو صاحب المرجعية، فإنه يكاد يحرم نفسه من خبرة الناظرين من خارج المعمعة، سواء أكانوا في الداخل أم الخارج. وبالطبع، يزيد في تعكير الفهم تشويشُ أشباه المعارضة ومزايداتهم، سواء من طرف هيئة التنسيق الوطني أو الأفراد المستقلين الذين يستعلون على الجميع ويدّعون طهوريةً وطنيةً ويطعنون بالجميع. فهذه القوى تخلط الأوراق وتربك الفهم وتزاود في الشعارات وتحول دون إمكان التدبّر وتقليب أوجه النظر.
وإذا كان الشارع الثوري بدأ يدرك بطأ العمل السياسي وأدرك محدودية إمكانات المجلس الوطني، فإن على المجلس الوطني أن يحسم أموراً في تنظيمه الداخلي لتجعله أكثر رشاقة وأكثر مقدرة على الفعل. كثرة العدد في المجلس الوطني مهمة من ناحية شمولها للأطياف وتحقيق نوع من التمثيل، لكنها مُقعدة من الناحية الإدارية. ولقد تشكّلت في مؤتمر تونس الأخير مكاتب ولجان داخل هذا الجسم الكبير، غير أنه كيف يمكن تنسيق حركتها وهي المفرقة في بلاد شتى، وكيف يمكن تأكيد تناغمها مع المسيرة العامة للمجلس؟ ومن هذه المكاتب ما هو مختصٌّ بالإغاثة، برغم أنَّ هناك أسباب عديدة تشير إلى حكمة عدم اضطلاع المجلس الوطني بهذه المهمة، وإن كانت مما يطالِب بها الداخل ومما يعيب عليه المنتقدون المجلسَ لعدم انغماسه فيها. وعلى كل حال، إذا اقتنعت الهيئة العامة للمجلس، وهي الجسم الكبير، بأنّ دورها الأساسي هو خدماتي بالإضافة إلى تقديم النصيحة، فهذا يخفّف من العطالة الإدارية للمجلس. أما المكتب التنفيذي للمجلس، وهو المؤلف من سبعة أعضاء، فهو نشيط جداً، غير إنه يفتقر إلى تواصل أكبر مع مكونات المجلس، وخصوصاً الأمانة العامة، وهذا ضروري لكي لا يكون هناك انفراد في اتخاذ القرارات ينتج عنه اضطراب واستياء. الأمانة العامة (29 عضو) تحتاج إلى مزيد من التفعيل، ولأن تكون على تواصل كثيف مزدوج: مع المكتب التنفيذي على نحو يناسب السرعة في اتخاذ القرار التي تحتاجها طبيعة مهام هذا المكتب؛ ومع الهيئة العامة للمساهمة في بلورة وجهة سياسية متسقة داخلياً على مستوى الرؤية والبرامج معاً.
إنَّ توجه الآمال المحبطة للداخل صوب الجيش السوري الحرّ ينبغي أن لا تكون على حساب تنمية الهيكل السياسي للثورة، فهو بُعد مطلوب لا غنى عنه. وبدون جسم سياسي ممأسس يتبنى الرؤية العامة للثورة وفيه شفافية ويتحرك على نحو مهني، تزداد صعوبة الدعم الخارجي وتنفسح فرص أكبر للانتهازيين المنفردين.
تشكّل سيناريو جديد
في ظلّ التطورات الأخيرة يمكن القول إنّ مسار الثورة وصل مشارف مرحلة جديدة. ففشل القمع والتنكيل واضح كل الوضوح، وما يمكن أن يسببه هو العضّ على الجراح لا الاستسلام والقبول. ردّ فعل النظام، من اليوم الأول وطريقة تعامله مع درعا، قطع وشائجه مع استنادات مهمة وكبيرة في المجتمع السوري، وتابع النظام في غيّه وأمعن. وبازدياد اعتماد النظام على مخاوف الطائفة العلوية وانتهاجه سياسة قمع عمادها الأتاوات، فرّط النظام بقدرته على العمل المضبوط من خلال مؤسسات الدولة. تصرفات النظام التي اختارها لنفسه تحوّله باستمرار إلى نظام عصابة. كان النظام يشبه مافيا تتحرك من خلال مؤسسات الدولة، والآن يتحول إلى مافيا محضة، وهذا مصدر ضعفٍ للنظام يقود باتجاه مزيدٍ من تفلّت إمكانية ضبطه لحركة مؤسسات الدولة.
الضغوط الاقتصادية تخنق النظام، وإذا تحاشى آثارها في الفترة الأولى فلن يستطيع الاستمرار بهذا. الرئات المتوافرة للنظام، لبنان والعراق وإيران، تسعفه من الاختناق الكامل. غير إنّ الدعم المالي الذي تقدمه إيران يرجّح عدم إمكان استمراره بكميات كبيرة، ولا سيما أنّ ضغوطاً اقتصادية توجه نحو إيران. وكلّ هذا هزّ ثقة المصالح المالية الكبيرة المتردّدة أو التي تصطفّ مع النظام. وهذا الوضع مرشّح لأن يتفاقم ويصل إلى نقطة الانهيار في غضون ستة أشهر، إذا استمر الضغط واستمرت المحاصرة الخارجية أو ازدات. طبعاً، الشعب الفقير يعاني من هذ الاختناق الاقتصادي وكان أول من شعر به، ولولا المساعدات المالية لكان الوضع أكثر مأساوية.
عجز النظام عن التحكم الكامل بمناطق سورية تطورٌ لافت للنظر ويمكن أن تكون له نتائج حاسمة. ولتقدير حجم هذه المناطق، اعتمدنا مظاهرات الجمعة الماضية في 6/1/2012. وبمراقبة الفيديوهات المصورة، يمكن تقسيم الحركة إلى تلك التي على شكل مظاهرة في الشوارع أو قرب المساجد وتلك التي على شكل احتفالية ثورية تصدح فيها الأهاجيز الحماسية. وبناء على هذا المؤشر، نستطيع القول إن محافظات حمص وإدلب وحماة ودرعا ودير الزور والحسكة هي خارج القبضة المباشرة للنظام. الحزمة الثانية من المحافظات هي التي على حافة الخروج من القبضة المتحكمة أو أن الإمساك الإداري للنظام فيها كان دوماً ضعيفاً، وتشمل محافظات ريف دمشق والسويداء والقنيطرة. بقيت الحزمة الثالثة التي تشمل طرطوس والرقة واللاذقية وحلب ودمشق. ومن ناحية التعداد السكاني لهذه المحافظات، تبلغ الحزمة الأولى حوالي 40 بالمئة من سكان سورية، والثانية 13 بالمئة والثالثة 47 بالمئة. وهذا وضع لا يحسد عليه أي نظام، وهو وضع قلق مؤهل لمزيد من الانسلال عن تحكّم النظام. وننبه هنا أنّ القول بالتفلّت لا يعني أنّ النظام غير قادر على بعث قوات تنتقم من هذه المناطق، وإنما أنه لا يستطيع السيطرة الخامدة ما دام يتحاشى التدمير الكامل الواسع والشامل.
الحراك الداخلي على النحو السلمي البحت اقترب من منتهاه في بعض المناطق، ولكن ما زال فيه فسحة في مناطق أخرى بما في ذلك دمشق وحلب. وحلب ما زالت مرشّحة لتحرّك مفاجئ ويمكن أن تلعب مفتاحاً في التغيير. وإذا حاول النظام توجيه مزيد من القوة نحوها، فسيساعد ذلك على خروج أكبر للمناطق من سيطرته.
لنلخّص الآن وضع النظام في سورية من خلال مرتكزات خمسة. أولاً السقوط الكامل للشرعية، وهو سقوطٌ كامل لأن الموالاة تتعلق به عصبيةً أو مصلحةً، وليس بناء على قاعدةِ أحقيّة سياسية. ثانياً، الأساس الديبلوماسي العالمي تآكل إلى حدٍّ كبير وهو في ازدياد ولا سيما بعد ازدراء الجامعة العربية. ثالثاً، اختناق اقتصادي يسحب من النظام قدرة الفعل ويُزهد به أصحاب المصالح. رابعاً، انخفاض قدرة النظام على الإمساك بمؤسسات الدولة. خامساً، خروج مساحات واسعة وقطاعات كبيرة من الشعب من القبضة المباشرة للنظام، برغم استمرار قدرته على القمع الفظيع.
فما هي قناعات الثورة التي تواجه هذا النظام وتسعى لإسقاطه. هناك قناعة كاملة بإن المسلك السلمي غير كافٍ. القناعة بقوة السلاح انقدحت بعد جرائم النظام في رمضان الماضي، وهي الآن قناعة عامة. وهناك اليوم أمل كبيرة بأن يأتي الإنقاذ من جيش منشق وبمعونة مسلحين يدافعون عن المدنيين.
ولكن التسليح العام للمدنيين بلا ضبط وبلا قيادة وبلا تدريب متقن، يجرّ تلقائياً إلى انفلات أمني وضربٍ للأهداف الرخوة واقتتالٍ بين مجموعات مسلحة، سواء أكانت على طول الخط الطائفي أو على غيره. وفي هذا المناخ، يمكن أن تظهر فئات مسلحة لا يُعرف من وراءها، توجه الأحداث إلى ما هو في غير صالح الثورة. وفي هذه الحال ينزوي معظم الشعب إلى بيوته تجنباً للمصائر المتقلّبة. والمقلق في الأمر أنّ البعض يُقنع نفسه بأنّه بعد تسليح المدنيين الأكثرية (يعني السنة) هي التي تغلب، ولا يضع في حسابه احتمال خسارة جميع الأطراف؛ كما لا يضع في حسابه المستوى المطلوب لهذا التسليح، والدربة اللازمة، وتأمين الإمداد التي تتحكّم به عادة أطراف خارجية مشبوهة. وهناك مشكلة خاصة في فكرة الأكثرية، فلا يصح الاستناد إلى النسب العامة للسكان، فالنسب متفاوتة بحسب المدينة والبلدة. والغلبة هذه يمكن تصوّرها في بلدات فيها تجانس سكاني، ولكنها غير متصورة في المدن الكبرى والوسطى. المفارقة المفاجئة هي أنّ صعوبة التسلّح سوف تكون في صالح الثورة. أي أنه بسبب صعوبة التسلح سوف يقتصر على مجموعات صغيرة، محتضنة من قبل الشعب، تقوم مقام المدافع عن التكتلات المدنية التي تتفلت من قبضة النظام. ولكن قوة السلاح هذه –مثلها مثل الوسائل اللاعنفية- أيضاً غير قادرة على الحسم.
ونستدرك القول هنا بأنه في ظلّ نظام استبدادي ليس مرتكزاً على شرعية انتخابية وعلى تقديم خدمات للشعب، لا تسقطه مظاهرات ولو كبرت ولا يسقطه عصيان مدني. هذا صحيح ولكن لا يعني أنّ وسائل المعارضة السلمية، أو على الأصح، ما يسمى بـــ (تكتيكات الرفض واللاتعاون)، ليس لها أثر. بل إنّ لها أثراً كبيراً في سحب البساط من تحت أرجل الحكم، وإن كانت بذاتها غير قادرة على الحسم. والعصيان المدني، ولو على شكل جزئي أو متقطع له أثر بالغ خصوصاً في مواقع النشاط الاقتصادي. أي أنه لا ينبغي التخلّي عن الوسائل غير العنفية لمجرد أنها غير حاسمة، فهي كحدّ أدنى تحول دون التراجع والركون. وكما قدمنا، ما زالت لهذه الوسائل فاعلية غير مستثمرة كاملاً في مناطق على حافّة الخروج من سيطرة النظام وفي حلب ودمشق.
المصدر الثاني الذي يمكن أن يغيّر ميزان القوى هو العناصر المنشقة من الجيش. ومعلوم أنّ الجيش السوري الحرّ ما زال افتراضياً إلى حدٍّ كبير. غير أنّ كمونه الكبير في هو ذاك الخزان من عناصر الجيش التي تتوق للالتحاق به، بالإضافة لما يتمتّع به من شرعية كبيرة في الشارع الثوري. وإذا استمر انزلاق المناطق خارج قبضة النظام واعتمادها على نفسها، فسيكون ذلك أكثر إقناعاً لعناصر الجيش لانشقاق بأعداد غير قليلة ما دام هناك مأوى لها في المدن والبلدات. شكل الانشقاق له أثر كبير على سير الأمور، فيما إذا كان انشقاقاً فردياً أو انشقاق مجموعاتٍ صغيرة كما يحدث الآن، أو انشقاقاً أكبر تحت إمرة رتبة بعد التخلص من المخبرين. أما الانشقاق مع الآليات فهو صعب جداً إذ سيواجهه الطيران الحربي، وتصبح عندها الآلية عبأً بدل مزية. وكون القوى المنشقة تعتمد على الدعم المدني من أجل الإمداد المؤنيّ، وبسبب اعتياد الجيش على فكرة الانصياع للأوامر، فإن هذا مدعاة أن تركّز المجموعات المنشقة على العدو المشترك من غير أن تحدث فوضى اقتتالٍ متعدّد الأطراف.
تجنب التقرير ذكر المواقف التركية لأن ذلك يستدعي تفصيلاً مستقلاً. ويمكننا أن نلفت النظر إلى أهم ارتكازات الموقف التركي: (1) يراقب التطورات حثيثاً ويعيد حساب موازناته؛ (2) رهاناته تتطور لما يدرك أن الحالة القائمة غير مستقرة وغير مستدامة؛ (3) عنده حساسية بالغة من الانفلات في سورية الذي من شأنه أن يهيج القضية الكردية؛ (4) يدرك تلكؤ القوى الدولية وعدم استعدادها للمشاركة العسكرية؛ (5) لا يحب أن يكون في رأس الحربة ولكن يحتفظ لنفسه بحقّ إعاقة أي مشروع دولي لا يناسبه؛ (6) لا يريد أن تدخل تركيا في مواجهة مفتوحة مع إيران، مدركاً بآن أن القيام بما يغضبها ليس عنه محيد.
إن بدء انزلاق المناطق السورية من قبضة النظام سوف يجبر تركيا على تغيير مواقفها، من ذاك الذي يحاول احتواء الأزمة والتعامل معها عن بُعد وبطريقة غير مباشرة إلى التعامل المباشر ولو غير المعلن. ولا يمكن أن يفوتنا أنّ تركيا تحتضن قيادة الجيش الحرّ ولكن لا تلوّح به بل تكاد تغيّبه عن الأضواء. والذي يلفت النظر إلى أنّ لتركية علاقة طيّبة مع أفراد من المجلس الوطني، ولكنها أيضاً تنأى بنفسها عنه ولا تدعمه مادياً ولا غير ذلك سوى سماحها لعقد المؤتمرات فيها. وكأنّ تركيا تمسك بعدة خيوط في يدها، وتمنع انعقاد الوصلة بين المجلس الوطني والجيش الحرّ قبل نضج الظرف.
لقد أصبح واضحاً أنّ القوى الإقليمية والدولية التي هشّت يوماً إلى الاصطفاف الإعلامي والسياسي مع الثورة من أجل الضغط على النظام السوري وتأديبه، تفضّل اليوم احتواء الأزمة والمساومة تجنّباً لإنجاز ثوري حاسم. غير إنه إذا استمر الزخم الثوري، فإنه يساهم في تصدّع بنية النظام وفي فقدان قدرته على السيطرة على المناطق، ويدفع باتجاه تحقيق هذه المناطق شبه استقلالية وإدارة ذاتية محميّة بقدر من القوة المسلحة. وعندئذٍ سوف تضطر الرهانات الإقليمية والعالمية إلى إعادة حساباتها.
وتركيا هي أول من سيكون معنياً بهذا التطور. وذعراً من فوضى بين الفرق القومية والطائفية، لا يمكن لتركيا الاستمرار في سياسية التحاشي وإغماض العين، ويغلب أن يضّطرها الوضع إلى المساهمة على شكل أكثر حسماً. ومن المساهمات المرشحة دعم لوجستي للمعارضة بشكل عام، ولحلب خصوصاً. وبسبب كون حلب موضع ثقلٍ، وبسبب موقعها الجغرافي، التغيّر اليسير في إحداثياتها الثورية يغيّر ميزان القوى العام على نحو كبير: من ناحية أثرها الرمزيّ السياديّ، ومن ناحية وزنها الاقتصادي، ومن كونها مدينة كبيرة يمكن أن تكون مأوى لأعداد كبيرة من الجيش المنشق. وتتعزّز عندئذ بشكل آلي شبه استقلاليةِ كثير من المناطق الأخرى. وضع المدن الساحلية له أهمية خاصة، وتحركها الفوري يثير المخاوف الطائفية وربما يجرّ إلى اقتتال يعقّد المشكلة، ولذا فإن بقاءها في حالة انتظار وتجميد للفاعليات الثورية أفضل. ينكمش النظام عند ذلك إلى حدود دمشق، ويمكن بعد ذلك أن تتكثّف المساعدة الدولية، ويرجح أنّ غير العسكري منها كافٍ، كالتشويش الكامل على إعلام النظام وعلى اتصالاته. الاحتمالات عندها متعددة ليس فيها ما يُنقذ حياة النظام، وتتراوح بين تفضيل النظام للمواجهة التي تُحدث خسائر فادحة فتتجنّبها الثورة العاقلة بالصبر وبإطباق الحصار، و تفضيل رموز النظام الفرار بثرواتهم.
يبدو أن دعاء أهل بنش (الشعب يريد عناية ربانية) قد استجيب. الفطرة الشعبية أشعلت ثورة الكرامة، والحسّ المرهف للثورة أسقط المواربات، والأمل بالجامعة العربية بعد مواقف جادة لها سرعان ما أفل، وسرعان ما سيغرب الأمل بالمساعدة الدولية. وربما أدركت الثورة أنّ استراتيجية دفاعية، مثل تلك التي اتبعتها غزة، يمكن أن تصدّ أعتى القوى وتحوّل النظام جسماً فارغاً بلا شعبٍ ولا مدنٍ يحكمها. خيار ذات الشوكة يبدو أنه قدر سورية، لتنفسح أقصى درجات الإنجاز، فيخرّ الاستبداد وتندثر أنصاف الحلول، وتنعم المنطقة بأعظم ثورة عربية تصل ردّاتها إلى كل قطر كان له يوماً علاقة مع هذا القلب النابض.
Tagged: المقاومة المسلحة, التصعيد الثوري, التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي
اترك تعليقًا