التجزئة سرّ ضعفنا على الصعيد المادي حيث تبدّد قوتنا، والدول القومية سرّ ضعفنا على الصعيد الثقافي حيث عادت ثقافة الأمة، والاثنان معاً كانا وما زالا المسؤولين عن حال العجز الذي نحن فيه. ومن جهة ثمة حاجة ماسّة إلى التحرّر من إسار الدولة القومية، ومن جهة أخرى لا نريد أن نعزّز التجزئة ونزيد التشرذم. وهذه هي المعضلة.
الدولة الحديثة في تجلّيها الأوربي وتجلّيها العربي
يقتضي التعامل مع المعضلة أعلاه توضيح أمرٍ متعلّق بالدولة الحديثة يخفى على الكثيرين، إذ أنها بطبيعتها كائنٌ متغوّلٌ مهووسٌ بالسيطرة ويقتات على جهود مواطنيه. وتمتاز الدول الحديثة بخصيصتين: أنها تشكّلت على نحوٍ قسريّ، وأنها تعتدي على الحركة العفوية للمجتمع وتحاول السيطرة على مؤسساته الأهلية.
نحِّ عنك خيالات الدِمقراطية للحظة، وتذكّر أنّ حدود الدول الأوروبية تشكّلت وفق سلسلة من الحروب البينية وتبلورت منذ حوالي مئة سنة فقط (الحرب العالمية الثانية). الدول العربية تشكّلت أيضاً بعد الحرب العالمية وفق حدودٍ فُرضت من الخارج. هذه هي قصة المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وسورية ولبنان والأردن والعراق؛ وقصة دول الخليج العربي ليست ببعيد من ذلك وإن لم تشهد استعماراً مباشراً.
في الحالة الأولى الأوروبية، أثبتت الدولة مبرر وجودها من خلال نموذج رفاهٍ وَعدت به واستطاعت تحقيق جزءٍ معتبرٍ منه مستفيدةً من الثروات التي حصّلتها من المغامرات الاستعمارية التي مكّنت الإنجاز في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة… واستند ذلك إلى شرط ضروري في التنمية: إدارة الشأن العام على نحو معقول؛ ولولا ذلك لما تحقّق الإنجاز في مجالات الحياة. وهذا الشرط بدوره استند إلى الاستقرار الإقليمي.
الشطر الثاني من القصة الأوروبية هو انسجام الثقافة مع البنية والهياكل. فلم تكن مسألة التجربة الأوروبية مجرد مسألة تفكيك الهيكلية الدينية الممثلة في مؤسسة الكنيــسة ثم هجر الدين. ما ينبغي ملاحظته هو ظهور انسجامٍ جديدٍ بين ثقافةٍ مادّيةٍ ازدادت تصلّباً وهيكليةٍ بيروقراطية تولّت تنظيم الحياة وفق عقلانية ضيّقة.
لم تكن القصة الأوربية إذَن قصة اتفاق جنتلمان على دِمقراطية تحقّق العدل في المجتمع. ومفهوم العدل أصلاً يكاد يكون غائباً من الأبجدية الأوروبية (المساواة أمر مختلف عن العدل).
الدولة الحديثة –سواء أكانت دِمقراطية أم لا– هي هي… متَعدّيةٌ مُعتديةٌ تحاول تركيز السلطات في أيديها، بما في ذلك الوظائف التي كانت تاريخياً تَبَعاً للمجتمع ومن حيّز الخاص. وربما يصحّ وصف العقد الاجتماعي العميق في النموذج الحداثي بأنه خضوع الاجتماع (فرداً وجماعاتٍ) لأولويات السوق الرأسمالية زيادة على الخضوع لسلطة الدولة التي تسعى إلى معاظمة قواها.
هذا عن إشكالية الدولة الحديثة في تجلّيها الغربي. وحين تمّ استيراد هذا النموذج إلى اجتماعنا الشرقي كان الأمر أبشع وأسوأ. فمن ناحيةٍ انتفى شرط الانسجام الثقافي الذي حدث في التجربة الأوربية، ومن ناحية أخرى تفاعل تسلّط الدولة الحديثة مع النسق التقليدي للمجتمع، فأنتج كائناً جديداً مشوّهاً. فمثلاً، عُرف مساعدة القربى (وهو الأمر المحمود) انقلب إلى ضدّه عندما خالط الدولة الحديثة وصار محسوبيّةً سيئة. والأعراف الدينية الطيّبة التي تحمي سلوك الفضيلة أصبحت إكراهاً غليظاً على يد هيئاتٍ تدّعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترتبط بالدولة، ولا معروفَ فيها بل نكرانٌ للطبيعة العفوية للاجتماع البشري ومصادمةٌ للدوافع القلبية لاستقامة السلوك.
ليست المشكلة في أننا نحن العرب (متخلّفون سياسياً) كما يشتهي الخطاب الاستشراقي والشعوبي أن يصفنا به، وإنما ما سبق ذكره هو الذي يفسّر لماذا صارت الدولة القومية الحداثية في بلادنا بلاءٌ مضاعف: تصادم مع نموذج تشكّلنا التاريخي من جهة، وافتقاد الضوابط المناسبة من جهة أخرى.
التجزئة
الطرف الثاني لمشكلتنا الجمعية هو التجزئة. ولا بدّ من التذكير باتفاق سايكس بيكو المشهور –في الحالة المشرقية– وما وازاه في البلدان الأخرى. ولعلّ أوضح مثال هو المغرب والجزائر اللتان تمّت الهيمنة على شؤونهما من قِبل المستعمر نفسه، غير أنه لم يفُته أن يرمي بينهما العداوة والبغضاء السياسية.
وبذكر تكريس التجزئة، علينا أن نتجنّب سوء فهمٍ حول الخِطط. فمثلاً، وضعَ اتفاق سايكس بيكو حدوداً وهمية وصارمة لم تكن من قبل. غير أن ذلك لا يعني أنه لم يكن هنالك تكتلات ثقافية في تلك البلدان، فأرض العراق يشار إليها بكذا في التاريخ المسلم، وكذا مصر. وسورية لم تتخلّق قط وفق الحدود الرسمية وإنما كانت أرضها قلب بلاد الشام تحوي مدناً كبرى طالما كانت مركز إشعاعٍ في الحضارة المسلمة علاوة على استضافتها لمدينةِ أُولى القبلتين.
الحدود القُطرية الصلدة التي تمّ فرضها نتج عنها طامّات خمس:
- قطعت التواصل البشري بين الكيانات الجديدة.
- أفسدت التكامل الاقتصادي بينها.
- جعلت المصالح القومية القطرية متضاربة ومتعاكسة.
- أزّمت هويات الأقليات.
- فرضت صيغة عقدٍ اجتماعي جديدة تسلخ نفسها عن التاريخ الحضاري للمنطقة.
وهي طاماتٌ لأنها كالسوس الذي ينخر البنيان. فتراجُع التواصل البشري يؤدي إلى الهجران والنسيان. وتراجع التكامل الاقتصادي يُردي في الفقر والارتهان للمرابي خارج الحدود. والإعلاء الأناني للمصالح القومية (الوطنية القطرية) يحول دون تشكيل قوةٍ ومنعةٍ في وجه المتربّص الخارجي. وتحويل الجماعات قليلة العدد إلى أقليات يؤزّم هوياتها على نحوٍ يُفضي إلى النزعات الانفصالية. وهكذا حوّلت الصيغة الجديدة للعقد الاجتماعي الجديد بلادنا إلى مسوخٍ حضارية.
ومرة ثانية. نموذج الدول الحديثة في البلدان الأوروبية قام على السيطرة على الدولة بالقوة، ثم على انتزاع القبول من الشعب بوعود الرفاه، ثم على إحكام نظامٍ إداريّ فعالٍ قادرٍ على استثمار الموارد البشرية والمادية، وحدّ من الظلم الاعتباطي للسلطة الحاكمة من جهة وحوّل الشعوب إلى جموع غارقة في همّ الإنتاج والاستهلاك من جهة أخرى. وهذا هو نمط السيطرة المعقلنة.
أما نموذج الدولة الحديثة في البلدان العربية ففشل في السيطرة!
فالسيطرة الحقَّة تكون في النجاح في فرض عقد إذعانٍ مُبرّرٍ ومُطبّع. الذي حدث في بلادنا هو الحُكم من خلال الجيش وأجهزة (سلب الأمن)، وهذا اضطهادٌ غير مستقر. ولهذا اندلعت الثورات. ويضاف إلى ذلك ضعفٌ في وضع الخطط الإدارية المناسبة. ولم يكن بإمكان الدولة العربية في بلادنا إغراء المواطنين برفاهٍ مفتوحٍ غير محدودٍ لأن بلادنا لم تستعمر بلاداً أخرى تسرق ثرواتها ووتسترقّ أيديها العاملة. وحتى الدول النفطية التي امتلكت المال لم تستقرّ شرعيتها، بل تزعّزعت بقدر خرقها لشرط الانتماء الحضاري وبقدر ارتهانها للقوى الخارجية.
المعضلة
ما تمّ شرحه أعلاه هو طرفا المعضلة. نريد الخروج من حال التجزئة لكن مركزية الدولة الحداثية خانقة، تسرق المجتمع وتبتلعه وتخضعه إلى أولويات الآخر الحضاري فنخسر الدنيا والآخرة.
فكيف السبيل إلى الخروج من هذا الإعضال المُقعِد؟ الجواب هو مراجعة تصورنا نحو فكرة الحدود، وأختصر ذلك في النقاط التالية:
- الحدود الصلدة بين دولنا العربية مقيِّدة وتفرّط في المصالح ومُذهِبة للقوة.
- الحدود في عصر العولمة اخترقها –على كل حال– رأسُ المال والعمالة المهاجرة، ولذا ليس خفض الأسوار بين الدول دعوى لفوضى عارمة.
-
في السابق لم يكن ثمة حدود صلدة، وإنما تخومٌ مرنة. وهذه التخوم سمحت بالتجارة والتزاوج والتعارف بين الكتل الثقافية المختلفة. وثمة حاجة إلى استنقاذ أنواعٍ من هذا القبيل.
فمثلاً ما معنى أن تكون هناك حدودٌ صلدةٌ بين سورية ولبنان أو سورية وتركيا؛ أو ما هو الضرر من أن تكون هناك حدود على طريقة الاتحاد الأوربي.
- لا يمكن تصوّر العالم كتلةً واحدة هلامية، ولا بدّ من نوعٍ من الحدود المرنة من أجل التنظيم الإداري.
- تصبح الحدود حارقة عندما تقترن مع قومية مغلقة.
- ضمن النماذج المتوافرة اليوم، يمكن تصميم كياناتٍ وفق مبدأ توزيع السلطات الذي يساعد على استثمار المشترك بين شعوبنا والمكوّنات الملّية لبلادنا ويسمح في آنٍ باستيعاب خصوصياتها.
- التخوّف من الحلول الفدرالية أو اللامركزية مفهوم، إذ قد يكون عنواناً خادعاً للتجزئة. المسألة مسألة وعي وتصميم مناسب، فإذا فصّلنا الحلّ بعنايةٍ ويقظةٍ كان مورد قوة، وإذا تركناه للآخر يفرضه كان موضع ضعف.
خاتمة
توصف بلادُنا بأنها “مجتمعات قوية ودول ضعيفة”، ويمكن فهم هذا على وجه السلب أو الإيجاب. وما دامت حضارة الإسلام فيها تتنفّس فستبقى قوية. وما عداء الدول المهيمنة عالمياً اليوم لحركة التحرّر العربي إلا دليلٌ على قوتنا أو كمونِ قوتنا المستقبلية. وينبغي ألا ننسى هذا الكمون.
ينبغي ألا نشيح خيالنا عن جسمٍ عربيٍ كبيرٍ متواصلٍ مع بعضه البعض وفق صيغةٍ سياسيةٍ ما. فهذا الجسم ككتلةٍ بشريةٍ وكمواردَ وكموقعٍ جغرافيٍ استراتيجيٍ جسمٌ ضخمٌ ربما يأتي في المراتب الخمس الأولى عالمياً. ندرك بعمقٍ أن ذلك غير ممكن الآن، ولكن البُعد عن الطوباوية الحالمة شيء، وحرمان النفس من التشوّف والتطلّع والتخطيط لما فيه عزّها أمرٌ آخر.
الإشكالية في بلادنا ذات عناصر متشابكة:
الدولة الحديثة المعتدية بطبعها
+ عدم انسجام الهياكل مع الثقافة
+ العجز عن الإنجاز مع الغنى أو بدونه
+ غياب الحكمة لدى من تصدّر للحكم
+ التجزئة إلى كيانات هي ضعيفةٌ من يوم مولدها
والنتيجة المنطقية هي ضرورة الخلاص من قيود الدولة الحديثة، فهي آلة مصمّمة لغيرنا، فلا عجب أن لم تكن إلا مطيّة للدكتاتوريين من بني جلدتنا الذين رأت فيهم المنظومة العالمية خيرَ صديق.
الأمة العربية تستشرف مرحلة جديدة. الثورة العربية حقيقة، وهي منعطف تاريخي. الإديولوجيات الفاسدة انكشفت وتساقطت. مسيرة التحرّر جارية برغم الثورات المضادّة، والمعضلة هي كسر قيد الدولة وتجاوز الشرذمة في آنٍ واحد، هي في الانخراط في نموذج مرنٍ جامع من جهة ومستوعب للفروقات من جهة أخرى.
د. مازن موفق هاشم
28-07-2015
Tagged: الوحدة_العربية, التجزئة, الثورة السورية, الربيع العربي, العملية السياسية
اترك تعليقًا