أبعاد الترشيد المطلوبة

31/10/2011

لا أشك أنّ في الداخل من هم على مستوى عالٍ من الفهم. والدراسة الممتازة التي أصدرها المركز الإعلامي في حمص دليل واضح على ذلك. ولكني متأكد (من غير دليل!) أنّ هؤلاء أنفسهم يواجهون مشكلة في تعاملهم مع البركان الشعبي. وإذا قلنا إنّ للناظر من علٍ ميزة الرؤية الشمولية وللناظر من الداخل ميزة المعرفة بفروع الأمور، كانت مهمة الترشيد مهمة دائمة وواجبة، ولا ينفع أن يضيق فريق بنظرة الآخر وإنما أن يتمّ توضيع النظرات في مكانها.  وروح عملية الترشيد ليست الإملاء وإنما النصيحة بالإشارة إلى ما قد يخفى على الإنسان بسبب موقعه.

ونذكِّر أنه لا يمكن لعلم البشر أن يكون قاطعاً نهائياً مهما نضج؛ أي أن الدراسة المتأنيّة ليست معصومة عن الخطأ، ولا تعدو كونها اجتهاد قد يخطئ وقد يصيب، وإن كانت مؤهلة لأن تقترب من الصواب أكثر من التفكير المزاجي المتسرِّع. ولكي تتجنَّب الدراساتُ الزلل ما أمكن يلزم مشاركة جماعية من أهل النظر والاختصاص، ولا سيما إذا كان الأمر خطيراً يتعلق به مصير الأمة أو مصالح راجحة في حياتها. كما نؤكد أنَّ الواقع الذي يجري على الأرض لا يلبث عن التغير وعن مفاجأة المراقبين والدارسين، إما بشذوذ عن المسار المعتاد أو بدخول عوامل جديدة لم تكن فاعلة من قبل. والمعنى العملي لهذا هو الحاجة للمتابعة في الدراسة والتفحص، فهي عملية دائمة لا يجدي أن تقف.

ما يلي ثلاثة أبعاد يطلب الترشيد فيها: طبيعة التدخل الخارجي، والتفكير بالنتائج البعيدة، والفهم الأعمق للعملية السياسية.

في طبيعة التدخل الخارجي ونتائجه

لا يصح أن نظل نطرح أمر المساعدة الخارجية أو التدخل الخارجي على نحو عام، نُضمر فيه تمنّينا الداخلي أن تُسخّر لنا قوة عسكرية تقتلع الطغيان مرة واحدة ولا تترك ندبة في المجتمع ولا تؤثر قطميراً في مستقبله. خذ العراق وموقف الشيعة مثلاً، وحماسهم لغزو كامل في وجه طاغية رهيب لا جدال في فظاعة طغيانه، بدل التفكير في مساعدة بحسب الحاجة. وما يلي بعض النقاط التي ينبغي أن تكون ماثلة في الأذهان.

  • القوى العالمية لا تتدخل أريحية، ولا من أجل حقوق الإنسان، ولا دفاعاً عن الديمقراطية.
  • يوافق وسطي الفرد العربي على العبارة أعلاه من باب الفهم التآمري أكثر من السياسي، وهذا يشوه فهم النقطة، ولا يسمح برصد تعددية الأبعاد في المواقف الدولية.
  • النفط وما شابهه من ثروات حافز مهم، لكنه غير كاف للدعوة للغزو. إنه أرخص أن تتفاوض سياسياً وأن تشتري سياسيين من أن تغزو.
  • حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية هي للإدارات السياسية –وبغض النظر عن مواقف بعض المنظمات المدنية- لافتات ضرورية لا أكثر، وليست مختلفة عن شعارات المقاومة والتصدي للإمبريالية والصهيونية العالمية.
  • الشعب الأمريكي غائب تماماً عما يجري في الكون الخارجي (يعني خارج دائرة اهتمامه). طبعاً، يستثنى من ذلك نخب مثقفة، ولكن لا أقول جميع أو أكثر المثقفين. يعني إذا اعتبرنا أن حملة درجة الماستر والدكتوراه هم المثقفون، فأكثر هؤلاء غير مهتمين إلا بقضايا جزئية تخص حياتهم أو انتماء هوياتهم أو مصالح مهنهم، وحين يهتمون بالعالم الخارجي يهتمون به بقدر ما يؤثر على أمريكة. اليسار طبعاً أكثر اهتماماً وتعاطفاً مع العالم الثالث، ولكن عنده اختناقات أيديولوجية مكبلة.
  • الاهتمام الشعبي العام بالشأن الخارجي لا ينقدح حتى يهتمّ به الإعلام. وفي أكثر الحالات لا يتهمّ الإعلام -وهو المستقل عن السياسة_ بحدث خارجي حتى يأخذ إشارات واضحة أنّ هذا مما يهمّ الإدارة، لأن عدم الاهتمام عندها تجعله خلف الأحداث (مثلاً يقارن درجة الاهتمام الكبير بليبية وقلة الاهتمام بسورية).
    1. النقطة السابقة هي صحيحة خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن بغض النظر عن التغطية الإعلامية أو عدمها، لا يكون لها قيمة كبيرة إذا لم تحرِّك المواطن وتشعره أنّ للأحداث نتيجة مباشرة سلبية عليه. والاهتمام بالخبر عندها يكون من باب التندّر بما يجري في العالم، لا أكثر. مثلاً لم تحرّك تغطية أحداث ليبية المشاعر بأكثر من ترديد السلوك الشاذ للقذافي، وغالباً ما يتشارك هذا مع شعور تعالٍ مبطّن، بين البعض وليس اليسار، تجاه العالم غير المتحضّر ومع حمدٍ للحظوة بديمقراطية مريحة؛ ويشارك في هذا الشعور (متنورون) من بلادنا أيضاً.
    2. الإعلام في أروبة أكثر عمقاً بكثير من ذاك الذي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن مقابل اللامبالاة للشعب الأمريكي، هناك حذر وتخوف أكبر بين الشعوب الأروبية، وذلك لقربها من البلاد العربية ولطبيعة تشكّلها الثقافي. كما أنّ هناك فروق مهمة بين إعلام دول أروبة الغربية وبين مواقف شعوبها. وربما يصحّ القول إنّ إعلام الدول الكبرى الثلاث، ألمانية وفرنسة وإنكلترة، وإن كان أعمق من ذاك في الولايات المتحدة، إلا أنّ اهتماماته النهائية هي اهتمامات استراتيجية امبروطورية.
    3. الخلاصة، قيمة الإعلام في المواجهات الخارجية هي تهييئ الشعب لما تنوي الإدارة فعله وليس العكس. هذا عن الإعلام الشعبي العام، ولكن لا تخلو الصحافة العالية من مقالات لخبراء فيها تنبيه وفيها نوع من الترشيد لما تنوي الإدارة فعله أو إنذار لبعض نتائجة المحتملة.
  • في أمريكة كتلة دائمة الحنق على العالم الثالث عموماً والعالم المسلم خصوصاً، ويشكل اليمين المسيحي (وهو جزء من الأصولييين وليس كلهم) جزءاً من هؤلاء الحانقين.
  • إلتقاط مؤشرات مواقف الولايات المتحدة ليست سهلة. وينبغي عدم الوقوع في خطأ الاعتماد على ما يصدره مركز أو اثنان. في هذا البلد العديد مما يسمى خزانات فكرية (وما هي خزانات فكرية بالمعنى الكامل للفكر، بل هي مجموعات تفكير في سياسات عملية policies وفي جدواها). والنتائج التي يصل إليها والخيار الذي يتبناه مركز، هناك مركز آخر يخالفه ويعاكسه في التوجه. هناك أيضاً سياسيون أفراد لهم وزن، ولرأيهم تأثير. وهناك مستشارون سياسيون مستترون (من أمثال كيسنجر)، وهناك مستشارون أكاديميون مستترون. مخرجات هذه الجهات تصل البيت الأبيض على نحو أو آخر. تميل الإدارة التنفيذية إلى جهة من هذه الجهات، وتعدّل في الخطة المطروحة بحسب أولويات سياسيّة بحتة، ويمكن أن يصل التعديل إلى درجة تشوه الخطة الأصلية. وتتدخل في رسم هذه الأولويات مصالح الشركات الكبيرة، ولا سيما ما يتعلق منها بالصناعة الحربية والنفط والمواد الأولية والطاقة.
  • الدول الناضجة تتصرّف بحسب أولوياتها الاستراتيجية. فمثلاً تلكؤ تركية ليس مردّه المعاداة للشعب السوري ولا المصالح القريبة ولا حتى مجرد المصالح الانتخابية، ولكن جملة أسباب متشابكة. إذا كان هذا حال تركية، فما بالك بغيرها. ولو تصرفت تركية بشكل طائش لما كان هذا في مصلحتها ولا في المصلحة البعيدة للشعب السوري.
  • تدخّل القوى الغربية الكبرى في مسألة شائكة مثل سورية لن يكون إلا باعتبار تغيير التحالفات الإقليمية في المنطقة وتغيير أوزان نفوذ القوى الفاعلة فيها.
  • مفهومٌ بالتمام والكمال دوافع الثورة للمطالبة بالتدخل الخارجي، وليس باستطاعة أحد الاستهتار بالآلام والتضحيات. غير إنني أظنّ أنّ الداعي لطلب الحظر الجوي لم يكن مردّه تراكم آلام القمع فقط، بل وأيضاً اقتناع الثورة بانسداد الحلول وأن لا نهاية للقمع وأنّ الوقت في صالح النظام.
  • ينبغي التعامل مع قضية كلفة الثورة (الضحايا والآلام) من منظور غير لحظي. يعني مآسي المواجهة تعصر قلب كل إنسان. المسألة هي مجموع حجم التضحية على المدى البعيد. فهناك من المداخل ما يخفف حجم التضحية على المدى القريب ويزيد منها على المدى البعيد. وبداهة، قبول التضحية مرهون بالوصول إلى الهدف الأصلي من الثورة، ألا وهو الانعتاق من التحكم والطغيان السياسي وما يرافقه من تنكّب لأولويات الأمة.

• وهنا تبرز أهمية تقييم الوضع تقييماً دقيقاً من ناحية قدرات الثورة وقدرات النظام. ما تنبغي إجابته قبل اتخاذ قرار أمرين:

    1. أولاً، إذا كنا نستطيع أن نجزم بأنّ التصعيد الثوري السلمي والعصيان المدني لن يحدثا ولن يشملا دمشق وحلب (ليكون فاعلاً وشالاً لقدرات الدولة)، ستكون المساعدة الخارجية ضرورية. وهي ليست ضرورية إلا من باب العجز العملي عن تحريكٍ أوسع. أما إذا كان تسخين دمشق رويداً رويداً ممكن، يكون عندها الاستنجاد بالخارج العسكري خسارة فادحة للثورة.
    2. ثانياً: يبدو أن النظام تأقلم مع الوضع الثوري، غير إنه يُطلب التفكير الدقيق فيما إذا كان بإمكان النظام الاستمرار بهذا الوضع طويلاً. وبالخصوص نسأل إذا ما كان التراجع الحادّ في النشاط الاقتصادي يدفع الناس (دمشق) باتجاه النظام أو باتجاه الثورة (حلب تحتاج تفكير مستقل وما أدري إذا حصل فيها تراجع اقتصادي حادّ). ولكن تأقلم النظام لا يعني قدرته على الاستمرار، وإنما يعني أنّ زوال حال الصدمة يمكّنه من التحرّك على نحو أكثر اتزاناً. غير أننا لا يمكن أن ننسى أنّ عنجهية النظام ووثوقه الفرعوني جعله يتجاوز كل الحدود، فسدَّ على نفسه خطوط الرجعة وأحرج حلفاءه إحراجاً بالغاً. كل ذلك يعني أنّ النظام ليس في وضع حسن.
  • بلا تقدير هذين الأمرين لا يمكن تقدير النوع الأمثل للمساعدة. ويبدو أنّ التحدي في النهاية هو تحدي صبر، ومثاله البارز غزة، مع اختلاف الوضعين.

• منذ الثورة الليبية ما زلتُ أحسب أن رابوع المساعدة الفاعلة هو: الدعم السياسي الذي يحاصر النظام عالمياً؛ القدرة على تشويش اتصالات النظام بحسب الحاجة؛ التزويد بمضادات دروع؛ التزويد بأجهزة استكشاف وتنصّت.

الحفز على التفكير بالنتائج البعيدة والقراءة الشاملة للأمور

لا بد من التفكير الملي بالنتائج البعيدة لكل أمر؛ وهل يورد الهلاك إلا التعجل والعجز عن رؤية النتائج البعيدة. وللشعب السوري حقّ، وللأجيال القادمة من بعده حقّ، أن يتساءلوا عن هؤلاء المخططين الاستراتيجيين الذي قطعوا بأن قراراً ما كان هو الحل الأمثل لسورية. وحين نقرأ التاريخ، هل نقف إلا على المواقف الحكيمة وغير الحكيمة التي عجز يومها الناس عن الرؤية البعيدة؟ وما يلي بعض النقاط المحددة التي يحسن الانتباه إليها.

  • لا مراء في أن التدخل فيه ارتهان جزئي للخارج. فكيف نوازن بين درجة الارتهان المترتّب على التدخل و الرغبة المشروعة والمطلوبة والواجبة في التخلّص من السرطان الحاكم الذي يسمّم الأمة ويجعلها أيضاً تابعة ومرتهنة وإن بشكل مختلف.
  • لا يمكننا أن ننسى أنّ قوى التدخل الخارجي تسعى إلى سحب كل الأوراق من بين يدي الثورة وجعلها في يدها تتحكم بها كيف تشاء. لن يستطيع التدّخل الخارجي فعل هذا على تمامه، لكن شيئاً منه لا بد وأن يحصل.
  • كما هو معلوم، القوى الغربية مولعة بتمكين الأقليات غير المسلمة، لا الأكثرية المسلمة الثائرة.
  • وينبغي أن لا ننسى أن فرنسة بالتحديد كانت أصل البلاء، حيث قامت بتشكيل “جيش الشرق” وجنّدت فيه الأقليات، وبخاصة العلويين. وطبعاً، الأقليات كانت من عداد الفقراء والمهمّشين، وكان الانضمام إلى الجيش خياراً معقولاً لهم.
  • التبعية ليست قضية جانبية يمكن أخذها بخفة. فالثورة العربية عموماً هي أصلاً ثورة على التبعية التي تنقطع عن الشعب وإرادته فتمشي باتجاه الديكاتورية التي تحصّن نفسها بالتحالف مع الخارج بعكس مصالح الشعب.
  • لا يمكن التفريط بالتضحيات الهائلة للثورة وقبول ثمن بخس ونتيجة جزئية لا تلبث أن تتلاشى.
  • لا يصح أن يُظَن أن سورية مثل ليبية إلا من جهة الاستعداد القمعي.
  • التدخل في ليبية حرقة في القلب. فمن جهة، لا تريد أن تفشل الثورة الليبية؛ ولو توقفت باكراً لما انقدحت في سورية. من جهة أخرى، لا تريد أن تزداد قدرة الغرب على التحكم بالمستقبل العربي. وهذه ليست مجرد شعارات وطنية. ولا يخفى أنّ محاولات الالتفاف في مصر ضد مصلحة الشعب سببه أنّ الترتيبة الداخلية، ولا سيما الجيش، مرتبطة بشكل قوي بالإدارة الأمريكية. هناك أيضاً تدخل قوي في تونس عبر الولاءات الفكرية.
  • ونريد أن يكون واضحاً أنه حين نتكلم عن التبعية لا نقصد التهويل والتلويح الشعاراتي، ولا يجعلنا ننزلق إلى التخوين والتفسير التآمري. إنّ موقفنا ليس هو الموقف القومجي. لقراءة دقيقة في تنوع المواقف، انظر مقال أنور البني: السوريون وهاجس التدخل الخارجي.
  • بدل أن ننظر إلى الحالة الليبية حالة نموذجية ولما نعرف بعدُ نتائجها البعيدة، ينبغي أن نتفكر فيما إذا كان هناك مسلكاً أحكم. انظر المقال الممتاز لمنير شفيق ولو ربما لا توافق على بعض النقاط: قراءة في الدرس الليبي.
  • وعلى الأقل ينبغي أن نتذكر أن عدد سكان ليبية صغير. يعني السيطرة على انفلات الأمور من اليد أسهل بكثير من سورية. تباعد المدن عن بعضها في ليبيا قضية إيجابية لتدخل الطيران. الطبيعة المنبسطة إيجابية أيضاً.
  • ولعل أهم عامل في ليبية هو أنّ بنغازي –ثاني أكبر مدينة- شكّلت كتلة حرجة منسجمة داخلياً ومتمركزة مكانياً بعيداً عن العاصمة (وبالمناسبة، ومما قد يُستغرب، نفوذ القذافي كان دوماً ضعيفاً في بنغازي، ولم تكن صوره تملأ الشوارع فيها!). أي علينا أن نرقب عاملين في هذا الأمر: كتلة متمازجة سكانياً/ثقافياً وحجم هذه الكتلة. ما قابلها في الحالة السورية هي درعا، ويمكن اعتبارها منسجمة سكانياً/ثقافياً. ولكن الحجم النسبي لدرعا في سورية أقل بكثير من الحجم النسبي لبنغازي في ليبية. حلب هي الموازية لبنغازي من ناحية الحجم، ولكن حلب ليست منسجمة سكانياً/ثقافياً. حماة منسجمة سكانياً/ثقافياً، ولكن حجمها النسبي صغير أيضاً، كما أن وضعها الجغرافي في وسط البلد وبُعدها عن الحدود الدولية عامل سلبي كبير، وكونها محاطة بقرى علوية عامل سلبي آخر.
  • آثار الثورة السورية آثار إقليمية. هذا هو قدرها، ولا يمكن الهروب من ضخامة الجهود اللازمة من أجل نجاحها.
  • الثورة السورية هي ثورة تأمل باسترداد الهوية الحضارية الثقافية للبلد، ولها عمق عربي لا يتصور التفريط به. أفلا يستأهل هذا التفكر الدقيق بوسائل نجاحها بحيث لا تُلغي الوسائل أو تُنقص من كمونها للتغيير والإصلاح؟

الحفز على فهم أعمق للعملية السياسية

  • كيف يمكن للأعصاب في لهيب الثورة أن تتحمل سلوك دهاليز السياسة. أنا شخصياً أضيق به في الأحوال العادية، فكيف بالحالات الاستثنائية التي تزهق فيها أرواح ويتمّ فيها التعذيب الوحشي. غير إنه إذا كانت المداراة لبّ السياسة، فكيف يطالب بمخالفة طبيعتها.
  • قاعدة العمل السياسي هي “سياسة” الأمر. السياسة الراديكالية الهائجة لا توصل إلى برّ أمان. لا يعني ذلك أن تكون حركة السياسة براغماتية لا خطوط حمراء لها. وإنما بعد تثبيت الخطوط الحمراء يمكن للسياسة، بل يجب عليها، المداراة داخلياً وخارجياً.
  • إذا كنا ندرك أن ولادة المجلس الوطني كانت شبيهة بالمعجزة، فإن اتخاذه للقرارات لن يكون أسهلاً.
  • صعوبة تشكيل المجلس الوطني هو وجود توجهات سياسية متباينة في ارتكازاتها المبدئية وفي خياراتها الإيديولوجية، وإن كانت متفقة على الهدف. وهذا الأمر يقع في صميم العملية السورية السياسية، ولا يمكن تفاديه. ولو نظرت إلى التاريخ السياسي الحديث لسورية، لرأيت أن هذا هو الإشكال تحديداً.
  • لا يصح مقارنة المجلس الوطني السوري بالمجلس الانتقالي الليبي. التصحر السياسي في الحالة الليبية أشدّ منه في سورية، فساهم ذلك بالقبول بما توافر من مجموعة أفراد. سورية كانت مهد الفكر القومي، وتبعات هذه الأفكار والأفكار الوافدة هي معضلة المجلس السوري. كما علينا أن نتذكر أنه ليس في المجلس الانتقالي قذاذفة، لكن لا يتصور أن لا يكون في المجلس السوري أفراد من كافة الطوائف والمناطق والتوجهات السياسية، ومن الداخل والخارج، حتى ولو لم يكن هذا المجلس مجلس تمثيل.
  • علينا أن نتذكر أن المجلس الوطني ليس له فروع وليس له مكاتب وليس عنده ميزانية… فكيف يمكنه التحرك؟
  • المجلس الوطني يتحرك فعلاً في أول واجب عليه، ألا وهو تأمين الاعتراف به من أكبر عدد ومن أهم الجهات. والاعتراف به أو عدم ذلك له دوافع كثيرة، منها تركيبة المجلس. وتذكر كيف تأخر اعتبار المجلس الانقالي الليبي (51 عضو) حتى اطمأنت الإدارات الأجنبية لشخصياته الكبيرة.
  • عودة إلى نقطة التدخل العسكري أو عدمه. إنه من السذاجة بمكان أن يُعتقد أن مجرد طلب المجلس الوطني السوري للتدخل العسكري فإن هذا سيلقى الاستجابة، أو أن قرار التدخل العسكري أصلاً يستند إلى الطلب. نعم، مثل هذا الطلب يسهِّل قرار التدخّل الذي تقرّر وفق اعتبارات استراتيجية.
  • بغض النظر عن علاقة طلب التدّخل بتبني هذا القرار من القوى الدولية، النقطة الفاصلة للحراك هي معرفة توقيت التدخل.
  • يقال إنّ طلب التدخل من المجلس أو بتسمية الجمعة به يرسل رسالة إلى النظام. لا أعتقد ذلك. النظام أذكى من ذلك ويعرف تماماً أن الشعب مستعدٌ للتعاون مع أي جهة تخلصه منه، ويعرف في الوقت نفسه أن عدم اتخاذ قرار في هذا إلى الآن سببه تعقيد الحالة السورية. إنذار الرئيس الأسد اليوم هو رسالة استباقية تجاه التصعيد المحتمل للنبرة من الجامعة العربية.
  • ربما علينا أن نقبل بالواقع من أنه من الصعب أن نحصل على أحسن من هذا المجلس. هذا جزء من طبيعة تشكل القوى السياسية في سورية. ولقد حصل اليسار مقاعد في المجلس أضعاف ما يستحقه نسبة إلى الشعبية الداخلية.
  • ولا أحسب أنه لو وُضِع المنتقدِون للمجلس الوطني مكان المجلس الحالي لكان بإمكانهم أن يتحركوا على نحو أفضل منهم!
  • لا يعني ذلك الاستسلام للواقع الصعب للمجلس، بل يجب استمرار الضغط عليه في تجاوز خلافاته الإيديولوجية. يعني إذا كان هناك في المجلس أربعة توجهات عامة: الليبراليون واليساريون والإسلاميون والكرد (وأكاد أضع الإخوان توجهاً مستقلاً)، فكيف تجعلهم يتفقون؟ لا يجمعهم إلا معرفتهم أن هناك داخلاً ثورياً ملتهباً ينتظر. أي أنّ المطلوب بقاء الضغط مع عدم المساس بشرعية المجلس، ولو لم يسارع هذا المجلس إلى تلبية ما يتمناه الداخل. لا ينفع للثورة أن تُسقط المجلس إلا إذا تخلى عن هدفها ومشى في بيع قضيتها بثمن بخس.
  • وهنا يأتي السؤال الصعب، هل على المجلس الانصياع لأماني الداخل؟ إذا كنا نظن أنّ (1) أعضاء المجلس غير مهيئين أبداً؛ (2) وأنّ الداخل أحكم منهم وأكثر عمقاً في تفكيرهم السياسي؛ (3) وأنّ الداخل أقدر على قراءة الصورة العالمية؛ إذا تحققت هذه الشروط الثلاثة، فعندها ينبغي للمجلس الوطني أن يطيع الداخل إطاعة تامة. في هذه الحالة تنحصر ميزة أعضاء المجلس الذين هم في الخارج كونهم خارج سورية وعندهم حرية الكلام والتنقل. أما إذا كان الأمر غير ذلك، فالمجلس الوطني ينبغي أن: (1) يقوم بدور تشكيل التوجّه السياسي، والداخل مشارك في هذا من خلال أعضاء المجلس؛ (2) وتحديد الاستراتيجية العامة وضع الخطط والبدائل بما تقتضيه المصلحة البعيدة والحاجة الآنية؛ (3) والقيام بتمثيل الثورة السورية في الخارج؛ (4) وربما في المستقبل وبحسب تطور الظروف تشكيل حكومة ظل في الخارج.
  • فهم العملية السياسية يتصل بالنضوج الإعلامي. وإعلام الثورة أبدا درجات فائقة من الإبداع. غير إنه لا بدّ من الإشارة إلى أوجه مشكلة.
    1. أحد الأوجه هو الهتافات. مجمل صيغ الهتافات رائعة وساهمت في تشكيل الضمير العام للحراك الثوري. ولكن كيف تُقنع الجموع الهادرة أنّ هتاف “الشعب يريد إعدام الرئيس” هتاف ليس في صالح لخطاب العام والعالمي للثورة؟ الثورة اليمنية إلى اليوم تنادي بمحاكمة الرئيس وليس إعدامه. وكيف يمكن أن تُقنع الناس أنّ إحراج حزب الله على مستوى القيم والمبادئ الإسلامية أكثر فائدة بكثير من السباب؟ وكيف تقنعهم أن لطم صورة قائد الحزب بالأحذية هياج ثوري؟ الثورة الناضجة لا تستعدي أي أحد ولو اصطف ضدها، بل تخذِّل عنها ما استطاعت وتحاول تحييد الخصوم أو تقليل عدائهم. وهل تدلّ عبارات “الآن انكشفت حقيقة الحزب أو حقيقة إيران أو حقيقة أردوغان….” إلا عن سذاجة سياسية، وإن كانت سذاجة متوقعة وغير مفاجئة.
    2. التوقعات في طريقة التكلم عن الثورة أمر آخر. هناك رغبة جامحة عند الناس إلى من يصرخ بآلام الشعب في المقابلات التلفزيونية ويعلن عن ثورة نشعر أحياناً أنها شبه مغيّبة عن الضمير العالمي. غير أنّ هذا هو نمطٌ واحد مطلوب بحسب نوعية البرنامج. هناك نمط آخر مهم جداً وهو التحليل الموضوعي الذي يتصف حكماً ببعض الهدوء والبعد عن العبارات المثيرة، والتي قد يُفسر بأنه برود.
    3. الحساسية المفرطة التي يبديها الداخل لكل تعليقٍ أمرٌ آخر. ومصدر التحسّب مفهوم، وهو كون النظام والملتفين حوله تمادوا في الحذلقة في الكلام وفي محاولة تشويه الصورة، كما أن هناك معارضة صورية تحاول الالتفاف على الثورة وتستعمل عبارات ضبابية. غير أنه لا يمكن لكاتب جادّ أن يرعى كل حساسية، والمقال الذي يبالغ في الاحتراز في العبارات يعجز عن توصيل رسالته.
    4. أضف إلى كل ذلك أن الداخل ينبغي أن يكون عنده استعداد لتعدد وجوه النظر في طريقة تحركه، وأن يكون عنده تقبّل للنقد البناء، وأن لا يأخذ كل نقد على محمل معاداة الثورة أو تثبيطها.

خاتمة

إنه لا يمكن أن نجعل من الآلام وحدها أساس قراراتنا أو أساس استراتيجياتنا. لا بديل عن الارتفاع عن الآلام؛ وهل الترفع عن الانتقام والطائفية… إلا ترفعاً على الآلام وترفعاً عن حرقة المشاعر وتغليباً للعقل وتقديماً للحكمة؟

ومرة ثانية، هناك مشكلة مزمنة في الجهود الحركية، وخاصة التي فيها دوافع دينية إسلامية. وذلك لأنها تزهد بالقراءة الموضوعية للواقع بتغليب نزعة غيبية متذرعة بنفحة الإيمان. وهل مقتضى الفكر الإسلامي المعاصر إلا هذه النقطة، والتي تتجلى اليوم بشكل جزئي في طبيعة مواجهة الواقع الثوري.

إن الهروع إلى العمل ثم التفكير أمر خطير في الحياة العادية، إذ تخضع فيها حرية العقل لضيق راهنية واقعية. وهذا أخطر في سياق ثورة.

د. مازن هاشم

Tagged: , ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: