إنّ أعمق تجلّيات الثورة هو رفض الاغتراب الثقافي وتناقضاته لقرنٍ من الزمن. وينبغي أن لا تُفهم الانتفاضة الضميرية على أنها مجرد انتعاش هوييّ سرعان ما يتلاشى، بل هي عزمٌ أكيدٌ يعمل على مستوى الشعور واللاشعور بآن، أصدق ما يعكسه نداءان للثورة: النداء المبكّر في الفترة السلمية المحضة “إلى الجنة راحين شهداء بالملايين”… وكانت جموع المتظاهرين تسقط فعلاً برصاص النظام الوحشيّ؛ والنداء الثاني هو “ما لنا غيرك يا الله” بعد معاينة التخاذل العالمي عن الدعم والعجز العربي عن المساعدة. ولم تكن هذه مجرّد شعارات، فالشهادة هي شهادة آنيّة على الفعل غير مُرجأة، والاتكال على الله وحده ترجمه الفعل بالاستمرار الواثق رغم الظروف القاهرة. ولم تكن هذه النداءات وأمثالها تصنيعاً مؤدلجاً من قيادةٍ ثورية، وإنما زفرات إنسانية وفطرة ثقافية وحقيقة تعكس الحالة الوجودية للنفس والعقل الجمعي، وتصلح حقاً أن تكون أيقونة أنثروبولجية مفسِّرة للحال الثوري.
ويكمن إرجاع إشكالية الهويات الجمعية التي نتحدّث عنها إلى الفصل الأخير في العهد العثماني. فما يُعرف بـ (التنظيمات) أو الإصلاح الإداري للدولة العثمانية في 1839 الذي تبلور في 1876 في أول دستورٍ للدولة له علاقة وثيقة بإشكالية الهويات فيما بعد. وكان لمرسومين اثنين آثار بالغة على المنطقة الشامية فيما بعدُ. الأول هو “الخط الشريف للكلخانة” (الكلخانة = قصر الزهور)، والثاني هو “فرمان الإصلاحات” في 1939. وكان القصد من هذه الإصلاحات (الليبرالية) –التي جرت بمساعدة مستشارين فرنسيين- بناء الهوية (العثمانية) لكل المواطنين والمساواة بين جميع الرعايا مسلمين وغير مسلمين، مساواة بقانون واحد، وليست تعاملاً مع الفروق عبر نظام الحقوق الخاصة لـ (نظام الملّة)، وهو النظام الذي يعطي المجموعات الثقافية المعترف بها استقلالية إدارية قضائية. وكان دافع الإصلاحات هو الحؤول دون صعود الدعوات القومية والحفاظ على وحدة تراب الدولة العثمانية. وثقافياً، ما كانت هذه إلا محاولة لاستيعاب روح الحداثة. واستفادت كلٌّ من انكلترة وفرنسة من هذه التغيرات استفادة كبيرة عبر توطيد علاقاتهما مع الأقليات المسيحية في سورية، وكانت سورية ما زالت يومها تحت الحكم المصري. وأُعطيت الامتيازات لرعايا الدول الرأسمالية صاحبة المشاريع التوسعية. ومن المفارقة أنه أحدثت هذه التغييرات في أسس الهوية توتراً بين مسيحيي الشرق من جهة ونظرائهم من الأروبيين من جهة أخرى. والمفارقة الأشدّ أنه لم تكن هذه السياسات مرضية عنها بين كلٍّ من الأغلبية والأقليات. فعلى سبيل المثال، كان المسيحيون قبل الإصلاحات معفَون من الخدمة العسكرية، وزال العفو بحسب النظام الجديد، إلى أن أُعيد مقابل رسمٍ نتيجة مطالبات المسيحيين أنفسهم. وكما يقول المؤرخ جيمس غِلْڤِن: “إنه لمن المفارقة أنّ السياسة الواعدة لجميع سكان الإمبراطورية بالمساواة بغض النظر عن الانتماء الديني، أدت إلى تصلّب الحدود بين المجتمعات وبرعمت ظاهرة الطائفية الحداثية بامتياز”[1]. وتدعّم وضع المسيحيين على نحو هيكليّ قانوني من خلال العلاقات التجارية، وذلك من خلال استفادتهم من التسهيلات التجارية والإعفاء من الضرائب التي قُدمت للأجانب من أجل موازنة قوة أجنبية مع أخرى، والتي سرعان ما التقفها بعض أبناء الطائفة المسيحية الكاثوليك.
أما توتّرات الهوية الجمعية بين الأقليات الأخرى فكانت من نوعٍ آخر وأشدّ حدّة من توتّرات الهوية المسيحية التي أُولعت بالحداثة الأروبية وتماهت معها. وضمن الترتيبة العثمانية المستندة إلى الفقه و كتب التراث المهتمة بالفرق عند (أهل السنة والجماعة)، يصنّف العلويين والدروز والإسماعيليين تحت فرق (الغلاة). وكانت هذه الفرق تعيش منعزلةً إلى حدٍّ كبير، كما أن ثقافتها المحلية منغلقة لا تقارن بانفتاحة مسيحيي منطقة لبنان –مثلاً- الذين كانوا على اتصال مع العالم لقرون. كما أنّه لم يكن عند المجتمع المديني تقبّل لريفيين أمثالهم. وهنا تكمن مفارقة عجيبة. فمجتمعات المدن لم تكن ترحّب بنمط حياة هذه الفرق لأنّ رسمها بقي بعيداً جداً عن رسم الحياة الحديثة في المدن التي تأثرت بالثقافة الأروبية. عدم الارتياح هذا ولّد عند فرق الغلاة -عندما سنحت الفرصة- تعلّقاً بالحداثة أكثر من تعلّق أهل المدن أنفسهم. أو ربما نصيغ هذه العلاقة على نحو أدّق قائلين: إنّ الغالبية المسلمة تفاعلت مع معطيات الحداثة على نحوٍ متدرّج، وانتقت منها ما حسبت أنه يناسبها ووطّنت منها ما وطّنت، فبقيت منسجمةً مع ثقافتها الأصلية إلى حدٍّ كبير. ونستطيع بذلك فهم الافتتان بالأفكار الماركسية التي أبدتها الفرق قليلة العدد –فيما بعدُ- ونفرتها وكرهها للدين عامة وللإسلام خاصة. وبالمقابل، بقيت الغالبية المسلمة التي تشرّبت من الحداثة قدراً كبيراً تحترم الدين وتفخر بالانتماء إليه، بغضّ النظر عن مدى التزامها الديني التعبديّ الحُكميّ، باستثناء ثلةٍ صغيرة جداً من العَلْمانيين والليبراليين الصُرف.
ما نشهده اليوم من استقطاب في الهويات تعود أصوله إلى أيام أفول نظام الملّة الذي –بغضّ النظر عما يقال فيه- حفظ الهويات الخاصة ورعاها على أرض الواقع. وكانت فترة ما بعد العثمانيين فترة بحثٍ عن الهوية بامتياز. واليوم وبعد اغتراب ثقافي فُرض على مسلمي سورية بالبطش والإرهاب وعسف الإديولوجيات المستوردة، تنتفض الهوية المسلمة وتؤكد أصالتها وعمقها. وبالمقابل، تتأزّم هويات المجموعات الأخرى.
[1] James L. Gelvin. The Modern Middle East: A History. Oxford University Press, NY, 2005.
ميلاد أمة في خضم التفاعلات الحضارية والجيوسياسية
ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني
ميلاد أمة-2: التوجهان العروبي الإسلامي والقومي العربي
ميلاد أمة-4: من مِلَل إلى أقليات: مقدمات
أ) حالة المسيحيين: العروبة والوطنية
ب) حالة الكرد: المخيال القومي وتأزمه
ج) حالة العلويين النُصيريّة: هامشية تاريخية وتبنّي دولي
ميلاد أمة-5: التصميم الطائفي لدول بلاد الشام
Tagged: التعددية, الثورة السورية, الحداثة, الربيع العربي, خلفية الثورة السورية
[…] ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني […]
[…] ميلاد أمة-1: إشكالية الهويات منذ الأفول العثماني […]