هذا المقال محاولةٌ لسكب البديهة الذهنية القلبية في صفحاتٍ مسطورة. تُدرك النفوس حقّانيةَ قضيتِها، وبقدر ما تزداد فيه ألاعيبُ شياطين الإنس والجنّ حتى تكاد العقول تتيه في منطقها، تعود دفعات الروح لتقوِّم ارتجاف العقل. وسوف استجمعُ قوى التحليل لأعرض ما نستشعره ونعجز عن صياغته، ولم يكن ثمة حاجة إليه لولا أن النظر قد يغشاه الغبش من كثرة التشويش والوساوس.
المسألة ذات وجهين. نعيش حال تذرّرٍ وتفكّكٍ، وما ذاك إلا نتيجة طبيعية لاكتمال سقوط الشرعيّات. ومن الوجه الآخر، الأمة المسلمة تمتلك عناداً في التطلّع نحو بديلٍ وعزماً على التحرّك ورغبةً بالتغيير، وبديلها هو بديلٌ للإنسانية جمعاء، ومن هنا جاء اجتماع الأحزاب عليها. وأمّة اللسان العربي خصوصاً تستعيد موقعها طوعاً أو كرهاً، فالإخراج من الظلمات إلى النور لا يمرّ إلا عبر لسانها الذي ما زال ناطقاً ثقافةً حيّةً متحقّقةً بأسبابٍ اجتماعية.
إذا كان هذا التقرير أعلاه مفاجئاً أو مظنّة كونه تمنياتٍ، فحجّجه مبسوطة أدناه.
نعمة التأزم السابغ
تأزمت منظومة العالمية لما بعد الاستعمار في العالم بأسره. يعني التأزّم نال صاحب المنظومة ومصمّمها. لقد ولّدت المنظومة جلّ إخفاقاتها في داخل بلادها، خلافاً للافتراضات الحالمة (والآثمة) للتصميم الأصلي. وإذا استثنينا من المقارنة بلدان الفقر المدقع، فإن التبعات الجائحة للمنظومة العالمية موجودة في داخل حدود عالم القهر الديمقراطي-الرأسمالي: الفقر، اليأس، صراع فئات المجتمع… أو كما يقال، هناك عالم ثالث داخل العالم الأول. وهذا ليس غريباً، فجينات المنظومة لا بدّ لها أن تورث صفات نموذج المصدر. غير أنّ هناك فرقين بين التبعات المخرّبة في المركز والهامش:
- الأول هو أن المركز ما زال يمسك بزمام السياسة الداخلية إمساكاً يمنع من الفوضى التامة، وعنده فوائض مالية يُلهي بها الصِغار ويثبّت بها الصَغار، فينتظّم الاستعباد ويتمأسس بشكلٍ مُقَنّعٍ مُقنِع.
- الثاني هو أن الهامش ما زال يحتضن بذور التغيير وملامح البدائل! العالم الثالث في العالم الأول مخدّرٌ برضى موقعه بحكم تسليمه بأنّ المنظومة (fair). السود في أمريكة يقولون كنّا فقراء في الخمسينيات من القرن العشرين، أما الآن فنحن نعيش في حال البؤس؛ كانت أحياؤنا فقيرة جداً ولكن آمنة ومتكاتفة، وأحياؤنا اليوم تنخر فيها الجريمة والمخدرات. لا أمل لنا في تحسّن وضعنا إلا الترجّي وتشكيل لجنةٍ ترفع شكواها إلى الديمقراطية الشكلانيّة التي جرّبناها وخبرنا عهرها. كان عندنا مالكُم إكس و “الفهود السود”، واليوم عندنا المغنّيات والرياضيين الأثرياء.
ووفق هذا، يمتاز حال المستغلَّين خارج دول المركز في أنهم يعتقدون أنهم مظلومون، وفي أن مجتمعاتهم ما زالت حواضن للأفكار الأخلاقية الدينية. ولذا يمتاز مسحوقو بلدان الهامش بأنهم غاضبون، والغضب علامة الحياة، كما يتفوقون بامتيازٍ في أنهم يحلمون بالثورة؛ ولقد ثاروا.
نهضة المسحوق
العالم المستضعف أصابه الملل والضجر. الاستدخال الشايلوكي وصل حدّ الخاص، من شربة الكولا إلى نغم الترويح. كان العالم قد جرّب الرفض اليساري فوجده كالمستجير من الرمضاء بالنار، يرتق الاقتصاد على حساب إفساد ما سواه. وبذلك نستشرف لحظة تاريخية منفتحة للبدائل.
الأمّة المسلمة أصابها ما أصاب غيرها، فهزّ ضميرها وأكّد فكرة الاستغاثة بمنابع قوّتها. وتتميّز هذه الأمة بأنّ لها رصيداً متجدّداً على الصعيد الثقافي الإلهامي. ولهذه الأمة جذور ثابتة عبر الجغرافية وشجرة مباركة فروعها ممتدة عبر الزمان، تغطّي المعمورة بنسق حضاريٍّ عنيد. وتتحرّك هذه الأمة بفطرتها عفوياً تبحث عن مكانها اللائق، وتتنوّع الجهود بقدر تلوّن إنجازاتها التاريخية، وتختلف أعماق التغيير المنشود.
الكتلة العربية، نواة هذه الأمة، تحاول العودة إلى مسرح التاريخ بعد قرن خمولٍ وقرن ضياع. لقد انقضى حال الهزيمة والنكبة والانكسار، وبرز جيل السؤال والأمل والثأر. يستشعر العرب دورهم المناط بهم في مسيرة الحضارة المسلمة كونهم الناطقين بلسان قرآن هذه الأمة.
تعيش الكتلة العربية لحظات توتّرٍ حرجٍ لمفارق طرقٍ متقاطعة ودينامياتِ تغييرٍ متعاضدة. غاصت مصر موئل العروبة في رمال متحركة وغابت مركزيتها العربية. انهدم الجدار الشرقي في العراق وانساح من خلاله جهته دفقٌ مثقلٌ بارتكاساتٍ تاريخية. تحولّت سورية عقدة المتوسّط إلى ثقبٍ أسود يمتصّ طاقة مَن يمسّه. النظام التقليدي لدول الخليج ‑برغم كل غناه الظاهر‑ تآكل فأصبح قابعاً على فهوة بركانٍ وقودُه هو ثروته نفسها. جبال اليمن وسهوله أصبحت موضع صراعٍ إقليمي، والكيانان اللذان يمثّلان فكّي كماشة البحر الأحمر ارتخت أوتارها في انتظار إعادة تشكيل العقدة الجيوسياسية الهامة التي تهدّد السعودية ومملكتها الثانية التي غيّرت أسس قيامها ومناط شرعيتها إلى ما يناقض تاريخها في سياق تحدّيات تحيط من كل مكان. تفككت ليبيا فأنشأت فراغاً رهن الإشغال. وبرغم هدوء الجزائر هي ليست محصّنة من الذبول بعد تآكل قاعدتها السياسية، وتفجّرها يفجّر جارتيها الغربيتين. دول الجيوب (تونس وقطر والكويت والأردن ولبنان) مهروسة بين قوى أكبر منها محيطة بها. السودان يحاصرها انخفاس الشمال واضطراب الجنوب.
إن السقوط المادّي للبلدان العربية كدول حداثية جاء عقب سقوط الفكرة القومية لهذا العالم، سُـنّةً مفهومة وتحلّلاً لا غرابة فيه. وكان الإعلان الأخير عن القدس عاصمة لإسرائيل عنواناً صريحاً لنهاية البلدان العربية. المتعلّق بالماضي يرى ما يجري مصائب تستدعي النواح. الناظر للمستقبل يرى ما جرى شرطاً لازماً لكي يكون لنا مستقبل. فما هياكل هذه الدول إلا قضبان سجن، وما العذابات التي ترافق ترهّل هذه الهياكل إلا شرط إنابتها ومهر خلاصها. وما يلي ملامح الانفتاح الذي يشق طريقه من بين الويلات:
- دولة مصر كامب ديفيد والتفريط بالنيل لم تُبقِ لنفسها خياراً للاستمرار من خلالها كدولةٍ ومؤسسات. فانفتح الحال إلى ثلاثة مرتكزات كمونها: الكتلة البشرية المحرّكة للأقاليم حولها، كتلة تهددّ في آنٍ خدر أوربة وخدر الخليج؛ والمحضن للفكر والحركة معاً؛ والتشابك الشديد لمستقبلها مع مستقبل فلسطين.
- العراق أعاد فاعلياتٍ في صلب تاريخ دول المسلمين، سواء الفاعليات الفكرية بين مذاهب المسلمين وطوائفه أو الفاعليات السياسية، بكونه المعبر للحيّز الذي هو في آنٍ شعوبيّ وطائفي. والعقلاء من شيعة العراق مرشّحون لإعادة التشيّع إلى أيام جعفر الصادق.
- الحال السوري متعدّد المخرجات، فقد دفع بتَقيّة الأقليات الباطنية إلى السطح وأعاد إشكالية التقسيم الأوربي لبلاد الشام. ما فصَلته وباعدَته الاتفاقيةُ الاستعمارية في بلاد الشام عاد تواصله بالدم والأسى من ناحية لبنان والأردن، وبالمصير المشترك من ناحية العراق. والحال السوري أعاد التشابك مع الحيّز غير العربي شمالاً الذي مثّل لقرونٍ طويلة الدرع الواقي للوجود المسلم، تشابكاً كثيفاً. وإذ هو رهين القضية الكردية ترتسم بحسبها سياسات ما هو قريب المدى، فإنه أيضاً تشابكٌ طويل المدى عبر المنخفض الجيوسياسي السوري الذي لا بدّ إلا أن ينساح فيه الكمون التركي (مقارنة بالجبهات الصلبة غرب تركيا وشرقها)، وتشابكاً لا بدّ منه حمايةً من عواقبه تمكّن أقلّياته، ولا بدّ منه جسراً للمستقبل.
- اليمن أصبحت مصدر نزيف للجزيرة العربية بأسرها، وشرار نار اليمن يصل إلى السعودية دخاناً خانقاً لا تحجبه الكنوز والأموال، وسيل العرم يمكن أن ينساح شرقاً فينزع غطاء الحياد عن عُمان، الذي بدوره يؤثّر في العلاقات مع الجوار الإيراني.
- حال ليبيا فتح بوابة تواصلٍ مع الأعماق الأفريقية المسلمة. والفراغ الذي تشكّل في وسطها وجنوبها أصبح مساراتٍ لديناميات عابرة للحدود القُطرية من جهة وعابرة للقارات يمكن أن تُهدّد أوربة من جهة أخرى.
- وأخيراً، فلسطين أم الثورات والتي تنعم مركزيّتُها بإجماعٍ عربي إسلامي، تلتحم مع الربيع العربي (ولم تنافسها الثورات العربية كما يحاول الـمُرجفون ترويجه)، ويتساقط عن قضيتها رانٌ حبسها في قفص مفاهيم قومية قُطرية تتحدّث عن (التراب) و (التراث) الفلسطيني. واستثنائية الحالة الفلسطينية هي القدس والاستيطان، وكلاهما يساعدان في الوضوح وتمايز الأطراف. وأولاً وآخراً، حدود الأرض المباركة ليست حدود فلسطين الدولة الحداثية، والنفوذ اليهودي المتحكّم بتلك الأرض هو نفوذٌ عالميٌ وهو الذي له يدٌ طولى في تصميم سياسات المنطقة العربية بأسرها.
فها هي ثورة الشعوب الناطقة بالعربية تولّد نماذج للتحرّر تناسب مقاس كل طاغيةٍ ومبير. فكيف يمكن القول بالضعف المطبق!
إن التعلّق بحلّ ناجزٍ هو تعلّق يصطدم مع سنن تقلّب الأمم. بقاء الدول وقيامها يستند إلى الشرعية، وشرعية الحُكم في البلدان العربية لها مرتكزين اثنين: العروبة و الإسلام. الدول العربية طعنت في هذين الأساسين، فانتهت كدولٍ وإن بقيت كأنظمة بيدها السلطة. وبذلك انفتحت أبواب المستقبل. ما أشرنا له أعلاه من تغيرات جذرية قدحت تفاعلاتٍ نتاجها رهن الصيرورة التاريخية التي تقاس بالعقود، فلا يمكن الجزم بشكلها ولكن يمكن حزر توجّهها بوثوق.
معادلة السيطرة والهيمنة تتلخّص في ثلاث: تفريغ القلب الثقافي التاريخي + تمزيق الأساس المادي الجغرافي + خنق كمون الأمة. وفي كلٍّ من هذه الحدود جرى زلزال عنيف كشف الهياكل المتآكلة والإديولوجيات الفاسدة، وأيقظ حسَّ ترقُّب استواء شروط البناء. وشروط البناء ليست قُطرية وإن كانت ترتكز على المحلّي بعد التفكّك العملي للدولة. استبدال الثالوث الـمُميت يغلب أن لا يحصل عبر التراكم، وإنما عبر توافق موجات الاهتزاز في الرنين التبادلي (الذي نعرفه في الفيزياء) بين القوى التناوبية. وفي المدى المتوسّط أو البعيد، ثمّة ما يسمح للموقع الذي بين الفرات والنيل (اللذين ينبعان من الجنة) أن يتواصل (تواصل النشاطات الجزئية ذات الأثر الكبير) عبر الجسر التركماني مع حوض سيحون و جيحون (اللذان ينبعان أيضاً من الجنة). إنها سلسلة تفاعلاتٍ غير اعتيادية، هي في آنٍ مجذّرة محلّياً وسابغةٍ إقليمياً وعابرة للقارات.
نعمة إفلات دول الـمَنَعة
المجتمعات المسلمة ليست سواء في نصيبها من تنكيل المنظومة العالمية. المعادلة القديمة للصعود والنهضة كانت اللحاق. فدفعت الفاعليات العالمية بعض الدول لتأخذ مكاناً في هرم الافتراس العالمي بحسب ظروف كل من الدول. فالمنظومة العالمية المعاصرة –لأول مرة في التاريخ–لا تعتمد التكامل وإنما الاسترقاق البنيوي الجبري.
الموقع الجيوسياسي قدرٌ ونعمة أو نقمة. والدول المسلمة الوازنة ليست ساكنة، بل تجاهد محاولةً استعادة شخصيتها لما قبل الاستعمار. ولا بدّ من استحضار هذه الحالات لا على أنها نماذج للاقتداء بل على أنها جزء من الحراك المسلم العالمي، كلٌ بحسب ما أوتي وبقدر ما فَهِم. وإذ أن في جميعها دروس وإخفاقات، الذي يهمنا منها هو تأكيد معنى العمل والمجاهدة، الذي هو شرط الاستبصار وهداية السبُل.
بلاد المسلمين في جنوب شرق آسيا (ماليزيا و إندونيسيا) تتأرجح بين التحدي والفرصة، وهي تنعم باستقرار مظلّة المحيط الهادي الذي يتمتّع بضماناتٍ إقليمية وعالمية. لكن عدد السكان وتركيبته نعمةٌ في واحدة ونقمةٌ في الأخرى. في إندونيسيا، فكرة “عدم الانحياز” والتحالف اليساري المناهض للإمبريالية زهق فيها بعدما تمكّن النسق الرأسمالي الفاحش في أموال هذا البلد الضخم. ولكن بهدوء وعفوية، تتبرعم في أرجاء هذا البلد المترامي جهودٌ إصلاحية تحمل صفة الإسلامية عديدةٌ تعدّد جزره الجغرافية والثقافية المحلّية. المالوية المسلمة في ماليزية تصطرع في تثبيت هوية البلد الذي يعيش حالة سلامٍ إثني قلق.
في جهة المشرق هناك تركيا التي وكأنها إمبراطورية تقلّصت وليس مجرّد دولة، تحاول استنقاذ مجدها القُطري والإقليمي. هي البلد الذي ينعم بموقع استراتيجي مميّز في بحور تُشرف عليها ومساحاتٍ واسعة تستثمرها، كما تنعم بعدد سكانٍ كبيرٍ نسبياً، وبانتفاء الأمّية، وباستقرارٍ إداريٍ بيروقراطي. تركيا الجمهورية الثانية، أو قل العثمانية الحداثية المعاصرة، شهدت انتفاضةً هادئة على حين غرّة من فرعون وملأه الذين وثقوا بدرجة العَلمنة التي وصلت إليها وبالثقل الليبرالي الذي يطبع مثقّفيها. تركيا ما بعد محاولة الانقلاب أصبحت على طريق تمكينٍ يدفعها إلى الانغلاق على نفسها وترسيخ البعد القومي والاستمرار في العراك مع الفصائل الكردية التي ارتضت أن تتحوّل إلى جماعات وظيفية خالصة. وبرغم كل التخبّط في المسيرة، هي تجرّب وتحاور، ولقد خرجت من عنق زجاجة الحكم العسكري الاستبدادي. ومجرّد ثبات القُطر التركي بنفسه، فإن المتعلّقات بهذا الثبات لها انعكاسات إقليمية كثيرة غير محصورة في حدودها، منها ما هو غير مرغوب في المدى القصير وأكثرها واعدٌ على المدى البعيد والمتوسّط.
إيران ثارت في وجه الأسرة البهلوية البهائية الليبرالية التحديثية التغريبية. ولقد كانت إيران محظوظة في أمرين. الأول هو أنها نعمت بفترة الفوضى القاجارية لقريب من طول القرن 19، تمرّست خلالها قوى محلّية ورياداتٌ دينية شكّلت الخمير البنيوي لثورة القرن العشرين. الثاني هو (التخلّف) في برامج التحديث مقارنة بمصر وتركيا. هذا التخلّف رسّخ الاعتماد على المحلّي. وطبعاً، لا يمكن أن ننسى الموقع الجيوسياسي المنيع، وانتفاء الأمية، والغنى النفطي الذي يمكّن استغناء النخبة الحاكمة عن رضى الشعب وعزلها عن التشويش الديمقراطي على المغامرات. ولولا غلبت على المشروع الإيراني الطائفيةُ الدينية لكانت رائدةً في منعطف عالمي، ولكن تاريخ المسلمين يأبى أن يبارك عمل من يتنكّر للأمة.
ما هو درس هذه الدول الإقليمية؟ لقد أصبح جلياً أنّ تماسك النخبة الحاكمة وتمتّعها بحاضنة شعبية يمكّنها من الصمود والمقاومة. ولا يهمّ مضمون الرؤية بقدر ما يهمّ توحّد التوجه. إيران أوضح مثالٍ على ذلك حيث تتمتّع بإمكانية استقلالها النسبي عن المنظومة العالمية بسبب موارد البلد وطاقاته البشرية، فانفتحت لها فرصة اللعب بدورٍ أكبر من الوزن النوعي الاسمي للبلد. مثال تركيا أبلغ في إظهار دور عصبية التماسك لأنها مشترِكة في المنظومة العالمية اقتصادياً وسياسياً وبالتالي مكبّلة بشروطٍ طاردةٍ للتغيير النابذ، ولكن حكم العدالة والتنمية ‑المتماسك مقارنة بمنافسيه‑ مكّن لتركيا درجةً من الانفكاك الجزئي من المنظومة. ولعله تدرك تركيا أنّ قدرها مرّ بفرصةٍ موقوتةٍ تُغلِّق أبوابها، وأنه لا بدّ من تعديل المسار وإلا فسوف تعاني من تآكل ما كانت قد حصدته وشيّدته، فهي في سباقٍ للانفلات من قيد التنمية المشروطة.
مناسبة ذكر الحالات أعلاه هو التذكير بأن المنظومة العالمية تعاني في الوقت نفسه الذي تتنفّس فيه قوى إقليمية باتجاهاتٍ غير متطابقةٍ مع إرادة المنظومة العالمية. ومرة أخرى، صيتُ العجز المطبق للمسلمين هو غير صحيح. ويكفينا ما أشرنا إليه من أقاليم، غير أننا لا يمكن أن ننسى أن شعوب جنوب آسيا، وخاصة في باكستان و أفغانستان و بنجلادش هي ثائرة أيضاً ترنو إلى التغيير.
وحرصاً على نفي الوهم، نؤكد على أن النموذج التركي الماليزي بلغ غايته ولا يمكن استنساخه، ويمكن اعتبار التجربة التونسية دليلاً على ذلك. ولكي لا يتيه مَن غمَره بالفضل القدرُ الجيواستراتيجي والدمغرافي، نُذكّر بأن تركيا بلا الربيع العربي ‑وخاصة بفرعه الشامي‑ كانت سوف تعجز عن الرجوع إلى عثمانيتها بالجدّية التي نراها. وأيضاً لولا الثورة العربية لتطبّع أمر شقاشق الشيطان من الشعوبيين.
نعمة بزوغ الفجر
الفجر الكاذب ليس كاذباً وإنما يُبشّر بفجرٍ لاحق. ولا غرابة في أنّ عريض القفى يصعب عليه رؤية التفاعلات التي تُهيّئ لنهارٍ أبلج. وأول شروط الهداية في زمن الاختلاط هو معرفة دروب الخسارة. فالرشاد بعمومه معروفٌ فطرةً وتجربةً تاريخية، والمجهول هو منه هو التصميم الملائم وسبُل التطبيق العملي المعاصر. وتجاه هذا الثاني، الوضوح السلبيّ ومعرفة ما هو غير مرادٍ أمر حيوي. وما يلي عشرة بنودٍ عمّا توصّلت إليه البديهة الجمعية للمنغمس في عملية التغيير:
- إنه من العبث التفكير بمنطق التحوّل الديمقراطي السلس، فكل شروطه منتفيةٌ داخلياً وخارجياً.
- النداءات الحقوقية أمدّت الثورات بلافتات ظريفة، ولكن مدخل حقوق الإنسان لا يقيل عثرة ولا يقلب حصاة، بل هو ترويض على الاستجداء.
- لا يمكن إصلاح المنظومات القائمة فهي معلولة في جذرها. وهناك فرق بين المصابرة تحضيراً لتجاوز هذه المنظومات وبين الأمل فيها.
- الحلول الناعمة وإن كانت تدغدغ الخيال وتراها بعض العقول دفعاً للأخف بالأخف، ضاقت فرصها من الخارج وأصحبت ممجوجة من الداخل.
- التوحيد الكامل بين جميع الفصائل وبمختلف الحقول التي تعمل بها أمرٌ غير ممكنٍ، لكن لا غنى عن التنسيق الجدّي الكثيف.
- في حالة التفتّت تظهر بشكل طبيعي جماعات التطوّع العشوائي التي يسهل أن تتطور إلى فرق ذاتية التمحور تُمأسس الفوضى، ولا بدّ من احتواء هذا من خلال الاحتضان الشعبي والرقابة من خلال المشاركة.
- العمل التغييري يفتقر إلى الحافز، والدين من أقوى الحوافز، وإذا كان من شأن الدين تطهير السلوك وضبط البوصلة الأخلاقية، فإن تعالي الجماعة التي تدّعي التديّن على الأمة يفصلها عنها، والتمحور المذهبي والفهم الحرفي يحجزان عن استيعاب الناس ويقودان إلى المهالك.
- الرهان على المجتمع الدولي غباء، والارتهان للدول العربية التي ترفع شارة الإسلام ويخالف حالُها قولَها سذاجةٌ قاتلة.
- رعاية المحلّات هي أساس العدل السياسي والرشاد الإداري، وهي العروق التي تجري فيها دماء الثورة.
- التحرّك عند غياب الموارد وبعد تطبيع البطش لا ينفع معها محاولات البناء وفق المواصفات القياسية لخيارات الوفرة والاستقرار، والبدائل هي الحلول البديلة البسيطة المستدامة التي تسري عبر القنوات الطبيعة للاجتماع البشري والترتيبة الشبكية غير الهرمية.
لقد أدرك المهمَّشُ أنّ المسيطر عالمياً تراجعت أسسه الثقافية التي أوصلته إلى سدّة التمكن، وداخل هيكليةَ منظومتِه أوباءُ الاتساع و الزَرَد، ففقدت كثيراً من مرونتها وفاعليتها. وإذ لا شكّ باحتفاظها لقوى وإمكاناتٍ هائلة، أدرك الفطنُ إمكان التموضع الذكي الذي يستثمر الصدأ وتباطؤ الحركة والعجز النسبيّ عن الفعل.
هذه الإدراكات تقبع على مستوى اللاشعور، فيمكن أن تتحرّك مقتضياتها على نحوٍ يجمع بين العفوية والتنظيم. وإذا كان الإحكام الشامل متعذّر عند تربّص العدو المتمكّن، فإن وضوح المرفوض إلى جانب وضوح عموم المطلوب يفسح ساحةً للفاعليات المحلّية الصغرى التي بينها تساجم جزئي، منتظرةً شروطاً أفضل لحدوث الاندماجات العرضية والطولية في لحظات إمكان التجسّد، وعندها يحكم صيغةَ التجسّد هذا قانونُ تسلّم القيادة ممن توافر له النضوج والقوة المنيعة.
خاتمة
المسلمون من المحيط إلى المحيط ثائرون، يغمرهم التوتّر ويتطلّعون للتغيير، كلٌ بحسب ظروفه. والعرب من المسلمين ‑وهم جذر التجديد الفكري الأصيل‑ ينفضون عنهم إرث التيه. والدفق الإسلامي هو الوحيد الذي في آنٍ يملك كمون العالمية ومناهض للمنظومة العالمية في طبيعته الـ (antisystemic) اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وضميرياً. وفي ذلك وعدٌ من الأمة للإنسانية، لأنّ الجهاد اللامنظوماتي للأمة لا يبتعد عن الثوابت الأخلاقية الرسالية العالمية بل هو محكومٌ بها.
“ونريدُ أنْ نمنَّ على الذين استُضعفوا في الأرضِ ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين”
مازن موفق هاشم
24-03-1439هـ/12-12-2017م
Tagged: القوى المحلية, التفكك والبناء, التجزئة, التغيير السياسي, سقوط الشرعية
اترك تعليقًا