تتسارع الخطوات من أجل التشكيل السياسي في سورية الجديدة بعد نجاح الثورة. وإن أوّل المطلوب هو الوعي بأنه ليس هناك نموذج جاهز يمكن تبنّيه كما هو. لا بدَّ من التفصيل على مقاس القدّ، لكن الاستغراق في تمام التفصيل يتطلّب وقتاً لا نملكه. إذاً المطلوب تحديد الهيكلية العامّة، ثمَّ نبني الجدران وبعد ذلك نقوم بالكسوة والدهان، ثمَّ التزيين والتنميق (وإذا قام عملٌ تطوعي بوضع لوحةٍ جميلة على عضاضة إسمنتية من اليوم فلا بأس).
ولعلّه يأتي على رأس التحدّي أنه يصعب الحسم في نقطة البدء. يعني إذا قلنا نريد انتخابات، أين هي القوائم الانتخابية، وكيف يتمّ تمثيل المشردين داخل البلد والمهجرين خارجه. يعني هذه تحدّيات ينوء بها جهاز كبير في حال السلم، فما بالك بالوضع الحالي.
1- الهيكلية
طيب افرض أنه جرت عملية انتخابية، هي انتخاب ماذا؟ رئيس؟ نواب؟ قادة المحافظات؟
لا يخفى أن الانتخابات إنما تجري ضمن منظومة سياسية قائمة، فهل سيكون التصويت لرأس جديد لمنظومة قديمة فاسدة؟
بعبارة أخرى هناك حاجة لتطوير منظومة، وهذا يأخذ وقتاً طويلاً.
وهنا يأتي الكلام عن الدستور، فهل تجري الانتخابات على مجهولٍ لا يحدّده الدستور؟ وتطوير دستور جديد يأخذ سنة في الحالات المثلى، وباعتبار الاستقطاب الموجود في سورية يمكن أن يمتدّ إلى أكثر من ذلك.
فيقال لا يمكننا انتظار تطوير دستور جديد. حسناً، على ما نعتمد الآن: على دستور قديم، أم إعلان دستوري جديد مؤقت؟
وابتداءً هل الأفضل أن يجري اعتماد نظام رئاسي أم برلماني؟ وكما هو معروف لكلٍ منهما ميِّـزة سلبية وإيجابية.
ميِّـزة النظام الرئاسي أنه يعطي رأس الهرم صلاحيات كبيرة، ممّا يمكّن الجزم والحسم. وربما يجادل مجادلٌ أننا بحاجة إلى هذا النظام بسبب الوضع الحرج الذي وصلت إليه البلد. ولكن النظام الرئاسي أكثر عرضة إلى التحوّل تدريجياً إلى نظام ديكتاتوري. وفي حال وصل رئيسٌ قلبه معلّق بالغرب (فرنسا، أمريكا، روسيا…)، فإنه يجرّ البلد إلى تبعية ليست في صالح البلد.
ميِّـزة النظام البرلماني أنه أكثر سماعاً لإرادة الشعب عبر النواب، ويحصل رئيس الوزراء على صلاحيات كثيرة هي إدارية بشكل كبير. لكن يترافق النظام البرلماني مع تعدّدٍ كبير في الأحزاب قد يصل حدّ التشرذم والتغيير المستمرّ للحكومة والوزراء.
هناك ما يوصف بأنه نظام مختلط يمزج –وفق خلطة ما– بين الرئاسي والبرلماني. طيّب إذا تمّ تفضيل نظام مختلط، كيف نقرر مواصفات هذه الخلطة.
وليس مبالغة القول إن مثل هذا يحتاج سنة للتهيئة (ولكن المتربّص لن يدعك تتأمل لمدة طويلة).
يتبع منطقياً أن المطلوب تشكيل حكومة انتقالية بأسرع وقت (بلا وسوسة حول درجة التمثيل). وأصلاً يظهر التمثيل الشعبي بشكل أوضح في البرلمان وليس في الحكومة (ويكثر استعمال عبارة حكومة تكنوقراط). وإذا تمّ اعتماد الأهلية المهنية فسوف يكون هناك –حُكماً– نوع من التعدّدية في خلفية الوزراء ممّا يريح بعض الأعصاب، ولكن مرّة ثانية تمثيل الشرائح في الحكومة المؤقتة ليس شرطاً ديمقراطياً، بخلاف التمثيل في البرلمان/مجلس الشعب.
ويلزم في تشكيل الحكومة الانتقالية شرطان على الأقلّ: قدر مقبول من المهنية، واستيعاب تامّ وانسجام كامل مع مطلب الشعب/الثورة.
2- درب الوصول:
كيف تسوس بلا فلوس ولا تروس؟
الجواب بالاعتماد على الموجود!
فما هو ذاك الموجود (غير المتعفّن)؟
عرضت في المنشور السابق تحدّياتٍ في التشكيل السياسي فيما يختصّ بالهيكلية، وما يلي متابعة في كيفية الوصول إلى ما نبتغيه بالتدريج.
إذا كانت السياسية هي عملية تنظيمية في طبيعتها، فهي ليست منفصلة عن الاقتصاد أو الاجتماع. ومعنىٰ ذلك أن علينا أن نفكّر في بِنى الاجتماع المتعاشقة مع السياسة؟
أولها هو المجتمع الأهلي، وهو الذي يضمّ الأسرة وشبكة الأقارب والحي ودور العبادة والمناشط المحلّية. وسأفصل قليلاً في دور الحي.
يجري كثير من النشاط الإنساني ضمن الأحياء، سواء على الصعيد الاجتماعي (بما فيه التديني) أو الاقتصادي، أو حتى السياسي (يعني يكاد الميل السياسي أن يورث ضمن العوائل).
ومن ناحية أهمّ، ليست الحكومة مؤهلة للتعامل مع قضايا الحي. وذلك لأن وسيلة الحكومة هي البيروقراطية، والبيروقراطية غير مناسبة للتعامل مع القضايا الرهيفة للأسرة ولا مع قضايا الحي التي تتمتّع بخصوصية شديدة.
وتقوم الأحياء بدور مهمّ في كثير من الأمور، مثل حلّ الخلافات البسيطة، والتعاون على مشاريع محلّية، وعيادة المرضى ومساعدة الفقير. وهي في كلّ ذلك أكثر فاعلية من الحكومة. وحتى ضبط السّلوك المنحرف، السلطة العرفية للحي كثيراً ما تكون أكثر فاعلية من الشرطة والمحاكم. طبعاً يُحتاج للشرطة والحكومة عند تفاقم الأمور.
وإنه لا يمكن استنقاذ دور الحي بلا حجب الحكومة عن التدخل في الشأن الأسري. كما يصعب تصوّر “مواطن صالح” بلا بيئة أسرية مستقرّة (وإن كان هناك استثناءات).
فما هو المعنى العملي لاعتبار الحي (ومجمل المجتمع الأهلي) وحدةً أساسية في الاجتماع السياسي؟
المعنى أن المطلوب تأليف مجلس أعيان لكلّ حي، ومن الأمور المطمئنة أنه بدء تأليف مثل هذه المجالس. والمطلوب أن تعمّ حتىٰ تصبح “بنية” معترف بها من قبل الحكومة. ولا أقصد الاعتراف الرسمي وكأن هذه المجالس لجاناً حكومية؛ بل على العكس أن يجري القبول العرفي بأن هناك أمور تخصّ الأحياء لا تتدخّل فيها الدولة وتتركها للأحياء. وأوّل ما يخطر بالبال مسائل السّلوك الفردي والأدب، حيث لا يصلح أن تتدخّل فيها دوائر الحكومة ما لم تصل إلى الأذى الفظيع الذي لا تقوى على دفعه سلطة الحي. وكمثال آخر أوقات إغلاق المحلات ليلاً من أجل الضوضاء، أو رغبة أهل الحي ألا يبيع مقهى الحي الدخان أو ألا يقدّم المطعم البيرة وما شابهها من مسكرات.
إن الميزة الكبرى لسلطة الحي هي أنها عُرفية، ليس لديها عصا ولا غرامة ولا سجن… وإنما تستند إلى الذوق العام الذي تصالح عليه الحي في نشأة تاريخية. ولا يخفى أن الرؤية اللبرالية شاذة في هذا المجال، حيث تعطي الأولوية للمزاج الفردي باسم الحرية الشخصية. وقد يجري الاعتراض بأنه ربما يبالغ الحي في التحفّظ على بعض الأمور؟ نعم ممكن، ولكن هذا لا يبرّر طمس هذه البنية الفطرية، وسرعان ما يلين التحفظ الزائد تدريجياً حيث إن فاعليات الحي جزء من الحياة اليومية تستمع إلى نبضها باستمرار.
الخلاصة أن سلطة المجتمع الأهلي (1) تحجب تغوّل مؤسسات الدولة وتمنع دخولها فيما لا تُسحنه ولم تُنشأ من أجله، (2) وتُنشئ مساحةً للتحاور المجتمعي الذي يوصل إلى نقطة وسط، (3) وأنها مرتفعة في فاعليتها، (4) ومنعدمة في تكاليفها، (5) وأنها ليست جارحة في وسائلها. ومن ناحية إدارية بحتة تمثل سلطة الأحياء نقطة تواصل بين عامّة الشعب وبين الحكومة.
ثانيها المجتمع المدني. ومقابل أن المجتمع الأهلي فطري، المجتمع المدني تعاقدي. غير أن هناك أحياناً تشارك بين المجتمعين، فمثلاً نادي الشطرنج في الحي يحوي خصائص من كلٍّ من المجتمع الأهلي والمدني.
والمطلوب إعادة إحياء النقابات والروابط المهنية من كلّ نوع ولون. ومن خلالها تتقوّى الصلات المجتمعية، ويتعارف الناس من شتّى الخلفيات على بعضهم بعضاً، وتساهم في رفع نوعية المخرَجات وفي ضبط مواصفاتها، وتحمل جزءاً من عبء الحكومة في ضبط المواصفات وتتخذّها الحكومة مرجعاً علمياً، وأخيراً تجري في هذه المنظّمات فاعلياتٌ من النوع السياسي (انتخاب-تصويت-توكيل-حوار…) ممّا يُنضج الثقافة السياسية في المجتمع.
وبالمناسبة، كلّ ذلك ليس عليه انتظار التشكيل السياسي بعد الثورة، ولا عليه انتظار الدستور؛ بل يساهم في تعجيل بزوغ التشكيلات السياسية الكبرى.
وختاماً، هكذا تسوس بلا فلوس ولا تروس (أو بقدر زهيد منها)، وذلك بالاعتماد على الموجود من الممارسة الاجتماعية الطبيعية وفسح المجال للأنشطة الرشيقة.
3- اللامركزية
لسبب ما، تحوم حول لفظة اللامركزية شكوكٌ كثيرة، وهي انعكاس للخوف من التقسيم.
ولعلّ الضمير السوري عنده حساسية خاصّة تجاه التقسيم لأن من أشد أوجه ضعف سورية الحالية كان في التقسيم إلى أجزاءٍ أربعة لبنان وفلسطين والأردن وبقية سورية. ولا يخفى أن كلٌّ منها خفيف جيوسياسياً وديمغرافياً، وحُرمت أكبر دولةٍ ناتجة عن هذا التقسيم من إطلالة ساحلية عريضة تفاقمت بعد ضمّ قطاع إسكندرون إلىٰ تركيا. وكما هو معروف قامت فرنسا بتقسيم سورية إلى ستة أقاليم منها “الدولة العلوية”.
ولكن لا علاقة ألبته للامركزية بالتقسيم. وليس هناك حاجة للتفلسف في شرح اللامركزية، فهي لا تعدو أن تكون توزيعاً للقرار في وحداتٍ إدارية أكثر مناسبة لصنع القرار.
وتشيع في الكتابات النقدية تجاه المجتمع الحديث أنه يعاني من تغوّل الدولة. ولتغوّل الدولة سبب نظري وآخر تنظيمي. السبب النظري هو احتكار الدولة للشرعية، والسبب التنظيمي تضخّم البيروقراطيات. وما الديمقراطية إلا تخفيف من أثر البُعد الأول، وما اللامركزية إلا تخفيف من أثر البُعد الثاني.
والحقيقة أن السجلّ التاريخي للبشرية مليء بتفويض القرار إلى وحداتٍ إدارية أصغر، بمعنى أن اللامركزية أمر قديم، ولكن طفت فكرة اللامركزية حديثاً بسبب تركيز السلطات في الدول الحديثة.
ولعلّ أهمّ أمر ينبغي تأكيده هو أنه تستجيب اللامركزية إلى احتياجات الوحدات الجزئية ولا تُفسد الروابط العابرة للوحدة. وهناك درجات من اللامركزية:
1- التوكيل (authorization): حيث يقوم المركز بتحديد خطوطٍ عامةٍ توجيهيةٍ ويكلّف البِنى الجزئية عملية التنفيذ تاركاً لها حرية التكيّف والاجتهاد، لكن تبقى سلطة المركز هي العليا مطلقاً.
2- التفويض (delegation): حيث يقوم المركز بإعطاء طيفٍ من الصلاحيات للوحدات الإدارية المختلفة (ناحية، محافظة، …) ، لكن يحتفظ لنفسه بحقّ تغييرها والحدّ منها وسحبها.
3- التنازل (devolution): حيث يتنازل المركز عن صلاحياتٍ تُترك بشكل كامل للوحدات الإدارية الأصغر، وليس هناك حقّ سحب تلك الصلاحيات.
ودعنا نضرب أمثلة، ونبدأ بواحد ساخر: هل ينبغي للحكومة المركزية أن تكون هي صانعة القرار في لمّ القمامة في أقصى قرية في البلد؟ ومثلاً يمكن أن تُعتمد اللامركزية في كثير من المعاملات الحكومية الخدمية (فواتير الكهرباء والماء…). كما يمكن أن تُعتمد اللامركزية في حفظ أمن الأحياء، بمعنى أن تكون شرطة البلدات المختلفة تابعة لقرار المحافظة/الولاية، أو تابعة لإدارة وحدةٍ أصغر مثل الناحية أو المحلّة. ويكون دور السلطات الأعلى تحديد صلاحيات الشرطة.
والخلاصة أنه يمكن لأنماط اللامركزية أن تختلف عن بعضها البعض في بعدين: (1) المجالات التي ترِد فيه اللامركزية؛ (2) ودرجة التفويض الموكلة للبنى الإدارية خارج المركز.
مثلاً يمكن أن ترد اللامركزية في إدارة الأحوال الشخصية وليس في التعليم. ومثلاً يمكن أن تعطىٰ صلاحية للناحية في فرض ضريبة إضافية (بعد استفتاء الشعب وموافقته) من أجل مشروع محلّي خاصّ لا يهمّ باقي بقاع الوطن.
وأخيراً، فإن اللامركزية لا يقع فيها التوكيل في أمور سيادية أساسية، على رأسها العلاقات الخارجية والجيش، وأيضاً النظام المالي العام. أما إذا تجاوزت اللامركزية ذاك الحدّ فينتقل الحديث عندها إلى الفدرالية. وبالمناسبة، حتى الفدرالية لا تعني –ضرورة– حقّ الانفصال. مثلاً ليس في نظام الولايات المتحدة الأمريكية الفدرالي حقّ الانفصال وكذا ألمانيا وإسبانيا. أما فرنسا والنمسا والحبشة فهناك حقّ الخروج من الرابط الاتحادي. وفي كندا ليس هناك حقّ مسبق في الانفصال، ولكن التفاوض عليه وارد ويتطلّب تعديلاً في الدستور. ولا يخفى أن هذه مسألة معقّدة ويمكن للغة القانونية أن تفتح باباً للجدال في حقّ الانفصال (كما هو الحال في الدستور العراقي).
وأختم القول بأنه إذ تُدغدغ الأذهان أحلامٌ ديمقراطية، فإنه لا يمكن تخيّل الديمقراطية بلا لامركزية. وفي حين أنه تتركّز الطاقة في النظم شديدة المركزية على الانصياع، تتوجّه الطاقة في النظم اللامركزية نحو التنسيق.
وإذ يتوق شعبنا إلى الحرية، فلا حرية ذات معنى على صعيد المعيشة اليومية بلا لامركزية!
4- القانون
طوّرت الدول الراسخة عبر التاريخ القوانين لتنظيم الحياة التي تغدو متراكبة معقّدة بسبب خصائص عدّة: حجم السكّان، وتنوّع النشاط الاقتصادي، وكثافة النشاط البشري، وتفاوت أولويات الجماعات الملّية/الإثنية المحكومة، وحاجة الإدارة السياسية إلى أنماطٍ مستقرّة.
وحين الحديث عن القانون هناك حاجة للتفريق بين الإجرائيات والقوانين الأساسية.
بالنسبة للإجرائيات، هناك حاجة دائمة للابتكار والتعديل بسبب تغير نبض مسيرة الحياة العملية. ومع انتشار التطبيقات الالكترونية، أصبح ممكناً تبسيط كثيرٍ من الإجرائيات وجعلها أكثر فاعلية. ولكن هذا يعني أن هناك موظّفون حكوميون سوف يُستغنى عنهم.
ومن الأمور الحريّ الانتباه إليها هو كثيراً من القوانين الإجرائية لا بدَّ لها أن تعتمد على معرفة علمية. ونعود هنا ونذكّر بأهمية دور المجتمعين الأهلي والمدني، حيث يتوقّع أن يتمّ تشكيل منظماتٍ تتراكم فيها الخبرات (طبية هندسية تخطيطية…)، فتكون مرجعاً للحكومة. وذلك أن طواقم الحكومة المنشغلة بمسائل تطبيقية يصعب عليها متابعة النتاج العلمي، وتستفيد كثيراً من مجموع المخزون العلمي لمختلف الروابط المهنية. ولا يخفى هنا أننا لا نتكلّم هنا عن نقابات المهنيين بمفهومها الضيق، وإنما بمنظمات بحثية (قد تكون مستقلّة عن النقابة أو جزءاً منها أو متمفصلة معها).
أما القوانين الأساسية حول الحقوق والواجبات فإنها تبعٌ لفلسفة الحياة. وفي بلادنا المسلمة هناك الخطاب الفقهي الذي يركّز على المجال الفردي بخاصّة، (وهو يتراوح بين الجمود والتجديد)، وهناك الخطاب الإسلامي المجرّد الذي يدعو إلى استشراف فلسفة الدّين في الحياة، وهناك الخطاب العَلماني الذي همّه احتذاء التجربة الغربية وتقليدها (تعلوه الغفلة عن خصوصية التطوّر التاريخي للأقوام). ولا يخفى أن هناك استقطاب في هذا الأمر.
والمفارقة أن الأكثرية المسلمة في سورية هي التي تلقّت كلّ أنواع التهميش وطرد رؤيتها الثقافية من الفضاء العام (ما شاهدناه من صلاة جماعية في كلّيات الطبّ –برغم إمكان الصلاة في مسجد– هو رسالة واضحة على العدوان الثقافي الذي كان يمارس ضدّ المسلمين عامّة والملتزمين والمحافظين خاصّة).
ورغم هذا فإن مطالب الفرق الملّية/الإثنية لم تنقطع في السجالات البينية منذ ثورة 2011. وهناك مفارقة أن كلّ مجموعة تعتبر نفسها هي المظلومة أشد الظلم، وأن القانون يجب أن ينحاز إليها. فمثلاً لا خلاف أن بعض الكرد أصابهم الحيف من سياسياتِ مناكفةٍ قام بها حزب البعث العربي الاشتراكي. ولكن الكرد ليسوا مجموعة واحدة، وقصّة كُرد الشمال والشمال الشرقي مختلفة عن غيرهم. كما يشعر العلويين-النصيرية أنهم مظلومون رغم أنهم كانوا هم يد النظام الباطشة، وكانت العصبية النصيرية هي التي استند عليها النظام! فما هو مصدر شعور الظلم؟ مصدره أنهم مكروهون وأن النظام البائد أبقى أكثرهم فقراء يخدمون العائلة في سدّة الحكم.
فما هي نسب هذه المجموعات؟ لا نعلم النسب الحقيقية، حيث ليس هناك إحصاء، وإنما أرقاما متداولة تفتقر إلى أدنى المعيار العلمي (والمواقع الأجنبية تضخّم أعداد الأقلّيات، كما تبيّن حديثاً في مسألة القبط، حيث أعلن الفاتيكان أن نسبتهم لا تتجاوز الـ6٪ في حين كان يُدعى أنها 13٪). وفيما يلي تقديرات بحسب تقاطع بعض المعلومات: نسبة المسيحيين 3٪ الدروز 1٪ وفرق أخرى 1٪، الكُرد الذين لم يستعربوا 10٪، النصيرية-العلويين 10٪. وممّا يعني هذا أن في سورية أغلبيات وازنة كيفما جرت القِسمة: العرب 90٪، المسلمون السنة 85٪، والعرب السنة 75٪.
ترفض المجموعات المختلفة مصطلح “أقلية” بناء على أنهم سكان قدامى، وهذا صحيح. ولكن ينبغي أن يُرفض معها أي دعوى اختصاص قانوني أو تمييز إيجابي. أما قوانين الأحوال الشخصية فتراعي مختلف الأديان ولا خلاف تجاه ذلك.
بقي أن نشير إلى مفارقة في أصل فكرة القانون الحديث. فالقانون المعاصر مودع في الدولة، وهذا يعني أنه المطالبة بقوانين إضافية تزيد في قوّة الدولة (زيادة مشروعة نظرياً). وحيث أن ممارسات الدولة سوف تتكلّس مع الزمن، وحيث أن تعديل وتغيير القوانين ليس بالأمر اليسير؛ فهذا يعني أنه يحصل تراكم قانوني متنافر داخلياً، تضيع الحقوق في دهاليزه ولو توافرت النيات الحسنة. وإضافة إلى ذلك ينبغي إدراك أن زيادة القوانين تعني زيادة المصروف الحكومي، ممّا يعني الحاجة إلى زيادة الضرائب.
ولا بأس بالتذكير أنه اختلفت الدول فيما بينها في مدى التقنين والساحة التي تترك للعرف. وحيث أن الحداثة ثارت على النمط الطبيعي للاجتماع (ذلك النمط المتشارك مع الدّين)، فإن دول الثقافة الأوربية تطرّفت في نزعتها القانونية، فأحالت الحياة إلى رتابة جامدة مبالغ فيها. ومقابل ذلك تتميّز بلدان الحضارة الإسلامية بأعرافٍ مستندة إلى قيم دينية، ممّا يكسبها احتراماً.
وختاماً فإن الحكمة تقتضي القول إن كلّ ما يمكن أن يُرجع إلى الأعراف هو أرحم بالناس من التضخّم القانوني.
5- الدستور
أصبح الدستور وثيقة مرجعية للدول المعاصرة، والخبرة فيه مسألة قانونية متخصّصة. ويمكننا التفريق بين روح الدستور وبين مواده. فالمواد يغلب عليها الوجه الإجرائي التخصصي، في حين أن روح القانون مسألة ثقافية حضارية تتّصل بتاريخ أهل البلد، وهي التي تظهر في ديباجة الدستور بالخصوص.
ومعلوم أن العَلمانيين يعتبرون الدستور سلاحهم البتّار، فيحرصون على فرض صياغة دستورية تُمرّر آراءهم الخاصّة. ولعلّ مردّ ذلك أنه يدرك العَلمانيون القحّ أن الغالبية الساحقة من الشعب لا تتبنّى رؤيتهم للحياة، لذا يجدون أن الدستور هو الطريق لإكراه الشعب على ما يهواه هؤلاء بناءً على أنه “عصري”. ويجري الترويج بأن البشرية قد “تقدّمت” وأن مفهوم الحريات قد تطوّر من عهود الظلام إلى عهد الأنوار. وطبعاً يعتبرون أنفسهم تقدميون وأن الآخرين رجعيون. وهذه “كليشيهات” لا تنتمي إلى عالم الفكر والفلسفة، وأي دارس للتاريخ يدرك خصوصية ثقافات البشر؛ بل ويدركون أن الأزمة الكبرى للحداثة هي في رؤيتها وفي أطرها القانونية على حدّ سواء.
ومن العجيب أن الذين يعتبرون أنفسهم “تقدمّيين” ديدنهم التقليد؛ وكيف يكون التقليد تقدّماً وإبداعاً؟ وتجد أن الذي عاش في فرنسا يريد أن يصيغ الدستور على شكلٍ قريب من الصيغة الفرنسية، وكذا الذي عاش في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية… فأية أصالةٍ هذه وأي إبداعٍ هذا؟!
وقد يقال إن علينا الاستفادة من تحصيل الآخرين. بالتأكيد نعم، ولكن شرط الاستفادة هو أن يعرف المرء –ابتداء– ما يريد، ثمَّ ينظر حوله ليرى إن كان هناك ما يُفيد.
ولعلّ أكثر ما يُظهر إشكالية عقلية الاستيراد هو أن الدول التي يُريد استيراد الدستور منها هي نفسها ترجو أن تغيّر دساتيرها. وبالمناسبة ليس أن هذه الدول هي التي كانت قد استعمرتنا فحسب، بل وأيضاً هي التي كانت تدعم الديكتاتور الذي أسقطناه واحتجنا بسبب ذلك إلى كتابة دستور جديد!
فإذا انتقلنا إلى الطرف الآخر، أي المتديّنين، فنجد تشويشاً في الرؤية. ومردّ الغشاوة هو إطلاق العبارات العامّة حول الشريعة ووجوب “تطبيقها” وكأنها مسألة آلية.
والأهمّ من ذلك أن المتدينين من العامّة لا يفرقون بين مستويات ثلاثة يجري الحديث عن كلٍّ منها علىٰ أنها “الشريعة”. إطلاع أكثر المتديّنين هو على الفقه، ولذا يحاصر بعضهم الشريعة في الفقه، في حين أن الفقه هو محصول الاجتهادات عبر الزمان وفق الشريعة. البُعد الآخر لمصطلح الشريعة هو أصول الفقه، وهي قواعد عقلية في طرق التفكير. وهناك القواعد الأصولية ومقاصد الشريعة، الوجه الأكثر تجريداً وعموماً في معنى الشريعة. وينبغي الانتباه أنه ليس أحداً من هذه المفاهيم الثلاثة للشريعة يتطابق تماماً مع مفهوم القانون أو الدستور في الزمن المعاصر.
الفقه أقرب إلى القانون، ولكنّه أعلى منه تجريداً وأوسع ساحة. الأبعاد الأخلاقية في الفقه أوضح، كما أن الفقه يدخل في ساحة السّلوك الشخصي ممّا لا يصحّ أن يدخل فيه القانون (مثلاً عيادة المريض).
أصول الفقه تشابه القواعد القانونية العامّة كما تقترب من بعض مواد الدستور في بعض أوجهها.
أما القواعد الأصولية ومقاصد الشريعة فهي بمثابة ثوابت ما قبل الدستور.
ثمَّ هناك مستوى رابع يتعلّق بالحيّز التشريعي، وهو القضاء والفتوى.
المخزون التراثي غنيّ جدّاً ومتنوّع، وله بطبيعة الحال ارتباط تاريخي سياقي إلى حدٍّ ما. ومن المعروف (غير المشهور) أنه بذلت جهود كثيرة لردم الفجوة التاريخية ولأخذ بعين الاعتبار التطوّرات التي حصلت في الحياة، ومنها جهود أبي اليسر عابدين ومنها جهود مصطفى الزرقاء، وهناك مجلة الأحكام العدلية الفلسطينية.
ولعلّه يمكن القول إن الإحالة للشريعة من قِبل المتدينين موهمة، والإحالة إليها من قبل غير المتدينين جاهلة.
من ناحية عملية هناك أمران يحدّدان فاعلية الدستور: الالتزام به وبالقانون من الجهة الحاكمة، وحُسن تخريج القوانين وفقه وعدم اعتسافه، فالدستور مفتوح للاجتهادات.
وتجاه تطوير دستور جديد، أذكر أنه جرت سجلات طويلة حول ذلك عقب الثورة في 2011. وبرز بشكل طبيعي دستور عام 1950، حيث إنه الدستور الوحيد في تاريخ سورية الذي يحقّق شرط شرعيته. ولقد وجّه إليه بعض المجتمعين كثيراً من الاستدراكات، وجدُتها مزيجاً من التنقير والافتتان بالثقافة اللبرالية. وممّا تمَّ الاعتراض عليه أن ديباجته تحوي العبارتين التاليتين:
– “ونعلن ان شعبنا الذي هو جزء من الأمة العربية…”
– “وإننا نعلن أيضاً أن شعبنا عازم… على بناء دولته الحديثة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق”.
بلا تعليق!
لبّ التهم اللبرالية الموجهة لدستور الاستقلال أنه “عتيق”. يعني أنه لا ينصّ علىٰ الحريات الفردية التي وصلت إليها الدول الغربية. ولكن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه دستور ديكتاتوري.
طيّب حسناً. دعنا نتظلّل بدستور 1950 (علىٰ نقصه المدَّعىٰ) ريثما نطوّر آخر في ظرف اجتماعٍ وتشاورٍ شعبي. إن المنطق السليم يقتضي القول إن تبنّيه ولو مؤقّتاً أفضل حلٍّ لنا الآن، لكيلا نقع في فترة فراغ دستوري، حيث إن تطوير دستور جديد يحتاج سنيناً، والاعتماد على إعلان دستوري هزيل وغير كافٍ. وعلينا تذكّر أن أحد مواضع الإجهاز على الثورتين التونسية والمصرية كان مسألة الدستور.
☆ ختاماً أودّ لفت النظر إلى أنني قمت بتوليف رؤية دستورية تجمع بين موادٍ من دستور 1950 ومن العديد من الدساتير المعاصرة. ولعلّ أهمّ ما في هذه المساهمة هو حرصها على تلافي التذرّر حين يكون هناك عدد أحزابٍ كثيرة (وهو المتوقّع أن يحصل في سورية)، فاقترحت ما مفاده أن الأحزاب لا تدخل البرلمان بنفسها، وإنما من خلال ثلاثة كتل: كتلة اليمين وكتلة اليسار وكتلة الوسط؛ بمعنىٰ أنه تمّ نقل جزءٍ كبيرٍ من معارك الجدال إلىٰ ساحةٍ خارج البرلمان تُجبر الأحزاب الكثيرة علىٰ التفاوض فيما بينهما قبل دخول مجلس الشعب، وبذلك تضيق ساحة الخلاف داخل هذا المجلس.
مازن هاشم
2024-12-23
Tagged: الأقليات والسياسة, التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
أضف تعليق