نشهد تحوّلات عالمية كبرى، وهي ليست مجرّد متابعةٍ لجهود الاستخراب الأوربي وإن كانت متصلّة بها اتصال بداية النهايات. ونشير ابتداءً أن تأزّم مسيرة الحضارة الغربية ناقشتها كتاباتٌ لمفكّرين ومؤرّخين وأصحاب نظرٍ من شتى الثقافات، ونمتلك اليوم رؤيةً أوضح بسبب تفتّق تطوراتٍ كانت متواريةً في ثنايا الصيرورات التاريخية. ولكي نبسّط الأمر فلن نناقشه على المستويات المجرّدة، وإنما نتتبع انعكاساته في واقع الحياة، مع جلب بعض الدلائل كإشاراتٍ للاستئناس لا للبرهان.
إنّ إدراك التغيرات الجذرية التي حدثت في المنظومة العالمية ‑والتي ما زالت تحدث وبازدياد مطّرد‑ هو الذي يمكننا من التفسير القويم لما يبدو خارجاً عن النسق المألوف، وهو الذي يجنّبنا بخس القوى المحلية في عالمِنا لكمونها التغييري. ويناقش هذا المقال تأزّمات المنظومة في مسيرة المشروع الغربي على صُعدٍ ستة: الاقتصاد والسياسة والحرب والدمغرافيا والاجتماع والثقافة.
الاقتصاد
الرأسمالية عالمية في طبيعة جشعها، لا تفتأ أن تبحث عن أسواقٍ تخترقها أولاً بأدوات الفاعلية، ثم تتمدّد فيها بتغيير أذواق الشعوب ونمط الترفيه، وأخيراً تحاول الإطباق بالسيطرة على طعام الناس وشرابهم. ولا شكّ في أنّ التمكّن الرأسمالي شديد (ولا نقصد بالرأسمالية فاعلياتِ السوق المشهود لها تاريخياً) وأن مدى نفوذها مخيف. غير أنّ هذه ليست نهاية القصة.
التناقض الذاتي للرأسمالية يكمن في أن العولمة الاقتصادية تولّد منافسيها وترفع تكاليف الهيمنة. تتولّد المناسفة لأن مطلب الرأسمالية إزالة العوائق أمام سيلها (مثلاً، الرسوم الجمركية، حركة العمالة) يُنشئ حركيات تعلّم وتقليد، فيمتنع الاحتكار في المركز إلا فيما هو شديد التعقيد التقني. أما ارتفاع تكاليف الهيمنة فإنه بسبب الخلخلة المجتمعية التي يحدثه فرط الاستهلاك الرأسمالي حيث يمتصّ القطع النادر ويشوّه المسيرة الاقتصادية في البلدان المستهلكة. والأثر الرأسمالي يختلف بحسب خمسة مواقع للدول:
- أولاً: دول أركان المنظومة تقع في خيارات صعبة. فمثلاً، الاعتمادية الألمانية على روسيا في الطاقة تقايضها بتقنياتٍ تُستخدم في النهاية في ترسيخ النفوذ الروسي في أوربة الشرقية في محاذاة ألمانية لترفع كلفة الهيمنة الألمانية. تُنتج ألمانية أكثر مما تستطيع أوربة استهلاكه، ولذا فإن على ألمانية تمويل دول الإدارة الفاسدة (اليونان ودول أوربة الشرقية عامة باستثناء بولندة) والحليولة دون إفلاسها لأن توقّف استهلاك الإنتاج الألماني أكثر كلفة. بشكل عام، بشكل عام نموذج (مجتمع الرفاه) الذي هندسته أوربة بعناية معتمدة على الدور الأمريكي العالمي من جهة وعلى علاقاتها مع الدول التي كانت قد استعمرتها… هذا النموذج تتآكل أسسه وغير قابل للاستمرار وسينتج عنه اختلاجات اجتماعية حادة.
- ثانياً: دول الاقتصاد الضخم (كحجم مطلق وليس نسبي) تدخل حال المقارعة الناعمة، ومثالها الصين و الهند. وتنشأ هنا حالة اعتمادية ثنائية ذات تناقضات ليس سهلاً الالتفاف عليها. فمثلاً، الاعتمادية الأمريكية على الصين مكّنت الصبر الصينيّ على الحيازة على ما كانت أمريكا ترغب ببقائه داخل حدودها. ولا يمكننا هنا تجاهل دور الرأسمال في القرار الأمريكي الذي يُقصّر النظر ويحجز على الفعل السياسي إلا من خطرٍ داهم. الاعتمادية على الهند مشابهة وإن كان حجم تناقضات الاشتباك الاقتصادي فيها أقل لأسباب جيوسياسية.
- ثالثاً: الدول الإقليمية الوازنة عندها أسس كافية للقيام الذاتي بأنصاف شراكاتٍ مع الرأسمالية العالمية (البرازيل، تركيا….). نمو هذه البلدان يقوّي المنظومة الأمريكية الأوربية في حالة صحّة هذه المنظومة (مثال، تركيا شريك في تصنيع سلسلة طائرات F). ولكن عند اعتلال المنظومة، تصبح الدول الإقليمية الوازنة منافساً مزعجاً (مثال: المطار الدولي الجديد في تركيا). وأضف إلى ذلك تشابك السياسي مع الاقتصادي لتتضح الصورة ولا سيما عندما يتحقّق للدولة الإقليمية مرتكزات محلية (مثال إيران ثم تركيا).
- رابعاً: الدول الريعية عندها فرصة زمنية قصيرة ومتأرجحة، فإما أن تؤسس أو تترهّل وتعجز عن تمويل رفاهها الاصطناعي. وهنا يقع التناقض، فاستقرار الدول الريعية مهمٌ من أجل المواد الأولية التي تحتضنها أرضُها، ولكن دعمها استمرارها السياسي له تكاليف كبيرة.
- خامساً: الدول الضعيفة (والمستلبة ثقافياً) تنغمس في استهلاكٍ يزيد في الاستقطاب المجتمعي ويرسّخ الفساد السياسي (ديمقراطياً أكان أو ديكتاتورياً) فيزيد في كلف الدفاع عنها (مثال مصر). ودول الحافة الاقتصادية (في أسفل السلم) تنغمس في استهلاك يعمّق الشعور بالغبن ويحدث الاستقرار (المورفيني) الذي يحتاج المسكنات من أجل تأخير الثورة وشراء السفلة.
هذا من ناحية الإشكاليات الاقتصادية على الصعيد العالمي. غير أنّ الإشكال لا يقتصر على هذا، بل هو حاضر وبقوة في المركز. الاقتصاد القديم اعتمد على معادلة مبسطة نوعاً ما: قدرة صناعية – مواد أولية من البلدان المستعمرة – بيع الإنتاج المصنّع. نمى اقتصاد الخدمة ليشكل نصف النشاط الاقتصادي وليخرج عن مهمته المجتمعية وليصبح في أقصى أطرافه محاولةً لإسعاد المترفين الذين نسوا أساسيات الحياة (الطبخ مثلاً). التطورات التالية للاقتصاد كانت أكثر أثراً بغض النظر عن المنتج. فلم يعد هناك اقتصاد يُنتج ويكّد، إنما مغامرات مالية تسترزق من تبديل الطرابيش وإعادة التمويل، أو هو الانتقال من رأسمالية الانتاج (production capitalism) إلى رأسمالية التمويل (finance capitalism). وإذا كان بعض هذا الانتقال طبيعياً لتراجع واردات النموذج الأول ولعلائقه المتشابكة، غير أنه ترافقت مع النموذج الأخير عوامل سلبية نذكر منها ثلاثة: غرق في الفساد الإداري-القانوني، وترسيخ التفتيت الاجتماعي، وتشويه العملية السياسية.
المنطق الكامن لإدارة الأعمال اليوم هو السيطرة ومعاظمة الربح (control & maximization)، ولكن تكمن المفارقة في أن الطريقة الأمريكية هي على درجة عالية من الفاعلية (effective) ولكنها غير مجدية كفائياً (efficient). فسواء تكلمنا عن الجيش أو عن انتاج الأفلام أو عن الخدمة الصحية، أصبحت كلف النموذج الأمريكي فائقةً تعجز عنها حتى ميزانيات الدول الغنيّة.
بيئياً وصل الأمر إلى حدود خطيرة ومعالجتها مكلفة جداً. والتلّوث ليس مسألة جانبية يمكن امتصاص تبعاتها، بل لها انعكاسات مباشرة على الصحة والقدرة الإنتاجية. أما التغيرات المناخية فلم تعد مسألة مؤجّلة، حيث أنها تؤثر في المحاصيل بشكل لم يعد ممكناً إنكاره. أكبر مزرعة في العالم هي كاليفورنيا الوسطى، وهي معفية من قوانين التلوّث. أي أنّ معاظمة الإنتاج وخفض الكلفة من أجل تمكين كل الناس من التلذّذ باستهلاك الفراولة هو مقترنٌ لزوماً مع تلويث مصادر الطيبات. ولا عجب أن الفاكهة أصبحت منظراً بلا طعم، ناهيك عما قد تحتويه من مواد غير مرغوب بها.
وكما تؤكد كثيرٌ من الدراسات، نمط الاستهلاك الحديث عالي التلويث ويستنزف الموارد الطبيعية. وهذا النمط يزداد انتشاراً، بما في ذلك النمو الصيني الكبير والهندي. فما هو المدى الذي سيصل إليه السباق المحموم على الطاقة؟ وفي القطب الشمالي موارد غازية كبيرة غير مستثمرة، وملكية هذه الأراضي متنازع عليها وتتخاطفها أعينُ خمس دولٍ اثنان منهم دول حربية. ويصبح مشروعاً التساؤل عن احتمال نشوب صدامٍ عسكري بين روسية و الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الموارد، وهل سيتسبب في الانزلاق إلى كارثة بيئية على صعيد كل كوكب الأرض.
خريطة: ادعاءات ملكية القطب الشمالي
وننوّه هنا أن الذوبان المتسارع للكتل الجليدية في القطب الشمالي قد يكون لها آثار واسعة جداً تتجاوز الناحية المناخية والبيئية. فعلاوة على أن ذلك يجعل استخراج الغاز هناك أقل كلفةً فيغري نحوه، الذوبان قد يفتح ممرات ملاحة مائية تكون بديلاً للمرات الجنوبية، وقد يغيّر في اقتصادات بعض الدول حوله.
وأخيراً، لا يمكن أن ننسى أن إدامة عجلة الاقتصاد تحتاج سواعد تدفعها. وبسبب تراجع نسبة التوالد، تحتاج مجتمعات الرفاه إلى استيراد العمالة، استرقاقاً لطيفاً أو غليظاً، وهو الذي يرفع التوتّر الداخلي في هذه مجتمعات لأسبابٍ مختلفة منها إشكالية التعدّدية وزيفها ولبراليتها ذات الخصوصية الأوربية.
السياسة
لم يعد ثمة رؤساء في الدول الكبرى المسيطرة، بل بيادق تحركها شهوات الانتخاب. اختراق رأس المال للسياسة ليس جديداً في بلدان الديمقراطيات الصناعية، لكنه وصل إلى حدود تنفي العقلانية في المنظومة. حالة إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وصلت حدّاً فاضحاً. الحكمة السياسية الأوربية، أو قل المكر، انقلبت نرجسيةً لا تريد تحمّل تبعات ما تتمنّاه. أصوات الانفراط وفاعلياته تتعالى في أوربة التي تحيط بها تحدّيات جمّة وتحتاج فعلاً إلى التكتّل في اتحاد. والمسألة ليس مسألة أصواتٍ وانتخابات وحسب، وإنما هي تعكس إشكالات التشكّل سياسي. الاستقرار والغنى كانا قد غطّيا على إشكالات المنظومة الديمقراطية. لقد عجزت هذه الديمقراطيات أن تفي بوعود أساسية تضمّنها العقد الاجتماعي اللبرالي. ومن ناحية ظهر جلياً أن هذه المنظومة تتّكئ بشكل كبير على وضع البلدان المستعمَرة (أثناء الاستعمار وبعد الاستقلال المفروض). أي أن الانتقال من الاستخراب المباشر إلى الاستخراب غير المباشر أتى بتحدّيات انعكست داخلياً ولم يطوِ الصفحة كما كانت تأمل تلك النظم.
المنظومة الأمريكية أصبحت شديدة التعقيد والتراكبية إلى درجة تحول دون إمكانية الإحاطة بها وإصلاحها. وهذا هو الذي يخلّف اختناقات منظومات الاقتصاد والإدارة والقانون والصحة والتعليم…، برغم كل الإمكانيات الهائلة على الترقيع. المنظومة الأمريكية هائلة جداً وليس هناك ما يهزمها. لكنها معرّضة أن تقع ضحية تعقيدها وتراكيبيّتها. كل حلٍّ لمشكلة يتطلّب زيادة في تعقيد المنظومة، فيستحيل الإصلاح. هذه الحلقة المغلقة هي المرشّحة أن تصيب المنظومة بتشنج الإقفال التبادلي بين أجزائها، فتصيبها بثلاثة أدواء: تباطؤ المخرج وارتفاع الكلف والعجز عن السيطرة.
وعموماً، لم يعد هناك أصحاب رؤى قادرة على إحداث انزياح برادايمي. ليس هناك لا جفرسن ولا شرشل ولا ديغول. ولم يعد هناك ديمقراطية بمعنى تداول الآراء، وحل محلّها تمثيل أناني للمصالح. ودعنا نختم هذه الفقرة بحوادث ذات دلالة:
- الفيليبين المعتمدة على أمريكة اعتماداً كبيراً تُذلّ الرئيس الأمريكي وتُعرض عن التهديدات ما دام هناك شعبية للإجراءات التي يقوم بها رئيس وزراء الفليبين. والأكثر دلالة في هذا أن ثقافة الفليبين مخترقة غربياً إلى درجة أن من مفكريهم من يؤكد أنهم يعيشون حالة انفصام شخصية.
- اليابان الحليف الأمريكي المرتهن تعتزم دعم مشروع (Forum Belt and Road) الذي وراءه الصين، ذلك المشروع الذي يهدف إلى ربط آسيا بالمشرق العربي وأوربة.
فهل من شك في أننا نشهد تحولات عالمية كبرى؟
الحرب
مفكّرو الغرب يدركون أن بلادهم قامت على القوة. وإلى الآن ثمة جدال في دراسات صعود الغرب (The Rise of the West) عن أسباب ذلك، ولا يستثني بعضهم الصدفة. الديمقراطية أتت لاحقاً كتسوية حلٍ وسط، ثم أُضفيت الأخلاقية عليها. تزَعّمُ الولاياتِ المتحدة الأمريكية للنظام العالمي نموذجٌ لا سابق له في التاريخ المعروف، إذ تتميّز بقدراتٍ كبيرة في السيطرة عن بُعد وفي حقولٍ شتى: الاقتصاد والعملة ونسبة الفائدة…، السياسة وحقوق الإنسان…، الثقافة وهوليود… كل هذا صحيح وينبغي أن لا يغيب عن الذهن. غير أن القوة العسكرية هي أيضاً جزءٌ لا يتجزأ من هذه السيطرة، تجوب البوارج المحيطات وتمسح الأقمار سطوح الأرض، وتعفي الدولة نفسها عن التدخّل المباشر ‑إلا عند الضرورة‑ مكتفيةً بحروب النيابة.
المفارقة اليوم أن الولايات المتحدة الأمريكية أقوى عسكرياً من أي زمنٍ مضى، لكنها أيضاً أضعف على شنّ حربٍ من أي زمنٍ مضى. ومنذ فيتنام وإلى اليوم وتعجز هذه الدولة الفتية ذات القوى الضخمة عن الانتصار. في فيتنام تراكم الخسائر هو الذي أوقف الحرب (وليس المظاهرات الطلابية كما تروّج العاطفة اللبرالية)، وهو الأمر الذي أكد عليه تقرير الوزير روبرت مكنيمارا (السري آنذاك)، وتأخّر الانسحاب بضع سنين بسبب المصالح. وتشكّلت بذلك عقدة فيتنام النفسية. مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد (مكماستر) والذي يحمل درجة الدكتوراه يؤكد أن الخسارة في فيتنام لم تكن حربية ولا إعلامية، وإنما بسبب العملية السياسية التي عرقلت العمل العسكري (حيث كان على الجيش أخذ موافقة الكونجرس على طيفٍ واسع من الأعمال). استناداً لهذه الخلفية جرى التهليل لحرب العراق 1991 على أنها ستحلّ عقدة فيتنام. ولكن عجزت الولايات المتحدة الأمريكية عن الانتصار في غزوها للعراق في 2003. حربها الناجحة كانت غير المباشرة (حرب الخليج الأولى حيث دفعت عراق صدامٍ للاعتداء على إيران). أدركت أكبر قوة حربية (والوحيدة التي هي عالمية النفوذ) أنها لا يمكن أن تنتصر في بلدٍ يُمثّل عقدةً استراتيجية ويزيد عدد سكانه على 30 مليوناً (أو قريباً من هذا)، وإنما يمكنها التدمير فحسب. وبلدٌ تعداده ضعف هذا الحدّ (مثلاً تركيا أو إيران) يجعل العمل العسكري قريباً من العقيم، لا يُفوّت النصر فحسب وإنما يقدح فاعليات إقليمية يرجّح أن تخرج عن السيطرة، وقد يُلحق هزائم صغرى ناهيك عن كلفه المرتفعة جداً.
المفارقة أن إتقان آلة الحرب من جهة وهدف خفض الضحايا من جهة أخرى غيّر طبيعة الحرب. وإذ لا شك أن الحروب القادمة ستطغى عليها الطائراتُ بلا طيار والزواحفُ الآلية التي تُشغّل عن بُعد، بقي تحقيق الهدف من الحرب (الذي هو سياسي دوماً) أمراً غير مضمون.
نجاعة الحلول العسكرية تراجعت لسبب آخر، ألا وهو اكتشاف الشعوب المقهورة لحيثيات الصراع اللامتماثل. للضعيف في مثل هذا الصراع ميزةٌ واضحة لإمكان اعتماده على أساليب بدائية لها فاعلية مقبولة في مواجهة تقنيات حربية متفوقة جداً. وزير الدفاع الأمريكي بعد بضعة أيام من غزو أفغانستان قال: لم تبقَ أهداف ذات قيمةٍ نضربها. وعلّق أحد الكوميديين: ماذا تفعلون بالطالبان؟ إنهم ليسوا طالبان، إنهم پشتون وتلك أرضهم. الحل إما أن نتركهم أو أن نُسكنهم في بادية أريزونا الواسعة، ونقيم هناك في أفغانستان الديمقراطية التي تحلو لنا بالشراكة مع بعض عملائنا. طالبان ما زالت حيّة، وأمريكة هي الحائرة حتى اليوم. فكرة الصراع غير المتماثل ليست جديدة، ويبدو أنها لم تصل إلى بلادنا إلا حديثاً، فلقد اشتهرت منذ أيام فيتنام ما يسمّى “استراتيجية الكلب والبراغيث”. والطريف في هذه النظرية أن الكلب لا يموت من كثرة اللسع بل من الإعياء وهو يحاول ذبّ البراغيث.
وبالنسبة لمنطقة المشرق العربي، وإذا اعتبرنا إسرائيل وكيل المنظومة العالمية في المنطقة، لا نبالغ إذا قلنا أن إسرائيل أضحت دولة عاجزة. لإسرائيل منعة حربية عالية جداً بنفسها وبالالتزام الأمريكي والأوربي معها. ولكنها عاجزة عن الفعل المبادر الذي يُنشئ وضعاً مريحاً فيمكّن قدرات الدولة أن تتوجّه نحو التنمية. ميزانيات كبيرة تصرف لحماية وضع إسرائيل، وحتى الصديق يتململ من هذا الوضع. وعملياً، لا يُمكن لإسرائيل ترك سياسة العدوان، فعليها أن تشنّ حرباً تدميرية كل سبع/عشر سنوات لعجزها عن تقديم رؤية للمنطقة. تراجع الدور الإقليمي لإسرائيل تواقت مع ازدياد النفوذ اليهودي في التأثير العالمي، وذلك من خلال التحكّم بأدوات التفريغ السياسي للبلدان التي تعتمد عليها، ومن خلال التفجير الثقافي للبلدان التي لا تشاركها خلفيتها الحضارية. ولا يفوتنا أن نتذكر أن النخب اللبرالية اليهودية تنقرض بالتدريج لصالح التكاثر الأعلى للأرثوذكس الذي يؤمنون بالروايات والحلول الألفية لنهاية الكون وكيفية التعامل مع العالم، وهو الأمر الذي يؤزّم العلاقات الغربية الإسرائيلية.
الولايات المتحدة الأمريكية أدركت عجزها عن السيطرة على العالم، وتوالي عدم نجاح غزوها بسبب مقاومة المسلمين يُذكّرها بأزمتها: تريد أن تنسحب من العالم فعندها من الثروات ما يكفيها الاستقلال بنفسها، ولكنها لا تستطيع ذلك لأنها هي راعية النظام العالمي ومن خلاله تستدر الأرباح الطائلة والنفوذ الواسع. وأضف إلى ذلك أن خصالاً هيكلية وأخرى ثقافية تُمكّن الدول الإقليمية بازديادٍ لعبَ أدوارٍ لها انعكاساتٍ عالمية ولو كان ذلك اللعب في ساحته الخلفية الخاصة إذا حقّق شرطيّ الحجم الكافي و التماسك المستقلّ.
وبشكلٍ موازٍ للاتماثل في المواجهة الحربية، هناك تشادٌّ حرِج (tight-coupling) في المنظومات المدنية، بحيث أن اضطراباً في مطارٍ بسبب الطقس ‑مثلاً‑ ربما ينعكس على حركة الطيران العالمية بأسرها. هذه الخاصية في المنظومة المعاصرة (المدفوعة لمعاظمة الخدمة وإنقاص الكلفة) أنشأت نقاطاً حسّاسة معرّضة للاضطراب بنفسها أو من خلال قوى خارجية (صغيرة) تستهدف هذه النقاط الحساسة وتُحدث عرقلة هائلة لمجمل المنظومة (القرصنة الالكترونية مثال شاخص). وهكذا فتح الاتقان ذاته فُرجاً للتأثير الخارجي الكبير بجهودٍ بسيطةٍ نسبياً للاعبين هامشيّين.
ودعنا نختم هذه الفقرة بحوادث ذات دلالة:
- تتابع الإخفاق الأمريكي في المسرح الباسيفيكي شاهد ما بعده شاهد. والمراقبون يعلمون أن حرباً أمريكية هناك مكلفة جداً، ويرافقها تدمير فظيع، وتنعكس سلباً على دول حليفة، وتشكّل فرصة ذهبية لكل من الصين وروسية لاستنزاف أمريكة خارج أراضيهما.
- الصين تبني جزراً في بحر الجنوب، ذاك الممر البحري المهم جداً للتجارة الدولية، وذلك الحيّز الجيوسياسي باتجاه دول جنوب شرق آسية. والصين أيضاً تعمّق دخولها في أفريقيا وتبني قواعد عسكرية في جيبوتي.
- تركيا افتتحت أول قاعدة عسكرية لها في إفريقيا، وتقع على بعد كيلومترين جنوب العاصمة الصومالية، مقديشو.
وللنظر إلى ما هو في الاتجاه المعاكس والذي يؤكد عودة التشكّل القديم المتمحور أوربياً:
- الطائرات الألمانية تنسحب من قاعدة إنجرليك التركية.
- التركيز الأمريكي على أوربة الشرقية، سواء في أوكرانيا أو في نقل الصواريخ لتأكيد حماية جورجيا.
فهل من شك في أننا نشهد تحولات عالمية كبرى؟
ديمغرافياً
قصة الأزمة الديمغرافية لأوربة معروفة. الأمم تحتاج شباباً كقوى عاملة. ازدياد متوسط عمر الأفراد زاد في الأعباء المالية اللازمة للعناية بصحّتهم. من السيناريوهات المقدّرة أن في بعض البلدان الأوربية سيصبح هناك شخصين منتجين فقط مقابل كل متقاعدٍ، ذاك المتقاعد الذي يتقاضى راتباً معاشياً ويتمّ الصرف على نفقاته الصحية. هي أزمة حقيقية وليست مما يمكن لقرارٍ سياسيٍ أن يجترح حلاً شافياً له، والحلّ العملي يمرّ عبر قبول المهاجرين من خارج أوربة لأن العلّة الثقافية اللبرالية في أوربة تتمثّل في عدم الرغبة بالإنجاب بسبب كلفه وتعكيره على فرص التمتع وتعويقه للسباق المهني (وخاصة الإناث).
التنبؤ الإحصائي لما بين سنتي 2017-2050 يرسم صورة التحدّي الديمغرافي وعلاقته باستقبال الهجرات. فرنسة هي البلد الأوربي المهم الوحيد (إضافة إلى إيرلندا) الذي يتوقّع أن تشهد تزايداً سكانياً بغضّ النظر عن استقدام الهجرات. الوضع الإنكليزي هو صُفريّ النمو من غير هجرات. ألمانية سوف تعاني من تناقصٍ حادٍّ في السكان لولا تقبّل الهجرات، والهجرات تضعها على الحدّ الصفري حيث ليس هناك نمو سكاني ولا تناقص. إسبانيا ينمو عدد سكانها مع الهجرات وإلا تناقص. إيطاليا و بولندة يتناقص عدد سكانهما سواءً استقبلتا مهاجرين أم لا. كل دول أوربة الشرقية تعاني تناقصاً في السكان، بعضها بشكل حادٍ منذر، وكلاً من اليونان والبرتغال تعانيان من تناقصٍ غير محمود. أما روسية التي ما زال النمو فيها ضئيلاً جداً، عدد السكان مرشّحٌ للتناقص حتى عام 2050. وزيادة على هذا، المسلمون في روسيا ‑وهم سكان أصليون يشكلون حوالي 15% من السكان‑ هم الأعلى تكاثراً.
مخطط: تقدير تزايد أو نقصان عدد سكان أوربة مع اعتبار الهجرات
لا أوربة الشرقية ولا روسية يمكنها تزويد بلاد أوربة الغربية بالعنصر البشري الحاسم من أجل الاقتصاد والحماية واستمرار الحياة. وليس لأوربة خيار استقدام هجراتٍ من حوضها الحضاري. المصدر الأكبر هو بلاد المسلمين و العمق الإفريقي، وكلاهما شعوب مبغوضة وإن كان لأسباب مختلفة. أمريكا اللاتينية يمكن أن تمدّ إسبانيا خصوصاً بمهاجرين، ولكن لذلك ثمن ثقافي أيضاً. دولتا أمريكة الشمالية إضافة إلى أستراليا هي دول الكتلة الغربية التي تنعم بصورة ديمغرافية صحّية فيها تزايد ضئيل، والشكر في ذلك عائد إلى المهاجرين، من أمريكة اللاتينية بالنسبة لأمريكة، وإلا فنسبة نمو البيض تقارب الصفر.
الخلاصة، ثلاثة الدول المهمة في أوربة الغربية (فرنسة، إنكلترة، ألمانية) فيها صورة دمغرافية مقبولة بالترتيب المذكور، ومعظم التكاثر يأتي من الكتل المهاجرة أو عن طريق استقبال الهجرات. أي أنه حمت هذه البلدان نفسها من التناقص الشديد، والهجرة إليها مرغوبة. ولكن الحفاظ على الصحة الدمغرافية مصحوبٌ بتغيّر في البنية الدمغرافية للبلد وبمواجهاتٍ ثقافية ليس عند اللبرالية حل ناجع لها. ونضيف إلى ذلك أن تناقص السكان في الدول الأوربية الأخرى يُنقص حجم استهلاك البضائع من تلك الدول الثلاثة الكبيرة.
نمو حجم المسلمين في أوربة محلّ اهتمام. وإلى الآن ما زالت نسبهم لمجموع السكان صغيرة في أوربة الغربية وضئيلة في بلدان أوربة الشرقية باستثناء بلغاريا (11%). ويمكننا اعتبار العشر كحدٍّ أدنى لكي تحجز المجموعة الثقافية مكانها في بلدٍ ما، والخمس هو الحدّ المجزئ الذي لا يمكن تجاوزه، والثلث هو الحدّ المعطّل.
الحدّ الأول يحتاج توتراً ليكون فعالاً، ورفض الأكثرية وعنصريتُها تساعد على شدّ هذا التوتر. الخمس يحتاج يقظة، والثلث يؤثّر بأدنى العمل. من الدول المهمة الثلاث في أوربة الغربية، نسبة المسلمين في فرنسة هي الأعلى (8.8%)، تليها انكلترة (6.3%) وتليها ألمانية (6.1%). هذه الدول واعيةٌ لتبعات هجرة المسلمين، وتراقب نسبهم وتهتم كثيراً في تذويب ثقافاتهم. وصحيح أنه يتمّ احتواء المهاجرين بشكل أو آخر، بإرادة المهاجرين أنفسهم أو قسراً عنهم، فإنه يمكننا إضافة ملاحظتين: هناك نسبة فاعلة من المسلمين في الغرب تنجح في الحفاظ على مجتمعاتهم وتحجز مكانها في المجتمع الكبير وتؤثر فيه؛ ثانياً، الأحداث العالمية تزيد من أهمية الكتل المسلمة في البلدان الغربية. وأخيراً، فإن تقديرات مجمل نسبة المسلمين في أوربة إلى عام 2050 يتراوح بين 14% إذا استمرت الهجرات و 11.2% إذا خفتت، و 7.4% إذا توقّفت.
ليس المقصود من جلب الصورة الديمغرافية هو التهويل المعتاد، وإنما الإشارة إلى ظاهرة هي مهمة بذاتها. وبشكل عام، نسبة المسلمين في العالم الذين هم أقلية في بلدهم تبلغ حوالي الخمس، وجزء معتبر من هذا الثقل هو بسبب مسلمي الهند. وظاهرة وجود كتلةٍ مسلمة كبيرة من السكان الأصليين في بلادٍ هم أقلية فيها ظاهرةٌ غائبة عن أذهان بلدان الأكثرية المسلمة ولا سيما العربية. والذي يهمنا هنا أن المسلمين لهم وجود عالمي وازن. ونحن نعيش في هذا العالم نتأثر به ويتأثّر بنا، ونحن جزء لا يتجزأ من التحولات الذي تعتلجه. ولو ذهبنا مع المنبطح الذي يرى دورنا سلبياً محضاً فإن ارتكاساتنا تشهد أننا موجودون ولسنا عدماً.
خريطة: نسب المسلمين الأوربيين مخطط: تقديرات متعددة لنمو عدد المسلمين الأوربيين
![]() |
![]() |
ولا بأس هنا الإشارة إلى أن ثقل الكثرة المسيحية انتقلت إلى خارج أوربة. ونذكّر بأنّ مهد المسيحية هو في الشرق، ثم أصبحت أوربة الغربية مركزها ثم دخلت أوربة الشرقية وهضبة الأناضول. ثم حملتها المغامرات الاستعمارية بعد عام 1500 إلى العالم الجديد في أمريكة وأسترالية، وحديثاً صارت أمريكة اللاتينية مركز ثقل الكاثوليكية تحديداً. كما أن التبشير نجح في جعل 30% أو يزيد من سكان أفريقيا مسيحيين (380 مليونا)، ويتّصفون بتنوع مذهبي شديد، ونسبة كبيرة منهم إنجيليون. وفي مسيحيي إفريقيا جماعات نضالية علاوة على كونها تبشيرية. فهل يصحّ القول إذا قامت حروب صليبية في المستقبل فستكون هذه المرة من الجنوب الإفريقي مُموّلة من الشمال الأوربي. أم أنّ خطاباً أخلاقياً عالم ثالثيٍّ وغير يساريٍّ سيحول دون ذلك وسيوجّه الجهود نحو التعاون المشترك بين النصارى والمسلمين في رحاب سماحة الثقافات الإفريقية.
الاجتماع
توتّر العلاقات بين طبقات المجتمع أمر جارٍ في كل البلدان. التوتّر والصراع في البلاد غير الغربية هو أمر متوقّع لأن العقد السياسي لم يتشكّل على نحوٍ طبيعي متّسق مع الثقافة، بل تشكّل تحت ضغوط الهيمنة الغربية لما بعد الاستعمار المباشر. وسواءً انتهى هذا العقد إلى نظام ديمقراطي أو قبضة ديكتاتورية، الخبط المجتمعي حاضرٌ بسبب تفارق السياسة عن الاجتماع.
أما الحالة الغربية فالمفروض أن تنعم ببركات الديمقراطية التي اختُرعت محلياً ولم يُفرض تصميمها وتنفيذها من الخارج. ولكن ما كان لمبدأ سياسيٍ أن يخدع القانون الاجتماعي التاريخي أو يُلغيه، فلقد انتبت المنظومة الديمقراطية المعاصرة على آلام العنصرية والابتزاز الطبقي. وهكذا أصبحت بلاد الحضارة الغربية رهينة (البَرَص ثقافي)، يُعميها من جهة ويمرّغ أخلاقياتها المدّعاة من جهة أخرى. أوليس من المفارقة أنّه في تصويت انفكاك إنكلترا عن الاتحاد الأوربي أتت أصوات التعقّل من الملوّن (غير الأصلي)، فكان هو الذي يمتلك الرؤية التي تنفع أوربة.
العلاقات الطبقة-العرقية في البلدان الغربية مركّبة وليست على النحو القديم السمج الصريح. الواقع هو أنّ ثمة استقطاب داخلي على صعيد التشكيلات المجتمعية والمنطق الكامن لسير المنظومة، وليس على الصعيد الشخصي. مرّت العلاقات العرقية في مرحلة التمييز العنصر المقنّن بشكل أو آخر، وتلاه ارتكاسات تكفير الذنب حيث تجد الأبيض المثالي يتزوج سوداء. ثم أصبحت تقليعات السود في الرقص وقصة الشعر هي (الموضة)، وأصبح الرياضي الأسود وعارضة الأزياء السمراء أيقونات اجتماعية… كل ذلك جنباً إلى جنب مع احتقارٍ وتهميشٍ وعنصريةٍ لهذه الإثنيات التي يُحتفل برموزها، وذلك لأنّ هذه الإثنيات كمجتمعاتٍ فقدت ثقافاتها وأصبحت بيضاء من الداخل وملوّنة من الخارج. كل ذلك يجري على الصعيد الشخصي وإن كان مجموعه يُشكّل ظاهرة. وصحيح أن الحنق الشخصي هو الذي يظهر على شاشات التلفزيون ويجنّده سياسيّو النقاء العرقي/الثقافي، ولكن الأمر أبعد من ذلك.
العرق تفاعل مع الطبقة الاجتماعية ليصبحا معاً بِنية تحتية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. ومجموع التطورات الاقتصادية الاجتماعية أعادت المنظومات الإقطاعية. لقد أصبح العمال صنو الأقنان، والقنّ اصطلاحاً ‑خلافاً للعبد‑ لا أمل له بالحرية. وانضم إلى طبقة عمال الياقات الزرق عمّالُ الياقات البيض من الأعمال السكريتارية. وفي كلها خضوع، والخضوع أعظم في حالة الإناث اللواتي افتُرض تحرّرهن.
وننبّه هنا إلى أنّ النقاش أعلاه يشمل روسية، فهي أوربية ثقافياً ودينياً وديمغرافياً (قرابة 78% من السكان يقطنون المنطقة الأوربية)، وروسية هي أوربية جغرافياً (احتلال الروس لمساحات واسعة من آسيا حديث). لقد انتكست روسية إلى زمانها القيصري بمباركة الكنيسة الأرثوذكسية وتعيش أحلاماً إمبراطورية هي مورد مهلكها. التنافس اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسية ليس من نوع الاستقطاب بين الكتلة الرأسمالية والكتلة الاشتراكية في عصر الحرب الباردة حيث مثّلا نموذجين مختلفين للاقتصاد والشرعية السياسية والاستراتيجية العالمية. وفيما عدا عقدة الدونية الروسية من الغرب (التي تنعكس في تبرير الدناءة السياسية)، ليس ثمة فروق كبيرة بين التنافس الغربي مع روسية والتنافس البيني للدول ذات الأصل الأوربي.
ولا بدّ من التذكير أنه لما غشت مجتمعاتِ الرفاه الثقافةُ الفردانية الكارهة للواجبات الأسرية، أصبح لا مناص من استيراد الأيدي العاملة. لكن السواعد تهاجر وتحمل معها بذوراً ثقافية، وهي من عوالم محافظة تتضارب توجهاتها مع التوجهات اللبرالية أو الاستكبارية للمستورد. وهذا موضع تناقض وتضارب. وابتزاز المهاجرين (متابعة على ابتزاز المسترقين) يدرّ أرباحاً في جيله الأول، أما الأجيال التالية فيأتي على يدها الانتقام. ألمانية سارعت إلى التهام ضحايا الثورة العربية وقبول هجرة بعضاً منهم، ومهما عملت من برامج سلخٍ للهوية، سوف يخرج من أصلابهم من يغيّر المجتمع الألماني. اليابان هي الوحيدة التي تحاول حلّ مشكلتها هذه من خلال تقنية (الروبوت)؛ قيل لهم: حظ سعيد.
وأخيراً، إذا حلّلنا عدد المسلمين في العالم مقسّماً على التمكّن المادي لبلادهم، يتضّح أنّ المسلمين هم شباب العالم. أي أن المسلمين هم أول من يمدّ العالم بالحياة نفسها.
مخطط: التوزع العمري للبلدان المسلمة بحسب وضعها المادي
الثقافة
هذا مبحث طويل نشير إليه إشارة مختصرة من أجل اكتمال الصورة. ودعنا ننسى التنافس العالمي ولنلقي نظرة خاطفة من داخل بيت دول الثقافة الغربية. يتطلّع الفكر الغربي للخروج من ثالوث ضيقه المادّي اللبرالي القومي، فيعجز عن ذلك. يكره عنصريته ويحاول الانفتاح فلا يجد أطراً متّزنة للانفتاح. ملّت قطاعاتٌ واسعة من مجتمعاتهم الدّين، فدفعتهم جوعة الإنسان إلى الدين فلم يجدوه، وما استوردوه حوّروه وأفسدوه. ألا ترى كيف صارت اليوغا رياضةً روحيةً مفرّغة من المضامين، وسرعان ما أضحت تقليعةً لنساء النخب يتِهن بها، ناهيك عن أنها أصبحت (بزنس) رصيده مليارات.
لقد انكمشت ثقة الطروحات الغربية بنفسها. ونفرٌ من المفكّرين العَلمانيين امتدّت بهم السنّ فشعروا بمكان الدين في الحياة، وهم يبحثون عنه في فلسفات اليونان أو في بقايا المسيحية أو في خليط من هذا وذاك. نقول، فيما يطرحونه تعقّل وجنوحٌ في آن.
ومن خارج الحيّز الغربي، هناك ازدياد كبير في الاطلاع على الثقافة الغربية، وبين شرائح واسعة لا تقتصر على النخبة (بغض النظر عن استمرار سوء الفهم). وبرغم إعجاب بعض من كان يعيش في عزلةٍ ثقافية بالمستوى العالي للتنظيم في تلك البلدان، وبرغم بَله البعض الآخر الكاره لنفسه، إلا إن تلك المعرفة في محصلّتها ‑وخاصة مع مرّ السنين‑ تُظهر عوار تلك المجتمعات وأنها أبعد ما تكون عن المثالية.
لقد بلغت مقتضيات الثقافة الغربية أقصاها، ولا يعكس صورتها مثل قضية حقوق الإنسان. فلقد تفتّقت المطالب حتى انفتق الإطار المفهوماتي، وغاب الزمان الذي كانت حقوق المسحوقين والعمال والفلاحين هي القضية، وحلّ محلها التمحور حول الخيارات والانحرافات الشخصية. قضية المساواة الجنسية (المرأة والرجل) واشتطاتها خارج حيز الفطرة (التي يمكن أن تُشوّه ولكن لا تنمحي) اندلقت أقتابها في مسألة المثلية والتحولية. ونتج عن شرود قضية حقوق الإنسان ثلاث نتائج اجتماعية: (1) الدخول في سرداب مطالب ليس له نهاية وحلقة من السخف مخزية؛ (2) نشوء ترتيبات مجتمعية غير واقعية وغير مستدامة؛ (3) توليد الشذوذ اللبرالي لمقابلاته الدينية الارتكاسية (المسيحية الإنجيلية).
هناك شعور داخلي بإخفاق الحداثة والتصميم الآلي للحياة الاجتماعية بكل أبعادها التعليمية والصحية والودّية والتعاونية والأمنية (بمعنى السلم الأهلي). فلا بدّ من الدين ولكن التجربة الدينية متأزّمة. البدائل الدينية عندهم فيها قصور ذاتي بسبب تطوّرها التاريخي. تيار المحافظة جزء منه تقليدي انغلاقي وجزء فيه اعتدال ورجاحة عقل، لكن شريكهما وممثّلهما السياسي غير عاقلٍ وغير أخلاقي. وعلى كل حال، فالانغماس والضياع والعبثية هو الخيار العملي لشرائح واسعة.
سياسياً، “نهاية التاريخ” تُرجمت إلى نهاية الديمقراطية، متمثّلة في صعود الأحزاب اليمينية، سواء انتصرت أم لا. وهل هناك أكثر دلالة من أن قانون الضرائب الجديد الذي يصوّت عليه الكونغرس الأمريكي شهدت عليه لجنةٌ غير متحيّزة ومقبولةٍ من الحزبين الحاكمين أنه يزيد في عجز الدولة ترليون دولاراً.
إفلاس حضارة اليوم أكثر ما ينعكس في موضوع الأسرة، حتى أضحى تقسيم العالم إلى (دار الأسرة) و (دار الأفراد) تقسيماً ليس جائراً. الأسرة ومتطلباتها ما زالت راسخة في كل العالم، وستبقى كذا لأنها فطرة مغروسة. وضمن الكتلة الغربية، لها وجود واضح في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تشكلها التاريخي وبسبب كثرة الهجرات إليها. غير أن الثقافة الرائجة وفاعليات الرأسمالية المنفلتة ما زالت تدفع نحو التذرّر ونحو تشكيلٍ اصطناعي للأسرة وكأنها هي مجرد شلّة أفرادٍ تأوي تحت سقف واحد لفترة ما يعتركون مع متاعب التعايش (A bunch of individuals forced to live together for a while struggling to make it). والمجتمع نفسه أصبح مجتمع غرباء مصاب بداء الوحدة، يجري التسابق في التلذّذ والتمتّع، والجنس انقلب فيه صورةً على شاشةٍ متحركةٍ سريعةٍ تصرخ بالألم.
وأخيراً، نشير إلى أنه تمتاز هذه اللحظة التاريخية بأن أعداداً حرجة من المسلمين أضحت تعيش في بلدان الثقافة الغربية، فأصبحت المعرف بتلك البلاد معرفة ذاتية ليست بتلك النمطية التي تتداولها ألسن الناس. والوجود في بلدان الثقافة الغربية مثير بالخصوص، فلقد امتحن المنظومة من داخلها واستنطق الموقف الحقيقي للثقافة اللبرالية. ويمكننا التندّر بذكر محاولات الاستلاب، ومثاله الحديث هو (Hijab Pro) الذي أنتجته شركة (نايكي) وروّجت له بدعاية؛ أي أنه حتى آليات الاستلاب تحتاج إلى مداهنتنا.
خاتمة
الكتابات التي تنذر بتراجع الغرب كثيرة، القديم منها أتى من طرف مؤرخين غربيين موسوعيين بنوا استنتاجاتهم على الحركة التاريخية طويلة الأمد. ومن الطرف الحضاري المقابل ظهرت أطروحاتٌ ذات شأنٍ وعمق ترصد التطورات الحضارية. وكل ذلك جرى في الدوائر الأكاديمية المتخصصة أو من خلال صياغاتٍ فلسفية. لكن ظهرت في الأدبيات الحركية كتاباتٌ انبَنتْ على التمنّي والمناكفة، فجعلت التطرّق إلى هذا الموضوع محلّ شكّ. وفي الفترة المعاصرة ظهرت سجالاتٌ بين علماء غربيين قريبين من دوائر الحكم يقلّبون النظر في مستقبل الحضارة الغربية الأوربية. وفي العرض أعلاه، اعتمدنا على اقتراب التحليل من الواقع والإشارة إلى فاعليات مشهودة في عوالم الاقتصاد والسياسة والحرب والاجتماع والثقافة، وذلك ليتميّز الغثّ عن السمين. وصرفاً لسوء الفهم، نختم بتنبيهاتٍ تشير إلى ما هو غير مقصود وإلى استنتاجاتٍ لم نُردها من هذا العرض.
لا يعني ما تمّ ذكره أن دول الحضارة الأوربية زائلة قريباً، فهي ما زالت وافرة القوى. ولا يعني أنّنا نحن سنكون الورثة بشكلٍ آلي، بل إن غياب (الـمُطالب) هو من أقوى الأسباب التي تُمدّد عمر المنظومة القائمة. كلّ الذي نعنيه أنّ الانكماش النسبي لدول الثقافة الغربية يفتح فرصاً لمن استكمل العدّة أو فكّر باستكمالها. الفهم المتزن هو الذي يستصحب مصفوفتين من حقائق الواقع: المنظومة العالمية برعايتها الأمريكية وخلفيتها الثقافية الأوربية ما زالت تحتفظ لنفسها بكمٍّ هائلٍ من القوى على شتى الصُعد وما زالت تحفل بأسباب الاستمرار والمعرفة المفصّلة في طُرق الرتق والتجبير؛ غير أنه ‑في الوقت نفسه‑ تعاني هذه المنظومة معاناة حقيقية على كل الصُعد أيضاً، وتطورّت إلى حالٍ لا تحسم فيه محاولات الإصلاح مما يجعل قطاعاتٍ من استناداتها عرضةً للذبول والانهيار والشيخوخة والعجز برغم الوفرة والحجم. تصدّؤ المنظومة العالمية أمر واقعٌ مشهود، وتسارع التضارب الداخلي في المنظومة يجعل عجزها العملي أمراً ليس غير واردٍ، ويجعل اختناقاتها القطاعية أمراً محتملاً، ويجعل تراجع فاعليتها أمراً مؤكداً. ويعتمد كل ذلك على مصفوفة أسبابٍ من داخل المنظومة ليس للآخر أثر فيها، وبشكلٍ أقل على مصفوفة أسبابٍ من خارجها يمكن أن تأتي من العالم الذي اعتُبر (متخلّفاً).
إن ما سبق عرضه ليس تنبؤاتٍ وإنما إشارة لكمونات. وقصده ليس تفصيل شروط القيام وإنما النظر في تربة الانبعاث. والكلام ليس عن فرصٍ تُحدّد التدابير والسياسات وإنما عن انزياحاتٍ في التموضع تنبّه الاستراتيجيات. ووعي هذا وعدٌ من الأمة للإنسانية، لأنّ الأمة المسلمة استعادت ذاكرتها.
مازن موفق هاشم
لوس أنجلس
08-12-2017
Tagged: أزمات المنظومة العالمية, التطورات العالمية, استشراف التطورات العالمية, تأزم المنظومة المعاصرة
اترك تعليقًا