وهمُ الإفناءِ وهمُّ الحسم: محاولةٌ لسبرِ ضمير الحراكِ الثوري

17/3/2012

ثمة من يعتقد أن العقل الإجرامي عقل حادّ ذكي مخلوط بخسّة نفسية، فيجرّ هذا المركب صاحبه في النهاية إلى حتفه المشؤوم.

وإذا كان للمرء أن يحاول فهم المنطق الغريب لفظائع المجازر الجماعية، ربما لا يمكنه أن يقف إلا على تبريرين شيطانيين: الأول هو فكرة الخلاص من مجموعة بشرية أو طردها من حيّزها الجغرافي تطهيراً عرقياً؛ والثاني هو السحق النفسي بوحشية تصرفاتٍ لا يتحمّلها أي مخلوق كائناً من كان.   غير إن تجارب البشر تنبئ أن المنى الإجرامية قلما تصل إلى مبتغاها.  فلم تُفنِ مجازر صبرا وشاتيلا وتل الزعتر الشعب الفلسطيني، ولم تُفنِ مجازر حماة أهل هذه المدينة، ولم تُفنِ مجازر الإبادة التي قام بها النظام العراقي الوجود الكردي، ولم تُفنِ مجازر الصرب أهل البوسنة والهرسك.  لم تتحقق أحلام المغامرات الساديّة في إفناء الآخر برغم ضخامة الضحايا وفظاعة الآلام، بل أبقتْ ذاكرة المآسي واقعاً خالداً على مرّ الدهور يُحصّن أصحابها من أن تُباع قضيتهم بثمن بخس.  وفي سياق الثورة السورية، ولّدت التضحيات الباسلة وعياً ذاتياً يتجدّد باسمترار ويكتمل وينضج.  لقد أدركت الثورة أن طريقها طويل لا يماثله طريق أي ثورةٍ من ثورات الربيع العربي، إدراكاً مقترناً بيقين قاطع بالنصر، عهداً قطعته على أنفسها أجيالٌ عاينت الموت بأبشع صوره ولمسته وشمّت رائحته وسمعت أنينه.  وبدل أن يدفع البطش الوحشي إلى لاواقعية الانتقام الفردي، دفع نحو واقعيةٍ ثورية ونضجٍ في الوعي النزاليّ.

لقد اعتلجت ضمير الثورة حالاتٌ ثلاث.

اكتشاف الذّات الثوريّة

تألّق ضمير الجمهور الجمعيّ واسترجع روحه المغيّبة بسرعة مذهلة ليدركَ أنه شعب قادر وأنه يد واحدة وأنه لا يرضى المذلة ولا يهاب الموت.  ومع اكتشاف الحراك لمفهوم المقاومة المدنية، خرجت المظاهرات في أنحاء البلد وفق أشكالٍ متعددة تناسب طبيعة التركيبة السكانية للمنطقة، ولم يحدّها عن إمكانية التعبير عن نفسها إلا مدى تركيز النظام على خمد مظاهر الرفض في المنطقة المعينة.  وأحدثت الثورة في أيام قليلة تغيراً لحظياً في المفاهيم والتصورات، وغيّر الزلازال الضميري للثورة مستند العلاقات الوطنية، سواء ظهر  هذا التغيّر على السطح أم لا.  وانطلق الحراك الثوري يسجّل أعلى درجات التضحية على نحوٍ بطولي مذهل، بما في ذلك التصعيد الرمزي الذي أسقط الشرعية المهترئة للحكم التي تستند إلى مزدوجة البطش والرشوة.  وتنامى الحراك الثوري، وحاول الاقتداء بتجارب عربية حسبها نموذجاً يُحتذى، فحاول تكبير حجم المظاهرات فواجهه الرصاص، وحاول التجمّع في الساحات الكبرى فوجد الاستمرار فيه مستحيل في بلد لا يرعوي فيه الحكم عن قتل شعبه.  وما كان للحراك أن يقف وقد رمقتْ أعينُه حريةً كان يتطلّع إليها منذ عقود، فعمد إلى التصعيد الكامل في الأوجه الممكنة، ولو كان هذا التصعيد يفوق إمكاناته.  وكان منطقياً له أن يستبسل في التضحية إلى آخر حدٍ فداءً لكرامةٍ لا تقدّر بثمن.  وتُرجم التعالي النفسيّ على الموتِ والصعابِ والعذابِ استراتيجيةً حركية همّها غاية العطاء ولو وصل الأمر إلى حدّ بذل النفس، وعلا ذلك فوق حسابات الانتصار والربح والخسارة بميزان المواجهة والصراع.

ومن ناحية تفاعل الثورة مع السياق العالمي، توجهت رؤية الحراك إلى استنهاض الغضبة الديمقراطية للعالم لما يجري في سورية من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان.  وفعلاً نشط السوريون في هذا، فأتقن الداخل توثيق التنكيل –بكل مخاطر ذلك- وتحميله على اليوتوب أنْ انظُرْ يا عالم إلى ما يحدث لشعبٍ أعزلٍ يواجه الرصاص بصدورٍ عارية، ونشط منْ هم في الخارج في ثلاثة مهمات: (1) تحريك المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحثّ المحكمة الدولية على فتح الملف السوري؛ (2) والحثّ على المحاصرة الديبلوماسية للنظام السوري وإضعاف شرعيته الدولية؛ (3) والحثّ على الملاحقة المالية لكبار المسؤولين وتجميد أرصدتهم.  ومقابل الاستجابة الكاملة لمنظمات حقوق الإنسان، وجد السوريون أن الإعلام العالمي، العربي منه وغير العربي، لا يملك مطلق الحرية، وتغطيته للأحداث لا يمكن أن تنفصل عن القرار السياسي وعن الموقف العام للدولة من أحداث سورية.

اكتشاف المخاض السياسي

سرعان ما أدرك الضمير الثوري أنّ العفويّة النسبيّة التي تميزت بها أعمال المعارضة لا بدّ لها من تعبير سياسي يحوِّل الجهود المبعثرة إلى وجهة مستديمة ممأسسة.  وتوقّع الحراك أن تكون الحركة السياسية على مستوى من النقاء يماثل نقاء لهيبِ المعارضة، وغلب عليه حسن الظنّ بالسياسات الدولية أيضاً.  وتزامن ذلك مع نموٍ فائق للحراك، فصار له عاصمة جديدة إضافة إلى المهد الأول، وعمّ الرفض –الظاهر فوق الأرض والمستتر الذي تهمس به الصدور وتشهده غرف الجلوس- معظم أرجاء الوطن.  ونوّع الحراك أساليبه وازدادت مهنيّته، واستبشرت الآمال بالانعتاق من الظلم البغيض، فاستمر الحراك في التصعيد المتواتر في مواجهة سلطةٍ ظهر عجزها النسبيّ برغم كل ما معها من قوة.  وقرّر النظام تجاوز الخطوط الحمراء، فقام بتحدي المشاعر الثقافية منتهكاً رمزية شهر رمضان والعيد بأبشع أنواع القمع والتعذيب والعبث بالحرمات الدينية.  وما كان هذا ليثني عزيمة الثورة، إلا أن تطورات الأطراف الأخرى للربيع العربي استحوذت على خيال الحراك.  فتوجهت أنظاره إلى حلٍّ على النحو الليبي، فها هو الطاغية الكريه يُقتل شرّ قتلة، وبدا هذا الحلّ سريعاً وثمنه وافياً.  وترافقت هذه الأحداث مع تشكيل المجلس الوطني الذي استطاع أخيراً أن يجمع بين شركاء ما كان يظن أحدٌ إمكان اجتماعهم على طاولة واحدة، ففيهم الليبرالي والقومي واليساري والإسلامي، وضمن كل منهم أقسام وتوجهات مختلفة، بالإضافة إلى تنوّع الأصل القومي من كردي وسرياني وعربي.

إدراك الحراك لضرورة وجود ذراعٍ سياسي للثورة تمثّل في أمرين: الحراك الداخلي ليس له قيادة واحدة أو واضحة، وهذه هي حدود الإمكان؛ والمعارضة السياسية الداخلية لا يوثق بها.  ففي هذا المناخ تشكّل المجلس الوطني على نحو طريف، فهو لا يملك شرعيّة إلا ما تحمله لافتاتُ الثورة، وهو جسم توافقي تملك فيه كلّ كتلة ما يشبه حقّ الفيتو، فأتت تركيبته على نحو يعرقل المسير ويقدح الخلاف في أصغر خطوة وأكبرها.  وتخيَّل الحراك الداخلي أنّ منطق تحرّك المجلس سيكون صورة طبق الأصل عن منطق الشارع الثوري، ناسياً أن للسياسة طرقها وللحركة على الأرض طرقها.  كما غاظه نسبة النخب فيه، وتضخّم عدد أعضاء المجلس ليزداد عجزه.

وكان طبيعياً للحراك الداخلي الذي يرزخ تحت صنوف التنكيل الوحشي أن يتطلّع إلى أدنى المعونة من هذا المجلس الذي اعتبره ممثلاً عنه، وعلى الأقل المعونة الإغاثية، الأمر الذي لم يقدّمه المجلس الوطني.  ولكن الهيئات الإغاثية المعروفة أقدر على التعامل مع هذا المطلب، وذلك لخبرتها ولكونها جهات لا تعلن ميلاً سياسياً، كما أنّ المجلس لم يُسمح له فتح حساب مصرفي حتى قبيل مرور عام على الثورة، وانشغال المجلس بالإغاثة يصرف عن مهمته الأساسية في بلورة الجسم السياسي، تلك المهمة العسيرة إلى أبعد حدود.  لقد غفل الضمير الثوري عن أن المهمّة الأولى للمجلس هي التحرّك السياسي وتأمين الدعم الدولي، وإيجاد علاقات تفاهم مع اللاعبين الدوليين الذين لهم تأثير على الشأن السوري.  وإنجاز المجلس في هذه الأوجه غطّت عليه أنانياتٌ مخجلة، وشكوك وشائعات لا داعي لها.  وهكذا تضاءلت قيمة المجلس الوطني في العقول والنفوس بفعل أربعة عوامل: (1) التشكيل الذاتي للمجلس الذي تغيب فيه الآليات المهنية لاتخاذ القرار؛ (2) وأداء متدنٍ جداً في مستوى العلاقات العامة مع الواقع الثوري؛ (3) والتوقعات الحالمة لجراحٍ يئنّ ولا يحتمل بطء العلاقات الديبلوماسية؛ (4) ومناكفات سياسية وقذف ونميمة من (الغيورين) على المجلس الوطني، سواء كانوا أعضاء فيه أم لا؛ هذا بالإضافة إلى طعون مجموعات (معارضة) تصطف عملياً مع النظام أو قريباً منه تزيد المشهد غبشاً واختلاطاً.

أما المجتمع الدولي فكان سعيداً بكل ذلك، يتّخذ “عدم توحّد” المعارضة حجةً وغطاء لغياب نيّته عن العمل الجادّ، ويُمنّي المجلس بالوعود، ثم لا يفي بما وعد؛ وما ذلك إلا مراوغة من أجل أن يضعف التزام المجلس الوطني بالمطالب القطعيّة للثورة، وليطوّعه تدريجياً لقبول الشروط البراغماتية عندما يحين الوقت.

ومن ناحية تموضع الحراك من السياسات الدولية، ترددّ الضمير الثوريّ بين حدّين على طرفين متقابلين متناقضين.

على الطرف الأول شعور الحاجة الكبيرة للدعم الخارجي إيماناً بأن ضمير (العالم الحرّ) لا بدّ وأن يستجيب، عبّرت عنها تسميات الجمع حيث كان لقب جمعة الثاني من إيلول هو ” الموت ولا المذلة” وفي الجمعة التالية كان “الحماية الدولية “؛ وظهرت في حمص يافطة بعبارة “نطالب مجلس الأمن بفرض حظر جوي” موقَّعة من تجمع أحرار حمص، وبجانبها لائحة SOS، وظهرت في  دوما في ريف دمشق يافطة كبيرة بعبارة: “نبذنا فكر القاعدة واعتقدنا فكر الحياة والحرية فقتلونا فهل من حماية؟”، وذلك في وقت عمّت فيه المظاهرات جميع أنحاء القطر، بما في ذلك دمشق وحلب.  ومع تصاعد الفتك بالعزّل الذين لا يملكون إلا حناجرهم تصدح بالحق الجريئ ، تعلّقت الآمال بتدخل عسكري حاسم إلى درجة صار الموقف منه الفيصل بين الإخلاص للقضية والتنكّب لها.  وهذا الاندفاع الوجداني مفهوم باعتبار بشاعة الإجرام ودناءته؛ وفعلاً -ومن ناحية أخلاقية بحتة- لا يمكن للمرء رفض ما يُرجى فيه الخلاص.

ولا يخفى أن هذا الاندفاع يعكس سوء فهمٍ لطريقة اتخاذ القرارات في الدول القادرة، فأمر التدخل العسكري يستدعي حساباتٍ معقدة للكلفة وتقييم المصلحة القريبة والبعيدة وتقدير المصاعب والمفاجآت ومناسبة التوقيت… إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تتصل بالدولة المعنيّة بالتدخل كما تتصل بالسياق الدولي.  ولا يخفى أنه لا يصحّ تصوّر مسألة طلب التدخل العسكري كتثبيت طلبٍ لسلعة لها ثمن محدّد وموعد لتسليم فوري أو مؤجل.  والأقرب هو أن طلب التدخل أشبه بصيحة غريقٍ في خضم مظلم أو بتمنّي فقير معدم أن يتكرّم عليه مترف ببعض ما عنده.  ويمكن للمراقب أن يجلب الدلائل الكثيرة على ذلك، ويكفي التذكير بأن الطائرات الأمريكية الذاتية تقصف مواقع في اليمن في هذه الأيام بلا تفويضٍ أممي ولا إذنٍ شعبي، وكذا تدخلت القوات الفرنسية أشهراً مضت في ساحل العاج (بلا خاطر ولا دستور).   وندءات استغاثة أهل شيشنيا من جراء القصف الروسي الذي دمّر مدينة غروسني لم يُلتفت إليها، ووعد الولايات المتحدة الأمريكية للكرد الدفاع عنهم في شمال العراق لم يُبرَّ به، والتدخّل في كوسوفو –وهي في قلب أوروبة- يرجّح أنه لم يحدث إلا بعد إنجازات للمقاومة الشعبية خافت الدول العالمية من عواقبها.  وتجاه الموقف من طلب التدخل العسكري وعدمه، وصل الأمر إلى حدّ السفسطة واتُخذ مادةً للمبارزة السياسية وتسجيل النقاط بين أعضاء المجلس الوطني ومن حام حولهم، مثلما كان الأمر في التوبيخ لعدم القيام بأعمال الإغاثة.  وزاد الأمر غبشاً أن المعارضة المتحالفة مع النظام (تبيع الوطنيات) مستخدمة فكرة رفض التدخل من أجل الدفع نحو حلّ صوريّ لا يغيّر من الاستبداد إلا قشرته السطحية.  وحُقّ للثورة أن تعتب على مستشاريها الاستراتيجيين، فقد مضت شهورٌ في تمنيات أثّرت سلباً في ترتيب أولويات الحراك.

وعلى الطرف الثاني من تموضع الحراك من السياسات الدولية –وعلى نقيض الطرف الأول- سادت قناعاتٌ بأن هناك تآمر على سورية أو تفاهم عالمي لتجاهل الثورة اليتيمة لما يُتوقع لها أن تُحدث من تغيّرات في المحيط العربي وفي وضع إسرائيل.  وترافق هذا مع إدراك الحراك للمحدودية العملية للدعاوى الديمقراطية، فالحقوقيون والإعلاميون المتعاطفون شيء وسلوك الدول التي ترفع هذه المبادئ شيء آخر.  وفي ظل هذه الظروف، كان طبيعياً أن ترى الثورة في الجيش الحرّ أملاً جديداً.  ودفعت فاعليات العرض والطلب نحو تشكّل وحدات من هذه القوات، فمن ناحيةٍ، يتطلع الناس إلى من يحميهم من عصابات القتل وارتكاب الموبقات، ومن ناحية أخرى العناصر الشريفة في الجيش دفعها ضميرها إلى التمرّد والانحياز إلى الشعب برغم الخطورة الكبيرة جداً لمجرد التفكير بهذا.  وهكذا تشكّلت نُوى لتشكيلات عسكرية يحتضنها الشعب ولا تملك إلا اليسير من العتاد والذخيرة مما استولت عليه أو تمّ تهريبه وشراؤه.  واكتسب هذا الجسم الافتراضي المكوّن من مجموعات محليّة شرعيةً فاقت شرعية المجلس الوطني.  وعزّز هذه القناعاتِ فشلُ بعثة الجامعة العربية.  وكل هذا أورث مزيداً من التشكّك في قيمة المقاومة المدنية التي هي صنو العمل السياسي، وزادت القناعات بأن الإنجاز الحقيقي يأتي بالقوة والقوة فقط.

تشوّف الواقعية الثورية

بدأت بوادر تشكّل الواقعية الثورية بعد مخاضٍ عسير للثورة.  فمقابل الآمال الطافحة بتغيير سريع ترافقت مع المرحلة المبكرة، ومقابل خبية الأمل بالجهود السياسة التي تعمل من أجل الثورة، ومقابل تقاعسٍ دولي لا يكاد يصدّق، تفتّق من مجموع خيبات الأمل إدراكٌ وقناعةٌ بضرورة تطوير نمط جديد من التفكير؛ ألا وهو وجوب فهم الواقع السياسي من خلال تحليل الديناميات السياسية لا المنطوقات الإيديولوجية، ووجوب فهم الواقع العالمي والسياسيات الدولية من خلال تحليل الديناميات الجيوسياسية لا المسلّمات الأخلاقية.

ولقد لاحت في الشهر الثاني عشر للثورة تطوراتٌ مهمة يُمكن أن توصف بأنها إيجابية، ولكن لم يكترث بها الحراك، مسجلاً بذلك علامة نضج في فهم العلاقات الدولية.  واشتملت هذه التطورات على رفع القضية السورية إلى مجلس الأمن، وتبني الجمعية العمومية لورقة الجامعة العربية بهامش أصوات واسع، وانعقاد مؤتمر أصدقاء سورية في تونس.  وفي هذا الأخير صدرت أقوى تصريحات في صالح الثورة السورية من قبل الوزير الخارجية السعودي، مؤكداً أنّ “النظام السوري فقد شرعيته، وأصبح أشبه بسلطة احتلال” ومعتبراً أن تسليح المعارضة السورية “فكرة ممتازة”.  وتبعه بعد أيام تصريح رئيس الوزراء القطري: “علينا أن نفعل كل ما بوسعنا لمساعدتهم (المعارضون) بما في ذلك تسليمهم أسلحة ليدافعوا عن أنفسهم”.  وبرغم كل هذه التصريحات القوية التي تستجيب لأماني الثورة، لم يخمر لها الحراك الذي يدفع كل يوم حوالي المئة من فلذات أكباده.  وكان حدسه صحيحاً إذ حاول النظام الفاجر استباق الأحداث، فزادت وحشية القمع ووصلت حدّ ارتكاب المجازر.  وفي الوقت نفسه بات جلياً أن النظام استنفد كل أوراقه ويتصرّف بلاعقلانية تضيّق عليه الخناق، ويدفعه اليأس إلى النفث في نار حرب طائفية يصعب أن تنقدح بسبب وعي الشعب للمكيدة.

أما على الصعيد العالمي فقد قبلت القوى الدولية بالمجلس الوطني قبولاً يسمح بتوفير المال له ويعِدُ بالتسليح.  ولكنّ الوعود شيء وتحقّقها على نحو كافٍ يناسب الحاجة أمر آخر.  والسلاح القليل يمكن أن يغريَ حامليه بتجاوز حدود الإمكان، كما يعطي النظام مبرراً للتصعيد.  ووجود السلاح بلا تزويدٍ لائق بالذخيرة هو أكثر فتكاً بحامله، كما أنّ الأدوات الـمُعِيْنة في المواجهة، مثل الخوذ وواقيات الصدر أو أجهزة التنصّت والاستطلاع والمناظير، لا تقلّ أهمية عن السلاح ذاته.  وغني عن القول إنّ الانضباط ودقّة إدارة المواجهات هي من أساسيات المقاومة المسلّحة، ولهذا فإنه ليس من المصلحة أبداً دخول المقاتلين الأجانب.

إنّ الدعم الدولي لقضية ما –والذي أصبح حاجة ماسّة في الحالة السورية- له ميزاته وله تبعاته.  ويشار هنا إلى أنّ مصالح القوى الدولية تضغط باتجاه تخفيف الالتزام الديمقراطي للمجلس الوطني، لأن ذلك يسهّل عملية الاتفاق المشترك.  وهذا يحتّم على المجلس الوطني الإسراع في عملية ترسيخ آليات التشاور، فإنه لمن الخطير أن تستند شرعية المجلس إلى تبنّي القوى الدولية له أكثر من ثقة الداخل به.   وإذا كان من الطبيعي تمتّع الجهاز التنفيذي في أي منظمةٍ بحريّة اتخاذ القرار في المسائل الإجرائية، فإن ذلك لا يشمل القرارات المصيرية التي ينبغي أن يجريَ فيها تشاورٌ واسع وأن يصادق عليها جسمٌ أكبر من اللجنة التنفيذية.  وفي الوقت نفسه، علينا أن نعترف أنّ على الجسم الكبير الذي هو محلّ الاستشارة والمشاركة أن يتّسم بالنضوج، فلن ينجحَ السجال الديمقراطي إذا كان جدال تعطيلٍ وعرقلةٍ لا سجال تفهّمٍ وتلاقح للأفكار.

ولا بد من التذكير بأن التجاوب النسبيّ للموقف الدولي لم يأتِ من فراغ، فقد وصلت الدول المعنيّة -أخيراً- إلى النتيجة التي عرفها ضمير الثورة من الأيام الأولى، وهي أن استمرار النظام أضحى غير ممكن.  وصحيح أنّ الأنظمة الاستبدادية لا تسقط ما دامت النواة الحاكمة متماسكة –والتماسك في الحالة السورية له امتدادات سفلية عبر روابط عشائرية/طائفية- تسيطر على مفاصل آلتها القمعية، إلا أن الحمولات اللوجستية لمواجهة ثورةٍ عامة شاملة تتزايد بمعدلات يصعب على النظام امتصاصها.  ولنا أن نلاحظ أنّ مراكز الدراسات العالمية كانت أشبه بالصامتة حول الثورة السورية، إلا شذراً من التقارير الوصفيّة ضحلة المضمون.  ولكن بدءاً من الشهر العاشر للثورة ظهرت دراسات تقلِّب الأمر في مسألة نوع الدعم الممكن، ومالت أكثرها إلى النصح بعدم التدخل، وذكّرت بأنّ فكرة التدخّل العسكري فرض نظري ليس مطروحاً على طاولة إدارات الدول المعنيّة.  ولا يفوتنا أيضاً ملاحظة تواقت ازدياد عدد هذه الدراسات مع الدخول العريض لحلب في الحراك بعدما نجحت في التغلّب على ما يمنع من تجلّي غضبها على السطح.  ووصلنا إلى نقطة –نتيجة ثبات الحراك الثوري- تساوت فيها رغبةُ المجتمع الدولي بالتغيير وقناعته بأنه لا بدّ منه… تساوت مع حساباته لعواقب المشاركة في هذا التغيير وكلف ذلك.

ولبلورة الواقعية الثورية لعلنا نستطيع تلخيص التحديات التي تواجه الوعي الثوري بالتالي:
  • إدراك أنّ ثورة سورية تحمل على عاتقها حدوث تغيرات في بلاد الشام بأسرها، مما يضاعف صعوبات الإنجاز.
  • إدراك أنّ نجاح الثورة سورية سيكون إيذاناً بالترسّخ الكامل لمسيرة الربيع العربي بانهيار أعتى قوة استبدادية، وذلك يضاعف التخوّف من هذه الثورة.
  • إدراك أنّ فاعليات الثورة السورية سترافقها تغيّرات في علاقات القوى الإقليمية، وهذا يفتح فرص الدعم الدولي ويُخضعها بآنٍ لرهاناتٍ متقلّبة لهذه القوى واحتمال التغيّر المفاجئ في مواقفها.
  • إدراك أنّ القوى الإقليمية والدولية باتت مقتنعة أنه -سواء سقط النظام أم لم يسقط- قد انفرطت الصيغة التي تحدّد علاقة السلطة السورية بالمجتمع، وأنه لا بدّ من بزوغ عقدٍ اجتماعي جديد؛ وهذا الاقتناع يدفع الدول القادرة إلى اتخاذ مواقف تصبّ في كفة الثورة وإن كانت تحرص على مراعاة حساباتها الخاصة.
  • إدراك أنّ القوى الدولية القادرة مشغولة بأزمات محلية اقتصادية وسياسية، وظروف انتخابية مآل بعضها تسعة أشهر، بالإضافة إلى تعثر جهود مغامراتها العسكرية، مما يساهم بشكل كبير في قراراتها تجاه سورية؛ وهذا ربما يكون في صالح الثورة على المدى البعيد وإن بدا عكس ذلك.
  • إدراك أنّ القوى الدولية التي أصبحت راغبة في حصول تغيير في سورية ليست في عجلة من أمرها، وربما ترى أن الازدياد التدريجي لضعف النظام ونزف المقاومة من صالحها.
  • إدراك أنّ القدرة العسكرية لسورية ليست هي المصدر الأساسي لقلق بعض القوى الدولية من التدخل المباشر، وإنما هو همّ الحسم على الأرض في مسرح عملياتٍ يمكن أن تدخل فيه ميليشياتٌ متعددة تستغلّها القوى الإقليمية لتصفية حساباتها؛ ولذا فالمرجح تفضيل القوى الدولية لتدخلٍ غير مباشر يساهم في الموت البطيء للنظام ولغير المرغوب بهم من أي طرف.
  • إدراك أنّ تطوير الثورة لإطارها السياسي ونضوجه أمرٌ لا بديل عنه.
  • إدراك أنّ القوى الدولية اعتمدت المجلس الوطني ممثلاً للثورة وواسطتها للتعامل مع سورية المستقبل.  وهذا يحتّم ضرورة استكمال الآليات الداخلية للمجلس، ولا سيما أنّ الحصول على المال يسمح بتفرّغ موظفين وبازدياد مهنيّة الأداء، ويفتح بآنٍ باب احتمال الفساد والعبث بالمال العام في غياب الضبط المؤسسي.
  • إدراك أنّ أي قوة عسكرية يجب أن تكون مؤطرة في جسم سياسي مجذّرٍ شعبياً.
  • إدراك أنّ تطوير الذراع العسكري للثورة يجب أن ينظر إليه كنشاط إضافي لا يغير مرتكز توجهها وكونها ثورةً مدنية همّها الانعتاق الثقافي والتآلف الوطني والبنيان المؤسسي، وأنّ حراك المقاومة المدنية ما زال هو الأصل الذي يُركن إليه.
  • إدراك أنّه في ظلِّ موازين القوى الحالية، وريثما تظهر علامات تصدّعٍ عميقة في النخبة الحاكمة، استراتيجية المقاومة المسلحة ينبغي أن تكون استراتيجية استنزافٍ بالكرّ  والفرّ لا استراتيجية مواجهة ومحاولة الحسم.
  • إدراك أنّ واجب القيادات السياسية التحليّ بالجرأة والقيام بالمصارحة الشعبية تجاه الخيارات المتاحة وتبعاتها، ولو كانت هذه المصارحة صادمة في حينها، فليس في خيارات المعضلة السورية أي حلٍّ ليس له ثمن باهظ؛ وذلك هو الضمان الأوثق للاستقامة الأمور في مسيرة المستقبل.

بات جليّاً أنَّ النظام السوري صُدم بثورة شعب أبيّ، وصُعق لسقوط شرعيته الزائفة في فترة قصيرة جداً، فارتكس إلى ممارسات غريزته القمعيّة.  وإذ يستمر النظام في القتل والتنكيل، بدى واضحاً أنّ الصدمة التي تلقّاها لم تُفقده الصواب بشكل مؤقت وإنما أردَتْه رهين اختلالٍ ذهنيٍّ.  وعندما يسقط النظام سياسياً، ولو بقي جسمه قادراً على تحريك أطرافه بالقمع والتنكيل، فإن القوة تصبح لعنة على مالكها تؤكد موته المحتوم.

د. مازن موفق هاشم

Tagged: , , ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: