الخروج من سجن الدولة الحديثة
الدولة الحديثة تعتدي على المجتمع بطبيعتها ومن خلال مؤسساتها التي يُفترض أنها لازمة لإحكام الإدارة، غير أنها ما تلبث أن تصبح جارحة خانقة كالجنازير التي تحيط برقاب الأحصنة التي تشدّ العربة. وحين تقع هذه الدولة في قبضة “الفرعونية الطاغوتية” تقوم بمحاولة سحق المجتمع، فإذا كانت طائفية أقلوية تقوم ‑إضافة إلى ما سبق‑ بمحاولة محو الثقافة. ولقد اخترنا مصطلح الفرعونية الطاغوتية لأن لفظة “الاستبداد” لا تعبّر عن المعنى المراد تقريره. فالاستبداد هو الانفراد بالرأي في شؤون الأمة. وما تشكو منه بلادنا يفوق ذلك بكثير، إذ يجمع بين عناصر ثلاثة: تحكّم نمط الدولة الحديثة، وتحكّم معاداة طبيعة المجتمع، وتحكّم الحقد على ثقافة المجتمع.
إنّ الثورة العربية هي في عمقها رفض لهذه التحكّمات الثلاث ورفض لتلك الطبقات المتراكمة للظلم الاستئصالي. فلقد أدرك الضمير الجمعي أنه لم يعد للدولة معنى أو وظيفة، فلا هي تعمّق الانتماء بل تحاول استبداله، ولا هي تؤمّن أساسيات الحياة بل تهدرها، ولا هي تحمي المجتمع بل تحلّه، ولا هي تقي الأفراد بل تعتدي عليهم. ومن هنا تجاوزت الثورة حدود مجرّد الإصلاح السياسي.
غير أنه من جهة ثانية، الدولة حقيقةٌ واقعة وجزءٌ من المنظومة العالمية واستمرارٌ لآلياتٍ متداخلة مع المعاش، ولذا فإنها تملك قسطاً من الحاجة الإجرائية بقدر تخلّف البدائل أو ملامح البدائل. وننبّه هنا أنه لا يخفى علينا أنّ الدولة كمهمة إدارية هي ضرورة، وخاصة في عالمنا الحديث. وإذ تدفع ضرورة الحياة وغريزة البقاء إلى نسق معيشة الاكتفاء الذاتي في المحلة الصغيرة، هذا النسق –بصيغته التاريخية– أصبح شبه متعذّرٍ في عالمنا الحديث. وتكمن عند هذه النقطة تحديداً العقبة الكبرى. فهناك توقٌ نحو المحليات الصغرى بعدما اكتسحت الحداثة فضاء الخاص، غير أن فاعليات تلك المحلات غير كافية لمواجهة تحدّيات العالم الحديث. وفي ظلّ غياب بدائل تنظيم سياسي غير متعدّية يُنتج التمسك بالحديث مع غياب الإدارة الراشدة واقعاً متفسّخاً مليئاً بالتناقضات تنهشه أنانيات غريزة البقاء ويدفع فيه سحرة فرعون نحو السافل من الأخلاق.
الفكر الأصيل الذي يمكن أن يكون الإطار المفهوماتي لمستقبلٍ من نوعٍ جديد فكرٌ موجود، وهو متبلورٌ إلى حدٍّ كبير وإن كان غير ناجزٍ من ناحية جاهزيته التطبيقية. والتخلّف عن مساوقة الواقع من جهة، والأسباب الخارجية التي تعوّق تجذَّر الفكر الأصيل وانتشاره من جهة أخرى، يفتحان الباب للبدائل المشوّهة التي نتجت عن مزدوجة تراثٍ متفسّخ ومكرٍ سياسيّ يحاول توظيف الدين. فلا عجب أن طفا في البدائل المطروحة ما هو أكثرها بدائية، النصيّة الحرفية على المستوى الفقهي والانتقامية الداعشية على مستوى الفعل، كظاهرةٍ هامشيةٍ تأخذ في ساعات الأزمات أكبر من حجمها المفترض. ولا يخفى أن الكيد المضاد من الداخل ومجموع المواقف الدولية من الخارج البعيد والضخ الطائفي الإقليمي يدفع نحو طلب مزيدٍ من الحلول الانتقامية.
إن مجتمعاتنا ما زالت عالقةً في ظلماتٍ ثلاث للدولة المهترئة: على صعيد الوظيفة، وعلى صعيد المهمّة، وعلى صعيد انسجامها مع فكرة الاجتماع الذي يُفترض أن تخدمه. فلا مناص من الخروج الكامل الرافض فالإصلاح محالٌ ولا يأتي إلا بسراب. زوايا الحالات الاستثنائية يمكن نظرياً أن تشكّل ملاذاتٍ آمنة نسبياً، ولكن عملياً لا يمكنها أن تحمل لا جملة احتياجات الأمان من قبِل الجيران ولا ارتدادات الخلخلات الإقليمية ولا ضغوط المنظومة الدولية نحو الاستبداد بحجة الاستقرار.
فلا بديل عن إطارٍ سياسيٍ جديد، إطارٍ مناظرٍ لاستنادات الاجتماع المسلم من ناحية، ومقاومٍ لضغوط المنظومة العالمية من ناحية أخرى. وبين صعيد الائتلاف السياسي و صعيد الاجتماع المعاشي، تتحرّك الفاعليات الاقتصادية التي فيها قيام الناس. وهنا لا بدّ من اقتصادٍ محلّي يفي بالضروريات، وشاكلة هذا الاقتصاد مفتقرة إلى فهمٍ نظريٍ من ناحية وإلى خبرةٍ عمليةٍ من ناحية أخرى. وبدون أطرٍ سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة، تعمّ فوضى أنانية حاجة البقاء، وتتآكل أعراف التعايش، وينزلق المجتمع إلى نمط العوز الحداثي على أطراف جزر الغنى الأنانيّ الانفصالي. وغياب الإطار السياسي المناسب واستحالة تعشيقه مع مرتكزات الاجتماع، والعوز الذي يتجاوز مجرد الفقر ويقع في البؤس، هذا الوضع الثلاثي هو الذي يمثّل حال الغثائية.
الغثائية = الانتفاخ الفارغ + تفرّق الفقاعات + الاصطدام لغياب الوجهة
والغثائية ليست خصالاً فردية وليست تعبيراً عن الحال العام للناس، وإنما تمثّل حال مجموع الفعل ومحصّلة جهود الجماعات الفاعلة في المجتمع، وهي تتحرك اليوم في وسطٍ معاصرٍ خاص هو حوضها التي ترتع فيه.
حوض الغثائية الحداثية = انفراط عقد الأعراف الضابطة للسلوك × غياب مالٍ يرقع الترهّل × اقتناص السامريّ أفرداً يخدمون شهوته ومتاعه ونمط حياته.
إذاً هي حالة مركّبة تأخذ بتلابيب الأفراد من جهة وتُضعف أي جهدٍ إصلاحي جمعيٍ من جهة أخرى، حتى يغدو النقض ضرورةً من أجل إعادة البنيان بعيداً عن شفا الجرف الهار.
وفي غياب تمكّن الأطر المتّزنة الذي تجاوزت في آن الارتهان إلى مفرزات الحداثة و الانكماش إلى تراثية متصدأة، لا بدّ من العيش في برزخٍ غير مريح ريثما يكتمل الحساب وتنتهي عملية المفاصلة. المفارقة أن هذا في وجه من الوجوه هو خروجٌ من أسر الدولة إلى أسى الفوضى، حيث لا أمل في الأول وهناك فرصة في الثاني. وطبعاً، الثاني فُرض فرضاً وكان غير ذلك ممكناً، وتحصّل بغير إرادة الثورة بل رغماً عنها فلا يمكن أن تُلام الثورة من أجله.
استدارة التاريخ
اللحظات التاريخية المفصلية في حياة الأمة استدارت لتعود شاخصةً وكأنها ولادة اليوم. ثلاث لحظاتٍ تأخذ بحُجز الفهوم، نذكرها بترتيب قربها الزماني وإن كانت متداخلة.
1- لحظة حطام الدولة العثمانية
لحظة حطام الدولة العثمانية كان لها تبِعات ثلاث ما زالت تطرق أبوابنا على نحوٍ جديد. على الصعيد الهوياتي هي نفرةٌ إلى حبلٍ معصومٍ جامع من جهة وتناثرٌ نحو هويات جزئية ناشزة من جهة ثانية. وعلى الصعيد الضميري ثمة غرقٌ اختياري وتجريف ديمغرافي قسري وهجرات فرارٍ مذعورة. وعلى الصعيد المعاشي ثمة إفلاساتٌ تصيب عزيز القوم و تغني حثالتهم. كلٌ من هذه الثلاثة طبعت لحظة الاستعمار بعد الحطام العثماني وتعود اليوم.
جدال هوية جامعةٍ إسلامية أم هوية عربيةٍ مسلمة أم هوية قوميةٍ عربية أم هوية مواطنةٍ قطرية… هذه الخيارات الأربعة عادت فطفت على السطح. الفرق بين الأمس واليوم هو أن الحيرة اليوم هي في أذهان نخبٍ مقطوعة عن المجتمع فحسب. أما المجتمع/الأمة فقد صوّتت لخيارها في ثورتها وفي صيحتها وتضحيتها: هوية حضارية مسلمة عربية غير منقطعة عن العالم، فالعالم يقبع فينا ونحن نقبع فيه، هو يؤثر فينا ونحن نؤثر فيه.
الحيرة هي نصيب العقلاء/المجانين. التوّجهات العَلْمانية أصبحت اجترارية إلى حدّ الإقياء. التوجّهات الإسلامية تتلاطمها أولويات التنظير المجرّد و التنظير المنزّل. الطيف التجريدي-التنزيلي ينال كل طبقات التفكير الإسلامي، من المفكّر إلى الناشط إلى شاهر السيف.
المفكّرون يراوحون بين نازعين: محاولة صياغة نموذج صافٍ أصيل متّسق تماماً مع الرؤية الكونية الإسلامية وغير مرتهنٍ لماضٍ فات؛ ونازع الذي عينه على الواقع والتحولات الكبرى التي حصلت في حياة البشرية فتستلزم عنده المضاهاةُ من أجل توليد نموذجٍ مركّبٍ مناسبٍ لعصرنا.
الناشطون يتأرجحون بين غارقٍ في النموذج الغالب يرمق من خلاله إمكانية الوصول، وبين من يطلب نموذجاً هجيناً يمكّنه (ويمكّن جماعته) من استمرار العيش في المنظومة العالمية ولو كان عيشاً خديجاً.
شاهرو السيف مُطلقيّون يحلمون بحلٍّ ماضٍ مسلولٍ من غمده تغرُزه سنانُهم في الواقع أَطراً غليظاً، وهم بين ذاك الذي يسِنُّ نصوصه ليُكفِّر بها وينحر نفسه فداء حُلمٍ منسوج، وبين ذاك الذي إذا نبا سيفُه أعاد تفسير نصّه تفسيراً ينزاح أنملة نحو الواقع المفروض ويُبقي إمكانية الارتداد.
وثلاثة هذه التوجهات تعتريها توترات التجريد والتنزيل.
2- لحظة بغداد والقدس
لحظة بغداد و القدس تطرق أبوابنا أيضاً على الصُعد المعاشية والسكانية والثقافية.
حواضر الإسلام التي بناها المسلمون بجهدهم وجهادهم تُدمّر تدميراً… ولا مراء في أنّ المبير المحلّي الذي أَعمَته فرعونيته عن ذاك الذي لا يكاد يُبين هو جزء من المعادلة، وذلك لكي لا نقع في لوم الآخر من غير أن نضطلع بمسؤوليتنا عن ذلك. الفرعونية المحلية و الهرقلية/ القيصرية الخارجية ثنائية متفاعلة تتغذى على بعضها البعض. بلاد الجزيرة العربية بلادٌ فيها مالٌ طافح وفكرٌ غائر في حين أن مصر يتألّق فيها الفكر ولكن يعوزها المال؛ العراق أرض النهرين هي فكر و مال. تهديمها كان ضرورةً في نظر الندّ الحضاري.
القاهرة مقهورة بتسلّط السفلة وعموم الجَدْب، و دمشق مخنوقةٌ بقبضة طائفية، و حمص الوليد تُفرّغ من الأطهار، و الموصل-حلب الخط الاستراتيجي الذي زحف لتحرير القدس تنحره قوى الفجّار، و أولى القبلتين بيدٍ تعادي الأغيار، إلى جانب عصاباتٍ طائفية وقومية تنتقم لتاريخٍ متخيّل…
لحظات بغداد و القدس و طليطلة تخيّم اليوم بثقل ذكراها وبوقع حقيقتها الثلاثية على النفوس: ترهّلٌ داخلي في مراكز إدارة شؤون الأمة، وتداعي الأعداء إلى قصعتها، وتألّب الباطنيين وأشياعهم في داخل الجسم المسلم.
3- لحظات الاغتيال
كان اغتيال عمر من جهة خارجية من عدوّ قديم، ولذا ما كان لهذا الاغتيال أن يؤثر في الاجتماع المسلم. اغتيال عثمان كان من قِبل الغوغاء الذين لم يتربّوا على خلق الإسلام. اغتيال عليّ كان على يد الغلّو الذي يعوزه الفقه. قتل الحسين كان على يد سفهٍ سياسي.
وهكذا تعود لمسلم اليوم خيالاتُ علوج الفرس يغتالون أمير العدل، والغوغاء تغلب أهل الفضل، والخوارج يطعنون يمنة ويسرة يستهدفون ثلاثة الأمراء الذين هم أمل الالتقاء تحت سياسة قادرة. ومن الجهة المقابلة تحوّل قتل الحسين إلى أسطورة عند الشيعة، أسطورة تمّ تفريغ معناها الأولي لتصير تبريراً عصباوياً لا يصطدم ببديهة العقل فحسب بل بأرهف الحسّ الإنساني أيضاً.
ما سبق كان عرضاً سريعاً لثلاث أنواعٍ من اللحظات، وفي كلٍ تتداخل فيها النصوص ومناهج التفكير، والثقافة والسقوف المعرفية، وأصول إدارة الحياة وتنظيم شؤونها، وفاعليات الجيوستراتيجيا الخارجية. وهذه لحظات يستبطن معانيها ودروسها المفترضة جمهورُ الأمة، وهي الآن تعود للمخيلة المسلمة كمسطرة لتفسير أحداثٍ شديدة التراكبية.
المراجعات التاريخية
هناك مراجعات غير إرادية لا تجري في عالم الفكر وحده فحسب، وإنما أيضاً في أرض الواقع وبين عامة الناس. ومن مظاهر هذا بلوغ الشرخ الأول في السياسية المسلمة حدّه الأقصى، وتأزم التعامل مع النصوص العاصمة، وتزاوج بدعةٍ سنية مع أخرى شيعية. وبلوغ أقصى نقاط الحدود هو الذي يعد بالولوج إلى فضاءات جديدة.
1- تأزّم التشيع الطائفي
كيف نفهم قبول الخرافات الدينية في مناخ حداثةٍ مفعمة بالمنطق العملي والعلمي؟ هذا مبحث طويل، ويكفينا هنا الإشارة إلى أن الانفصامية الإدراكية واردةٌ في حياة البشر، وهي تناسب تطرّف الوضعية في الفلسفة العلمية من جهة وثنائية التصوّف والفهم الإشاري من جهة أخرى. نعم، فكرة التشيّع سخيفة باعتبار العقل العلمي اليوم، غير أنه يكفي الشيعي أن يشير إلى الأعماق الفلسفية التي خاض فيها تراثهم لكي لا يشعر بالخزي.
الأهم من ذاك هو أن التشّيع عند قطاع كبير من الشيعة هو عصبية و ذكريات مجتمعية بأغلفة دينية لا أكثر. ويصعب على مَن هو خارج الحيّز الشيعي أن يشعر بمدى جاذبية التجربة الإيرانية كتجربة شيعية: على الصعيد الديني هذه أول مرة في تاريخ التشيّع يكون فيها الإمام نائب الإمام المعصوم قائداً للدولة. وتأكّد شعور الوثوقية عندهم في أنه على الصعيد السياسي نجح هذا الإمام على نحوٍ يمكن أن يحسبه الجاهل من الخوارق غير السننية: دولةٌ عادت النظام العالمي ورعاته، فحاربها وحاصرها، فتماسكت واعتمدت على نفسها، فكسبت مجاملتهم واضطرتهم إلى التحالف معها في النهاية. وهذه النقطة آسرةٌ للمخيال الشيعي.
ورغم ذلك، نزعم أن التنافر بين التشيّع العربي والتشيّع الفارسي قادم. لقد هتف العراقيون الشيعة منذ عقد ونيّف أن العدل الإمامي سيبزغ أخيراً بعد غياب أربعة عشر قرناً من الظلم السنّي والاختفاء الشيعي، وذلك من خلال الديمقراطية الغربية. تبخّر هذا الشعور بعد أن رأوا ما انتهى إليه العراق، وحلّ مكانه تمحورٌ مصلحي طائفي بحت عند شريحة و استمرارٌ للقناعات الخرافية عند شرائح أخرى. ولعله يمكنا افتراض أنّ التحوّل من النشوة الشيعية إلى الإدراك الواقعي بدأ أيضاً بين بعض الشرائح في لبنان على نحوٍ خافت برغم استمرار الولاء (الذي أصبح الخوفُ أحد مبرراته).
التيار الأساسي في تاريخ الأمة سادرٌ طبيعةً ككلّ تيار عريض لا يستفيق إلا عند الضربات المزلزلة. ولقد ولّدت متلازمةُ “خدر الأكثرية/حذر الأقلية” توتراتٍ خطيرة. خَدَرُ الأكثرية يتميّز بتهميش الأقلية حيث تتصرّف الأولى وكأن الثانية غير موجودة، برغم أنّ الشعور الأقلوي شعورٌ طفولي في طبيعته ويحتاج إلى الانتباه المستمر. وعلى صعيد السجل التاريخي يشعر الشيعة بأنّ السنة أهملوا الإسهامات التاريخية لمن هم شيعة فعلاً أو لمن يصنّفهم الشيعةُ أنهم كذا. وتتراوح الإسهامات من الفقه إلى اللغة وإلى العلوم والفلسفة. أما حَذر الأقلية فقد أنتج تقيّةً نفاقيةً ومرواغاتٍ يستحيل معها التفاهم وتنعدم معها الثقة وتبرّر الشكوك من قِبل الآخر وتعزّز الطائفية والخروج من الأمة.
عقدة البطولة عند السنة في أن تاريخهم كان تاريخ انتصاراتٍ وإنجازٍ وحضارةٍ وعلوٍّ وتمكّنٍ وازدهار، تقابلها عقدةُ الضحيّة عند الشيعة. وفي غمرة احتفال السنة ببطولاتهم التاريخية ينسون أن جيوباً شيعية كانت جزأً من (الخلافة). وفي غمرة بكاء الشيعة على ماضي المعاناة والتعقّب، ينسون (1) أن أساطير عذاباتهم لا تثبت عند التحليل التاريخي؛ (2) وأنهم قدّسوا الهامشية وعشقوها؛ (3) وأن فرقاً منهم تماهت مع المذاهب الباطنية.
التعامل مع التشيّع في تاريخنا كان تعاملاً غير ناضجٍ ارتهن إلى السياسة إلى حدٍ غير صحّي. وإذا كان هذا التعامل مفهوماً في مبتدئه من ناحية عموم التحزّب في الحياة السياسية، فإنه أنتج استقطاباتٍ فكرية غير محمودة، مثله مثل الاستقطاب الأشعري-المعتزلي. وفي مراحل التفكّك والاضطراب، انقلبت العلاقات السنية الشيعية إلى علاقات عداءٍ أناني. وفي المرحلة العثمانية-الصفوية خصوصاً تمأسست الفوارق من خلال التبنّي الإمبراطوري للتمذهب عند الطرفين. فتبنّى الصفويون المذهب الإمامي الإثناعشري وأعادوا تشكيله، وتبنّى العثمانيون التصوّف وفرضوا ديوانيةً بيروقراطية على الفقه. ولا يمكننا هنا إلا الاعتراف بصعوبة قبول الأثر الصفوي ووضعه في إطار نسبية تاريخية، لأن انحرافات التشيّع تحت الصفويين تجاوزت الشطط الشيعي وأدخلت في المذهب كماً كبيراً من الشظايا الباطنية وأصبحت جزأً لا يتجزّأ من تشيّعٍ قومي فارسي.
فترة الاستعمار ومحاولات الانفكاك منه كانت مرشّحةً لأن تعيد صياغة العلاقات السنية الشيعية. غير أن الواجهة السياسية للمجتمع كانت واجهة الأكثرية، أي حُكماً محسوبة على السنة، وهي التي قامت ‑في الظاهر‑ بممالأة المستعمر. الشيعة يكفيهم الرفض من بعيد لأنهم (أقلية) معذورة، وهي في خطابها لنفسها تشعر أنها كانت دوماً ضد الظلم سواء استطاعت إظهار ذلك أم لا؛ أي أن ضميرها يوهمها أنها مبرّأة من الخيانة والتخاذل، وما يحصل منه على نحوٍ أو آخر يجري تبريره بأنه خوف من الانكشاف والإبادة لأنهم أقلية غير قادرة وغير مسيطرة. ولا يخفى أن التخاذل (السنّي) في وجه المستعمر حين حصل ما كان إلا على الهامش عجزاً لحظياً تُصاب به الأكثرية لافتقادها عصبية ناجزة، وإلا فالسنة كانوا باستمرار مطّردٍ في مقدمة قوى مقارعة المستعمر من المحيط إلى الخليج في السياق العربي ومن المحيط إلى المحيط في سياق البلدان المسلمة قاطبة.
وعلى صعيد الفقه في الفترة المعاصرة، كانت فكرة التقريب المذهبي من الطقوس الفارغة والمضرّة، فهي لا تحتضن في داخلها فهم الآخر. والتصريحات باسم السنة ليست مفيدة ولا هي وازنة موزونة ولا تنمّ عن فهم الواقع ولا عن فهم التاريخ.
فإذا انتقلنا من البنى الفكرية والضميرية إلى الخطط الإدارية، نستطيع ملاحظة أن فترة ما بعد الاستعمار وضعت المسارات الإيرانية والتركية والمصرية على سككٍ مختلفة. تركيا إمبراطورية تقلّصت ولم تنهار، فانغلقت على نفسها قوميةً طورانية وتبنّت مسار التحديث؛ أي أن ثمة درجة انسجامٍ داخلي في هذا المشروع برغم تصادمه الثقافي. مصر كانت قد وضعتها تجربة محمد عليّ على سكّة تحديثٍ منذ زمن مبكّر، وهو التحديث الذي انقلب تغريباً على أيدي النخب المسلمة والنخب غير المسلمة المستوردة من بلاد الشام. ومن المهمّ أن نضع تجربة التحديث في مصر ضمن سياقيها الثقافي والجيوسياسي، حيث أنهما يتضاربان مع التحديث الجدّي، بغضّ النظر عمّا ينبغي أن يقال في أصل فكرة التحديث وفي إشكاليتها. السياق الثقافي للتحديث في مصر يشير إلى إشكال القومية، حيث أن القومية مستحيلة في حق العرب لأنها لو تحقّقت لاعتدت على الإسلام وعالميته. السياق الجيوسياسي لمصر كان ثنائياً عام وخاص: العام يتعلّق بموضع مصر من البلدان العربية الأخرى، والخاص يتعلّق بإنشاء دولة إسرائيل.
ومن بين الدول الإقليمية الثلاث المهمة، إيران كانت أقلّها تعرّضاً لمشاريع التحديث، وإن غلب عليها وجه العَلمنة الثقافية. وكبلدٍ فيه موارد ريعية، تمتّعت إيران بتخلّفٍ تنموي كان في صالح تحقيق درجةٍ من الاستقلالية. ومن ناحية أخرى، وفّرت المرحلة القاجارية فترة تدريبٍ للنخب الدينية على أمور السياسة. الضغوط الاستعمارية من جهة، ومن جهة أخرى البهائية المصادمة مباشرة للإسلام في الأسرة البهلوية (وليس الالتفاف من خلال المؤسسات الدينية والرموز كما هو في الحالة السنية)، شكّلت نسق الظهور الإيراني في فترة ما بعد الاستعمار.
الثورة الإيرانية كانت حدثاً بارزاً في التاريخ العالمي المعاصر، وحدثاً عظيماً في منطقة الجوار المشرقي. ولقد تفاعلت الجماعات الحركية السنّية ضميرياً تفاعلاً إيجابياً مع الثورة الإيرانية. ولم يكن هذا غفلةً في لحظته كما يحلو للبعض أن يتصوّره، وإنما هو التزام بالمبدأ، فلطالما مثّلت المواقف السنية حاضنة للتنوع في الأمة، مواقف انفتاحٍ واستيعاب يعيدان النشوز والشذوذ إلى جادّة الصواب ضمن ساحة المقبول اجتهاداً. أما كيف تطوّر التفاعل مع الثورة الإيرانية بعد ذلك فهو أمرٌ آخر يحتاج إلى تفصيل ليس هنا مقامه.
وُلدت إيران الجديدة من ائتلاف قوى ثورية، وتنازعتها توجّهاتٌ عدة: دينية تقليدية، وإسلامية منفتحة تتطلّع نحو تجديد الفهم الشيعي، وإسلامية يسارية، وأخرى مصلحية… وكان ثمة سجال بين هذه التوجهات في محاولة الإمساك بدفة الدولة الثورية الجديدة. وباعتبار التراكمات التاريخية للتشيّع وشعور المظلومية، وباعتبار اعتماد الثورات على المزاج الشعبي العام، وباعتبار امتلاك النخبة الدينية الإمامية مقدرة مالية واجبة في المذهب، وباعتبار التديّن السطحي للأرياف الذي رفعت الثورة من شأنها، وباعتبار الرفض العالمي لدولةٍ بهذا الوزن أن تحاول الفرار من الطوق الأوربي لفترة ما بعد الاستعمار… لهذه الاعتبارات كانت شريحة المرجعية الدينية التقليدية الأقدر على الإمساك بالشارع، فاضطرت باقي القوى الرضى بها والتعامل معها. كما دخلت المرجعية الدينية في سلسلة تجاذباتٍ فيما بينها على خط التشدّد والواقعية.
واكتمل تصدّر المرجعية الشيعية من خلال مواجهةٍ مع عدوٍ خارجي هو في المخيال الشيعي عدوٍ تاريخي لا يفتأ محاولة قتل الصفوة الطاهرة. كان لحرب البلدان العربية للثورة (بقيادة العراق ورعاية دولية) أثرين كبيرين على إيران والتشيع: (1) في داخل إيران وفي الحقل الشيعي عامة نحّى لهيبُ المعركة العقلاء من أصحاب الجماعات الحركية لصالح الخطاب الغيبي للنخبة الدينية الشيعية؛ (2) ابتلعت الحرب كل موجبات التقارب السياسي بين إيران والبلدان العربية، تقارب من باب كونها جميعاً من دول الجنوب (أي لا نتكلّم هنا عن تقارب مذاهب)؛ (3) أعادت ترسيخ العداوة للعرب من قِبل الفرس (حيث اعتُبرت الحرب حرب الشعوب العربية وليس الأنظمة).
عندما انقدح الربيع العربي كانت إيران قد استثمرت في مشروعها أكثر من ثلاثين سنة. وهو مشروع انفرادي واثق بنفسه إلى حدّ الاستكبار القومي زيادة على الاستعلاء الطائفي والوثوق الغيبي. كان بإمكان إيران أن تصوغ لنفسها دوراً بويهياً تدعم فيه مسيرة التحرر العربي وتساهم في ديناميات وصيرورة خماسية تتجاوز إيران ولا تضرّها بل تفيدها حيث أن مناصرة الثورة العربية: (1) يتناقص فيها الوزن الإسرائيلي تناقصاً كبيراً جداً؛ (2) وتُحاصَر أوربة بما في ذلك تحجيم روسيا؛ (3) وتعجز الولايات المتحدة الأمريكية بسبب حجم التحدي، فتضطر أن تتعامل مع الظهور المسلم الشامل ببراغماتية مشابهة لبراغماتية التعامل مع الصين؛ (4) ويتعاظم تضارب المصالح الأوربية الأمريكية حيث تضطر الأولى للتعامل مع جيرانها تعاملاً فيه قدر من الندّية؛ (5) وتساهم في زيادة ثقل الكتلة العالم ثالثيّة لا يقف عند حدّ اللاانحيازية بل يكون له دور رائد.
كان التجاوب العربي الفارسي خياراً ممكناً للمنطقة ‑وليس محض خيالٍ‑ يربح فيه الاثنان معاً. ولكن التطورات الداخلية للمذهب هتكت هذا الأفق التحرّري، فلقد شعر الشيعة أنّ حلمهم الخرافي قد تحقّق وأصبح في أعينهم حقيقة شاخصة: لقد وصل نوّاب الإمام إلى السلطة يتأهّبون لحكم العالم المسلم بأسره تحت إمبراطورية مقدّسة جديدة. فقاد سوءُ الفهم سوءَ العمل و طوباوية الرؤية إلى لا أخلاقية السلوك. وكانت إيران في تلك الصورة المفترضة ستبقى هي والتشيّعَ طرفاً وجزأً من العالم المسلم. غير أنّ ذلك ما كان ليرضي الغرور الشيعي الذي تنامت قوميّته الفارسية منذ الصفويين، برغم أن هذا الخيار هو أدوم وأكثر سلاماً وأرغد عيشاً لهم ولغيرهم.
مآل التشّيع يدفع باتجاه عَلْمانيةٍ بعدما وُضعت الإمامة الغيبية في ضوء الشمس، وبعدما تأزّم وعدُها الألفيّ في حكم الأرض بأسرها، وبعدما ظهرت بشريّتُها شجعاً ونهباً للمال العام. فما هو المتوقع بعد الآلام الشيعية المنتظرة وخيبة الأمل المدمّرة في النهاية؟ احتمال أن يدفع ذلك نحو التجديد الداخلي والمراجعة احتمالٌ قليل، لأن اللوم سوف يتوجّه نحو السنّة الذين يختزلونهم في جماعات الغلوّ. الأغلب أنه سوف يدفع التراجع الشيعي أو الاستعصاء الإيراني نحو تديّن نموذجٍ فاطمي متصالح مع ثقافة ما بعد الحداثة. والتطورات داخل التشيّع سوف تعتمد جزئياً على ردّ الفعل السنّي، ويصعب تخيّل كرمٍ سنيّ اليوم يشكل محضن تعافٍ من العقد الشيعية الألفية، على الأقل الفارسية منها في حين أن ذلك وارد تجاه التشيّع العربي.
2- تأزم التسلّف المغلوط
لصعود التيار السلفي سياق ليس له علاقة مباشرة بإيران أو التشيع، حيث أنه يمثّل استجابة إلى تطوراتٍ داخلية في الجبهة السنية. ولا مراء في أن البترودولار والتحديث السريع في الجزيرة العربية كان حاملاً لوهابيةٍ تتماهى مع السلفية. المنطق الثنائي الحادّ منطق يدفع نحو إما التعايش مع الحداثة أو مناطحتها. والنسق الوهابي في التعايش مشابه للنسق الصوفي من ناحية الرضى العقلي والتخالف السلوكي، فهو تعايش السباب في الحالة الوهابية مقابل تعايش الشفقة في الحالة الصوفية.
المنطق الثنائي عند التوجه الحرفي الذي يحسب نفسه سلفياً يدفع نحو نوعٍ من فصل الدين عن الحياة. فحيث صِير إلى محاصرة النصّ ورفض تألّقه الإشعاعي، سوف يعجر النص (ظاهرياً) عن الاستجابة للواقع، فيُترك الواقع ليسير على سكة الغلبة العالمية وتنكفئ الممارسة المسلمة إلى جحرين لضبّين: جُحر الاستهلاك الحداثي (الحلال)، وجُحر التنقير الفقهي الذي يُشعر بتطهير الأعمال.
بعد الثورة العربية كانت الخطاب السلفي هو وحده الخطاب الناجز. خطاب الحركات الإسلامية كان قد وضع للجهاد شروطاً تعجيزية تشبه الشروط التعجيزية للاجتهاد. وبرغم سجلٍ من المحن ونية المقارعة، رَكَن أخيراً إلى حِكمة المسايرة والسلامة.
خروج السلفية الوهابية خارج عزلة صحراء الجزيرة يهذّبها تدريجياً، وخاصة في رحاب الأرض المباركة، وإن كان ذاك بثمن باهظ. تراجع قوة ومكانة الراعي السياسي عاملٌ آخر، وإذا تفجّر داخلياً فسيكون مطهّراً إضافياً للوهابية خصوصاً وللسلفية بكل أطيافها بشكل عام. ويزيل هذا عائقاً في وجه استرداد النسق الحضاري المسلم الذي حفل بالتنوّع الداخلي، سواء في أنواع الفلسفات أو في أنواع مذاهب الفقه أو في أنواع مسلك تهذيب النفس أو في أنواع العادات وأنماط الحياة.
3- تزاوج البدعة الخارجية مع البدعة الشيعية
وراء ظهور فرق الغلوّ أسبابٌ موضوعية. فتراكمات العسف الروسي في الشيشان والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان والسلوك الإسرائيلي قي قلب البلاد العربية، إضافة إلى دعم الأقليات بأجندات تجزيئية والاختراق الطائفي والموقف من الثورات العربية… كل هذه جملة واسعة من الأسباب الموضوعية التي تفرز الغلّو. وتحتاج حركة الغلوّ ‑كأي حركة اجتماعية سياسية‑ إلى إيديولوجيا، وهذا الذي سنلمح إليه سريعاً لرسم طبيعة إيديولوجيا الغلوّ في سياق الطرح الديني الشائع.
إذا أنعمنا النظر في كل من التوجه السياسي الشيعي في مبتدئه والتوجه الذي تزعّمه الخوارج، لوجدنا أنهما يشتركان في العناصر التالية: (1) خيبة أملٍ مريرة من عدم انتظام الواقع مع المثال المرجو؛ (2) واستعداد كامل للتضحية؛ (3) والبحث عن نصٍ عاصمٍ قاطعٍ يعفي نفسه من عناء الاجتهاد التي تقتضيه النسبيّة الموضوعية لحياة البشر.
المصيبة الكبرى في زمننا هذا هو التزاوج الذي حصل بين هاتين البدعتين في التعامل مع النسبيّ، وهو حقل السياسة.
فالمضمون الخارجي في تفكير طائفة الغلوّ لم يكتفِ بحرفيةٍ ظاهريةٍ عدوانيةٍ جاهلةٍ، بل أضفى على خياره السياسي الغيبية التي يُلصقها التشيّعُ الاثنا عشري بالإمام المعصوم الذي لا يصح إيمانٌ بلا الإقرار بمرجعيّته. وبدل أن يجري تفهّم نسبية الممارسة السياسية والجهادية، جُعلت هذه الممارسة مطلقاً مُنحلاً في دولةٍ متخَيّلة وأمير حربٍ يقتنص خلافةً مفترضة. وكذلك فإن طرح التشيع الفارسي المعاصر، برغم أنه أكثر تعقيداً بكثير من بَوار الفكر الخارجي (الخوارجي)، فإنه لم يكتفِ بتدليسٍ عدوانيٍ متجاهل، بل أضفى القدسيّة الدينيّة على المشروع الإمبراطوريّ الفارسي. وهكذا انغمس كلٌ من هذين الفريقين بأعمال قتلٍ وإفسادٍ في الأرض مما لا يقبله مبدأٌ خلقيٌ ناهيك عن دينٍ خاتم، تعلّقاً بفكرة صحّة العمل إذا كان يخدم غيباً سياسياً ويقوّي الفرقة الناجية الوحيدة.
بقي أن نقول أنّه تسرّب إلى الفكرتين أعلاه المفهوم الحداثي للدولة، وقداسة الدولة والتراب، مما جعل هذا الضرب من الفكر السياسي أبعد ما يكون عن الشاكلة الإسلامية.
4- هوية سنية أم استعادة للأمة
تشعر جموع السنّة أنه غُدر بهم. فالتعايش بين السنة والشيعة مشهودٌ له في سورية والعراق، وكذا في لبنان وإن كانت الصيغة الطائفية للسياسة اللبنانية تعكّر هذه الصورة. ولذلك ليس غريباً أن يُصدم (السنة) بمواقف الشيعة العرب الذين اصطفوا مع إيران.
الاستيطار الشيعي أعطى (السنّة) ما يلزمهم. العصبية للأقليات أمر يسير التحصيل بينما هي عسيرة للأكثرية. تكتنف الضمير الشيعي مشاعر ظلمٍ تاريخي طويل، وهو ظلم ديني مليء بالمعاني الغيبية التي لا تحتاج إلى تفسير أو برهان. أما ما يشار إليه بالسنة فلا يتجاوز كونه رابطة مرنة وإطارٍ جامعٍ مفتوح، وهو يعوزه التعصّب تعريفاً ويصعب عليه –هيكلياً وبسبب الحجم الكبير– تطوير عصبية صلدة. تنكّب الشيعة للمجتمعات الكبيرة التي يعيشون فيها حفز في السنة شعور الغيريّة، بمعنى أن غيرنا الشيعي هو حقاً ليس من طينتنا، وأننا نعجب من عقده التاريخية وتأصّل كُرهه لنا، وأنه لم يكن يوماً منّا ولا جزأ من حضارتنا، وأنه كان دوماً وبلا أي سبب سياسي خائناً مناصراً لعدونا، وأنه هو الذي تماهى مع الفرق الباطنية فاستحقّ التكفير؛ وكل هذا يلخّصه استساغة إطلاق وصف المجوس على الإيرانيين.
غير أنّ رفع هوية سنية تحديداً ما هو إلا مضاهاة لا داعي لها. فليس من اسمٍ أو وصفٍ نخلعه على أنفسنا أقوم من أننا مسلمين. مسلمون وكفى، وأي تقليصٍ لهذا العموم هو إجحاف بهويتنا. هذه الهوية سنّية بمعنى اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتمسّك بكليّات الدين. والتمسّك بالكلّيات يسع التأقلمات الجانبية التي هي من طبيعة مسيرة التديّن في حياة الإنسان الضعيف. هوية الأمة هي الأوسع والأجمع، وهي التي تعكس معنى الوسطية. ومحاولة التأكيد على الهوية السنّية تختزل صورتنا الى فرقة؛ والفرقة مهما كبرت تبقى فرقة. إنه ينبغي علينا أن لا نتخلّى عن موضع الأصل المتصدّر الذي يمثله السنّة كحاضنٍ للأمة بكل ألوانها. ومحذور إطلاق مصطلحٍ مخصوصٍ أصغر من الإسلام يدفع ‑مع مرّ الزمان‑ إلى الارتكاس الى فئوية ضيقة، أو يدفع الى رغبة المبارزة في معارك جانبية داخلية تصرف عن الواجبات الكبرى.
Tagged: المشرق_العربي, النفوذ الإيراني, التغيير السياسي, الثقافة العربية, الثورة العربية, الدولة الإسلامية, الدولة العثمانية, الربيع العربي, الشيعة-التشيع
اترك تعليقًا