أمثلة من حروب في بداية القرن العشرين
حالتا تماسك ثقافي
ألمانية في الحرب العالمية الثانية هُزمت عسكرياً، ووضع بعد ذلك نظام سياسي ارتضاه الشعب، ينسجم مع ثقافتهم وإن كان لا يحقق طموحهم. التغيير الثقافي ليس وارداً في هذه الحالة، إذ أنَّ ألمانية تنتمي إلى نفس الوعاء الحضاري للغزاة. انتهتْ الحرب وكان ممكناً لألمانية أن تقوم بناء على عوامل ذاتية.
اليابان في الحرب العالمية الثانية هُزمت بعد قنبلتين نوويتين، اقترنتا مع غزو الاتحاد السوفيتي لليابان خلافاً لمعاهدة الحياد بينهما، مما جعل الامبرطور يدعو إلى الاستسلام على كرهٍ من القيادة العسكرية. وتابع النظام السياسي خطة الإصلاحات التي كانت قد بدأت قبل بضعة عقود، وبقي النظام العام منسجماً مع إرادة الشعب وتاريخ البلد. لم يتجه الشعب الياباني إلى اجتثاث ثقافته، ولم يتسابق في تقليد الغرب كما هو شائع؛ بل انتقى ما يريده بحصافةٍ كاملة. وكدليل سريع على ذلك هو بقاء اللغة اليابانية وعدم استبدالها في الجامعات أو في المحادثة. وانتهت الحرب وكان ممكناً لليابان أن تقوم بناء على عوامل ذاتية.
حالة تهلهل ثقافي
الفيليبين ظنّتْ أن الجهد الأمريكي سوف يخلّصها من الاستعمار الاسباني أسوة بتخلّص كوبة من الإسبان. وبعد ضمّ الفيليبين إلى الولايات المتحدة قُريْب مطلع القرن العشرين اندلعت ثورة على شكل عصابات مسلّحة تحت قيادة نخبة من المفكرين وقادة محليين. ولكن المخلِّص المرتجى قام بتدمير واسعٍ في الفيليبين، ذهب ضحيته ما يقارب خمس عدد السكان، ماتوا من الجوع والمرض بسبب إحراق الجنود الأمريكيين القرى والمحاصيل والماشية بقصد تمزيق الاقتصاد وإخضاع المقاومة الشعبية. وكان هدف المقاومة إعياء الأمريكيين وإقناعهم أنَّ ثمن البقاء عالٍ؛ وفعلاً، فكَّر الأمريكيون بالانسحاب. غير أنّ في طليعة التحديات التي واجهتها المقاومة كان التبعثر الجغرافي والإثني واللغوي الشديد للجزر الفيليبينية. وكان القبض على قائد الثورة –حيلةً- ثم قبوله الخضوع لوصاية أمريكية بداية الهزيمة. وحُلَّت الكنسية الكاثوليكية التي كانت تمثّل الرابط الجامع الوحيد، ووضِع التعليم تحت الإشراف الأمريكي، وعُبث بثقافة الفيليبين؛ أو على نحو أدق، حُرمتْ الفيليبيين في عصر الحداثة والدول القومية من بناء ثقافةٍ مجذرةٍ في تاريخ البلاد. وبعد ذلك غزا الأمريكيون مناطق المورو (المسلمين) الذين كان معهم معاهدة سلام قبل هزيمة باقي الجزر الفيليبينية. إنَّ تشرذم الواقع الفيليبيني كان حاسماً ومهّد للعجز العملي عن الاستمرار في المقاومة. أضف إلى ذلك أثر ثلة ممن يهوون الغازي، مثل رئيس الوزراء بدرو باترينو الذي كان ينادي إلى ضمّ الفيليبين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كتب أنَّ المال الذي في الفيليبين والهواء والضوء والشمس فيها أمريكي. ودفعتْ الفيليبين ثمن الانحلال في الآخر وأصبح اسم البلد الذي غُزي فيه حرف (الفاء)، حرفاً لا يستطيع اللسان المحلي (التاغالوغ) نطْقه! واليوم يتحسّر المفكّرون الفيليبيون على بلد بلا هوية واضحة.
حالة مختلطة
حالة بارزة
يدعونا ما سبق إلى تذكّر الحالة الجزائرية. التبلور الثقافي كان موجوداً قبل دخول الاستعمار، ولكن الدولة الحديثة لم تكن متبلورة، بل وضع أسسها الاستعمار نفسه. وبرغم المقاومة الجزائرية المشهورة التي يضرب المثل بثباتها وتضحياتها، كان هناك كتلة حرجة من النخبة تعشق ثقافة المستعمر. وهكذا جرتْ سرقة الثورة… ورسِّخ بعد هزيمة المستعمر نظامٌ استبدادي على النهج الشيوعي لا يمتّ صلةً إلى ثقافة الشعب، ثم تحولت قاعدة الاستبداد إلى قاعدة رأسمالية. وما زال الفصام الثقافي يحول دون المسيرة المتّزنة للكيان الجزائري ومؤسساته.
أمثلة من حروب في نهاية القرن العشرين
العراق واجه غزواً شرساً بعد فترة طويلة رزخ فيه تحت استبدادٍ مستطير. العراق متبلور الثقافة العربية الإسلامية، والنخب المتوحّدة مع المستعمر لم تشكِّل كتلة حرجة، أو أنها برغم كثرة عددها والدعم الذي تتلقاه منه وازنتها نخبٌ وطنية وإسلامية. العراق غُلِب بسبب التفوق العسكري الهائل للعامل الخارجي، ولكنّ درجة هزيمته (لا مجرد غُلْبه) تعلقتْ بالعامل الداخلي المتمثّل في عجز النخب عن الاجتماع على صعيدٍ واحدٍ (الجادّون من النخب السنية والشيعية)، كما تعلّقت باستفحال الفساد الإداري.
أفغانستان واجهت غزواً شرساً من مستعمرين اثنين. القوة الهائلة فرضتْ نفسها، ولكن الناتج يبدو أنه سيتعلّق بالإمكانات الذاتية. وبسبب عموم الفقر وضعف التعليم في هذا البلد، العبث الثقافي لم يكن ممكناً على نطاق واسع، واقتصر على نخب العاصمة التي قادتْ البلاد إلى الاغتراب عن جذورها قبل الغزو وإلى التوحّد مع المستعمر بعد كلٍّ من الغزوين. مؤسسات المجتمع تضعضعت ولكن ما زالت قائمة في بعض أركانه لأن المقاومة التي تعتمد عليها تمدّد عمرها. غير إنّ في أفغانستان ضعف إداري سياسي فادح، وانتشار واسع للجهل والخرافة، وعوز مادي بالغ.
دروس مستقاة
هل يعلِّمنا التاريخ أنَّ الغزو ينجح بقدر ما يترافق مع عبثٍ ثقافي، وبقدر ما يحصل من تفكّكٍ في المؤسسات الاجتماعية، وبقدر العجز الإداري للبلد. في كلٍّ من الحالة اليابانية والألمانية، كان هناك حكومات وطنية قادرة، ولم يترافق الجهد العسكري مع تغيير ثقافي. حالة الفيليبين بدأت من وضعٍ ليس فيه دولة متبلورة بالمعنى الحديث، ولم يسبق التبلورُ الثقافي المواجهةَ مع المستعمر.
حالة الهند مزدوجة وفريدة في أنها ثنائية الدلالة. فالهند الهندوسية لم تُنزعزع ثقافتها الحلولية وبقيت راسخة في عامة المجتمع. وبسبب طبيعة ثقافتها الدينية الشعبية، وبسبب غلبة الطقوسية، لم يكن تأثير المزج بين الوافد والمحليّ مخلٌّ للثقافة كل الخلل. أما الباكستان فإن شمولية الإسلام ورفضه للشرك المفهوماتي نفى إمكانية المزج المتسق بين الوافد والمحليّ. كما أنَّ الثقافة العامة للمسلمين غارقة في الطقوسية وغير قادرة على القيام على أسس دينها، والنخب الإسلامية مقصاة مكبّلة الأيدي.
حالة الجزائر حالة اغتراب ثقافي تعسفيّ مفروض بالقوة، قامتْ الدعوات القومية الاشتراكية فيها، والمتسربلة بالعَلْمانية، بامتصاص الكمون الذاتيّ للأمة.
حالة أفغانستان تشير إلى الدور الفاصل لتماسك البنى الاجتماعية التقليدية. غير إنّ هذه البنى نفسها، إلى جانب العوز الواسع لا يُفضي إلى النهضة، ولا سيما أنَّ الفهم الإسلامي الشعبي غارق في طقوسية لا تعمل وفق سنن النهوض وإنْ كانت قادرة على مدّ المقاومة بالوقود.
حالة العراق تشير إلى الدور الفاصل للقدرة الإدراية ولدور تماسك نخبها وعدم انقاسامها وتدابرها. العراق وافر الإمكانات المالية، والعراق وافرٌ نسبياً في إمكاناته البشرية. غير أنَّ تلاطم رؤى النخب بين الليبراليّة المصلحيّة المتوحّدة مع الاستعمار، والقوميّة العربيّة العصباوية، والتشيّع المتمحور حول نفسه، والتسنّن المتهلهل، والقومية الكرديّة الحالمة أدى إلى تشرذمٍ بغيض. وهذا التشرذم النخبوي مشى جنباً إلى جنب الانقسامات الاجتماعية وتصادماتها، كما تمأسس من خلال فسادٍ إداري هائل؛ وكلُّ ذلك حال دون الخطو نحو النهوض برغم عجز القوى الغازية وبرغم وفرة موارد البلد.
وختاماً نقول، إن الحالات السابقة مجتمعة تشير إلى أنّه ما دام هناك كتلة حرجة من النخبة متوحّدة مع ثقافة الغازي ومعجبة به فإن أثر المشروع الاستعماري يستمر طويلاً بعد رحيل الاستعمار المباشر، استمرارَ محاكاةٍ بليدة وخبطاً في التوجّه والإنجاز.
تلخيص
إن مشروع مشروع الاستعمار بالغزو العسكري مشروع فاشل بعمومه، قصير الأجل إلا فيما يحدثه من تغيير ثقافي وتغيير سياسي. الحرب التخريبية البحتة لا ينتج عنها إلا تكبير رقعةِ البوار. أما الحرب ضمن خطة شاملة فتهدف من القوة أنْ تفتح فرصةً للتغيير السياسي والثقافي.
في كلٍّ من هذه الحالات السابقة حصل الغُلب بسبب القوة الهائلة للغزو العسكري. ولكن الانغلاب لم يكن العامل الحاسم في رسم المستقبل أو في تقرير إمكانية النهوض، وإنما اعتمد على ثلاثة عوامل لا تتعلق بالقوة العسكرية، ألا وهي العبث الثقافي، وتفكك مؤسسات المجتمع، والضعف الإداري.
Tagged: التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, السلمية واللاعنف
اترك تعليقًا