مصطلح الإسلام السياسي

 

هناك إشكال عملي ونظري في استعمال مصطلح الإسلام السياسي.  فمن ناحية نظرية، يحاصر هذا المصطلح الفهومَ التي ترى الإسلام رؤيةً عالميةً تتجاوز الدّين بمفهومه الضيق.  ولا يختلف الباحثون في أنّ الإسلام ليس من أديان الحدّ الأدنى التي يقتصر طرحها على مفهوم عقديٍ ونظامٍ للعبادة، بل شملت رؤيتُه نواحيَ الحياة المختلفة، وهذا أمرٌ واضح في نصوصه وفي تجربته التاريخية على حدٍّ سواءٍ.

وصحيح أنّ اهتماماً ما من الاهتمامات الإسلامية قد يطغى في حقبة زمنية بسبب ظروفٍ معينة، غير أنّ هذا لا يجعل الاختزال في تلك الظروف سائغاً.  وإنّ التركيز الفائق على البُعد السياسي الذي تميّزت به طروحات الحركات الإسلامية في فترة ما بعد الاستعمار لهو دليل على عدم جدارة مصطلح الإسلام السياسي وليس دليلاً داعماً له، إذ أنه ما كان للمنتج البشري إلا وأن يتلوّن بظرفه التاريخي.  نعم، الذي لا يستقيم هو الوصف الشائع بين بعض الحركات التي تعرّف الإسلام بأنه “دين و دولة”.  فلا يخفى هنا التحيّز الإديولوجي في تضخيم البُعد السياسي وجعله وكأنه صنوٌ للدين.  ولكن هذا التحيّز الذي نشأ في حقبة الاستعمار لا يبرر نسخ البُعد السياسي من ذلك الدين الشامل كما تُظهر نصوصه بلا تأويلٍ متكلّفٍ وكما تُبرهنه ممارستُه التاريخية.

ومن الناحية العملية فإنّ مصطلح الإسلام السياسي فيه تعدٍّ على فصائل وطنية.  وبرغم كل تحفّظنا على المسيرة العملية للحركات الإسلامية، لا يملك التحليل القويم حرمانها مما تعتقد به، أو التعريض بها وكأنها تخالف الدين، أو لَـمْز نضالها الوطني في وجه قوى الغزو والاحتلال والاستحواذ الحضاري.

ومن أسباب الخلط في هذا الأمر تصوير الجماعات “مؤسسة دينية” بالمعنى الغربي الذي يترافق مع الحديث عن فصل الدين عن الدولة، في حين أنها مجموعات أهلية ناشطة. وحتى  شبكات العلماء أو الأزهر مثلاً التي تشبه في ظاهرها المؤسسة الدينية، هي ليست “مؤسسة دينية” بالمعنى الحداثي لأنه ليس لها صلاحيات مجذّرة في أصل الرؤية الإسلامية تتجاوز النصيحة وتخريج القول المرجعي غير الـمُلزم. كما أنه ليس لها أي قدرة على الإكراه وفرض الإنفاذ.

الجماعات الإسلامية في حقيقتها بعيدة عن صورة المؤسسة الدينية. وحديثنا هنا ينصرف حُكماً إلى الجماعات التكاملية التي تُتهم بذلك. وبُحكم تكامليتها فإنها لا تستطيع ادعاء المرجعية الفقهية أو الإحاطة بمجال علوم الشريعة، ولا منافسة العلماء المتفرّغين لهذا القصد والذين لهم حصّتهم من الوجود الاجتماعي، ولو طمعت الجماعات بذلك.

ومن وجهٍ آخر، يصحّ الجزم بأن ممارسة الجماعات الإسلامية للسياسة على شكل انخراط في السلطة أمر لا يستقيم. والسبب أنّ الجماعات الإسلامية تركز على تربية الفرد وإصلاح المجتمع من خلال العمل الأهلي، وهذا ليس هو مسلك السياسة.  الجماعات الإسلامية بهيكلتها ومنطقها الحركي لا تناسب السياسة العليا على مستوى الدولة.  والذي يبدو مقبولاً أو مطلوباً هو التالي:

الطريق الأول هو أن تُنشئ الحركات الإسلامية الكبرى أحزاباً تتبنّى فكرتها العامة ولكن غير مرتبطة بها.  وليكون لذلك معنى عملي يُشترط أن تنضج تلك الأحزاب وتتمايز رموزُها عن الجماعة، ويُشترط أن تشكّل لنفسها قياداتٍ مستقلةٍ لها شرعيتها السياسية غير المرتبطة بالجماعة.

الطريق الثاني أن لا تشكّل الجماعاتُ الأحزابَ وأن يدخل أعضاء منها السلك السياسي كمستقلّين أو ضمن تكتّلٍ سياسي ما، ولا يكون لذلك معنى إلا في نظامٍ سياسي غير ديكتاتوري. ويكون التحدّي عندها صمود هؤلاء الأعضاء في وجه ا لاحتواء وعدم تنكّبهم عن الفكرة السياسية التي دخلوا من أجل الدفع نحوها.  

والخلاصة: المطلوب تحقّق شرطين: (1) وجود الشخصية المستقلة معنوياً ‑وليس مجرّد قانونياً‑ لمن يمارس السياسة، سواء أكان هذا عبر حزبٍ له رؤية إسلامية أم عبر أفرادٍ؛ (2) تطوير فكرٍ سياسيٍ إجرائي برامجي يتّسع الأمة، وسيكون ضرورةً خارج حيّز تحرّك الجماعات وإن لم يكن منبتّاً عن توجهها.

يقول المجادلُ هذا فصل للدين عن السياسية. الجواب لا، إلا إذا حصرت فهم الدين في العبادة، أو تخيّلته منتجاً جاهزاً في الكتب التراثية، وتخيّلت أن الدين يمرّ ضرورةً عبر مؤسسة ما. فما دامت الرؤية الإسلامية مستصحبة سواء بدخول مباشرٍ لحزبٍ له رؤية إسلامية أو بدخول أفرادٍ حاملين لتلك الرؤية، فالفصل غير واقعٍ. ولا يخفى أنّ ما سبق اقتراحه يرفض حضور الدينيّ عن طريق مؤسسة مرجعية ( النموذج الكنسي)، ويرفض حضور الديني عن طريق شخصياتٍ تحتكر المرجعية (النموذج الشيعي). كل الذي نقصده هو الحضور عن طريق الارتباط التصورّي والإلهامي.

ومن المناسب التذكير بأن الحقل السياسي في النظرة الإسلامية هو من مجال العاديات الذي ليس فيه بالجملة حكمٌ فقهيٌ محدّد، وإنما يهتدي بالوجهة الخلقية للدين ويستصحب كليّات الشريعة من العدل والرحمة وتحقيق مصالح العباد وفق صيغة تبتعد عن المادية الضيقة والأنانية الفردية وهيمنة مؤسسات الدولة على الحيز الخاص.  هو حقل فيه تخصّص فنّي بـ (الصنعة)، لا انفصالاً عن هدي الدين ولا استحواذاً على الدين باسم السياسة.

مازن هاشم

2013

Tagged: ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: