متى وأين بدأت الثورة؟ تحليل للشروط الموضوعية للحراك

ما الغيرة في الانتساب لأول يومٍ في الثورة إلا شهادةٌ على شرفها ودليلٌ على إدراك الشعب لجلالة معانيها وتأكيدٌ على التمسّك بأهدافها.  ويحسن هنا استذكار القوانين الاجتماعية التي تحيط بإمكانية التحرّك وطبيعته.

معادلة التحرّك وأنساقه

كلّ أصقاع سورية شاركت في الحراك الثوري بشكلٍ أو آخر، وإن تمايزت الأقاليم بسبقٍ أو ابتكارٍ أو إبداع.  وتتفاوت شدّة الحراك وصورته وتوقيته بحسب شروطٍ موضوعيةٍ خمسة: (1) عمق الشعور بالإهانة والظلم والتهميش؛ (2) بنية النسيج الاجتماعي الحاضن؛ (3) طبيعة شبكة المصالح وتمفصلها مع مؤسسات الدولة؛ (4) التركّز الاستخباري العسكري؛ (5) الأهمية النسبية للمنطقة وحجم التهديد التي تمثّله للنظام الحاكم.  وهذه الأبعاد الخمسة للتحرّك هي التي شكّلت سبعة أنساقٍ للحراك الثوري.

مدينة درعا “مهد الثورة” هي المدينة الجنوبية المحاذية للحدود الأردنية وهي التي كان يخدم كثير من أبنائها وأبناء منطقة حوران عامة في بيروقراطية الدولة، فلامسوا التضييق والتهميش لصالح الانتماءات الطائفية، وخضعت المنطقة للقيود الاقتصادية المكبّلة، واعتمد الناس هنالك إلى حدّ ملحوظ على موارد الذين اشتغلوا في بلدان الخليج.  ويضاف إلى ذلك بقاء الروابط العشائرية برغم مدنية الحياة، إلى جانب نشاطٍ ديني سلفي قوي مما جعل لهذه المنطقة كموناً كبيراً في إدارة الحياة بدرجة من الاستقلالية النسبية.

أهمية درعا كمدينة متوسطة الحجم أقل من أهمية المدن الكبرى، ولكن كونها على الحدود يشكّل تهديداً على النظام.  وحسِب النظام أنه واثق تماماً من السيطرة عليها من خلال الطواقم الحورانية الموظّفة في مؤسسات الدولة، غير أن هذه الطواقم مثّلت نقطة ضعفٍ أيضاً في نوعٍ من الاختراق الأمني الذي يمتكله أبناء هذه المنطقة.  فلم يتوانَ النظام عن ضربها بوحشية، غير أنّ ضرب المسجد العمري كأيقونة ثقافية ألهب الحراك الثوري لمدة شهرٍ كاملٍ تهيّأت فيه المناطق الأخرى لحراكٍ جادّ تجاوز العوائق المحيطة به.

لقد مثّل موقع درعا الموقع القريب نسبياً فلا يتلاشى تأثيره بعد التحرّك والبعيد الطرفيّ نسبياً الذي لا يشكّل خطراً داهماً من أول لحظة، وهو الموقع المفتوح نظرياً لدعم من الخارج عبر الحدود، وهو المعتزّ بانتمائه بشكلٍ مغايرٍ للمدن التي غمرها نمط الحداثة، وهي المزدانة بكمون معرفي ومالي لا بأس به، وهي التي عندها إدراكٌ مباشر وتداخلٌ مع آلة النظام، وهي التي تحتضن حركة دينية متماسكة داخلياً واثقة بصواب نهجها وقدرتها على القيادة.  وإنه لمن الطبيعي أن تبدأ الثورات على الأطراف وليس في المركز.  وفي حين أن مظاهرة في العاصمة لها أهميتها، إلا أنها لم يتوافر لها روابط عصبية تديم زخمها أو تمدّها بقوة إقلاعٍ كافية.

ثانياً: نسق المدن المتطرّفة البعيدة نسق آخر.  وقصة مدينة دير الزور في الشرق الموازية للناحية العراقية قصة قريبة من قصة درعا من ناحية وجود روابط عشائرية عابرة للحدود ومن ناحية أن سكان هذه المنطقة لهم حضورٌ وازنٌ في الجيش ودوائر الدولة.  وهي منطقة بعيدة عن مركز الحكم وتحاذي حدود دولة أخرى، لكن نظام تلك الدولة –العراق– موالٍ لدمشق كجزءٍ من ساحة النفوذ الإيراني، ولذا فإن هذا الموقع ليس منفتحاً بشكل حرٍّ على الدعم من الخارج.  أما إدلب من ناحية الشمال الغربي فهي طرفية أيضاً وتحاذي تركيا المناصرة، وتمتاز بتوزّع القرى الزراعية في أرجاء المحافظة وكأنها مكامن مهيأة للثورة بحكم استقلاليتها النسبية.  أما الشرق الشمالي فهو المهمل إهمالاً شديداً والمتطرّف والذي يحتضن الخصوصية الكردية، فكان له سياق تحرّك مختلف وفريد نسبة لغيره من المناطق.

ثالثاً: مدينة حمص “عاصمة الثورة” قصة أخرى إذ تمثّل نسق الوسط التي التقت فيها العوامل الجغرافية والسكانية والطائفية.  فمدينة حمص في وسط سورية أصابها العبث في النسيج الاجتماعي على نحو كبير، وشكلّت طائفة النظام الحاكم مناطق طوقّت المدينة وأفسدت السلاسة والعفوية التي تتميز به المعيشة في هذه المدينة المهملة التي جمعت أنساق الحياة القديمة والحديثة معاً.

لا تكمن أهمية حمص في ثقلها الاقتصادي بقدر أهميتها الاستراتيجية كنقطة وصلٍ بين أطراف سورية، وخاصة المنطقة الساحلية التي تقطن فيها أعداد كبيرة من طائفة النظام التي يتحدّر منها، يجنّد أبناءها لخدمة طغيانه ويثق بهم بخاصة في الخدمات الأمنية.  وكل ذلك شكّل مزيجاً متفجراً، فتألّقت حمص مدينة الوليد في نشاطها الثوري السلمي لفترة طويلة، وتلقّت الضربات الوحشية التي حرصت على الإهانة الثقافية بقصف مسجد “سيدي خالد”.  ولذلك كان طبيعياً أن تتشكّل حول المدينة فرق مسلّحة من قِبَل الثورة لحماية المدنيين من الاعتداء على الحرمات والأعراض.  ولا يمكن إغفال أهمية هذه العقدة الاستراتيجية من ناحية قربها من الحدود اللبنانية ومحاذاتها لموارد سنية هناك ومناطق شيعية.  أما مدينة حماة فإنها تمثل نموذجاً خليطاً من ناحية كونها في الوسط الجغرافي لسورية مع شيء من التطرّف الذي يعزلها ويجعل وصول الإمداد إليها صعب.  كما تتميّز بنوع من الصفاء المذهبي داخلها، غير أنها محاطة بقرى غالبية علوية، إلى جانب أنها محاطة بشكل عام ببلدات مذهبية غير صديقة الجهة الجنوبية هي الجهة الآمنة الوحيدة.

رابعاً: دمشق العاصمة فاجأت المراقبين بحراكها المبكّر.  فإلى جانب خروج مظاهرة في اليوم الثالث للثورة من المسجد الأموي الذي لا تخفى رمزيته، تميّز الحراك فيها بنوعيته وإبداعاته في طرق المقاومة السلمية في مدينة لا يوجد فيها حيّ سكني إلا وفيه مركز لواحدٍ من أجهزة المخابرات الثلاثة عشر، إلى جانب مساكن الضباط والمساكن العشوائية الموالية على أطراف المدينة.  وكان أن أصاب المدينة حظٌ كبير من العبث بالنسيج الاجتماعي، حيث تميزت العاصمة بكثافة كبيرة من المنتفعين الذين هبطوا نحوها من كل محافظات سورية، بما في ذلك أعداد كبيرة من طائفة النظام حتى غدت دمشق من أكبر تجمعاتهم.  وأصبحت المدينة غريبة على أهلها يشعرون بالحسرة لما تغيّر من شخصية مدينتهم العريقة، وغنى فاحش لحاشية النظام يستعرض نفسه بسفاهة، إلى جانب اضطرار كثير من العوائل الدمشقية إلى هجر مدينتهم والانتقال إلى حواضرها في الريف المحيط بها بسبب غلاء أسعار السكنى.  فمدينة مثل دمشق حافلة بالديناميكيات (الطبقية والجهوية والطائفية) النابذة غير المتحاذية، لا يمكن أن تنشأ فيها حركة ثورية عامة وإنما حركة مطلبيّة وفق الحدّ الأدنى المشترك.

ولم يتخلّف القانون الاجتماعي للتحرّك، فالعامل الملهم متوافرٌ في نزعة التديّن لهذه المدينة وفي توافر خطابٍ إسلامي غير اعتذاري.  والأحياء التي تتميّز بالانسجام السكّاني خرجت منها مظاهراتٌ تعدّ الآلاف استقطبت شباباً من أحياء أخرى لا يسمح وضعها للتظاهر.  أما الأحياء الأخرى فمثّلت مكمن التخطيط لأساليب المقاومة المدنية والتهيئة لها إلى جانب القضايا الإعلامية.  كما انضم بعض شباب المدينة إلى الحراك الثوري في الريف المحيط بها.  وكانت دمشق لمدة عامٍ ونيّف مصدراً للتمويل والمساعدات لدعك الحراك الثوري خارجها وخاصة حمص.

خامساً: وأما حلب المدينة الكبيرة الثانية والعاصمة الاقتصادية لسورية فقد شاع عنها أنها تأخّرت عن ركب الثورة لأنها راضية بالنظام.  ولكن هذا تفسير سطحي، وشأنها هو شأن كل مدينةٍ كبيرة، كالمرجل الكبير الذي يحتاج فيه الماء وقتاً أكثر للغليان.  وحلب لم تشهد عبثاً بنسيجها الاجتماعي بدرجة ما حصل في دمشق و حمص، كما أن خطابها الديني تغلب عليه انسحابيةٌ صوفية، مما حدّد طريقة تجاوبها.

وتمثّل حلب أهمية كبيرة بالنسبة للنظام الحاكم –مثلها مثل دمشق– سواء لثقلها الاقتصادي أو لثقلها البشري، ولأنّ مدناً بهذا الحجم إن تفلّتت صعب ضبطها فيما بعد، بينما إن تفلّتت مدينة صغيرة يمكن تأجيل قمعها ومحاولة استردادها.  كما تشكّل حلب موضع تهديدٍ خطيرٍ على النظام الحاكم في دمشق، فهي بعيدة ومحاذية للحدود التركية، وعندها كمون شبه كاملٍ للاستقلالية الذاتية.  وفعلاً، تشكّلت في حلب مجالس محلية بطريقة الانتخابات، ثم تشكّل مجلس حلب الجامع.  وما كان من النظام الحاكم إلى أن يقوم بالتدمير الممنهج الذي شمل نصف المدينة أو يزيد على ذلك، كي لا تقوم للناس قائمة بعد ذلك ولكي يشغل تهديم الحياة عن تشكّل براعم نظام بديل، ناهيك عن ضحايا القصف الهمجي.

سادساً: البلدات المحيطة بالمدن –والتي تُشمل بوصف بالأرياف وهو وصف غير دقيق– هي التي اجتمعت لها أكثر شروط التحرّك المشار إليها أعلاه مع اختلاف بحسب المنطقة.  ونستطيع أن نميز بين نوعين من الأرياف، تلك النائية نوعاً ما وتعتمد على الزراعة فحسب، وتلك التي هي في موضع وسط، فهي متكاملة مع المدن اقتصادياً ولديها مخزون خبرات فنية، وهي كبيرة في حجمها نسبياً فتوفّر عدداً كبيراً للذين يمكن أن ينخرطوا في الثورة. النسيج الاجتماعي لهذه البلدات والمدن بقي متماسكاً ويحافظ على عرف المناصرة والمساعدة، وإن لا يبلغ مبلغ الروابط العشائرية المحضة.  ولقد تحوّل الحراك فيها إلى مواجهات عسكرية بفعل القمع الفظيع الذي قام به النظام.

وفي حالة ما يسمى بريف دمشق الذي تألق بكونه أثبت المواقع الثورية للمناطق الخارجة عن سلطة النظام رغم أنه لا يبعد عن القصر الجمهوري إلا حوالي عشر كيلومترات، فإن نسيجه المتماسك جاوره سكنى كثيرٍ من الوافدين من باقي المحافظات الذين يعملون في وظائف حكومية –إضافة إلى بعض الطلاب– وإلى جانب أحياءٍ للعسكريين ذي غالبية علوية.  كما تميّز ريف دمشق بتديّنه المعروف بنمطيه السلفيّ والمذهبيّ.

ومن الأمور المهمة التي هي من خصائص البلدات والمدن شبه الريفية أن فرصة استقلالها الغذائي أعلى من المدن، إضافة إلى الطبيعة الجغرافية التي تسمح بطيفٍ أوسعٍ من المناورة الذي يحتاجه العمل المسلح.  ونشير هنا إلى حالة خاصة ضمن هذه الزمرة، ألا وهي البلدات المرتفعة في مناطق جبلية.  ووضعها الطبغرافي أعطاها إمكانية عالية للدفاع وصدّ الهجمات، إلا أن حصارها مع طول المدّة أعجزها لانقطاع سبل التواصل مع المحيط.  وبشكل عام، تحمل الأرياف في الثورات حملاً باهظاً من المقاومة وصدّ العدوان، وهي في الحالة السورية التي ما زالت تتلقى قسطاً رهيباً من الانتقام الموجّه للمدنيين.

سابعاً: منطقة الساحل مثلت نسقاً متميّزاً للحراك.  وشهدت مدينتا اللاذقية و بانياس حراكاً مبكراً في ظروفٍ خطيرة جداً، وكان الساحل موضع أوائل المجازر التي ارتكبها النظام بدمٍ بارد.  غير أن ديمغرافية مدن الساحل تحفل بأقلّ نسبٍ من مادة عمود الثورة مقارنة بالمناطق الأخرى في سورية حيث يشكل العرب-السنة فيها قرابة النصف.  ولمنطقة الساحل حساسية خاصة بالنسبة لنظام دمشق حيث تتحدّر الطائفة العلوية-النصيرية من جبالها، ثم نزل كثير منهم وأنشأوا أحياء داخل المدينة وعلى أطرافها.  وهذه الأحياء مسلّحة ومهيّجة.  فهي تحفل بالتناقض من ناحية أن بين سكانها تعايش برغم الاختلاف (وهذا ما يحصل بين البشر)، غير أنّ الوضع معرّض للانفجار على شكل اقتتال أهلي.

~          ~          ~

الحراك الشعبي عمّ كل أنحاء سورية خلافاً لأخبار الصحافة الأجنبية التي تدّعي أن سكان المدن موالين للنظام في تجاهلٍ عجيبٍ للأسباب الموضوعية للتحرّك وجهلٍ بنبض الشارع في مختلف أصقاع سورية.  ولقد أسقط الحراك المدني –الذي تميّز بجرأة منقطعة النظير– في بضعة الشهور الأولى شرعية النظام، والشرعية مثل الشرف إذا سقطت لا تُستنقذ.  ولم تكن الثورة ثورة غضبةٍ ماليةٍ لنظام سياسيٍ قلّص الطبقة الوسطى التي اشتهر به هذا البلد الرغيد رغم فداحة هذه الخسارة، فالعامل الاقتصادي يتعلّق بالكوابح التي تحجز الغضب عن التمظهر، ولكن لا يشكّل سبباً مؤسساً لثورة ضد نظام فاشي.  ولقد اكتنف الحراك الثوري تكاتف معنوي ومالي لشرائح واسعة من الشعب فاجأ المراقبين الخارجين ووافق توقعات أهل الدراية.

وإن الأُطر الكبرى للثورة كانت دوماً حاضرة في عقولٍ رفضتْ أنسقتُها الفكرية البضاعة الغربية وفلسفتها، وحاضرة في قلوبٍ لم تتزعزع ثقتها بما تملكه من مخزون قيميٍّ دينيٍّ حضاريّ.  وما الثورة إلا انطلاقةٌ لهذا اليقين والثبات، وهي دوماً تأتي على حين غرّة من فرعون ومَلَئه.

إنّ الثورة في الأرض المباركة لثورةٌ معجزةٌ ما لبثت تتألق بصمودها وبتجدّد أشكال مقاومتها، وكثيرٌ من تفاصيل بطولاتها وأسرار قصّتها ما زالت مبهمةً للبعيد عنها تنتظر التاريخ أن يُنصفها.

“يا الله ما لنا غيرك يا الله”

مازن موفق هاشم

18-03-2016

Tagged: , , , ,

2 thoughts on “متى وأين بدأت الثورة؟ تحليل للشروط الموضوعية للحراك

  1. غير معروف 2016/03/18 عند 2:51 م Reply

    جزاكم الله خيرا دائما نقول إن الثورة قدر الله وقد بينتم لنا بطريقة علمية كيف سار هذا القدر بحيث نستفيد من هذا البيان في فهم ثورتنا وأنفسنا كمجتمع وكبلد بما يساهم في تحقيق أهداف الثورة بإذن الله تعالى

  2. غير معروف 2016/04/09 عند 7:50 ص Reply

    وصف دقيق و واقعي ينم عن متابعة دقيقة لمجريات ثورة سوريا العظيمة
    و يعكس سبب وحشية النظام لكبح جماح الثورة في بعض المناطق كحلب مثلا
    املين من الله ان ينصر ثورتنا و يرحم شهدائها و يعيد الأمن و الأمان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: