مقولة الحل السياسي هي مثل النكتة السمجة التي يضطر المرء تحملّها بسبب أنّ خلاف ذلك يُفسّر تفسيراً مضرّاً. وربما لم يكن ممكناً التفّوه بمثل هذه المقولة المغلوطة لولا تراكم نتائج الأعمال الارتدادية وولوج أجسامٍ ليست من مادّة الثورة، فاقتضت الحكمة ترديد عبارة الحل السياسي وحضور اجتماعاته للبرهنة على البُعد عن المنطق العدمي الذي ينحر نفسه بعد أن يصيب قومه بكلّ مصيبة.
الحلّ السياسي لا يعتمد بالكلية على إرادة الفرقاء، فذلك شرطٌ لازمٌ ولكنه غير كافٍ. الحل السياسي لا يمكن أن ينبثق في غياب الشروط الموضوعية التي تدعو إليه. وقراءة الواقع تظهر بوضوح أن الصراع تحوّل إلى مصفوفة من المعادلات الصفرية التي تلغي المساقات العملية للحلّ السياسي ولو أراده أو تمنّاه اللاعبون. والمقصود بالمعادلة الصُفرية هو أنها معادلة غالب/مغلوب لا توسّط فيها. فالصراع الحالي في أرض سورية وفي الإقليم الشامي بشكل عام لا ينتج عنه في نظر كل فريق مجرّد فوت النصر والربح، بل ينتج عنه خسارة كبيرة وتراجع.
فلنعرض الزوايا الميتة التي حُصر فيها كل لاعب وفيما إذا كان موضعه يدفعه إلى اختيار حلّ سياسي؛ ولنبدأ بآخر فاعل دخل بشكل سافر.
روسية
روسية قامرت بدخولها سورية من ناحية مواجهتها الصلفة للجبهة الأمريكية الأوربية لتثبت نفسها أنها قوة لا يُستهان بها وأنها لاعبٌ أساس على المسرح العالمي، إضافة إلى أنّ النفوذ في هذه المنطقة هو تموقع استراتيجي ذو قيمة كبيرة. ويدخل استعراض أسلحتها أيضاً في هذا الباب. المعادلة الصفرية هنا أنّ أي تخلخل في الوضع الروسي لا ينتج عنه مجرد عدم تحقيق غاية ما تريد، بل ينتج عنه خسارات على صُعدٍ عدة. فكيف تحافظ على نفوذها وليس لها وجود على الأرض، إلا ضباط تيبّسوا في مؤسسة جيشٍ تفسّخت وفقدت مركزية القيادة.
المأزق الروسي يتمثّل في أن أي (حلّ سياسي) فيه أدنى تغيير سوف يخرجها من الساحة كلاعبٍ فاعل. وأي مخرجٍ أقلّ من الهزيمة الساحقة للثوار هو مخرجٌ غير كافٍ لها. ولكن تحقيق هذه الهزيمة غير ممكنٍ بلا التعاون مع إيران وتحييد تركيا من جهة، ومن جهة أخرى إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بأن الوضع في سورية بعد ذلك هو وضع مستقرٌ وأنه يترك لها (لأمريكة) فرصة نفوذ. والتعاون الروسي مع إيران من غير أن تجيّر هذه الثانية المكاسب لنفسها أمرٌ غير متصوّر، والتحييد الكامل لتركيا ليس بالسهل وثمنه مرتفع، وإرضاء أمريكة بالتمام غير مضمون لأن هذه الثانية سوف تبتزّ روسية لتنازلات في ملفات عدة على رأسها أوكرانيا التي هي أكثر أهمية وأكثر حرجاً للروس من سورية.
لا يصبّ في صالح الروس إلا (حلّ سياسي) وفق التجربة الشيشانية، لا يغيّر من الواقع شيء بل يُعيد الأمور إلى ما كانت عليه ويزيد من نفوذها وتمكّنها.
إيران
بذلت إيران جهود مضنية لمدّ نفوذها خارج مركزها في أرض فارس، وكاد أن يتحقّق لها في سورية وما حولها تمكّن نادرٌ في تاريخها، فكيف لها أن تقبل بحلٍ سياسي تتفلّت من يدها بسببه جواهر البحر المتوسط؟ ولو اعتمدت إيران على قواها المحلية فحسب لكان نوعاً من فرط الامتداد الذي يُعجز الدول؛ فنفوذها في حقيقته اعتماد على زعزعة تماسك الآخر زعزعةً تستغلّها إيران من خلال أقلياتٍ وفرقٍ مواليةٍ لها. وفي هذه الناحية شابهت إسرائيل في طريقة تحرّكها واعتمادها ليس على مجرّد ثقلها الذاتي بل أيضاً على خلخلة تماسك ما يحيط بها من خلال علاقات خدنيّة مع فرقٍ نفعيّة.
وإيران التي خذلتها روسية بعد دخولها العسكري المباشر إلى سورية تنتظر أن تتعثّر خطى الروس لتبرهن إيران ثانية أن ميليشياتها هي القوة الأرضية الوحيدة –خارج الشمال الشرقي– التي يمكن الاعتماد عليها. ولإيران ميزة إمكانها استغلال الاستقطاب الطائفي من جهة، واستثمار إمكانية التملّك والإحلال السكاني ولو كان على نحوٍ جيوبٍ جزئية متناثرة في أماكن استراتيجية، أو خطٍ متّصل يحدّد حماها، بما في ذلك ما يمكّن إيران ابتزاز أمريكة بتهديدات لإسرائيل معيّرة تقوم بها فرق تابعة لها وغير خاضعة للقانون الدولي، ابتزازاً يحسّن شروط التعاون بين إيران وكل من أمريكة وإسرائيل.
(الحل السياسيّ) تعريفاً هو قتل للمشروع الإيراني الذي يتحقّق من خلال ميليشيات تعمل خارج حدود السياسي. وكما هو معروف، النموذج اللبناني في السيطرة يشكّل خياراً راجحاً لها، ويكاد يكون الخيار الوحيد، إذ أنه لا ترافقه حمولاتٌ ضخمة تُثقل كاهل إيران. وإذا كان الحل السياسي الذي يناسب روسية هو نوعٍ من الإعادة إلى الحظيرة، فهو لإيران –كما هو لإسرائيل– سياسية الأرض المشرذمة التي لا ينبت فيها إلا الغردق.
الولايات المتحدة الأمريكية
بسبب سياسة إدارة أوباما، خسرت الولايات المتحدة الأمريكية مواقع استراتيجية مهمة في مواجهة الصعود الروسي الذي خرق قواعد اللعب في ظرفٍ يتهرّب فيه المنافس من أيّ لعبٍ. وتدرك المؤسسات الأمريكية هذا، وهي التي لها مساقاتٍ عملٍ تتجاوز فترة خدمة أي رئيس. ولذا فإنها تعاملت مع الواقع ببراغماتية فرضها الواقع. فما دامت سياستنا الرسمية منكفئة، فلنستغل الزوايا التي ينحصر فيها الآخرون وما ينزلقون فيه أو ما جاوز تقديرهم.
فكما أن الغرور الإيراني جعلهم لا يقدّرون إمكانية عجزهم عن دحر قوى الثورة، فاضطرارهم إلى زجّ عناصر إيرانية بشكل مباشر وهو الأمر الذي كانوا يتحاشونه، وأضف إلى ذلك عجز الحكومة العراقية عن مواجهة تنظيم الدولة منفردة، فإنه فتح لأمريكة باب المساعدة لإعادة نفسها للمنطقة. وصحيح أن حكومة بغداد سوف تبقى في قبضة إيران بحكم الأواصر المذهبية التي تمأسست في منظومة الحكم العراقية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تفتأ عن محاولة تحسين موقعها في العراق بعدما انحسر انحساراً هائلاً. وها هي الآن أصبح عندها 4000 خبير وعنصر عسكري بين العراق وسورية من أجل توسيع خياراتها في المنطقة.
والراجح أن أمريكة بعد محدودية النجاح الروسي وارتهانه لقوى أرضية بحوزة إيران أصبحت اليوم تطمع في أن يتطوّر الأمر إلى مأزق روسيّ جديد. وصحيح أن روسية واعية لخطر الانزلاق ولم تنسَ درس أفغانستان، ولكنها تفتقد في سورية ميزة سهولة إعادة التذخير. فالاستراتيجية المناسبة لروسية في سورية هي الحسم السريع من خلال الصدمة، وها هي الصدمة قد امتُصّت ولم يكن مردودها بحجم ما زجّ من سلاح.
وإذا كان انسداد الأفق في سورية يُربك كلاً من تركيا والسعودية، فلا بأس بهذا من وجهة النظر الأمريكية. وإن الإحجام عن الفعل المبادر في سورية الذي استاءت منه كثير من مراكز السياسات والخطط الأمريكية أصبح ممكناً توظيف نتائجه في لعبة انتظار ريثما تأتي إدارةٌ جديدةٌ بعد حوالي سنة ويكون جميع الأطراف قد أصبح منهكاً.
وإذا أخذنا ما سبق بعين الاعتبار، فإن أمريكة لا تريد حلاً سياسياً في هذه اللحظة، أو أنّ (الحلّ السياسي) الممكن لا يناسبها ولا يخدم مصالحها، إذ يمكّن إيران أو الروس أو كليهما فوق ما ترجوه.
تركيا ودول الخليج
تركيا لا تستطيع أن تحقّق غاية ما تريد من غير التعاون الخليجي وكذا دول الخليج العربي لا تستطيع تحقيق ما تريد بتجاهل تركيا. الواقع فرض تعاوناً لم تتطور بعدُ أدواته اللازمة بسبب اختلاف الأولويات بينهم كفرقاء عملٍ حديثو التنسيق في أمر يتفلّت من الأصابع ويزداد تعقيداً كل يوم.
والسعودية هي أثقل دولة في الكتلة الخليجية ولا تستطيع أن تضع الجهد المناسب في سورية قبل أن تطوي الملف اليمني. وتركيا لا تستطيع أن تغامر المغامرة المطلوبة في سورية من غير سيطرتها على الملف الكردي. بيد أن جهاتٍ خارج هاتين الدولتين تعرقل حّل الملفين اليمني والكردي، وتحاول استغلالهما. ولقد صار مسلّماً به في الكونغرس الأمريكي أن الـ ب واي دي في الشمال الشرقي لسورية قوة مرغوب بها، إذ يمكن الاعتماد عليها.
ولعل جبهة الخليج وتركيا هي الأصدق في سعيها لحلٍ ما، ولكن طبيعة (الحلّ السياسي) المرجوة تختلف اختلافاً كبيراً بين أعضاء هذه الجبهة المستحدثة من جهة، وتختلف عمّا يريده باقي الفرقاء الدوليون من جهة أخرى. وإنّ أدنى ما يمكن أن يكون مجزياً لتركيا أو السعودية أو قطر هو سمّ زعاف لباقي الفرقاء، وهذه معادلة شبه صفرية أيضاً.
* * *
ناهيك عن أنه ليس هناك حلّ سياسي لا يمرّ عبر العسكري، الشروط الموضوعية لحلّ سياسي غير متوافرة الآن، ولا يبدو أنها ستتوافر في الأجل القريب. وهذا صحيح من ناحية أولويات اللاعبين الدوليين والإقليميين، وأيضاً من ناحية الميدان السوري الذي يأنّ بالتشريد والتهديم والتفكّك الذي بلغ حداً لا يسمح لأي ترتيبةٍ مركزيةٍ بالقيام. ومما يعنيه هذا أنه فُرضت على الثورة فسحة لإتمام النضج السياسي، برغم كل ما يترتّب عن غياب الانفراج من آلام وضحايا.
والله المستعان.
استدراك:
جرى التساؤل عن دور إسرائيل، وهو أمر معروف ليس في ذكره جديد. كما أن أثرها يجري من خلال غيرها من اللاعبين، فمثلاً هي لم تخطط للدخول الروسي وإنما تأقلمت معه ووظفته لصالحها. والمهم في الفهم والتحليل ليس مجرد معرفة من (يتآمر)، وإنما معرفة مسالك تحقق الكيد في الواقع.
مازن هاشم
31-12-2015
Tagged: الثورة السورية, العملية السياسية
هل يُفهم أن روسيا دخلت سورية دون موافقة المجتمع الدولي وعلى رأسم أمريكا ؟؟؟
التنسيق أتى بعد ان استغلت روسيا الانكفاء الأمريكي فحشرتها في خانة اليك
نعم لهما أهداف عريضة مشتركة لكن بينهما تنافس أيضاً