من المفارقة أن معظم النّاس يعتقدون أن الإعلام متحيّز، ورغم ذلك يشكّلون تصوّراتهم بناء على الإعلام، وتراهم يجادلون بناء على ما رأوه وسمعوه وكأنه حقيقة نهائية!
وكان من نصيب الثورة السورية في 2011 أن لم يكن هناك مؤسسات إعلام مستقلّة تغطيها، فتمَّ الاعتماد علىٰ لقطات الهواتف، التي هي صعبة التحصيل من جهة، ونقلها ونشرها خطير جدّاً من ناحية ثانية. وما زال إعلام البلد اليوم في عام 2024 بعد التحرير معتمداً على التغطية الخارجية.
وإلى جانب ذلك هناك العالم الافتراضي الذي يضخّم الأصوات الناشزة ويشغل الأذهان بالتفاهات. ثمَّ إن الكسل الفكري اليوم يجعل الكثيرين يعرضون عن قراءة بعض فقراتٍ فحسب. وبشكل عام أكثر ما يغيب في إعلام اليوم هو الصورة الكبيرة، فترىٰ النّاس يهيمون في جزئيات ليس لها أهمية أو هي متضاربة.
ومن ناحية حقل الإعلام فإنه يحدّد واجبه الوطني في كشف الحقيقة وأن يكون رقيباً على سلوك الحكومة. ولقد أصبح الإعلام الحرّ يعتبر جزءاً من عموم المطلب الإنساني في حرية الرأي.
إن تسلّط الدولة على منافذ الإعلام خطير، ولكن هناك أسئلة تتحدّى الإعلام الحرّ: (1) ما هو معيار الإنصاف، (2) ما هو معيار المسؤولية، (3) كيف نموّل الإعلام.
معيار الإنصاف
يتعلّق الإنصاف ببُعدٍ مهني، وببعد فكري. ويتمثّل البُعد المهني في التحقّق من الخبر بحيث يكون قد حدث وجرى فعلاً وليس قيل عن قال. أما البُعد الفكري فيتمثّل في الإطار التفسيري والمنهج التأويلي، وهذا يعتمد علىٰ الخلفية الفكرية لأهل الإعلام وعلىٰ خياراتهم الثقافية.
مثلاً الصحافة الغربية مهنية، ويندر أن تفتري المنافذ المحترمة شيئاً ليس له أصل أو دليل، لكن يظهر تحيّزها في تأويل ما جرى وفي تأطيره. فمثلاً يأتي التأويل حول أخبار بلادنا مجحف همّه البرهنة على أن مجتمعاتنا عنفية ومتحيزة ضدّ الأقلّيات وظالمة للمرأة وتخضع تحت تهديد الإسلاميين المتعصبين. بعبارة أخرى، الإطار التفسيري للإعلام الغربي هو أن ثقافة الحداثة التي تطوّرت في أوربة متفوّقة ولا يدانيها أحد من الشعوب.
وعلى كل حال ما هو ضامن الإنصاف في حين نعلم أنه ليس هناك مدير تحرير صحيفة أو مدير إذاعة وقناة إلا وله توجّه ما. والمثقفون في بلادنا ينقسمون بين لبرالي واشتراكي وقومي عربي وقومي سوري وإسلامي، وفي كلّ فئة درجات وأطياف.
معيار المسؤولية
تعتبر الأدبياتُ اليوم أن الإعلام مؤسّسةٌ رابعة في النظام الديمقراطي تُضاف لفروع الحكومة التنفيذية والتمثيلية والقضائية، بحكم أن الإعلام رقيب علىٰ سلوك هذه المؤسّسات الحكومية.
ولكن صار للإعلام وزن ذاتي وصل حدّ التحكّم. وأصبح المرشّح السياسي يخشى سطوة الإعلام، إذ تذهب القولة إلى أن الإعلام يصنعك أو يقصمك، فكيف لا يتنمّر الإعلام ويصبح منصّة للفضيحة وتتبع السقطات والزلّات؟
ودعك عنك الحالات القصوى، فإلى أي درجة يجب الرأفة بالحال. يعني في كثير من الأمور سوف تبدأ المؤسّسات السورية من نقطة قريبة من الصفر، أو قد تكون بحاجة إلى إعادة تشكيل شاملة، وهذا يستلزم وقتاً. فكيف -من وجه- لا نثقلها بالانتقادات والمطالبة بما لا تستطيع، ومن وجه آخر لا نقبل الوضع الراهن على أنه نهائي. ولذا فإنه مطلوب استصحاب خلُق الرحمة عند النصيحة، وأن يأتي النصح الناقد من خبراء.
وما يلي من خصائص الإعلام المسؤول: 1- التحقّق من الخبر. 2- وضع الخبر في سياقه المناسب. 3- الإعراض عن الأخبار الشاذّة التي لا تمثّل الحقيقة الغالبة في الواقع. 4- عدم الوقوف عند الأخبار الجانبية بحيث يغيب المحور الرئيسي. 5- التوازن بين التنبيه والتطمين، فليس هناك حالة تامّة ناصعة.
تمويل الإعلام
هناك حاجة إلىٰ إعلام حكومي رسمي تُخبر أجهزة عن نفسها وخططها، وتعُتبر بمثابة تصريحات رسمية للمسؤولين ولمختلف الوزارات والأجهزة الإدارية. ومن جهة أخرى الإعلام التابع للحكومة سوف يميل إلى إعذار نفسه حكماً.
حسناً قد يقال إن الإعلام الخاصّ هو المنجى. ولكن كون الإعلام خاصاً يعني أن هدف الربح محوري، ولذا سيعتمد الإثارة والتضخيم من أجل الجذب وتكبير ساحة المستمعين. ويعني ذلك أن حفنة من المتموّلين سوف يتحكّمون بطرق تفكير الشعب.
هناك نموذج الإذاعة البريطانية التي تموَّلها الحكومة من خلال رسمٍ تدفعه البيوتات البريطانية والمؤسّسات والشركات، وتقرّر الحكومة مقدار الرسم ويصادق عليه البرلمان. والحكومة وإن كانت تُشرف على الإذاعة لكن لا تتدخّل في مادتها (وكما هو معروف موقف الإذاعة من الحالة السورية كان سلبياً).
قد يكون الوصف أعلاه محيّراً، ولكنّه واقعي. وجدير بنا أن ندرك أنه ليس هناك حلّ كامل ناصع لأيّ أمر.
إن تعزيز التفاهم مسألة تدريجية، وبقدر ما للضوابط المؤسسية من أهمية، لا تغني الضوابط عن النضوج الثقافي وتدريب النّفس على الاستماع ومجاهدة الميل الإنساني للتمحور حول ما يألفه واعتاد عليه.
ولا يخفى أنه لم يعد النّاس يتلقون أخبارهم من الإذاعة والتلفزيون الوطني، وصار أمر المعلومات عالمياً، والطبيعة الالكترونية للعصر تتجاوز الحدود. ولكن هذا لا يُعفي من تطوير إعلام محلّي ملتزم بأولويات الوطن.
وأختم بالتالي: لعل من أهم وظائف الإعلام في المرحلة الحالية هي التعامل الحصيف مع التوقّعات الذي يتجنّب قطبي التيئيس التشاؤمي والأحلام العسلية.
مازن هاشم
2024-12-24
Tagged: التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
أضف تعليق