الثورة وملامح التغيير الحضاري-1

مقدمة

هي ثورة العزة والكرامة و التوق إلى العدل والحرية. هكذا تؤكد حناجر الثورة وتعليقات ناشطيها وحديثهم لأنفسهم في خاصة أمرهم. وهذا سرّ الإقدام والثبات والتصميم. ويبقى السؤال فيما إذا كان في هذا مؤشرات تغيير حضاري أم أنه كذا شعور طافٍ وتعايش أثيري. وفي أي محاولةٍ للكتابة يسأل المرء نفسه كيف لا نقع في التفكير الرغائبي انعكاساً للآلام والأثمان، وكيف نبيّن الرؤيا محجّةً بيضاء حتى لا تطوينا عجلة الزمن وصروف الزمان. ولعل الأجوبة هي تحت الأنامل تحول بديهيتُها عن صياغتها صياغة نظرية محكمة. 

وحين نتكلّم في الصعيد حضاري، هناك خطر أن نضيع في شعاب هذا الفضاء التحليلي الفسيح، فنصفه جملةً ونعجز عن وصفه تفصيلاً بأبعاده المتعاضدة. وثمة خطر آخر، أن تدعو سعة هذا الأمر إلى الركون إلى أمل التراكم الزماني لا يلبث أن تمحوه أمواجٌ جديدة من التحدّيات. فكيف نمسك بما هو طويل الأمد بطبيعته فنرقُمه رقماً خفيفاً كي نستطيع التقاط أطرافه، فنستثمر انعكاساته اللحظية قصداً للسبيل ومساهمةً في توجيهها نحوه، تاركين لتدفّقه الهادر –الذي لا يمكن التنبؤ به حتماً ولا التحكّم بمساراته قطعاً– أن يفتح نوافذ جديدة ويُنشئ خلقاً مستأنفاً.

التحدّي هو أن يسبر تحليلُنا الظاهرة في أعماقها متجاوزاً لقشرتها، وأن لا تشغله تعرّجات الغلاف وتعفّنات السطح عمّا يختمر في الأعماق. والمطلوب هو إدراك أن التخلية شرط ضروري قبل التحلية، وأنّ الانهدامات هي جزء من صيرورة الخروج ما دامت براعم البدائل لا تبغي العبثية لا تنظيراً ولا فعلاً.

والكلام هنا عن ثورةٍ بعينها، هي ثورة لسان العرب وأهله وبلاده بعد قرن من الزمان طُبع بالحيرة والتجريب والاستعارة والتقليد. قرن تتطلّع فيه حضارة المسلمين إلى عودة أصيلة، وهذه العودة مفتقرة ضرورةً إلى ذاك اللسان الذي يسمح بالاتصال بمنبع الإلهام ومنارة هداية الفكر والعمل. وبرغم أنه ما كان لجهود التجديد الحضاري الأصيل أن تنعدم في أي حقبة زمنية، لكن الجديد في ثورة هذه الأيام هو المدى الذي أخذته حوافز التغيير على صُعدٍ متعددة شاملة للجغرافية والشرائح العُمرية وطبقات المجتمع. الثورة العربية بفصائلها المختلفة في عدة بلدان ‑أو قل ثورة العروبة التي خلعت جاهليتها‑ وجدت نفسها ثانية في قلب خطاب الإسلام… هذه الثورة هي حديثنا في هذا المقال، نحاول سبر أعماقها مدركين في آنٍ أوجه القصور وكمون المستقبل، ونتلمّس من خلال فاعلياتها ملامح تغيير حضاري نُسلّم بأنه جزء من قدر الأمة.

الكشف والانكشاف

لا بدّ من تذكير أنفسنا بأن الثورة العربية كانت كاشفة فاضحة… كشفت العوار والنقص و فضحت الخَوَر والخيانة. ولا نذكر ذلك على سبيل التشفّي ومنابذة الفرقاء، ولا على سبيل التشاؤم الذي ينحر الذات ويتّخذ ظهور العيوب دليلاً على الفساد الجوهري. وإنما نذكر ذلك من أوجه ثلاثة: الأول هو أن هذا الادراك العمومي ما كان ليتحقّق من خلال جهدٍ توعويٍ منظّم مهما بلغ. الثاني هو التواقت، فلم يتمّ انكشاف الأمور على حقيقتها في حقلٍ واحدٍ من حقول الحياة، بل كان شاملاً لمعظم أوجهها. الثالث هو إدراك أن زوال الخبث مطلوبٌ قبل إحلال النافع، بمعنى أن جهود الإصلاح الجمّة التي استعصت الاستفادة منها تحتاج انكشاف الجرح من أجل تقبّلٍ أفضل للدواء ورمي المخلّفات المعيقة.

وقد يقال كيف هذا والفضاء العام حافل بالاختلاط والتنابز. ونحن نرى هذا من نزعات المرض وقساوة المعاناة. ودوماً هناك أفراد هَمَل لا يصلحون لشيء، والمعتبر هنا هو الحال العام. والانكشاف والفضيحة في الملأ لا تنفي أنّ الذي يعاني توترات الصدمة ما زال عاجزاً عن التصويب الدقيق لسببين: لأن بدائل المستقبل هي ملامح فحسب وليست خططاً يركن إليها المكلوم؛ ولأن صيرورة الكشف والفضيحة لم تبلغ مداها وإن ظهر جلّها.

وهكذا ما زلنا نعيش حال انهداماتٍ متتابعة لكلّ قعر نصل إليه، فتزيد في التبيين وتخلع حُجباً عن مواطن الخلل. وما دام التغيير غير منحصر في محلةٍ أو مِصر، فإن توالي الانكشاف شيءٌ طبيعي، فما توافرت له عوامل السقوط في بقعةٍ قد تتخلّف عوامل سقوطه في بقعة أخرى إلى حين.

ومجمل هذا، وبعد انسداد كل آفاق الإصلاح، المتدرّج منها والجازم و الجذري منها والانتقائي، أصبحت الخساراتُ الظاهرية ضروراتٍ عمليةٍ استراتيجية.

ترهّل الإيديولوجيات الإسلامية

إذا اعتبرنا أن الإيديولوجيات هي اختزال لا مناص منه عند النزول إلى السياسي، تأزّم الإيديولوجيات يمكن أن يأكل المحضن الفلسفي. غير أن هذا يحدث فقط إذا كنا نتحرك في مستوى أحادي. أما لأمة ثلاثية الأبعاد فتأزّم الإديولوجيا يدفع نحو المَنبت الأصل. وثلاثة أبعاد الأمة هي: (1) الواقع البشري الحاضر الشاخص عدداً (ربع سكان الأرض، والثلث هو نقطة تحوّل) والشاخص اتساعاً، فيدخل في أي معادلة على وجه الأرض؛ (2) الحقيقة العالمية الواسعة الذي تعيشيه مجتمعاتٌ ترى نفسها أنها مسلمة هويةً وقيماً وأعرافاً؛ (3) العمق التاريخي الذي تستغفر فيه الأمة لنفسها في الحاضر ولنفسها في الماضي، تعتبر العزَّ بن السلام عزّها وخيبةَ ملوك الطوائف خيبتها، ناهيك عن حبّ رسولها سيرةً وقدوةً ما زالت متألّقة لا تشبع من تكرار ذكرها.

وعلينا أن نُبرّد من غضبتنا من إيديولوجيات الحركات –المنغلقة منها والمنفتحة– وأن نعتبرها ظاهرةً طبيعية. غير أن المعوّل عليه هو الخروج من شرانق هذه الإديولوجيات خروجاً لا تطول فيه لافاعليةُ فترةِ خيبة الأمل ولا تستحكم فيه وسوسةُ مراجعاتٍ لا تنتهي وتصبح هدفاً بذاتها. الخروج من أسر الإيديولجيات كإطار –بغض النظر عن درجة صوابها– يمكن أن يُدخل الناس في متاهات اللاأدرية. ولكن ما دام هناك قرآنٌ حيّ تستغيث به الجموع، فالتيه احتمالٌ فحسب ما لم يبتعد عن حبل الله، والتيه يحدث عندما ينتج عن انفراطِ العقد ارتكاسٌ تشاؤمي أو إخلادٌ فردي.

وينفع أن نسرد بعض طبقات الإيديولوجيات التي تزعزعت فتساقطت لبناتها، تتنازعها ممانعاتُ التغيير من الداخل و قوى التحدّي المنافس من الخارج، إلى جانب صعوبة الإنبات الجديد.

1-    الجماعات الكبرى شمولية الطرح

خطاب الجماعات الكبرى كان له الفضل الأكبر في إخراج الفعل الإسلامي واهتماماته من حِلَق العلم وخلوات الصوامع إلى الحيّز المجتمعي الكبير بما في ذلك السياسي، ووازى خطابُ الجماعات خطابَ مفكرين ومصلحين مستقلّين غادروا محدودية اقتصار الاهتمام على المدرسي أو الروحي. وكان طرح المفكرين أعمق في حين أن طرح الجماعات أفعل.

غير أن شمولية برامج الجماعات الكبرى أوصلها التكامل إلى التآكل. وحيث أن هذه الجماعات كانت رداً طبيعياً يمتلك قدراً من النضج سابق للأقران في حقبة الاستعمار، فإنها تكلّست وأضحت في حال ما بعد الاستعمار –في بعض أوجهها على الأقل– أحفورةً متقدّدة. وإذ يمكن أن يبعث سمتُ هذه الجماعات شعور العزّة من أن الأمة لم تقف مكتوفة الأيدي وقامت ما بوسعها، لكن لم يعد ممكناً اتخاذها مركباً للخوض في لجّة المستقبل. هذا الإدراك يكاد يكون عاماً، والدفاع عن الماضي هو عجزٌ عن اقتحام المستقبل أو خمولُ اعتيادٍ وطول ممارسةٍ أكثر من رضى بما هو موجود.

لا بد أن تدرك الجماعات أن عقلية التبرير ينتج عنها ما لا يصدّقه حتى بعض من هو داخلها ناهيك عمّن هو خارجها، وأن تدرك أن الواقع أكبر منها لا يمكن أن تحيط به منفردة، وأن استيعاب الواقع لا فرار منه، وأن الإجابات الغيبية تُغيّب الحلول، وأن الفهم الرغبوي يمهّد للكارثة.

انفراط العقد بشكل مفاجئ ينتج عنه ثلاثة مخرجات: 

أ)  نفورٌ حركيّ يوجّه أصحابه نحو مشاريع مخصوصة مبدعة أو شخصانية.

ب) نوى حركية متعدّدة تتشكل مع الزمن على شكل مشروع عملي أنضج وأقوم.

ج) هياكل قديمة خاوية غير قادرة على الإنجاز، معرّضة إلى أن تتحوّل إلى مكامن إعاقة يجري استغلالها من الخارج ككوابح دون خروج البدائل.

ومن الطبيعي هنا أن يتفعّل القانون الثنائي: الزبد يتبدّد وما ينفع يبقى. الجماعات في أصل فكرتها خروج عن النسق الفكري-الواقعي الذي فرضته فترة ما بعد الاستعمار. وها هي كثير من الجماعات لم تقف عند حدّ تبنّي قوالب الحداثة (بعد شيء من التعديل) بل استبطنت عناصر من نمطها السياسي على مستوى النموذج والفكر (ولفّقت فيما بدا فيه مصادمة صريحة)، فغلب الزبد على النفع فأحالت نفسها إلى الهوامش التي لا بدّ للأمة القائمة أن تتجاوزها.

والنتيجة النهائية لانهيار الأطر التنظيمية هي تحرير طاقاتٍ من جهة، وحفزٌ على الإبداع والتجريب من جهة ثانية. ويبرز هنا تحدّي الوجهة، فبقدر ما تستطيع الجهود الجديدة أن تستقيم على صراطٍ صلُحت قبلتُه بقدر ما يتبع ذلك رشدٌ في التوجّه يعتمد إنجازُه على ضبط الوسائل؛ وبقدر ما تعجز الجهود الجديدة عن تجذير نفسها برؤى تأسيسية بقدر ما تستمرّ عملية انهدام الحُجب التي تمنع نور الحق من السطوع.

2- التوجهات النصية

التوجهات النصية تشمل المذهبية المدرسية و المذهبية الفردية (= السلفية). وهي تعتزّ بما عندها من تراث الأجيال السابقة للأمة ومَن تعتبرهم قدواتٍ وقِمم. وتتراوح رؤاهم في التعامل مع الواقع الجديد بين حدّي التنقيب و التخريج. الأول مفاده أنّ الموروث الفقهي عنده الإجابات الكاملة وليس علينا إلا البحث عنها مشابهةً ومقايسة. أما مفاد الثاني فهو أنّ الموروث الفقهي عنده قدرة الإجابة، غير أنّ علينا تطويره تخريجاً على القديم. ومن شدّة التمسك بالموروث، يصعب على هذه التوجهات إدراك انّ جلّ ما في التراث غير قادر على الإجابة على معضلات زماننا، ويغيب عن الأذهان أن التغيرات التي حصلت هي تغيرات نوعية، وأنه لا بدّ من تطوير جديدٍ مستند إلى الأصلين وإن استأنس بالرصيد التراثي.

واقع الثورات فاجأ الجمود المذهبي المدرسي والجنوح المذهبي الفردي. فهرع كلٌّ منهما إلى استخراج أقوالٍ من المسطور في كتب الأولين وفق طريقته الخاصة. غير أنّ أجوبة الأقدمين كانت عن سلطات حكمٍ مسلمة ‑قصّرت ما قصّرت وظَلمت ما ظلمت‑ وليس عن سلطات حكمٍ طاغوتية تعادي الأمة وثقافتها وتاريخها، وتحاول اجتثاث هويتها. فكم في اعتبار الديكتاتورية الطاغوتية الحديثة أنها “صيال” من اختزال وسوء فهمٍ للواقع العالمي الحداثي، وكم فيه لمز لتاريخ الأمة أيضاً. وهكذا أخفقت مدارس النخب العلمائية من الطرفين في إعطاء أجوبة شافية، وربما تراشقا ‑سرّاً أو جهراً‑ تُهم المسؤولية عمّا يحدث. مشكلة هذين التوجهين أنهما لا يعطون مفهوم الزمن حقه من التفكير. فحين واجههم السياسي في صيغة الثورات العربية ‑وهو الحال الأكثر تعلّقاً بسياقٍ حاضرٍ وزمانٍ حاضرٍ تتضاءلت فيه فائدة الأجوبة التاريخية‑ انكشف قصور هذين التوجهين أيما انكشاف. وظهر لبديهة وسطيّ الناس أن المنطق المذهبي المدرسيّ يقترب من منطق التبرير الانهزامي، وأنّ المنطق السلفي العام يفتح باب الانزلاق في منطق الغلو الانتقامي.

وتعاني هذه التوجهات نوعاً من حال “التنافر المعرفي”. فمن جهة، هي واثقة وثوقاً تماماً بأن ما عندها من تراكم تراثي عنده الأجوبة الناجزة، ومن جهة أخرى تشعر في قرارة نفسها عجزها عن تقديم أجوبة شافية.

وإذ تغضب هذه التوجهات من الواقع الذي فاجأها بما ليس عندها له أجوبة (رغم تأكيدها عكس ذلك)، فإنها تقع تحت ضغطين: واحدٌ باتجاه التجديد الفكري الداخلي فتدفع نفسها نحو ذلك بأقصى قدرٍ تسمح له مناهجها، وسيكون محدوداً حُكماً ولكن محموداً من ناحية أثره العام؛ الضغط الآخر يتجه نحو التعامل مع الواقع بجدّية أكبر، وهذا مما يوسّع ساحة الفهم ويدفع نحو المراجعات. ويغلب الواقعُ المتحرّك سكونيةَ التقعيد، فتهرع المذهبية المدرسية إلى الأصول والمقاصد، وتقفز المذهبية الفردية إلى نصوصٍ جديدة لم تكن في حيّز اعتبارها.

ومن الطبيعي هنا أن يتفعّل القانون الثنائي: الزبد يتبدّد وما ينفع يبقى. التوجّهان المذهبيان ينقلبان إلى أسر انسحابٍ واعتذارية أو غلوٍّ وانغلاقية. الإخفاق في معالجة الواقع إخفاقاً مريعاً يشهد عليه انفضاض التلامذة من جهة وبروز شكوك الإلحاد واللأدرية عند بعض العامة من جهة أخرى. وهكذا يغلب الزبد على النفع في حال الموقّعين عن رب العالمين فيجري تفعيل الأصلين ثانية لتستمرّ مسيرة الأمة التي كُتبت لها الغلبة.

النتيجة هو اتساع الحقل وتهويته ورمي المتآكل، برغم أن كل ذلك يحصل في إطار محدودٍ لا يفي بتمام الحاجة. وإذ يقصر عن الوفاء بكل ما يلزم، فإنه بارتقائه درجة يخفف المعوّقات السالبة. ولا يشمل ما ذكرناه هنا علماء السلطان ولا تجار الفتاوى فأمرهم مفضوح، وإنّ خُذلان هؤلاء في ساعات المواجهة يزيد في كشف الحجب على مستوى النظر وإن كان يعوّق الجهود على مستوى العمل.

3- المبادرات المتخصصة

المبادرات المتخصّصة هي تلك الجهود التي تعمل في مشاريع جزئية تراها حيوية. وكثيراً ما تغيب عن ذهن المراقب هذه المبادرات بسبب تعدّدها وصغر حجمها والمساحة المتواضعة التي تغطيها كلٌّ منها، غير أن مجموعها له وزنٌ لا يستهان به. وتعشق هذه المبادراتُ بُنَيّات إنتاجها الإبداعي وتنقطع إليها، فتشكّل رئاتِ تهويةٍ لمجموع الحركة العامة ومنصّاتِ تهيئةٍ لزيادة فاعلية المجتمع.

4- التوجهات الفكرية

نقصد بالتوجهات الفكرية ما أفردت همّها لذلك. ويحتاج الفكر إلى خلواتٍ من أجل صفاء الذهن، حتى إذا استغرق هزّته الكوارث فربطته ثانية بواقع الأمة الملتهب. وتنتصب أمام الفكر جبهاتٌ ثلاث، ويُطلب منه إعطاء القول الفصل فيها بعد شعورٍ خفي بأن في جعبة الفكر إجابات (جاهزة). فتجتمع في ساحة الفكر همومٌ ثلاثة: ترشيد القائم في ساحة العمل، وجلي صدأ المسلَّم به في ساحة النظر، ومقارعة المتربّص في ساحة النزال.

النتيجة هي نشاط فكري غير معهود من جهة، وصهر بين طبقات العلم من جهة أخرى. فالنشاط العلمي مثله مثل أي نشاط بشري يميل بعد نموه إلى الثقة بإنتاجه وإلى قناعته بخطاب ذاته. غير أنه في ساعات المحن يُطلب منه أن يغادر ساحات راحته وأن ينزل الوغى. ويستجيب الفكرُ على طريقته الخاصة، يُغير صُبحاً أبلجاً لم يعتد المتحركّون نسقه، ويتوسّط الجمع يقارع في كل الاتجاهات تجريداً وتنزيلاً، ويعدو ضبحاً بفئاتٍ تحليلية غائبة عن الأذهان، فيوري حقائقَ كانت مغيّبة.

5- التوجهات الصوفية

 تتأكد عند التوجهات الصوفية في أيام الكوارث فضيلة الانعزال، فتشكّل جحوراً يختبئ فيها الإيمان الذي يئنّ ضعفاً. وبرغم فرارها من زحف الباطل (وبغض النظر عن الاعتذار عنه من بعض رموزها) فإنها بمجموعها تُمدّد ساحة التوكّل الخامل الذي ينتظر عدواً خارجياً يوقظه، أو طائفيةً داخليةً تُفزعه، فتنكشف الحجب ويتألق عرفانٌ من نوعٍ جديد.

6- جماعات الغلو

إذا كان التيار العام يمشي باتجاه خدمة الأمة، وفق طريقته وضمن محدداته وحدوده، غير أن هناك تياراً آخر معاكساً لتيار الفاعلية والبناء على الأصول، يتطلّع إلى حلولٍ وقتية عاجلة فيتوجه نحو الغلّو. وبقدر ما تعجز التياراتُ الدائمة (الخمسة أعلاه) واقعياً عن معالجة القضايا الكبرى للأمة بقدر ما تنفسح فرصٌ للغلوّ ترتبك فيه الأولويات، ويجري الزهد بالأمة كحاملٍ حاضنٍ لقيم الإسلام.

والسنّة المجتمعية في ذلك هو أنه حين تعجز الأطر الرسمية عن القيام بشيء حيوي للمجتمع، يفرز المجتمع جماعاتٍ (تطوعية-فدائية) تقوم بالواجب نيابة. وسرعان ما تزول عنها طهوريّتها وتنغمس في مصالحها الخاصة. وإذا أضيف لذلك بُعدٌ نصيّ، كان الناتج غلوّاً مدعّماً بإيديولوجيا لا يقف عند حدود المصلحة الذاتية. وفي حالة كون صيغة التحرّك أقلوية أو طائفية، فإنها تتميّز بتبرير الانحراف الكامل عن أي ضوابط أخلاقية بناء على الخوف الوجودي وتصوّر تهديد الانقراض والزوال.

وبشكل عام، الثقافة السنيّة منيعة على شعور التهديد الوجودي بسبب مخيالها عن نفسها أنها هي التي تمثّل الأمة الممتدة زماناً ومكاناً. غير أنه في حال التفريط الكامل مِن قِبل الموقّعين عن رب العالمين وفي حال الغياب الكامل للمرابطين المدافعين عن الثغور، فإن مجموعاتٍ مختلفة تشعر أن ثمة فرضاً كفائياً لا يقوم به أحد، فتضطلع به بغض النظر عن استعدادها وكفاءتها وصواب رؤيتها. وتتراوح هذه الإجابات بين كونها جهادية عامة تتوجه آنياً لمحاولة الدفاع عن البيضة والعمل نيابة عن الأمة المغيّبة، وبين كونها خارجية الطبيعة (تخرج عن الأمة وعن ضوابط شرعتها) يحدوها الانتقام من العدو الذي أذلّ الكرام وتحسب أن أولي القربى هم أولى بالانتقام.

الخلاصة

تتطور الأطر الناظمة لجهود فئات العاملين في غمرة مواجهة الواقع دائم التغيّر. وتتراوح درجات تبلورها المؤسسي فتتفاوت فيما بينها وفق بعدين اثنين: درجة المأسسة ودرجة ضمّ أفرادٍ من خاصة القوم أو عامتهم. وبقدر ما تتعدّد هذه الأطر وتكون سابغة للفضاء العام بقدر ما تشكل شبكاتٍ بديلة تحمي حياة الناس إذا انفرط العقد السياسي الكبير. وكثيراً ما تعجز الأطر عن تجديد نفسها وتوسيع منظورها. وفي غمرة الحركة والمواجهة، كثيراً ما يجري التعلّق بالوسائل المعروفة، تلك الوسائل التي لا بدّ أن يكون قد غشاها الصدأ وفقدت فاعليتها مع تطور الحال، فتستحكم عطالتُها بمرور الزمان ويتخلّف الإبداع، وربما تغدو الوسائل بمنزلة الأهداف. وكقاعدة عامة، إذا كان التغيّر نوعياً، لزم زوال الأطر ولم ينفع رقعها لأنه عند ذلك تصبح حابسةً للكمون مانعةً من انطلاقه.

وثمة تدافع بين التوجهات المذكورة أعلاه، ينتج عنه هي انزياحٌ مستمر نحو المركزِ الأصلِ الملهِم القادرِ على إنارة طريق المستقبل. ومنطق التاريخ هنا أنه من لا يجاهد ويقدّم ما بوسعه يُحيله الواقع إلى الهوامش وتأخذ مكانه قوى أخرى. ومن التوجهات المذكورة أعلاه، يظهر من بين الأربعة الأولى مَن يساهم في المسيرة، أما الخامسة فيمكن أن تبقى في زوايا التواري.

غير أنه علينا هنا التفريق بين تموضع التصوّف والطقسيّة في المجتمعات العربية مقابل تموضعه في المجتمعات الأعجمية التي لا تتكلّم لغة القرآن. فالتديّن في المجتمعات العجمية يسري ضرورة ضمن مسارب طقسيّة طُرقية، حيث أنّ الطقوس و الطريقة لازمة في غياب المقدرة على الاتصال المباشر مع البيان القرآني بلغة تنزيله. أي أنّ هناك حاجة إلى رتابة دينية عامة في الحالة الأعجمية. وهذا أمر بديهي يسهل أن يغيب عن الضالع في العربية. فالعارف بالعربية يطير مع معاني الآيات بنصّها الإعجازي وبيانها المتفرّد، أما الأعجمي فيحتاج وسائل مساعدة مشهورة عند مختلف الأقوام، أولها هو تكرار العبارات القصيرة لتصبح سهلة الاستحضار والفهم (الجزئي)، وثانيها هو جعلها إيقاعاً يفتح نوافذ دخولٍ إلى النفس غير نافذة الفهم.

وفي حين أنّ التصوّف رافد مُرطّب في المجتمعات العربية، يستجيب لاحتياجاتٍ نفسية معروفة على المستوى الفردي، وينشط خاصة في الهوامش غير المثقفة على المستوى الجماعي؛ التصوّفُ في المجتمعات الأعجمية مِلاطٌ أساسي. ويبقى التصوّف راكداً في بلاد العجم إلى أن تدفعه نحو الجهاد موجباتٌ مِلّية/إثنية أو اعتداء خارجي. أما في بلاد العرب فيقتصر تبنّي الجهاد على حالة مواجهة عدوّ خارجي يُصنّف بأنه كافر.

ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ الطائفة القائمة على الحق لا يُمكن أن تكون جماعةً أو جهداً تنظيمياً بعينه، وهو المخيال الذي قد تستبطنه خصوصاً وعلى مستوى اللاوعي توجهاتٌ ثلاثة: (1) الحركاتُ عزّةً بثباتها أو عُجباً بإنجازها ومناكفتها للغالب؛ (2) مجموعات العلماء وتلامذتهم بناءً على قيمة التراث الذي يدافعون عنه؛ (3) الجماعات الجهادية بناءً على مقارعتهم الباطل.

 ولا يستقيم إلا أن يكون مفهوم الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرّها من خالفها مشتقّاً من مفهوم الأمة نفسها. وما دام مصطلح الأمة لا يعني مجموعةً بعينها ولا ينحصر بالأمة السياسية وإنما ينطق بالأمة كمعنى مجردٍ حاضنٍ لقيم الإسلام من جهة و كانزٍ لتاريخها من جهة أخرى… ما دام هذا هو الذي يستقيم من معنى الأمة –وإلا لانصرف المعنى إلى قيعان اختصاص الحقّ بقومٍ معيّنين أحباء لله من دون الناس— فإن الجماعة القائمة على الحق ليست إلا انعكاساً لمعنى الأمة بتلوّنها وطيف اجتهاداتها، فلا يمكن أن تنحصر في إطارٍ وتنظيمٍ وجماعة، ولا بدّ للهياكل من أن تنفرط في لحظاتٍ حاسمة ليتمّ الشرط الموضوعي في تخلُّق الحقّ نشأةً مستأنفة.

Tagged: , , , , ,

3 thoughts on “الثورة وملامح التغيير الحضاري-1

  1. ايمن عماره 2017/03/26 عند 5:43 ص Reply

    هناك نوعان من الزبد زبد يطفوا من هطول الماء من السماء وزبد يخرج من تعدين المعدن فاما الزبد الاول فهو نتاج حركه السماء بالارض وتفاعل الماء بالتراب عندها تهتز تربه الارض فتخرج خبثها فيطفوا كالزبد على سطحها وتربو تربتها ويخرج ثمرها واما الزبد الاخر فهو نتاج تفاعل النار مع مكونات الارض فيتخلص معدن الارض من خبثه وشوارده حال رفع النار عنه وتتصلب مكوناته فتشكل نويات حالما تجتمع النويات لتكون بلورات اكبر ثم تذوب بايقاد النار مره اخرى فتتشكل بلورات اكبر وما بين ايقاد نار وتبريد يخرج المعدن كل خبثه وتتعاضد ذراته فيتشكل جسم معدني ببلوره واحده (البِلوّره الاحاديه) مهما بلغ بهذه العمليه يخرج المعدن كل خبثه ويصبح حليه خالصه بذرات منتظمه متعاضده بشكل قوي فلا خلل ولا فراغات ولا فقاعات ولا انزلاقات ذريه بل انتظام كامل

    ولا ارى ان زبد الثوره الشاميه هو من النوع الاول بل هو من النوع الثاني لشده ما يحمى على اهلها من نار — فلم تبقى مقذوفات الظلم بيت الا واهلكته واذاقته ويلات الظلم والظلام — ومن ظن انه في مامن فان دوره قادم لا محاله بفعل الناقليه الحراريه فاما ان ينتظم العقد وفق السنن وما ان يخرج مع الزبد فلا يبقى لسقوطه في غي الظلم — لا خيار سوى الصبر ولا منجاه من النار الا بالباس الشديد الذي هو صفه المعدن ذو البنيه البلوريه الاحاديه

    الزبد الاول اعم واكثر حدوثا في حضاره المسلمين وقد تكرر مرارا في فترات الرخاء الفكري فكان الاصلاح اقل تكلفه فمثله كمثل الماء يهز ذرات التربه ليخرج زبدها واما الزبد الاخر فهو نتاج عمليه هي اشد فتكا واعتى ظلما لذلك ينطبق على الحكم الطاغوتي في عصرنا ولعل ترتيب الثاني فيه اشاره الى مدى صليه — فلا غرابه ان نرى المحن تتلقف اهل الشام من كل صوب وحدب كما تتقاذف ذرات المعادن في النار المستعره كذلك يضرب الله الامثال وعليه لا بد من فقه جديد وفعل فكري رصين وعزيمه لا تلين وثقه بالنصر بانه اكد اكيد وعلى الناس ان يركوا امرين اما ان نكون الزبد نفسه او نكون الذرات التي تصحبها الزبد او نكون ما يتماسك مع بعضه ليكون في بوتقه واحده معدنا خالصا خلوص الذهب

    ولذلك من الثوابت التي لا جدال عليه في الثوره الشاميه في راي هي هدم الواقع بكامله لما تعشقه من خبث وهدم منظومه الدوله الاستعماريه الدكتاتوريه واحياء الثقافه القرانيه باللغه العربيه حتى يتجذر الفهم الحضاري في محكم التزيل في منطق الافراد فيكون اسقاطه على الواقع ايسر واقل تكلفه من ملحمه ربما تدوم عقودا

  2. ايمن عماره 2017/03/26 عند 6:28 ص Reply

    أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ

    He sends down water from the cloud, then watercourses flow (with water) according to their measure, and the torrent bears along the swelling foam, and from what they melt in the fire for the sake of making ornaments or apparatus arises a scum like it; thus does Allah compare truth and falsehood; then as for the scum, it passes away as a worthless thing; and as for that which profits the people, it tarries in the earth; thus does Allah set forth parables.

    التعليق تمحور حول الايه الكريمه التي ذكر فيها الزبد … الامر الاخر ان بقايا الدوله السوريه الحاليّه هي رمز الدوله الاستعماريه الدكتاتوريه المذكوره في التعليق … هذه الدوله هي التي استعمرت بلاد الشام تحت مظله حقوق الأقليات وجعلتها مزرعه للحاكم الفاسد واتباعه

  3. مازن موفق هاشم 2017/04/14 عند 12:18 م Reply

    تشبيه جميل جداً الأخ أيمن، وشكراً للتفاعل.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: