مفهوم العَلْمانية

8/7/2012

مصطلح العَلْمانية يظهر ويغيب ويغدو ويروح… وما هذا التناوب في الحال إلا إشارة إلى حيرة تجاه مدلولات المصطلح، أو أنه يمثل للبعض نبراساً في غاية الصواب لا يُعقل تجاوزه بينما يمثل لآخرين باباً للاختلاط لا يُعقل تبنّيه. ولا بد من التأكيد على أن هناك تعريفات متعددة للعَلْمانية واستعمالات متفاوتة بحسب السياق، وهناك فروق بين الاستعمالات في العربية واللغات الأروبية. وهذا يزيد في صعوبة إيفاء الموضوع حقه في مثل هذه المعالجة التي قصد بها الاختصار وعدم التطويل. ولذا سأصيغ المعالجة على نحو إجابات مجتزءة على انطباعات شائعة، وسيكون في هذه الأجوبة قدر من التبسيط.

هل ينطبق المصطلح على بلادنا؟

ابتداء نقول أن العَلْمانية ليست مشتقة من (العِلْم)، وإنما من (العالم)، ولذلك ظهر استعمال لفظ (العالَمانية) وإن لم يعمّ انتشاره. ومصدر هذا المصطلح هو فكرة تقسيم الوجود الاجتماعي إلى عالمين: الدنيوي و الديني أو المقدس و المدنس. ويتبع ذلك أن لكل عالم من هذين العالمين طبيعة خاصة وقوانين حاكمة وأنهما لا يلتقيان أو لا يشتركان. وتحديداً، استُبعدت الأبعاد الأخلاقية والإنسانية واعتُبرت معوّقات يجب أن تحلّ محلّها اهتمامات وجودية عملية بحتة. وانعكس هذا خصوصاً على أنظمة الحكم وأسس شرعيتها وتعاملها مع المكونات البشرية للمجتمع ككتل لا تاريخية، كما انعكس على أنمطة التنمية وتعاملها مع الاقتصاد والبيئة. وظهر كل هذا في طبيعة المغامرات الغربية في الحملات الاستعمارية ضد ما أُسمي عالماً ثالثاً.

ولا يخفى أن هذا المصطلح متجذر في الرؤية الغربية للعالم، وله علاقة بالمعركة التي جرت في أُروبة بين السلطة الكنسية والسلطة الزمانية. تعميم هذه الرؤية على التجربة التاريخية للصين لا يصحّ، وتعميمه على إفريقية لا يصح، وتعيمه على الهند لا يصح؛ وهو إن صحّ جزئياً في كل من الحالات المذكورة فإنه لا يصحّ أبداً في سياق التجربة التاريخية المسلمة. العَلْمانية مصطلح غربي عكس حالة أوربة في سياق تاريخي محدد، فله خصوصية ثقافية ولا ينطبق على مجال الحضارة المسلمة.

عقلانية و تقدّم؟

وقد يتبادر إلى الذهن أنّ العَلْمانية تعني العقلانية والرشاد. لكن هل في التنمية المجنونة التي أنهكت موارد الأرض رشاد؟ العَلْمانية نظرت إلى الكون أنه جماد وموضع استلاب، فكان العبث به (معقول) بل واجب. ولم يتمّ الوعي بوجوب المحافظة على البيئة إلا بعد التدمير والاستنزاف. أما الهندي الأحمر غير العلماني فإنه أدرك هذا الأمر قديماً حين قال قائدهم معترضاً على مغامرات الـ(كاوبوي) الآنجلوساكسن الذين كانوا يقطعون الأشجار بكميات كبيرة: الأرض ليست ملكاً مطلقاً للبشر يفعلون بها ما يشاؤون…. فمن هو المتقدّم ذو العمق في الفهم؟ لقد قاد إيمان الحداثة العَلْمانية بالفلسفات الوضعية والفلسفات المادّية التاريخية إيماناً لا جدال فيه أن شكّلت نزعتُها الأولية لاكتشاف أسرار الحياة وقوانينها إديولوجيات علمية عرفنا بعد بضعة قرون أنها أساءت فهم الإنسان والكون والحياة. ولكن عَلمانية الحداثة عجزت عن التوبة من الاستهواء الفكري والعُجب والتكبّر، فارتمت إلى جهة نقيضة في فوضى الأنسق الفكرية لما بعد الحداثة وتفكيكاتها وحفرياتها التخريبية لأي كُلٍّ ولأي اتزان. وما زالت كالنواس بين قطبيّ التطرّف الفكري الغربي، ولا تفتأ تضيق بالتوازن والشمول الذي يميز الفلسفات الشرقية عموماً وليس الفلسفة الإسلامية وحدها فحسب.

حيادية؟

كثيراً ما تطرح مسألة العَلْمانية على أنها محايدة لأنها لا تنحاز إلى أي دين. ولكن هذا التصوير خطأ من ناحيتين:

الأولى أن العَلْمانية تحاول تحقيق المساواة بين الأديان بطردها من الحياة، لا باحتضانها. والعَلْمانية ليست موقعاً في الوسط؛ بل هي موقف متطرّف وعلى نقيض من التفكير الديني الذي يؤمن بمطلقات ثابتة في أمور معيّنة. العَلْمانية تتبنى النسبية المطلقة، فتنقلب مذهباً فوضوياً يزهق معاً ثوابت الأخلاق الفردية وثوابت الاجتماع البشري.

الثانية أن العَلْمانية هي نوع من الدين الأرضي، فلها مسلماتها غير القابلة للاعتراض وغير القابلة للبرهان. ولها خياراتها الأخلاقية ولها أعرافها، ولو خالفت هذه الأعراف وتلك المسلّمات الأخلاقية لطردت وحوصرت. ولها ممنوعات أخلاقية من نوع الـ “تابو”، فمثلاً لا يمكن انتقاد نمط حياة اللوطيين، ويُعتبر النقد تخلّفاً وتعصّباً ماضوياً، وكرهاً وتحاملاً على القيم الانسانية، وعنصرية وعدواناً على الحريات الليبرالية؛ وفي بعض البلاد الديمقراطية (المتقدمة)، من يغامر بالنقد يعرّض نفسه لخطر الفصل من العمل! وسلوك الدول الأروبية العَلْمانية تجاه مواطنيها المسلمين فيه بيان كافي.

وفي الحقل السياسي يظهر للبعض أنّ العَلْمانية توفّر الحرية للمواطنين. ولكن هل كانت عَلْمانية الأنظم العربية محايدة وحامية للحريات، وما القول في حكم البعث في سورية وفي العراق…؟ وقد يقال أنّ مشكلة هذه الأنظمة أنها كانت عسكرية لا أنها عَلْمانية. إذاً فما القول في التجربة التونسية البورقيبية والتجربة التركية الأتاتوركية؟ وما القول في التعامل الفرنسي مع غطاء رأس المرأة؟ النظم العَلْمانية –كأي رؤية كونية- تمنح حريات وتقيّد أخرى؛ أي أنها ليست محض حرية.

العَلْمانية مدخل فلسفي، له زاوية رؤيته الخاصة واختناقاته الخاصة أيضاً. وعندما نستشهد بواقع علماني نُعجب به، علينا التمحيص إذا كان ما يسرّنا هو نتيجة العَلْمانية أم نتيجة الليبرالية أم نتيجة النجاح الرأسمالي. الاتحاد السوفيتي كان علمانياً بحتاً، فما القول فيه وفي الحريات التي يخوّلها.

العَلْمانية في الخطاب التركي

الخطاب التركي شوّش فهم العَلْمانية. وذلك لأن تيار العدالة والتنمية اضطر إلى المرواغة في أمر العَلْمانية لأن الدستور التركي ينصّ على تحريم مناهضة الأتاتوركية العَلْمانية. وعلى كل حال، وبغض النظر عن اللغط الذي أثارته عبارات أردوغان في زيارته لمصر، فإنّ أردوغان نفسه لما سُئل صراحة من قبل مجلة إسلامية ماليزية: كيف تقول بالعَلْمانية وهي نقيض الدين؟ فكان جواب أردوغان واضحاً بأن حزبه يقصد علمانية السياسة لا علمانية الرؤية والفلسفة، وأنّ تصوره إسلاميٌ بحتٌ لا مراء فيه، ورؤيته الكونية هي رؤيةٌ إسلامية تحديداً. وإنه لمن الطريف وضع الطرح التركي قبالة الطرح الماليزي، فأسس نهضتتهما متشابهة. فبرنامج داتو بدوي في ماليزيا الذي أسماه (الإسلام الحضاري) مغمورٌ بالعبارات الدينية ولا يجعل العلمانية مدخلاً له. ومرة ثانية، لغط الطرح التركي نشأ عن محاولة التفاف الإسلاميين حول الإقصاء العلماني، فما من حزب إسلامي في تركية قبل حزب العدالة والتنمية إلا وحلّته المحكمة الدستورية.

تعامل الطرح الإسلامي مع المصطلح:

لا بدّ من الإشارة إلى أن الطرح الإسلامي متفاوت في عمق تناوله لمسألة العَلْمانية، وجملة الأمر أنّ المزاج الشعبي الإسلامي/المسلم عنده رفض فطري بدهي لها، وبعض الانعكاسات العامة تُسبّب تشويشاً في تحرير الخلاف بين الطرحين العَلْماني والإسلامي. ولنا أن نلاحظ هنا أنّ الانسجام الداخلي لمفهوم العَلْمانية في الطرحين اليساري والليبرالي مردّه تداوله النخبوي المحصور؛ وتحدّي أي فكرة مجرّدة هو انتشارها بين وسطيّ الناس وبقاؤها على عمقها. ويشهد لهذه النقطة –نقطة نخبوية التداول وشعبيته- أن مفهوم العَلْمانية في التيار العروبي هو أقل تبلوراً أو أقل نهائية، بسبب شعبية الطرح العروبي وطيفه الواسع بين القومي الخالص والعروبي المستحضر للخلفية الحضارية للمنطقة العربية.

الطرح الإسلامي العالي يتعامل مع موضوع العَلْمانية بعمق كامل وبتمييز واعٍ لمعانيها ومقتضياتها، وهناك سجالٌ فيما إذا كان مقبولاً شفع مصطلح العلمانية بما يحدّد ساحتها، كقصرها على المجال السياسي، أو بضبط المصطلح بإضافة لفظ “الجزئي” مقابل “الشامل” أو “الكلّي”، بالمعنى الأصولي الإسلامي للجزئي والكلّي، ليكون معنى “العَلْمانية الجزئية” هو اتخاذ الأسباب المفطورة في الكون والاجتماع. ومقابل من يرى أنّ استعمال العبارات التي تقيّد لفظة العَلْمانية تحلّ الإشكال، ثمة من يرى أنّ ذلك يزيد الصورة غبشاً عند عامة الناس، إذ قد يُفهم منه أنّ قليلاً من العَلْمانية جيد وكثيراً منها غير جيد.

المعنى العام لمصطلح العَلْمانية يجسّد الرؤية الفلسفية الرافضة لما هو خارج العالم المحسوس للإنسان ويقصر مصدرية القيم على ذات البشر ويختزل الحقيقة في عالم المادة. وعلى المستوى المعاشي تضيّق العَلْمانية على ممارسات التدين، وتعمل على طمس المفاهيم الدينية في الثقافة العامة، وترفض السبل الطبيعية –التي يتبناها الدين، كالأسرة- كأساس في تنظيم المجتمع ومسيرة الحياة.

وبعد وقوع مصطلح العَلْمانية في غمرة التجاذبات السياسية لم يعدْ واضحاً المقصود به. فهناك استعمالات لمصطلح العَلْمانية في المجال السياسي قبلتها بعض الأحزاب الإسلامية كما هو الأمر في تركيا، وحديثاً قبِل راشد الغنوشي بالمصطلح في سياقه السياسي في تونس بمعنى العَلْمانية الإجرائية. ولعل دافع هذا القبول هو رغبة التفاهم مع العَلْمانيين والتأكيد على أن مجال الإجرائيات يدخل في باب العاديات في الفهم الإسلامي، وهو المتروك لخبرة الناس ومعرفتهم وتجاربهم. ولعل فيه أيضاً قطعاً للطريق على خطاب إسلامي سياسي غير ناضج، يتخذ من الشريعة شعاراً تجميعياً فحسب، ويعتدي على الشريعة الغرّاء بتغييب مقاصدها وبخلطها مع الفقه وبالإعراض عن عموميات القرآن والسنة.

كتب أحد الصحفيين عن الدولة العَلْمانية قائلاً إنها تعني عقلانية سلوك الدولة، وتعني اتباع الأساليب العلمية الحديثة، كما تعني الإدارة السياسية التي تلتزم بالقانون، وهي التي لا تنحاز إلى فئة من فئات المجتمع… إلى آخره من صفات حميدة. ولا يخفى أنّه لا يمكن رفض تلك الصفات المثالية، وهذه صياغة تمنّي حالمٍ لا تتّسم بواقعيةٍ ولا بعمقٍ علمي. إنّ سرد الصفات الإيجابية لما نحلم به ولصقة بمصطلح له تاريخٌ أمرٌ لا يُعتدّ به ويحوّل المصطلح إلى شعارٍ فضفاض. ومثل ذلك يقال في استعمال عبارة “العلمانية المؤمنة”. ومن ناحية علمية، هذه خفّة منهجية ربما تناسب المناورة السياسية ولكنها لا تليق بالجدية الفكرية.

د. مازن موفق هاشم

Tagged: , , ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: