تتربّع القضية الفلسطينية في صميم الضمير العربي، ولكنها في الطرح السائد ليست جزءاً من الثورة العربية برغم أن هذا الربيع ما هو إلا انعكاس لما يكتنفه الضمير العربي. فكيف نفهم هذا التناقض؟
علينا أن نُذكّر أولاً بسبب مركزية القضية الفلسطينية في الضمير العربي، فهذا مهمّ وإن لن نأتي بجديدٍ. يتعامل الضمير العربي مع القضية الفلسطينية وكأنها قضيته الوطنية أو الشخصية لسببين. أولاً، لاعتباره أن إسرائيل تمثّل منّصة متقدّمة للاستعمار الغربي، والثاني هو أنها تمثّل امتداداً تاريخياً للكيد اليهودي في وجه الإسلام. ويتمّ الإعراض عن ذكر هذا السبب الثاني لأن التفسير بالانتماء الديني مشوّه في الأدبيات المعاصرة ويستحضر الفكرة المسيّسة لصراع الحضارات. ولكي لا يوصف العربي بالتعصّب الديني أو أنه (معادٍ للسامية)، يجري استعمال مصطلح الصهيونية بمعنى الحركة القومية التي اعتدت على الحق الوطني للفلسطينيين. وفي الخطاب العالمي تمّ التراجع عن مصطلح الصهيونية باعتبار أن له أصل صوفيّ، فأصبح المقبول هو انتقاد (الإدارة الإسرائيلية) فحسب. وتتابع اختزال القضية من كونها عربية إلى كونها فقط قضية فلسطينية ثم إلى أجزاءٍ منها وإلى مسائل إجرائية بحتة.
وننوّه هنا إلى عامل آخر يساهم في (قومنة) القضية الفلسطينية، ألا وهو التعاطف معها من خارج الكتلة العربية. وكما هو معروف، مردّ هذا التعاطف –الذي هو على درجاتٍ متفاوتة– إلى اعتبار بعض الممارسات الإسرائيلية ممارسات عنصرية. ومما يزيد في حفز هذه المواقف أن إسرائيل تطرح نفسها على أنها دولة ديمقراطية، كما أن اليهود ككتلة ثقافية يتماهون مع الليبرالية علاوة على أنّ مفكريهم أصبحوا من صلب منظّريها في حقول شتى من السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع وإلى الفن. ولما كان طبيعياً لقطاعاتٍ من الفلسطينيين محاولة استثمار هذا التعاطف العالمي، جرى تبنّي الأطر الفكرية لهذا الاتجاه، وهي أطر قومية أو أطر حقوق إنسان ضيقة.
وبغض النظر عما سبق، وباعتبار تطورات المنظومة الدولية، لا يستقيم فهم النفوذ الإسرائيلي إلا من خلال منظور ثنائي إقليمي وعالمي متجاوزٍ للحدود المرسومة بفعل الواقع.
فمن ناحية إقليمية، ليس ثمة خلاف أن لإسرائيل وزناً كبيراً في المنطقة وأنها تلعب دوراً حاسماً يتجاوز ضعفها من الناحيتين الديمغرافية والجيوسياسية. وعسكرياً عند إسرائيل قوة رشيقة تتميّز بفاعلية في الضربات الخاطفة وإن كانت لا تقوى على الصمود طويل الأمد. كما تساهم المعامل الإسرائيلية في صنع كثيرٍ من مكوّنات الأسلحة الأمريكية المتطوّرة. ومن ناحية أمنية، تقدّم إسرائيل معلومات أمنية ثمينة عن جيرانها العرب، كما تطرح نفسها من خلال متخصصيها أنها بيت الخبرة لفهم كل شيء عن العرب والمسلمين، من السياسة إلى الحركات الدينية وإلى الثقافة والحياة اليومية.
وكما هو معروف، أصبح لإسرائيل علاقات مباشرة مع الأنظمة العربية تجاوزت فيه الراعي الأمريكي إلى درجة أنه تُتخذ هذه العلاقات وسيلةً لمزيدٍ من الابتزاز. وإذا كان غزو العراق يمثّل نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات الغربية العربية، يعتقد فريقٌ من الاستراتيجيين الأمريكيين أن كان ثمة تشجيع يصل حدّ التوريط من قِبل إسرائيل للقيام بهذا الغزو. وصحيح أن الوزن النسبي لإسرائيل هو في تراجع المستمر، إلا أنه لا ينفي أنها ما زالت تمتلك قوة ونفوذاً لا يمكن تجاهله.
ليس ثمة خلاف بين العرب على ما جرى تقديمه، وهذا ما يجعل فهم القضية الفلسطينية من إطار قومي وطني ضيّق فحسب أمراً غير منطقي.
ومن ناحية أوسع، هناك تنافس إقليمي على الماء والغاز والثروات الطبيعية. وأثر هذه العوامل في تعاظم مطّرد مع تنامي الاستهلاك من جهة ومع موجات الجفاف وازدياد سخونة الكوكب الأرضي من جهة أخرى. وهذا سبب آخر راجح لعدم نجاعة التفكير بالقضية الفلسطينية من منظور قومي ضيق.
وبعد التطورات التي رافقت الثورة العربية بعد الموجات المضادة، والمواقف التي اتخذتها المجموعات الثقافية المختلفة، أصبح من السائغ علمياً أن ننظر إلى التصميم الاستعماري للمنطقة من زاوية إثنية مِليّة. فتصميم المنطقة بأسرها وظّف احتقان المجموعات قليلة العدد التي تسكن البلاد العربية ودفعها بالتدريج إلى أن (تخرج) من الوطن وتعتبر نفسها أقليةً ذات حقوقٍ مخصوصة، ولو غُلّفت هذه الحقوق بغلاف المواطنة والديمقراطية. ضمن هذا المنظور الأقلوي لتوزيع النفوذ في بلادنا منذ الانهيار العثماني، يمكن أن تُعتبر التركيبة الإسرائيلية جزءاً من التصميم الطائفي للمنطقة. وبهذا تعدو الحالة الفلسطينية حالة خاصة للاستئساد الأقلوي. وصحيح أن هذه نظرة جزئية فحسب، ولكنها تكمّل الصورة وتلقي عليها أضواء خاصة من ناحية التكيّف التاريخي للمجموعات البشرية للوطن العربي وخاصة غير المسلمة منها. وما الموقف الإيراني من الثورة العربية، ومن الوضع في سورية و لبنان خصوصاً –كونهما مرقداً للأقليات– إلا دليلٌ إضافيٌ على صحة اعتبار هذا العامل في التحليل.
ماء وغاز ونفظ وانحباس حراري، وتعاون أمني واعتمادية عسكرية متبادلة، وانتهازية أقلوية واستغلال شعوبي… هذا ما يحيط بالقضية الفلسطينية وهذا مما يجعلها تتجاوز قضية قوميةٍ محليةٍ وموطنٍ محصور.
وإذا انتقلنا إلى الصعيد العالمي، سبق التنبيه إلى أن الوزن الإقليمي لإسرائيل متمفصلٌ مع النظام العالمي بأسره. والفاعليات الاقتصادية أصبحت معولمة إلى حدّ كبير سواء على صعيد الإنتاج أو الاستهلاك أو العمالة والتصميم. أما الحركة المالية ذاتها فأصحبت عالمية بامتياز وإلى درجة مخيفة. وفي كل ذلك لإسرائيل كدولة ولليهود كثقافة نصيبٌ معتبر.
كما يمكننا الإشارة إلى مزيدٍ من الفاعليات العالمية التي تدعو التحليل إلى أن يتجاوز البقعة الجغرافية لفلسطين. وليس جديداً القول إن اليهود يتربّعون على كراسي الإنتاج العلمي بشتى اتجاهاته، وخاصة الاجتماعي والسياسي والفلسفي. ورغم أن الأمثلة على هذا كثيرة جداً، إلا أننا نذكّر كمثالٍ بـ كسينجر كاستراتيجي كان له أثر معتبر على السياسة الأمريكية ونذكّر بـ برنارد لويس المفترض أنه أكاديمي موضوعي؛ والأكثر دلالةً في الأمر هو تلاقي فحوى خطابهما.
ولا بدّ هنا من التنويه إلى أن التفسير الشائع من أن اليهود أو الإسرائيليين يسيطرون على القرار العالمي والأمريكي من خلال أعمال اللوبي هو فهمٌ تآمريّ سطحيّ. العنصر اليهودي عنصرٌ مؤسّس لما يسمّى الحضارة الغربية كما آلت إليه، وليس أمراً ثانوياً يكتفي بالمناورة والتأثير العَرَضي.
≈ ≈ ≈
مهما قلّبنا المسألة، من الجانب الإسرائيلي أو اليهودي، أو من الجانب العربي أو الإسلامي، تحتلّ القضية الفلسطينية وبرمزية القدس موضعاً إقليمياً وعالمياً، فكيف إذاً يجري الكلام عن هذه القضية وكأنها منفصلة عن ظاهرة الربيع العربي وتفجّره ثورةً لم تُبقِ أمراً على حاله. وطبعاً، لا يصحّ أيضاً قومنة مواضع الثورة العربية، فكل واحدةٍ منها ليست إلا جزءاً من حراكٍ للمنطقة من وجه سياسي، وزلزلةً جيوسياسية لا تعرف الحدود الاصطناعية من وجه إقليمي. ومن ناحية ثالثة، تَشابه النداءات والعمق الشعوري الديني في هذه الثورات يشير إلى مكامن إلهامها واستمرارها.
كما أنه يصعب إنكار الأثر البالغ لكل من الثورتين المصرية والسورية على القضية الفلسطينية، إذ أن بينها ترابط عضوي. ترابط الثورة العربية في موقعها المصري مع القضية الفلسطينية له ثلاثة أبعاد. البعد الأول هو الوزن المصري نفسه كأهم مركز عربي بعمقه التاريخي وبحجمه السكاني وبموقعه المتوسط. فلا يتصوّر أن يكون هناك تعافٍ عربي سابغ ومصر خارجه، كما أن أي تراجع في التمكّن المصري ينعكس سلباً على التمكّن العربي جملة. البعد الثاني هو التجاور الحدودي المصري الفلسطيني. والبُعد الثالث التشارك الثقافي الخاص الذي يتجاوز اللغة العربية ويمس الحياة اليومية، ولا سيما من جهة غزة.
الثورة العربية في موقعها السوري لها أيضاً ترابط عضوي مع القضية الفلسطينية في أبعاد ثلاثة. واحد هو التشارك الثقافي نتيجة كون فلسطين جزء من بلاد الشام. وإلى قبيل تأسيس إسرائيل، كان هناك تواصل وتجارة نشطة بين دمشق والقدس فاق التواصل والتجارة مع حلب. ثانياً التجاور الحدودي، وينضم لبنان إلى ذلك. وصحيح أن سيطرة إسرائيل على مرتفعات الجولان وسيطرة الميليشيا الحزبلاوية ذي الأجندة الإيرانية على الجنوب اللبناني يجعل هذه الحدود أقل تهديداً ولكنها تبقى حدوداً مفتوحة قابلة للتفعيل. ثالثاً، أصبحت أرض سورية بعد الثورة عقدة الزخم الطائفي الأقلوي، مما له أثر بالغ على القضية الفلسطينية، وهذا يحتاج بعض التفصيل.
إنه يتحتّم علينا أخذ منظورٍ كليّ إقليميٍ لفهم الفاعليات السياسية التي أصبحت بازدياد عابرةً للحدود. فالعراق هو الجناح الأيمن للوجود العربي في وجه النفوذ الفارسي. كان هذا تاريخياً وما زال. والتشيّع العربي في العراق كان يمكن أن يساهم في حجز الأثر الإيراني لو لم تغلب عليه البراغماتية أو لم ينزلق في المنزلق الطائفي. وحيث أن أكثرية شيعة لبنان (وهو البلد فاقد الوزن الذاتي) اصطفّت خلف المرجعية الإيرانية، كان على الجراح السوري أن يبيّن الوجه الفارسي للصراع، كنزعةٍ توسّعية تنفخ في نار الأقلوية. وكانت النتيجة أن العراق البلد العربي المهمّ أصبح مستهلكاً في معركته، ولا سيما بعد تفجّر القضية الكردية. وبلدان الجزيرة العربية بتركيبتها الرخوة لا تنتصب جداراً متيناً في وجه الطموح الفارسي. تطور الموقف السعودي والولوج في اليمن غيّر المعادلة، غير أنه من وجه آخر شغل الجزيرة العربية بنفسها مثل ما شُغل العراق بنفسه، بحيث أنه تناقص أثر هاتين الكتلتين خارج حدودهما. وهذا ما أعطي الموقع السوري أهمية قصوى برغم كل شرذمته. وإذا كان الوزن السوري محدود بحكم التشريد وتهديم سبل الحياة، فإن هذه الشرذمة واستحالة قيام حكم مركزي في المدى المنظور جعلت من الثورة العربية في أرض سورية عاملاً مهماً جداً فيما يتعلّق بفلسطين من ناحية تهديده للاستقرار الإسرائيلي.
إن انكسار السيطرة الأقلوية في سورية لسوف يتبعه بشكل شبه آلي أثر مباشر وقوي على كل من لبنان والأردن. أي أنه فجأة سوف تصبح إسرائيل قلقة على حدود طويلة يرهقها التعامل معها في آنٍ معاً. وباعتبار أن هذه السيطرة الأقلوية هي طائفية وغير مسلمة ومصطفّة قبالة الهوية السنية، فإن انكسارها يعني تشكّل عصبية قادرة على التجميع والفعل خارج الحدود الوطنية. ثم إن سورية هي بوابة الزخم التركي الذي سينساح تلقائياً في بلاد الشام كلها. أي أن الانعتاق السوري له أكبر الأثر على القضية الفلسطينية ولو كانت بلاد الشام مفككة، بل ولأنها كذلك.
الثورة العربية مترابطة عضوياً مع القضية الفلسطينية. وانعتاق مصر يشكّل مرساة لتطور الثورة العربية في كل مواطنها ويضع أسساً لظهورٍ عربي على المدى المتوسط والبعيد. انعتاق سورية يُحدث تغيراً فورياً في موازين القوى ويحرّر قوى تتجاوز الحدود الرسمية. القضية الفلسطينية التي كانت دوماً قدوة في الصمود والممانعة والمقاومة ألحقت بنفسها ضرراً حين بالغت في خصوصيتها (التي هي خصوصية إلى حدّ ما بلا شك). وإذا كان اختصاص الفعل والحركة في كل موضعٍ من مواضع الثورة العربية أمرٌ مفهومٌ ومطلوب، إلا أن تأخّر التجاوب الضميري من قِبل أي موضعٍ من مواضع الربيع العربي مع المواضع الأخرى أو تأطير الثورة ضمن الإيديولوجية المحلية (الإطار الوهابي في الجزيرة العربية مثلاً) بعيداً عن فهم أن الثورة هي ثورة الحرية والكرامة له أمر شديد الضرر.
وعلى كل حال، الأسس الموضوعية لبقاء القضية الفلسطينية قضية قومية تتآكل بتسارع ولا يمكن استمرار التعويل عليها. وإن الربيع العربي ينتظر أول وردةٍ فيه لتعي أنها جزء منه.
مازن هاشم
1438-01-29 هـ / 30-10-2016 م
Tagged: القضية الفلسطينية, الأقليات والسياسة, الثورة المصرية, الثورة السورية, الربيع العربي, العروبة
اترك تعليقًا