البنية المؤسسية للوطن: 5- المنظومة الصحية

مقدمة

الصحّة أغلىٰ ما عند الإنسان، وهي أحد أركان السعادة في الحياة.

وأضحت المنظومة الصحّية –بسبب الكثافة السكانية– مسألةً تتجاوز الفرد وجزءاً من مَهمّات الحكومة.

وساهمت البحوث العلمية في تطوير أدوية فعالة لطيفٍ واسع من الأمراض، ومن جهة أخرىٰ ما فتأت تظهر أمراض وجراثيم وفيروسات جديدة.

وكان للتطور التقني أثران: فاعلية في اكتشاف الأمراض والتعامل معها من جهة، ورفع كلف التطبيب من جهة أخرىٰ.

وتتعلَّق الصحّة العامّة بالوقاية وتقديم الخدمات المطابقة للحاجات ضمن هيكلية مدروسة.

أولاً: الوقاية

تتعلَّق سلامة الصحّة علىٰ المستوىٰ الفردي بعادات النظافة ونوعية الغذاء والسلوك الشخصي (مثلاً تدخين أو شرب).

وتتعلَّق سلامة الصحّة علىٰ المستوىٰ الجماعي بـ (أ) نظافة المياه وسلامة المأكول، (ب) أخطار مواضع الشغل، (ج) التلوّث البيئي. ويطلب من الحكومة مراقبة هذه الأبعاد.

وعلىٰ الصعيد العام للسلامة الصحّية هناك تبعات اقتصادية من وجهين: كلف الطبابة (فورية)، والقدرة الإنتاجية للبلد (مؤجّلة).

و”درهم وقاية خير من قنطار علاج” مثلٌ يصلح أن يكون نبراساً للتعامل مع الملفّ الصحّي.

ثانياً: نماذج عالمية

في عالمنا اليوم ستة منظومات صحية مشهورة تجري كلٌ منها وفق مبدأ تشغيليّ خاص، وينفع التفكّر في خصائصها:

1- منظومة السويد: الحكومة تتحمّل الكلفة + هي التي تدير المنظومة الصحية.

2- المنظومة البريطانية: منظومة هجينة بين العام والخاص. ويغطي القطاع العام الخدمة الصحية الأساسية، وحوالي 10% من السكان عندهم تأمين صحّي خاص. وتعدّ من أفضل الأنظمة من ناحية الجدوىٰ (=موازنة الكلف مع مستويات التعافي).

3- منظومة كندا واليابان: مبدأها تحمّل الحكومة للكلف بغض النظر عن الجهة التي تقدّم الخدمة. وفي كندا يتمّ تمويل 71% من الكلف من خلال المقاطعات، والباقي من الحكومة الفدرالية. أما في اليابان فيتحمّل المريض 30% من الكلف (مع استثناءات وتفصيل)، ويفرض القانون علىٰ المستشفيات أن تجري وفق أصول المنظمات اللاربحية وتدار من قبل الأطباء أنفسهم.

4- المنظومة الألمانية: تدار من قبل جمعيات وممثلين من الجهاز الذي يقدم الخدمة الصحّية، إلىٰ جانب وزارة الصحة وجمعيات مقاييس ومعايير. وتتميّز بقدرٍ كبير من اللامركزية وتُتخذ القرارات من قبل الولايات إلى جانب الحكومة المركزية، (وتعود جذور المنظومة لظروف ما بعد الحرب العالمية).

☆ والخدمة الصحية في هذه المنظومات الأربع أعلاه شاملة لكل المواطنين، وقد تكون إجبارية.

5- منظومة الولايات المتحدة الأمريكية: تعتمد على مبدأ التجارة الحرّة حيث إنّ معظم ملكية المؤسسات الصحيّة خاصّة، ولكن فيها قطاع عام يتمثّل بمستشفيات الناحية (الناحية=إطار تنظيمي لعدّة بلدات، حجمها بعشرات الآلاف، لكن يصل الملايين في بعض الولايات)، وهو في تناقص مستمرّ. وتعدّ منظومة الولايات المتحدة أعلىٰ الأنظمة من ناحية الفاعلية (=تحقيق النتيجة وهي التعافي).  ولكن هي أعلىٰ منظومة في كلفها (معظم ذلك يأتي من مصاريف السنّ الكبير والأمراض النادرة).

وتشتهر منظومة الولايات المتحدة بأنها لا تُركّز على الوقاية، وأن هناك فروق كبيرة في مدىٰ تلقّي الخدمات الطبية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وبين المجموعات الملّية/الإثنية. وهي غير شاملة حيث إن حوالي 8.5% من السكان ليس لديهم أي تأمين صحي، برغم أن الخدمات الصحّية باهظة الكلفة. ومقارنة بالدول الغنية، فيها نسبة أقل من المستشفيات لعدد السكان، وعدد أقل من الأطباء الموظفين في المستشفيات، وعدد أسرة المستشفيات هو فقط 2,8 لكل ألف شخص (مقابل 12 في كوريا الجنوبية). وفي استبانة أجاب حوالي ثلث الناس بأنهم بسبب الكلفة لم يقوموا في السنة الماضية بمعالجةٍ طبية لازمة أو لم يشتروا دواءً.

6- منظومة كوبا: ينبغي الإحالة إلىٰ المنظومة الصحّية في كوبا بسبب اشتهارها بالنوعية الجيدة. وفعلاً تفيد المؤشّرات العامّة أن المنظومة ناجحة، فمثلاً نسبة لقاحات الأطفال مرتفعة وكذا متوسّط الأعمار عند الوفاة.

وكون كوبا بلداً صغيراً يرزح تحت العقوبات الأمريكية يجعل تجربته في المجال الصحّي جديرة بالاعتبار.

تأسّست المنظومة الصحية الكوبية بعد ثورة سنة 1959، وكان وعداً من الثورة الاشتراكية توصيل الخدمة الصحّية لجميع السكّان. وفعلاً قامت المنظومة علىٰ الأسس التالية:

(أ) توافر الخدمة الصحّية لجميع السكّان مجاناً، (ب) مسؤولة الحكومة عن إدارة المنظومة الصحّية، (ج) إحداث تكامل بين جهود الوقاية وجهود التداوي، (د) إشراك عامّة الشعب في الهمّ الصحّي، (هـ) تزويج الاعتناء الصحّي مع الاعتناء بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.

لكن من المهمّ الانتباه أنه احتاجت المنظومة الصحّية الكوبية عقوداً من التطوير إلىٰ أن وصلت إلىٰ مستوىٰ جيد.

اعتمدت المنظومة الكوبية الاستراتيجية الصحية التالية: أولوية العناية الأولية + الوقاية.

واعتمدت النموذج العملي التالي: توفير طبيب + ممرضات + صيدلاني لكلّ 400 عائلة.

وبذلك تنشأ علاقات ودّية وشبكة تعارف بين الجهاز الطبّي وبين الذين يتلقون الخدمة الصحّية.

لكن رغم اتفاق الباحثين (الأمريكيين) علىٰ النوعية العالية للمنظومة الصحّية الكوبية وعلىٰ سلامة أسسها واستراتيجيتها، إلا أنها تتحرّك في ظروف صعبة وتواجه تحدّيات. وابتداء ليس هناك شفافية كاملة تجاه الإحصاءات التي تُنشر حول النظام الصحّي الكوبي. وفي السنين الأخيرة أصبح هناك نقص فادح في الأدوية الأساسية وفي الأجهزة التي تخلفت صيانتها. كما بقي دخل الأطباء منخفضاً جدّاً لدرجة تستدعي بعضاً منهم العمل سائق سيارة أجرة في أوقات فراغهم. وهناك عملية مقايضة بين الحكومة الكوبية وفنزويلا، حيث ترسل كوبا أطباء إلىٰ فنزيلا لقاء استلام النفط.

ثالثاً: تحدّيات الخدمة الصحّية وهيكلية مقترحة:

تفيد البحوث أن ثلاثة تحدّيات تواجه المنظومة الصحّية:  (1) شمول الخدمة لكلّ المستحقّين، (2) النوعية العالية، (3) ضبط الكلف.

وستكون هذه ثلاثة الأبعاد هذه هي محلّ اعتناء المقترحات التالية. ولا يخفىٰ أن هناك تفاعل وتنافس بين الأبعاد الثلاثة أعلاه، بحيث يُطلب تطوير ما هو متوازن ومقدور عليه.

رابعاً: الهيكلية:

استصحاباً للواقع القائم في سورية، تتعامل المنظومة الصحية مع التحدّيات المذكورة أعلاه وفق بعدين: تقاسم الخدمة الصحّية بين القطاعين العام والخاص.

هناك قطاع خاصّ يُطلب أن يستمرّ، ويُطلب أن يخضع للتنسيق. وهناك قطاع عام يحتاج إلىٰ إعادة هيكلة ويُطلب أن يُرفع مستواه.

مواقع تقديم الخدمة الصحّية ثلاثة: العيادات، والمستوصفات، والمستشفيات. ومن ناحية أخرىٰ تنقسم إلىٰ قطاعين عام وخاص، والقطاع الخاصّ هو الذي فيه عيادات خلافاً للعام.

1- الخدمة العامّة:

أ- يُطلب أن تفتح الحكومة مستوصفاً في كلّ حي في مواضع مناسبة (تمرّ فيها الحافلات العامة). ويحتاج توزيع هذه المستوصفات إلىٰ دراسة ديمغرافية تأخذ بعين الاعتبار الكثافة والثقافة المحلّية. وكذا الأمر في البلدات والأرياف.

ويحوي المستوصف التابع للحكومة علىٰ (١) عيادات للتخصّصات الأكثر حاجة (مثلاً أطفال، هضمية، أنف-أذن-حنجرة)، (٢) خدمة إسعافية أوّلية بسيطة (جروح بيتية طارئة).

ويجري توظيف الأطباء والممرّضين (ذكوراً وإناثاً) بإعطاء الأولية لساكن الحيّ ثمَّ الأقرب فالأقرب.

ويتوقّع من هذه المستوصفات أن تقوم بتوعية صحية عامّة في مناطقها.

وهذا القطاع عام من ناحية الملكية والتصميم والمواصفات والشروط، ومن ناحية الإدارة العامّة. لكن هل يُسمح بأن تُعهِّد وزارةُ الصحّة إدارةَ المستوصفات إلىٰ جهة خاصّة، بحيث تكتفي الوزارة بالإشراف ووضع المعايير؟ لعلّه خيارٌ جدير بالتجريب.

ب- وكذا يطلب افتتاح المستشفيات في كلّ حي كبير أو بين عدّة أحياء. فهل يكون المستشفىٰ ضخماً أم متوسّط الحجم؟

يذهب بعض الخبراء إلىٰ تغليب خيار المستشفيات الضخمة باعتبار ارتفاع كلفة الأقسام التخصصية. فمثلاً تحتاج كثير من العلميات إلىٰ أجهزة معقّدة كلفها مرتفعة جدّاً، ويضمن وجود مستشفىٰ كبير الاستخدام الأقصىٰ لهذه الأجهزة. ولكن أصبحت المستشفيات الكبيرة أشبه ببلدة أو قرية ممّا يجعل إدارتها معقدة، بل وأصبحت موقعاً تنمو فيه الجراثيم وتتفاعل مع بعضها بعضاً.

لذا فالأولىٰ ترجيح خيار المستشفيات الصغرىٰ ومتوسطة الحجم، وتُحال الحالات المعقّدة إلىٰ مستشفيات تخصّصية صغيرة أُنشئت لهذا الغرض.

☆وهناك عامل حاسم يتعلّق بنوعية الخدمة الصحّية العامّة ويتمثّل في أمرين: (1) تحديث المواصفات بحسب البحوث الجديدة، (2) الصيانة.

بالنسبة للتحدّي الأول يُطلب أن تتواصل وزارة الصحّة مع منظمات المجتمع المدني المتخصّص الذي هو أقدر علىٰ متابعة التطوّرات العلمية. أما التحدّي الثاني فيتعلَّق بالتخطيط المالي للمستشفيات، بحيث لا تنفق كلّ الميزانية السنوية علىٰ التشغيل، وإنما يُرصد جزء من الميزانية (ربما الخُمس) للتطوير والصيانة.

ولا يخفىٰ أن المقصود هنا مجانية الطبابة، ولكن يمكن أن يتمّ فرض رسم رمزي للزيارة الطبية من أجل ضبط سوء استعمال المنظومة. ويوصىٰ باستثناء الفحوص الوقائية من الرسم، لأن إقلاع النّاس عن فحوص وقائية راجحةٍ طبيّاً يزيد في كلفٍ لاحقة لأمراض كان ممكن تجنّبها. 

2- القطاع الخاصّ

الخدمات الصحّية التي تقدّمها جهاتٌ خاصّة أمرٌ قائم في سورية. وحيث أنه يتمتّع القطاع الخاصّ بالمرونة، فسوف يملأ فجوات الخدمة الصحية بشكل تلقائي. ويفضّل الأغنياء هذه الخدمات الخاصّة، وهو ممّا يخفّف بعض العبء علىٰ القطاع العام.

فهل ينبغي أن تضع الحكومة تسعيرة للطبابة الخاصّة؟ مسألة محيّرة، ولعلّ الأولىٰ ألا تتدخّل الحكومة في القطاع الطبّي الخاصّ ما دام هناك بديل عنها وما دام يقوم القطاع العام بالمهام ويغطي حاجات معظم المواطنين.

ولكن يُطلب من الحكومة مراقبة نوعية الخدمة الصحّية التي يقدّمها القطاع الخاصّ، حيث يستبدّ أحياناً همّ الأرباح علىٰ المشاريع الخاصّة.

وبالمناسبة، كثيراً ما يقيّم النّاس الخدمات الصحّية بناء علىٰ جمال المبنىٰ (وفخامة قاعة الاستقبال بخاصّة) ممّا ليس فيه أي دلالة علىٰ نوعية الخدمة.

مازن هاشم
2025-01-01

Tagged: , ,

أضف تعليق