هو كذا إقلاعٌ لأنه تحجزه عن التحليق جاذبياتٌ عدّة وعوائق متراكبة.
يكتب المرء في هذا الموضوع والقهر يملأه أن سورية الطبقة الوسطىٰ أصبحت نسبة الفقر فيها عالية جدّاً. لقد كان هناك دوماً فقرٌ في سورية، لكن كانت هناك حواضن واسعة تعيش الكفاف أو الرغد أو بين ذاك وذاك.
أوجه التحدّي
لعلّ الأوجه التالية تشخّص الوضع الاقتصادي: (1) إفلاس الخزينة العامّة، (2) العوز وقلّة مدّخرات المواطنين التي يمكن استثمارها، (3) اختلاجات في عامة القطاع الاقتصادي بعد ممارسات الزبائنية الاحتكارية للنظام البائد، (4) قلّة اليد العاملة نتيجة موت أعداد كبيرة من الشباب في باكورة الثورة وهجرة آخرين، (5) اهتراء البنية التحتية، (6) قصور في توافر الطاقة، (7) الكلف الهائلة لإعادة التوطين والإعمار.
وإلى جانب ذلك هناك الجفاف وهدر المياه وارتفاع مستوى التلوّث.
ويزداد التحدّي عند استحضار أن الخلخلة الاجتماعية التي حصلت لها انعكاسات اقتصادية. وذلك لأنه تطوّر مختلف البلدات مهاراتٍ محلّية، ولكن تمّ تبديدها بالهجرة القسرية الداخلية. من جهة أخرىٰ هناك من المهاجرين خارجاً مَن يودّ العودة، ولكن ربما هُدم منزله أو لم يعد صالحاً للمعيشة إلا بعد إصلاحات مكلفة، ممّا يعني أن استئناف المهن يواجه نفقات بدايةٍ زائدة عن الحال الطبيعية.
ومن الطرف المقابل يُنظر إلىٰ سورية وشعبها علىٰ أنها بيئة جيدة للاستثمار الخارجي. ولكن للاستثمار الخارجي أولويات قد لا تتطابق مع الأوليات الوطنية. وسأحاول فيما يلي ذكر الأوجه الواعدة والأوجه الخادعة.
خصائص مشاريع الانتشال
– كثيراً ما تحاول الحكومة شرعنة نفسها من خلال مشاريع ضخمة “عميقة” وليس “منبسطة”، رغم أنه يصعب تبرير نجاعتها الاقتصادية.
والمقصود أنه يمكن القيام بمشروع له بهاء لكن مردوده محصور بين شرائح مهنية ضيقة. وقد تصبح هذه المشاريع رمزاً لفخر الشعب ببلده، مع أن هذه المشاريع لا تغلّ علىٰ عامّة المواطنين؛ بل ربما ترهق الاقتصاد بما ليس له أولوية (ومثال ذلك مشروع صناعي لآلة معقّدة محدودة الاستعمالات، ومثال آخر هو شركة الطيران الوطنية حيث تأتي أهميتها من الناحية الرمزية وليس من السهل أن تكون مجدية اقتصادياً). وبالمقابل هناك مشاريع غير برّاقة مردودها عام علىٰ شرائح كثيرة.
– هناك مشاريع مربحة على المدى القصير لكن لها نتائج ثانوية ضارّة على المدى المتوسّط والبعيد. مثلاً زراعة محصول معين من أجل التصدير عالي الربح، ولكن المنتج الزراعي شره للماء.
– هناك مشاريع تجارية تعتمد على استيراد الكماليات ممّا تستهلكه الطبقة الميسورة جدّاً، ممّا يبدّد القطع النادر.
– هناك مشاريع استثمار خارجي بشروط مجحفة، بحيث ترتهن البلد كلها لجهات خارجية.
الثقافة الاقتصادية
للثقافة الاقتصادية دور كبير في التعافي. وإذ تشتهر بلاد الشام بثقافة المبادرات الصغيرة المجزية، فإن هناك حاجة لمراجعة الثقافة العامّة من ناحية توقّعات عامّة الناس ومن ناحية الخطط الاقتصادية للدولة.
(أ) خطط الدولة
يظهر الدور الحاسم للدولة في الاقتصاد من خلال الأوجه التالية:
1- المواصلات العامّة.
2- الشفافية وضبط الفساد.
3- النظام الضريبي المتوازن بحيث يؤمّن دخلاً للحكومة ولا يخنق المبادرات الخاصّة.
4- البيروقراطية المرنة التي فيها قدر من اللامركزية والتي تتعلّم وتطوّر نفسها، بحيث يكون همّها الضبط والتوثيق لا التعويق الذي لا داعي له.
5- الانصات للجمعيات المهنية الخِبرية (نقابات ومؤسسات مدنية لأهل الصنائع)، والاستفادة القصوى منها.
6- دعم التعليم العام الأساسي المتمثّل في ثلاثية القراءة والكتابة والحساب.
7- الحرص على الصحّة العامّة الأساسية (معظم الأمراض التي تؤثّر على الإنتاجية وتقصّر سنين الاعتمادية هي أمراض شائعة لا تحتاج الأجهزة الغالية ولا المستشفيات الضخمة).
8- التصويب نحو تحقيق الأمن الغذائي ضمن خطّة قصيرة أو متوسطة المدى.
9- ضبط النفقات الحكومية الإدارية.
10- ضبط النفقات الحكومية على أجهزة الأمن والدفاع.
(ب) توقعات عامّة النّاس
توقعات الشعب أمرٌ في غاية الأهمية، وهو مربكٌ في الحالة السورية. هو مربك لأن البلد المشهور بالمبادرات الخاصة خضع لنظامٍ اشتراكي خانق، نظام لم يكن بأية حال في صالح العمّال والفلاحين كما كان يدّعي، وإنما كان نظاماً يقمع المبادرات الذاتية وينتقم من المشاريع الخاصّة؛ فتراجعت درجة الاكتفاء الذاتي للبلد.
ونتج عن ذلك ثقافة ترفض الترشيد الاقتصادي مرّة واحدة. وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن الرأسمالية شيء ونظام السوق شيء آخر. فلا خلاف أن الذي تحتاجه سورية والذي يناسبها هو نظام سوقٍ مفتوح، ولكن لا يعني ذلك نظاماً رأسمالياً يتحكّم فيه حيتان المال والشركات الكبرى.
وفي حين أنّ النّفس البشرية تتشوّف للرخاء، لا يخفى أن النزعة الاستهلاكية تجتاح الثقافة العالمية اليوم، ومثلما يدرك الأب الحكيم أن الإنفاق على الكماليات ليس في صالح الأسرة والأولاد، فكذا الدولة. وهناك استحالة موضوعية أن تكون سورية (بل معظم دول العالم) على غرار دول الخليج (إن كان ذاك النمط مرغوبٌ به ابتداء).
والمثل المشهور حجّةٌ هنا: التدبير نصف المعيشة. إن ثقافة “المول” بماركات أجنبية ثقافة إفقارٍ طوعي (ناهيك عن الإفساد الثقافي)، ولنا في التجربة التركية عبرة.
حسناً. كيف نجسّر الهوّة بين التوقّعات والتفكير العقلاني؟ أحد الأجوبة أن نحمّل المستهلك الكلفة الحقيقة لما يستهلكه = الكلفة المباشرة الظاهرة + الكلف الخلفية. لنأخذ مثال اقتناء سيارة فارهة كبيرة ذات ثماني أسطوانات. فهذه السيارة المستوردة أغلى سعراً، ممّا يعني أنها تأخذ حصّة زائدة من القطع النادر في البلد. وهذه السيارة تستهلك وقوداً أكثر في بلدٍ يشكو من قلة الطاقة. وهذه السيارة بوزنها الثقيل تحتُّ الطرق المعبّدة أكثر من غيرها، وربما تلوّث أكثر من غيرها نتيجة حجم محرّكها. ما العمل إذاً؟ الجواب المنطقي، بل الجواب العادل، أن يتحمّل صاحب هذه السيارة الكلف المباشرة وغير المباشرة لخياره، وذلك من خلال الرسوم على الرفاهية. ومن ناحية مالية حسابية، إذا لم يقم صاحب هذه السيارة بتغطية الكلف غير المباشرة، يعني هذا أن النّاس من الطبقة الوسطى والفقراء هم مَن يقومون بالدعم المالي للأغنياء.
التوزيع العادل والقسط الجهوي
التوزيع العادل للثروة معضلة لازمت البشرية، ولا أستطيع الجواب عنها في هذا المختصر إلا الاحتراز التالي: نعرف أن بعض التدابير غير عادلة، ولكننا لا نعرف على وجه الجزم ما هي التدابير الأكثر قسطاً وعدلاً بين النّاس.
وهناك مسألة العدل بين أصقاع البلد. وفي سورية عانت المنطقة الشرقية (شرق الفرات) من إهمال بالغ. وهذا يعني أن رفع سوية هذه المناطق يتطلَّب مزيداً من الإنفاق. وثمّة مفارقة هنا في أن الاستثمارات الفعالة تختار المناطق التي فيها كثافة من الخدمات والإمكانيات البشرية؛ وهذا ممّا يضاعف التحدّي ويتطلّب التحفيز الحكومي.
الاستثمارات الأجنبية أو عبر البنك الدولي استعمارٌ بقناع اقتصادي، وممكن للنظام القديم الذي فرّ ومعه المليارات أن يدخل ثانية من خلال الاستثمار.
إنشاء شراكات اقتصادية تركية-سورية-لبنانية يبدو تحصيل حاصل (وربما تنضاف إليها الأردن)، وإن تفاصيل الشروط الضابطة لهذه الشراكة هو الذي يجعلها عادلة أو غير ذلك.
مازن هاشم
2024-12-23
Tagged: الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
أضف تعليق