حول الانسجام مع المجتمع التركي

في زيارتي الأخيرة لتركيا، ليس من موضوعٍ جرى الكلام فيه مثل موضوع الانسجام مع المجتمع التركي، سواء كان هو الموضوع المخصّص للقاء أو جاء على الألسن بشكلٍ عفوي. وأودُّ في عجالاتٍ متتابعةٍ أن أشير إلى نقاط مهمة، وأن أناقش المسألة من “ناحية واقعية”.

1- طريق ثنائي الاتجاه:

مسألة الانسجام مع مجتمع الهجرة طريقٌ ذو اتجاهين، ونادراً ما تَستحضر نقاشاتُ السوريين خصوصياتِ المجتمع التركي وثقافته. ومن ذلك أنّ هذا البلد انكفأ على نفسه من لحظة تشكيل دولة تركيا على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. الفخر الثقافي ليس غريباً وتجده عند كل الأقوام، والهوية السورية هوية خصوصية وهوية “استثناء” ومتمحورة حول نفسها إلى حدٍّ كبير، فلِمَ نستغرب هذا على مَن يرى نفسه وريثَ إمبراطورية؟ وإذا كان غير التُرك يذوبون غراماً بمسلسلٍ واهٍ من ناحية التحقيق التاريخي، فلِمَ نلوم أهله على الإعجاب بأنفسهم. وطبعاً من الناحية التاريخية لم تكن الإمبراطورية تركيةً صافية، ولا حصلت إنجازاتها العسكرية أو الاقتصادية على يد العرق التركي تحديداً، بل شاركت فيه شعوب عدّة بما فيهم العرب ومَن هم مِن ساكني ما يُسمّى سورية اليوم.

ولعلّه يصحّ القول إن بعض ديناميكيات العلاقة بين السوريين والتُرك ترجع إلى “تحاسد التشابه”، حيث يصطفّ فخرٌ قبالة فخرٍ آخر: الفخر السوري العربي مقابل الفخر التركي. ومن المفيد تشبيه هذا بالفخرين الدمشقي والحلبي، حيث أن العراقة راسخة في كلٍ من المدينتين، مما يدعو إلى التنافس التفاخري، وهو كذا اعتزازٌ بالنفس وليس عداوة. والقانون الاجتماعي في ذلك أن المجموعة التي تتيه بنفسها سوف تبالغ في هذا التيه حين لقاء آخرٍ يزاحمها المنزلة. والحرص التركي على صفة “المضيف” الكريم يأتي في هذا الباب.

وزيادة على ذلك، الصعود التركي في العقد الأخير زاد في توتّر الحسّ الجمعي التركي. يعني مثل الغني الذي يخشى على ماله، مقابل الدرويش الذي يشعر أنها “خربانة” على كل حال (الموقف من التلقيح ضدّ الفيروس فيه شيء من هذا). ثم إن القضية الكردية التي كانت سائرة في طريق الحلحلة عادت فتأزّمت، والتهب معها الشعور القومي الضيّق، كما حوصرت خيارات الإدارة السياسية بسبب التحالف الحزبي. وأضف إلى ذلك التباطؤ الاقتصادي، وما من اقتصادٍ يمكنه السير نحو الأعلى بلا انقطاع أو تعثّر أو عودةٍ إلى حال استقرارٍ متوسط، ولكن عامة الناس تبحث عن سببٍ ظاهري ملموس، ولو ليس له أساس علمي من الصحة. وفي تلك اللحظات ظهر الحدثُ السوري وكأنه مصيبة من الخارج تُفسد الحُلم وتعكّره. قد يقول قائل: لكن ما علاقة السوريين بهذا؟ لكن تذكّر بأنه لا تهمّ التفسيرات الموضوعية، بل الانطباعات الشخصية، فنحن نتكلّم “من ناحية واقعية”.

2- أثر الهجرات

بعدما تمتدّ معيشةُ مجموعةٍ من الناس في حيّز جغرافي، تتشكّل ثقافةٌ مشتركة بما في ذلك اللغة، وتبرز بِنية هيكلية-ثقافية على نحو “شعوبٍ” تحوي على “قبائل” ذات خصوصيات. ويمكن القول إن أية مجموعة بشرية هي “مهاجرة”، حيث أنها أتت من مكان ما ولم تَنبُت من الأرض أو تمطر من السماء، ولكن امتداد الزمن وتعمّق المشتركات يُنشئ شعور الانتماء القومي، ويصبح الآخرُ آخراً. وكثيراً ما تخترعُ الأقوامُ لنفسها انطباعاتٍ عن تاريخها لم يكن لها وجود حقيقي، وتتواضعُ على مخيال صفاءٍ قوميٍ وإن لم يكن له أساس من الصحة. وتبعاً لذلك ووفق مسارب تَشَّكلِ الهويةِ الجماعية للقوم، ترتسمُ المواقف تجاه الهجرات. ومن المجتمعات ما شكّلت هويتَها وشخصيتَها على أنها “بلد هجرة”، ومثال ذلك كندا. ويحسب كثيرون أن مردّ هذا إلى الثقافة الغربية اللبرالية فحسب، ولكن ليس الأمر كذلك. فمثلاً لم تتشكّل الهوية الألمانية على أنها بلد هجرة، برغم أن فيها مهاجرون. وسويسرا “الليبرالية الحيادية” ليست بلد هجرة، وعند مجتمعها رفض نسبي للغريب برغم أنها متعدّدة الإثنيات.

ومن ناحية عِلمية، للمجموعات المهاجرة أثران متعاكسان في الاتجاه: الأثر الأول هو زيادة الأحمال على البِنية التحتية، وعلى رأس ذلك قطاعي التعليم والصحة. الأثر الثاني هو حفز الاقتصاد وتحريك خوامل السوق، ونشوء خدمات جديدة، وتوافر مهاراتٍ كانت مفقودة أو نادرة، وتأمين عمالة رخيصة. هذا على الصعيد العام، أما على الصعيد الخاص فهناك أيضاً أثران متعاكسان أيضاً: هبوط أجور العمالة البسيطة وصعود أجار المنازل من جهة، ومن الجهة المقابلة استفادةُ أصحاب الشركات الربحية ومالكي العقار. وثمة مفارقة أخرى هنا، حيث أن المحلّة الصغيرة هي يقع عليها العبء، في حين أن الاقتصاد الوطني هو الذي يستفيد. بمعنى أنه لا بدّ لمركز الدولة أن يدعم المحلّات والنواحي التي هبطت إليها الهجرات. فإن جرى تقصير في ذلك تفاقمت الشكاوى.

وغني عن القول إن الإعلام في عصرنا له دور مهم في تشكيل الانطباعات نحو الكتل المهاجرة أو الأقليات الوطنية، وأصبح معروفاً أن الرسائل الرسمية في الحالة التركية كانت مختلطة، وأنّ التظاهر بالإنفاق السخيّ على السوريين وتضخيم ذلك لم يخدم قضية أي منهما. بقي علينا ذكر أمر مهم، وهو أن من أثمن ما تقدّمه الهجراتُ هو حفز الإبداع في البلد.

ولا يخفى أن هذه عوامل حراكية معقّدة، وهي واضحة للدارس المتأنّي الذي يركّز على الصورة الكبيرة، في حين أنها خافية على وسطي الناس الذين يرتكسون للآثار المباشرة قصيرة الأمد والتي تخصّهم تحديداً.

3- العادات:

هل هناك شكّ في أن بعض العادات التي تكون مقبولة وعادية في مجتمع ما، قد تكون غير مرغوبةٍ بها في بلدٍ آخر؟ والسؤال الأهم هو التالي: هل في الإحجام عن بعض العادات خيانة ثقافية؟ فكيف إذا كانت هذه العادات غير وضيئة أصلاً؟ ومن العادات ما هو شديد المحلّية، ولربما ناسبت بلدةً أو حيّاً من الأحياء، لكنها قطعاً لا تناسب الاستعراض على مسرح مجتمعٍ عالمي. ثم أَوَليس عندنا (وعند كل قوم) عادات من الأفضل التخلّي عنها، وأليس تُشكّل الهجرةُ فرصةً للتخلّص منها؟

ها وقد تقاربت أرجاء البلدان المختلفة، أَوَليس أصبح مطلوباً أن يمتلأ المرء بوعيٍ للحساسيات الثقافية، بحيث يُمكِّن هذا الوعيُ الفردَ المسلم (العربي) الانسجام مع المجتمعات المسلمة المختلفة؟ وكما هو معلوم، تشترك المجتمعاتُ المسلمة بقاعدةٍ قيمية راسخة، وتختلف في العادات، فهل نُعكِّر على الأولى بالثانية التي ليس لها قيمة أصليّة.

وبالنسبة لحالة السوريين تحديداً، نضيف إلى ذلك قضية الاعتياد على الفوضى، حتى إن بعضهم ليشعر أحياناً أن اتباع القانون والإجرائيات أمر غريب. ومن المعروف أن البيروقراطية التركية بيروقراطية راسخة، وللموظف استقلالية نسبية كبيرة. ومن ناحية أخرى بعض ما تطلبه هذه البيروقراطيات قد يكون شبه تعجيزيّ للسوري بسبب الوضع الخاص، واستدعى الأمر وقتاً لكي تصبح الإجرائيات أكثر تفهّماً ولكي يعتاد عليها السوريون، وما زال هناك فسحة لمزيد من التحسينات.

ولا خلاف بين السوريين أن هناك طيّبون كُثر بين التُرك، لكن ربما ينساق بعضهم مع الرسائل السلبية للعالم الافتراضي فتطيح بمواقفهم النفسية.  ولا نستطيع إلا أن نشير متأسفين إلى أنّ سلوك بعض السوريين يساهم في تعميق الفجوة. ولا حاجة لضرب الأمثلة المحرجة، غير أنه تحسُن الإشارة إلى أنه حتى أصغر التصرّفات (مثلاً التكلّم في الباص بصوت عالٍ، وهو ما يفعله العرب عموماً)، يُزعج ويترك أثراً سلبياً كبيراً، ناهيك بالتصرّفات الهائجة (عدم احترام الرموز التركية مثلاً).

وبغض النظر عن اللحظات الساخنة التي يجري فيها احتكاكٌ تَظهر فيها أخلاقٌ غير محمودة، من العجيب أن بعض البديهيات تغيب عن الأذهان (أو تطردها الأذهان)! فهل هناك حاجة إلى البرهنة على أنّ المهاجر هو الذي تقع عليه المسؤولية –أولاً– في عكس صورةٍ وضيئةٍ عن مجموعته؟ يعني الارتكاس تجاه الغريب أمرٌ معروفٌ بين البشر، ويحصل داخل البلد الواحد. وفكرة “الغريب الأديب” فكرةٌ محمودة، ومتى كان الأدب مذموماً؟! بل هي خلقٌ حميد يُمهِّد للتعارف والتفاهم، وليس فيه نزر من مشاعر الذلّة (إلا لـمَن عنده عقدة نقصٍ أو عقدة زيادة). التأدّب لا يعني أن يطأطأ المرء رأسه، وإنما أن يكون ناضحاً ويتحلّى بالصبر. ولا يخرج الأمر عن أن يكون مصدر الإيذاء سفيه، والإعراض عندها هو الموقف المناسب، أو أن يكون مصدره من ساذج، والاحتواء عندها هو الموقف المناسب إلى أن تتفتّح أبصارُه ويصبح حميماً متفهّماً؛ وهذان الموقفان هما مما تفيض به الحِكَم، بل يدعو إليهما دينُنا. ورغم أن اتخاذ موقف الإعراض أو الاحتواء هو الأنسب في غالب الأحيان، ولا سيما في اللقاءات العابرة، لكن في لحظاتٍ معيّنة يكون من المناسب الردّ بجواب ذكيٍ واثقٍ محترمٍ غير عدائي. الموقف الأول (الإعراض) هو موقف ترفّع الكريم، والموقف الثاني (الاحتواء) هو الموقف الأخوّي الـمُتفهِّم، والموقف الثالث هو الموقف الإعلامي التعليمي (لِـمَن يُحسِنه).

فهل على مَن ناءت به عذاباتُ الوطن وآلامُ الهجرة أن يقوم بذلك؟ نعم!

4- إرهاق التعاطف:

من المعلوم أن التُرك عامةً تعاطفوا مع المصير السوري بادئ الأمر. وإلى جانب المؤسسات الإغاثية التركية، هناك بلدات تركية تكفّلت بتبرعاتٍ سخّية في السنين الأولى. ولكن من المعروف أن التعاطف الأوّلي يخبو، ويتعاظم الإرهاق مع الزمن، وربما يحلّ محلّ التعاطف ضيقٌ أو يمشي موازياً له، ولا سيما إذا كثُرت نقاط الاحتكاك. وإذا كان البلد يمرّ بظروفٍ صعبة، يتصاعد القلق والتوجّس وتعلو حاسّة تأمين النفس أولاً.

ومن ناحية الموقف الحكومي سمح بادئ الأمر بدخول كثيرٍ من المهاجرين، واستثنى السوريين من بعض الشروط الإدارية. ثم وجد الموظّف في المؤسسة البيروقراطية نفسه مرهقاً بحملٍ زائد، وليست هي زيادة عددية فحسب، بل كثيراً ما هو مرهق بسبب عدم توافر الثبوتيات المطلوبة مع السوريين. وقد يقول قائل: هناك مشكلة أصلاً في بعض التوجيهات الإجرائية. لا مراء في هذا، والمنظومة التركية ليست مرنة وغير معتادة على استقبال الهجرات. لكن تذكّر، نحن نناقش الأمر من ناحية واقعية، فالموظّف البيروقراطي زادت المعاملات أمامه وتراكمت مشكلات الحالات الخاصة التي تتخبّط بها الإجرائيات.

وإرهاق التعاطف ليس مقتصراً على تركيا، ففي طرابلس لبنان المدينة التي اعتبرت نفسها امتداداً للثورة السورية والتي بين مجتمعها والمجتمع السوري زيجات وقرابات، أصاب أهلها أيضاً إرهاق التعاطف بعدما ساءت الأحوال في لبنان، برغم الشعور المتزايد بأنهم سنّة مستهدفون من الميليشيات الشيعية. وهذه ظاهرة بشرية عامة، وأضرب مثلاً من بنجلادش (وأحسبهم أطيب شعبٍ مسلم)، حيث تعاطفوا مع ضحايا التطهير الصيني لمجموعة الروهينغا (وأهل بنجلادش عندهم ذكريات أليمة عن التهجير من أزمان الانفصال عن الهند ثم عن باكستان)، ولكنهم بعد ذلك شعروا بالإعياء. فيا ربّ فرّج الله الكرب وألهم الصبر وخفّف المصاب.

5- مصطلح العنصرية والتصعيد:

يستعمل الإعلام مصطلح العنصرية على نحو شائع لكل ارتكاس نحو الآخر، وبناءً على هذا يجري وصف بعض تصرّفات التُرك بأنها كذا عنصرية. لكن وصف أي رفضٍ عابرٍ بأنه “عنصرية” هو من فتات عبارات اليسار اللبرالي الذي يُزكّي نفسه ويهوىٰ تخوين الآخر. السياق الصحيح لمصطلح العنصرية هو حين يكون هناك أسس ثقافية وتاريخية لرفض الآخر مهما كان، أسس صلدة تأبى الغروب. وهذا أبعد ما يكون عن الحال التركي-العربي عامة والتركي-السوري خاصة. وقارن مثلاً بالحال في جنوب أفريقيا، فيكاد لا يكون هناك أمل برتق الفجوة بين السود والبيض.

والتصعيد وتصنيف أي سلوك ناشز غير لائقٍ على أنه عداوة مستأصلة، يمكن أن يُدخل في حلقة عيبٍ خطيرة. وذلك حين يحدث تصرفٌ أو تعليق سالب ضد السوريين، فيجري تضخيمه وإخراجه عن كونه “حادثة” في لحظة احتقان، فيدعو إلى ردّ فعل مبالغ فيه يراه صاحبه مبرّراً. فيدخل آخرون في “الطباشة” عبر وسائل التواصل الافتراضي تجاه أمرٍ لا يستحقّ ذاك المقدار من الارتكاس. وربما يفوت البعيدَ سياقُ الحادثة فيبالغ في الرد. وربما يكون صاحب التعليق في مأمنٍ، فيدعوه ذلك إلى المبالغة من أجل أن لا يظهر أنه عديم الإحساس. وقد يكون هناك معلِّقٌ غير ناضجٍ ينتشي بكثرة الإعجابات، أو مؤدلجٌ يتتبّع العثرات ويقتات على المزاودات. ومن الجهة المقابلة ترى السلطات أن في ما جرى تصعيداً غير مبرر وربما فيه لمز وعدم احترام. والسلطة هي السلطة، وطبيعتها عدم تحمّل ما قد يُؤوّل على أنه استخفاف. فتتصرف السلطة بشكل شديد الحسم وتهدّد بمزيد، ولا سيما بوجود معارضةٍ تهوى الاصطياد. وبشكل طبيعي يتفاعل الجمهور السوري مع “المظلوم” بسبب إدراكه خطورة بعض العقوبات (الترحيل مثلاً). ويصبح طبيعياً الالتجاء إلى القانون وتجييش مقولة حقوق اللاجئين. وهكذا كل فعلٍ يقدح فعلاً معاكساً في الاتجاه وأقوى في الشدّة. وهذه هي “حلقة العيب” التي تأزّم الأمور ولا تفيد أحداً، ولذا علينا أن نتفكّر بما أوصل إلى هذه النقطة أصلاً.

وطبعاً ينبغي أن يكون هناك إطار قانوني للحقوق والواجبات، لكن هذا لا يمكن أن يشمل السلوك اليومي والعلاقات الاجتماعية، فهذا هو ممّا ينظّمه العُرف. وقد يُجاب على ذلك بأن الحوادث تتكرر. هذا صحيح، وهو دلالة على أن هناك احتقان اجتماعي، وليس دلالة على كرهٍ مستأصل، ولا يبرر اعتماد تصعيدِ المكايدة الذي يضرّ الطرفين.

وقد يكون هناك تقصير رسمي ساهم في الإشكال. لكن النقطة هي وجوب عدم تحويل حادثة عابرة إلى فتنة، ووجوب عدم التمترس باحترام الدولة من جهة وعدم التمترس بحقوق الإنسان من جهة أخرى. فهذه “حلقة عيب” ذاتية التصاعد.  وطبعاً مَردُّ الأمر أصلاً إلى تصنيف الآخر هل هو صديق أخطأ أو عدوّ اعتدى.

وعلينا تذكّر أن التعالي خصلة بشرية شائعة في سلوك الناس. ففي المجتمع نفسه هناك تعالٍ على أساس النسب والمال، وليس السوريين من ذلك ببعيد. وإن المناطقية والجِهوية وفوالق المدينة/القرية، وفرط استعمال مصطلح الريف، شاهد على ذلك، ووجودها الخفيف طبيعيٌ وحضورها الكثيف غير طبيعي. ومن جهة أخرى من خصال المجتمع السوري الشعور العميق بالاستثنائية المحلّية، فهل هذا الشعور عنصرية أم اعتزاز فطري بالمجتمع الذي تربّى فيه المرء. إنّ بين العرب والتُرك قاعدة مشتركة دينية قيمية، وما من قومٍ تتشابه أعرافهم مع التُرك مثل أهل بلاد الشام، وكان هناك تفاعلات ثقافية بينهما في التاريخ القريب، وإن قدراً من الغيرة والتحاسد والتنافس أمر طبيعي في علاقات الكتل المجتمعية مع بعضها البعض، ولا سيما تجاه المجموعات المهاجرة حديثاً. وكم من نظراتٍ مريبةٍ تبدّدت بعد تواصلٍ اجتماعيٍ طارئ، فأعاد الأخ اكتشاف أخيه فجأةً بعد ضيافةٍ في مناسبة أو محادثةٍ صفت فيها القلوب.

6- دور القانون:

الإحالة إلى القانون والإدارة السياسية في مسائل العلاقات السورية التركية أمرٌ مغرٍ جداً. وبداهةً كان للقرارات السياسية أثر حاسم في وضع السوريين في تركيا (أو أي جالية أخرى)، ابتداءً بفتح الحدود واستقبال بعض المهجّرين ومروراً بالتصنيف القانوني: لاجئ ضيف، كيملك، حماية مؤقتة، إقامة إنسانية، إقامة سياحية. لكن العلاقات الاجتماعية لها منطق آخر، ولا تنفع معها الإحالة إلى القانون! وللاختصار في بيان هذه الفكرة أضرب مثال العلاقات الزوجية، فما الذي يُفيد فيه القانون والقضاء، وهل كلما اختلف الزوجان يمكن لهما الاحتكام إلى القضاء؟! المسألة هنا مسألة علاقات اجتماعية رسْمُها التفاهم الشخصي وأُسُّها الأعراف الاجتماعية. وكذا في العلاقات اليومية بين المجموعة المهاجرة والمجتمع المقيم، فإن معظمها يمرّ عبر القنطرة الثقافية. والحساسّيات وشعور الإثقال وشعور الرفض والموقف الـمُستاء والموقف الحانق وانعكاسات الغيرة، أو ما يقابلها من التعاطف والتقدير والتفهّم والإعجاب… كلّها رسائل سلوكية ومسائل اجتماعية تنتمي إلى عالم الرموز ومُـشَفَّرة ثقافياً.

ولا يعني هذا أنه ليس هناك دور للقانون، وإنما أن مكانه –على نحو الإيجاب– هو في الترتيبات الإدارية، التي تدفع تجاه تيسير الأمور أو تدفع –ولو على غير قصد– نحو العنت. ومن ناحية أخرى دور القانون –على نحو السلب– هو في المشاكل الكبيرة. وفي لحظات الأزمات ربما يتماهى الخطاب السياسي مع المزاج الشعبي الغاضب، فيكيّف القوانين وتطبيقها بشكل يعتدي عملياً على الحقوق أو يقصّر في حمايتها. ولكن السؤال العملي هو كيفية التعامل مع هذا، فمحض الغضب لا يحلّ الإشكال، بل طرح البدائل التي تقدّر الظروف هو أول الطريق. إنّ إدمان المكايدة هو الذي يؤثّر على تطبيق القوانين، وليس التهدئة والحرص على التفاهم.

ولا مراء في أن الإجرائيات تجاه السوريين تخبّطت، وأن التعامل مع أفواج هجراتهم فاق قدرة المؤسسة البيروقراطية على التأقلم. ولكن “الحقوق السياسية” التي تقرّها الدولة في مسائل الإقامة واللجوء والمواطنة ليست إلا سياقاً واحداً من السياقات التي تؤثّر على منزلة المهاجر، وهي تفتح فرصاً بقدر ما تُمهّد لمشاكل.

إن ترديد “كليشيهات” حقوق الإنسان والأمل بأن القانون سيحلّ الإشكال ويُطبّع أحوال المهاجرين هي من الانقطاع عن التجارب العالمية بمكان. واسأل نفسك: هل هناك مثالٌ واحدٌ في تاريخ العالم الحديث نجحت فيه جاليةٌ مهاجرةٌ من خلال القانون؟ وابدأ بالدول الديمقراطية ذات الثقافة اللبرالية لتجد الجواب بالنفي. وحيث يطول التدليل على هذا، دعنا نعتبر بحال الأفارقة الأمريكيين الذين لم تُسعفهم –على المدى غير القصير– لا حقوق الإنسان ولا الشعارات الليبرالية عن “عدم التفرقة بغض النظر عن العرق واللون والجنس…”. وكان “المهاجر الجيد” (رغم ما في خلع هذه الصفة من نمطية أو سوء تقدير لظروف الآخرين) هو الذي استطاع أن يقف على رجليه بناء على تماسك مجتمعه وخصاله الثقافية الخاصة ودأبه المثابر (ومثاله اليابانيين في أمريكا).

والحديث عن رفع الدعاوى القضائية يمكن أن يساهم في حلّ مسألة شخصية، لا مسألة مجتمع مهاجر بأسره. وحبذا لو تذكّر المرء عدم جدوى الدعاوى القضائية في كثير من النزاعات الشخصية والمالية، فكيف تصلح في الأمر الاجتماعي الكلّي؟! نعم، الحالات الفاضحة أو التي يترتّب عليها أذى طويل الأمد (مثل الأمور المتعلّقة بالأطفال الانطباعيين في صغرهم) فالخيار القانوني مطلوب. والقانون التركي يحوي على المواد التي تتعلّق بالاعتداءات والسلوك الإجرامي، فليس هناك نقص من الناحية القانونية البحتة. وبشكلٍ عام، الخيار القانوني هو آخر الكي… هو فقط بعد أن تُخفِق جهود التفاهم والمصالحة، تلك الجهود المشهود لها بحلحلة التنافر المجتمعي، وربما تحويل العداوة إلى صداقة.

وإن ترديد عبارات الحقوق يمكن أن يجرّ إلى الطهورية الذاتية. يعني لأنه “ناشط” ويُكثِر الحديث عن الحقوق، يعتبر ذلك دليلاً –كافياً بنفسه– على سلامة مسلكه ولو كان لا يقوم بواجبه، ولو كان لا يتمتّع بـ”ذكاء تعارفي”، ولو كان لا يستصحب السياقات الكثيرة التي على صاحب القرار مراعاتها. أما خيال التهديد بالاعتراضات أو إهانة الرموز فهو رعونةٌ جاهلة، وليس ثوريةً صادقة، فإنما الثورة على الاضطهاد، لا على الإساءة وسوء التقدير، ولا حتى على الغُبن. إن الدفع بالتي هي أحسن هي الخطوة الأولى، ولا يمكن القفز عليها. ولن يتمّ ذلك بلا منصّة، وغياب المنصّة الجامعة في حال السوريين في تركيا مسؤوليةٌ مشتركة. فكيف إذا كانت منصات محسوبة علينا تفتقد الحكمة، وتحاكم من بعيد، وتجترّ عباراتٍ رائجة، وتُضيّق الصدور. هدانا ربي إلى سبيل المؤمنين، ووقانا فتات ثقافة الحداثة.

7- الجُرح وألم الإنكار

لا ريب أن الجرح السوري يحيط بالانعكاسات النفسية والذهنية، وهو جرح ذو بعدين. الأول هو الإخراج من الديار والأثمان المادية والشعورية التي رافقت ذلك. الجرح الثاني هو التنكّر والتعامي (من جموعٍ من العرب وغير العرب) عن أهوال بطش النظام السوري وتناسي البطولات الفذّة التي قام بها وسطيّ الناس. وضمن هذا الإطار الذهني-النفسي ينزل أي تعليقٍ جاهلٍ أو سلوكٍ فيه أثر للتعالي نزولَ الصعقة التي تَنتِئ الجرح.

ومما هو مغضب حقاً الانطباع بأن هؤلاء “لاجئين” يعتاشون على مساعدات الآخرين، برغم أن المساعدة التي تصلهم من الاتحاد الأوربي ضئيلة (كانت ١٠٠ ليرة شهريا)، وبرغم أن الكثرة من السوريين اعتمدت على مواردها الخاصة وعلى دأبها المستمر، وتجهد في إضفاء قدرٍ من الطبيعية على حياتها.

الـمُحزن في الأمر أنه لا علاج لهذا إلا الصبر. وإنها لمن سنن الحياة أن المضطهد المظلوم هو الذي يُذكّر البشرية بالقيم العليا، وهو الذي يردّ المجتمعات عن غِـيّـها. ولا شك أن ذلك يحتاج إلى رباطة جأشٍ غير اعتيادية في الاستعداد لتحمّل الأثمان مرّتين: أثمان الابتلاء وأثمان جهود الإصلاح. والمفارقة الأليمة أن المظلوم إذا لم يفعل ذلك فإنه يُضِرّ بمجموعته، وذلك بدفعها إما باتجاه اليأس والاستكانة وإما باتجاه الانتقام الآثم. ولذا كان استصحاب شعور “أنا لاجئ” مضرّ، لا يجلب نفعاً ولا يُطبّع وضعاً، بل يكبت الهمم. ومن ناحية أخرى فإن تحويل الآلام إلى شعور “استحقاق” أمر خطير، حيث يدعو إلى المطالبة الـمُنفّرة من جهة، وإلى الكسل من جهة أخرى.

الهجرة ليست نهاية الآلام وإنما هي فتحٌ لصفحةٍ جديدةٍ فيها أملٌ برغم الألم، وتحوي على فرصٍ لم تكن متوافرة من قبل، وعداً إلهياً لمن هاجر في سبيله بعدما ظُلم بأنه سوف يُبوّء في الدنيا حسنة.

8- طبقات المجتمع السوري في تركيا

كل المجتمعات فيها قدرٌ من التعدّدية، وهذا أصدق على المجتمع السوري، فليس هناك “سوري نموذجي”. ولكن تنحو البيروقراطياتُ إلى تفصيل حلٍّ نمطي للجميع، برغم أن هذا يخالف واقع الحياة، وما زال تحدّي الإدارة التركية هو فهم التنوّع السوري. وهناك أكثر من خطّةٍ واحدةٍ لتصنيف السوريين المهاجرين إلى تركيا. فيمكن تصنيفهم وفق المستوى التعليمي أو المستوى المادي، ويمكن تصنيفهم وفق مدينة المنطلق السوري أو مكان المستقرّ التركي، ويمكن تصنيفهم وفق الأعمار أو الجنس بين ذكور وإناث. ويمكن تصنيفهم وفق تاريخ دخول تركيا، أو مقدار الأذى الذي لحق بهم قبل الهجرة. كما يمكن تصنيفهم وفق التوجّه الإسلامي والمحافظ مقابل التوجّه القومي العربي/السوري إلى جانب الكردي والتركماني. ولعلّ أغرب تصنيفٍ هو مدى عمق تماهيهم مع الثورة وتمثّلهم لمطالبها، وموقفهم من النظام السوري. وترتبط هذه الأبعاد المختلفة بـ:(١) القدرة على الاعتماد على النفس، (٢) والقدرة على الانسجام مع المجتمع وتقليل مساحات الاحتكاك، (٣) ونوع المساهمة للمجتمع المضيف.

غير أن هناك طبقة جديدة لم نعتد أن نتكلّم عنها، وهي طبقة لسانية. نعم، لقد أصبح تقسيم السوريين في تركيا إلى مَن يتكلّم التركية ويُـتقنها ومَن يجهلها هو من أكثر الأبعاد فائدةً في فهم نسق الانسجام مع المجتمع، وفي تقدير فرص السوريين، وبالتالي رسم سياسات وتدابير مناسبة. وهذا مرتبط بالعمر طبعاً. لقد أضحى من الملاحظ أنّ الشباب (الجامعي) عندهم ارتياح عميق تجاه المجتمع التركي ومشاعر إيجابية. وبرغم أنهم قد يتعرّضون لمواقف مزعجة بسبب كونهم سوريين، وبرغم أن غير المجنّسين منهم قلقون على وضعهم، لكنهم أدركوا دور إتقان اللغة التركية وفهم ثقافة المجتمع في حلحلة التفاعل العريض من جهة، وفي الحياة الفاعلة من جهة أخرى. وبرغم الدلائل الواضحة على أن عندهم اعتزاز بخلفيّتهم العربية ويحبّون وطنهم الأصلي ويحلمون بتحرّره وبخدمته، فإنهم –في الوقت نفسه– يتشوّفون مستقبلَهم بعدساتٍ تركية.

ومن الواضح أيضاً أن قبالة هذه الشريحة الشابة المثقّفة، شريحةَ الأكبر عمراً من الناشطين في الثورة الذين لهم احترامٌ ومنزلةٌ بناءً على ما قدموا. وإذا أصرّ هذا الفريق الأكبر سنّاً على التكلّم بنغمة الماضي وتبني رؤى طوت التطوراتُ إمكانية تحقّقها العملي، فإن فجوةً أو شرخاً سينشأ بينهما برغم الحاجة الماسّة للتخاطب بينهما والتلاحم والتنسيق. أما الجيل (الذي سيصبح أكثر عدداً) فهو الذين وُلدوا في تركيا أو هبطوا إليها وهم صغار السنّ. وبالمناسبة، هذا الجيل من الأطفال هو أنفس وأغلىٰ ما يقدّمه السوريون لتركيا.

مازن هاشم

12-2021

Tagged: ,

One thought on “حول الانسجام مع المجتمع التركي

  1. nakba 2021/12/29 عند 12:32 م Reply

    ممتاز سمير طويرSamir Twair

    Sent from AT&T Yahoo Mail on Android

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: