مفهوم الحداثة و الدولة الحديثة
لا يمكن أن نتكلم عن الدولة الحديثة دون أن نتكلم عن معنى الحداثة. وإن معنى الدولة اليوم يختلف عن معنى الدولة في السابق، فالدولة الأموية مثلاً أو العباسية أو الحمدانية… هذه الدولة مختلفة نوعياً عن الدولة الحديثة بصفاتها الأساسية المؤسسة.
نسق المجتمعات القديمة
ج: نسق المجتمعات القديمة كان محكوماً بالتقاليد الشائعة، وكان للدين مركز واضح فيه. وكانت المحلّة الصغيرة نسبياً أساساً وموضعاً تنتظم فيه معظم نشاطات الأفراد، وكان الفرد بدوره جزء من كيان أكبر، بل سلسلة من الكيانات: الأسرة، علاقات القربى، القبيلة، مجموعة القبائل، إضافة إلى أمور اعتبارية أخرى، مثل الحكمة والخبرة والمنزلة الشرفية.
المدن الكبيرة عُرفت منذ زمن بعيد، وتميّز بها الاجتماع المسلم، غير أنها لم تكن بديلة عن مستويات الاجتماع الأخرى التي تمّت الإشارة إليها، بل هي تابعة لها. كما كان هناك تجارة ونوع من العولمة (التجارة بين البلاد)، غير أنه إلى حدّ كبير كان هناك اكتفاء واستقلال ذاتي.
حركة التنوير والثورة الصناعية
في السياق الأوربي كان هناك تعاون بين الكنيسة والحكام سواءً أكان الملك أو طبقة النبلاء. وكما هو معروف، تحكّمت السلطة الكنسية بحياة الناس من خلال أقنية الترهيب الديني الذي نال كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس ومما لم يكن رذيلة أو منكراً، بما في ذلك كبت النوازع الطبيعية، وتمّ عكس صورة للربّ أنه البطّاش المنتقم (وينبغي فهم هذا في إطار عقيدة التجسيد وتشبيهه بالملوك)، إلى جانب اضطهاد وملاحقة العلماء في العلوم الطبيعة والفيزيائية، رغم أن الكنيسة كانت موضع علم وتعلّم. وتراكمت بعض الاكتشافات والمعلومات والمعارف التي ضاق بها الإطار المجتمعي الذي يحيط بها، فحدث تغيّر على المستوى البنيوي وعلى المستوى الفلسفي والفكري.
على الصعيد المادي، كان هناك ما يسمى بالثورة الصناعية والتي هي ليست عبارة عن نقطة أي بين يوم وليلة وإنما تراكم تطبيقات ناجحة مع الاستئناس ببعض القضايا العلمية وذلك خلال الفترة بين عام 1760 و1820، فضاعفت القدرة على الإنتاج، وأكثر تلك التطبيقات كانت لاستخراج المواد الخام الذي دفع إلى البحث عن مصادر جديدة للموارد، وجرى استعمار القارة الأمريكية ثم استعمار أو استخراب معظم العالم كله. هذا من الجانب البنيوي الهيكلي.
ومن الناحية الفكرية، كان هناك عصر التنوير الذي يؤرخ له منذ القرن الثامن عشر (1620-1780)، ثم عزّزته على المستوى السياسي الثورة الفرنسية (1789) والتي استفادت من المناخ الذي أتى مع الثورة الأميركية 1776. جذور التغيرات كانت فلسفية، حيث طرح عصر التنوير أسئلة على الكنيسة ليس للطرح الديني أجوبة شافية لها. وعندما يعجز الدين عن الإجابة على تحديات العصر فإن العصر يتجاوزه. وهذا ليس غريباً في نوعه عمّا واجهه تراثنا، ولكن كان لتجربتنا نسق فآخر، فلم هناك كنيسة تحتكر فهم الإسلام أو تسيطر على أفراده سيطرة محكمة. وأساس ديننا كتابٌ مفتوحٌ، والشرط الوحيد لفهم معانيه هو معرفة لغته. وكما نعرف، ركّز القرآن الكريم على العربية في الوقت نفسه الذي نعى التعصب القومي وهاجم الآبائية وما شابهها.
دور الدين في الحياة
فحركة التجديد في الإسلام كانت دائمة وتدريجية وليس على شكل طفرات، خلافاً للنموذج الغربي الذي مثّل انفجاراً لما كان محبوساً في الكنيسة. ونذكّر بأن “حركة التنوير” The Enlightenment كان قبلها حركة “الإصلاح البروتستانتي”، وهذه الثانية حركة سلفية بمعنى الرجوع إلى النص ورفض التحجير عن تعامل عامة الناس معه واحتكار فهمه للكنيسة. وبالمناسبة، عندما نقرأ لـ Martin Luther يصعب ادّعاء أنه لم يتأثر بموضع النصّ في بالإسلام. ولكن أتت معالجته في وجه مؤسسة الكنيسة بالغة القوة والتجذّر. ولم يستطع التجديد المسيحي أن يحيط بالتحديات المعاصرة، فظهرت هناك نزعة “حركة التنوير” (1620-1780)، وفي بدايتها لم تكن ضدّ الدين بقدر ما كانت ضدّ الخرافة والتسليم للكنسية ومقولاتها. وخطت حركة التنوير خطوة أخرى في محاولة “عقلنة” الدين، ثم تطوّر الأمر إلى تهميش الدين ثم العداء له ثم إنكار لأصل الدين. ووصلت عند Marx (ت 1883) إلى ما هو معروف، أما الجيل الذي قبله مثل Montesquieu (ت 1755) فكان يعتقد أن للدين دوراً مهماً في الحكم –ليس على الطريقة الكنسية– لأن الأخلاق هي ركنٌ أساسٌ في نجاح الجمهورية (إلى جانب التعليم والمساحة الصغيرة). وأنبّه أن المسألة ليست مجرد مسألة جيل، فـ Hegel (ت 1831) اعترك كثيراً مع فكرة الدين. وبشكل عام، الفلاسفة الاجتماعيون الذين لم يكونوا معادين للدين رأوا فيه ملهماً أخلاقياً أو دوراً تلطيفياً أو حافزاً للتماسك الاجتماعي، وهذا الأخير هو مذهب Durkheim (ت 1917) الذي قال إن التديّن مهم جداً فالناس لا تستطيع أن تعيش بلا خرافة وما يعطيهم معنى في الحياة ويساهم في القضايا النفسية كتخفيف الرهاب العصبي. واستطرد لأقول إن في دراسة التجربة الأوربية ينبغي أن ننبّه إلى خطورة التلفيق وأن فساد المؤسسة الدينية لا يبرّر ادعاء التجديد كيفما كان ومن خلال مزج عناصر متنافرة وليست من أصل الدين.
الفلسفة الوضعية
حركة التنوير في نهايتها تمخضت إلى تأسيس الفلسفة الوضعية، وفي العلوم الاجتماعية حصل هناك نوعٌ من الغيرة من العلوم المادية، فقالوا كما وصل نيوتن لليقينية في قضايا الفيزياء وكما قدمت الثورة الصناعية الآلات وغيرها فيمكننا تحقيق مثل هذا في عالم الاجتماع البشري. وهكذا ظهرت التقدّم/Progress، ضمن الفلسفة الوضعية Positivism التي تقوم على ثلاثة شُعب: Reason بمعنى التفكير المحض؛ وScience بمعنى العلم المادّي المحسوس وليس العلم بظلال معانيه في العربية؛ وفكرة التقدم Progress حيث تستمر البشرية بالتقدّم في خط صاعد، وفي النهاية تستغني عن الإله. والدين يصبح غير ذي أهمية في الحياة إن لم يكن مصدر الرجعية/التأخر التي هي عكس التقدّم. ومن أبقى شذراً من الدّين أبقاه من باب إضافة شيء روحي إلى الحياة، لا الدين كمهج وكرؤية وكتصور شامل. ونعبّر عن ذلك اليوم بدين العطلة weekend أي للترويح عن النفس، والفرد بحاجة لهذا الترويح النفسي يقضيه تسوّقاً في نهاية الأسبوع، ولا يكون عند ذلك ثمة إشكال إذا كان فيه خرافة فالمسألة مسألة وظيفة لا مسألة حق.
والخلاصة، عندما نتكلم عن الحداثة فنحن نتكلم عن تمخّض تغيرات اجتماعية على مستوى الأسس والجذور ترتكز على نسق تصّوري فلسفي نتج عنه في السياق الأوربي، تنحية الدين عن معظم ساحات الحياة وربما العداء له أو الهزء به؛ كما ظهرت التوجهات الوجودية بشكل واضح. وربما يقال إن الناتج كان حتماً، فليس من المعقول القبول بخرافات الكنيسة. ما يخصّ موضوعنا هو أنّ منظور الفلسفة الوضعية بشُعبه الثلاث (Reason، Science، Progress) طغى فيه البُعد المادّي وظهرت منه نسخ عدة، منها النسخة الماركسية والتفسير المادي للتاريخ، فلا يمكن أن نفسر أي شيء إلا بالأسباب المادية، ثم اختزلت هذه الأسباب المادية إلى الأسباب الاقتصادية، ومن هذا المنظور لا يختلف توجّه Adam Smith منظّر الرأسمالية كثيراً عن Marx منظّر الشيوعية. أي أنه من الناحية الفلسفية كلاهما يرى أن أساس المجتمع هو الاقتصاد.
ما بعد الحداثة تطلّ بقرنها
بعد عقود أو قرن من حركة التنوير وجد فلاسفة الغرب أنه لم يستطيعوا أن يحلّوا ولا مشكلة واحدة من المشكلات التي ادعت حركة التنوير أنها ستحلّها. فالثورة الفرنسية كان شعارها مثلاً “مساواة أخوّة تحرر” (Liberté, égalité, fraternité)، فما الذي تحقّق من هذا؟ بالنسبة للمساواة يعيش العالم في عصر الفروقات الشاسعة التي زادت ولم تتناقص، وأين الأخوة والحروب والعداء على أشدّه، ولم يُنجِ التنوير من حربين عالميتين، ونعيش اليوم وفوق رأس كل آدمي أطنانٌ من المتفجرات. وحتى الرغد لم يتحقق بعمومه، فعدد الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر (دولار واحد في اليوم) هم بالملايين. لقد أدرك الفلاسفة الاجتماعيون في الغرب أن مشروع التنوير قد فشل، فآذن ذلك بدخول ما يسمى بـ “ما بعد الحداثة” Postmodernity، والتي كفرت بكل ما قطعته الحداثة بأنه يقين.
مفهوم الإطار المعرفي
وهكذا أصبح مسلّماً به أن الموضوعية في علوم الاجتماع مستحيلة، فهناك دائماً ذاتية subjectivism، فمثلاً الانتماء القومي أو الملّي/الإثني يمكن أن يؤثر على تفكير الإنسان على نحو غير مباشر، وفي مسائل معينة لا يمكن أن لا نتوقّع فروقات في طريقة التفكير بين الذكور والإناث. كما أن هناك دوماً مسلّمات مستبطنة على مستوى الوعي أو اللاوعي. ما يميّز البحث العلمي هو أنه منظّم ومدروس الخطوات ومحكم الآليات في العديد من وسائله. وبغض النظر عن الذاتية، فإننا في البحث نأتي من منظور معين perspective ونستبطن منطلقات ومسلّمات. والطريف أن من ساهم في بيان تهافت الموضوعية الصلدة فجّرها Thomas Kuhn في كتيّب بعنوان The Structure of Scientific Revolutions، وفكرة الكتاب أنه حتى العلوم الصلدة كالفيزياء والفلك، ليست العبرة بما نكتشفه من تفاصيل وإنما بالإطار الناظم لها، وأتي بأمثلة كثيرة من العلوم تلك العلوم. ما أبرزه الكتاب هو أن العامل الحاسم في العلم ليست (الحقائق) وإنما كيف يتمّ ترتّب الحقائق، أو ما نسميه بالإطار المعرفي (paradigm) الذي يعطي الحقائق موضعاً ووزناً خاصاً. ولنأخذ ما أشرنا له من أثر العامل النفسي في الصحة البدنية، فالتحدي العلمي ليس في مجرد الاعتراف بأثر العامل النفسي، وإنما كيفية تداخله مع سيرورة الشفاء: هل هو عامل مستقلٌ يسرّع عملية التعافي، أم عامل مساعد أو فيتامين يخفّف من بعض العوارض، أم عامل مشارك يتدخّل في فاعلية الدواء الكيميائي. وهناك أمر مهم آخر في هذا الطرح، وهو أن العلم يرضى بإطار معرفي ما غالب ومستقر، ينتقي من عناصر الظاهرة ما يناسبه ويصيغ نظرية مبدئية تبدو نهائية، ويستمرّ هذا التعريف (العلمي) إلى أن تتراكم الشواهد المشاكسة التي لا يفسرها ذلك الإطار تفسيراً لائقاً، فتتعاظم فيحدث ما يُطلق عليه بـ “انزياح الإطار المعرفي”، فتنقلب النظرة إلى بعض حقائق الطرح السابق ومسلماته إلى مجرد تشويشٍ يصرف عن العوامل الفاعلة أو تنقيرٍ نظري لا أكثر وتستبدل بغيرها. وأنبه هنا إلى أن ما أعرضه ليس مجرّد نظرية لعالم من العلماء؛ هذه الفكرة أصبحت من البديهيات المنهجية. وكان لهذا الطرح أثر كبير على العلوم الاجتماعية، فها هي علوم الفيزياء التي نغار منها ونطمع بتقليد صلادة قوانينها توصّلت إلى أن العبرة هي في الإطار الناظم أكثر من حشوة المساحة داخل هذا الإطار.
ما يهمّنا بعد ذلك التوسع أنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية لا يمكن أن تعطينا يقينيّات منفصلة عن واقعها وخلفيتها الحضارية، سواء في السياسة أو الاجتماع أو تربية الأولاد. وحتى في الطب هناك مذهب فرنسي وآخر أمريكي…الخ. ولنا أن نلاحظ أن المذهب الطبّي المعاصر لا يخلو من نزعة العدوان على الجسم. يعني الجسم بالنسبة له هو مجرد آلة فيعالجه بالسموم، ومؤخراً فقط بدأوا يعطون الجانب النفسي أهمية أكبر. لقد صاحبت الحداثة نزعة عقلانية متطرّفة (rationality)، وتشير إليها بعض الكتابات بمصطلح الرشاد، ولا أحب ذلك لجرسه الإسلامي والتراثي اللطيف، ولذلك ذهب البعض إلى استعمال مصطلح “الرشدنة” مثل “العقلنة” للتأكيد على اصطناعية الأمر.
اليقين والتنبؤ
فحوى الحداثة هي الإيمان بإمكانية الإنسان السيطرة على هذا الكون من خلال علوم يقينية قاطعة وفي تطورٍ صاعدٍ للبشرية إلى اللانهاية وإلى درجة الاستغناء عن الإله. ما بعد الحداثة أتت بردة فعل فأزهقت كل شيء وانتهت إلى العبثية والنسبية المطلقة. ولم يكتفِ بعضهم بخلع النسبية على فضاء الاجتماع، وإنما على الفضاء المادي أيضاً. ولا شك في أن في العلوم المادية درجة من الصلادة وهناك قوانين شبه صارمة (مثلاً كأس ماء نتركه ونعود بعد فترة نجده إلا إن تبخر)، وعدم تحركه مفهوم سُننيّاً وتبخّره مفهوم سُننياً. واللطيف الإشارة أنه من وجهة النظر الإسلامية كنا دوماً متجاوزين للحداثة حيث لا نؤمن يوماً بإطلاقياتها المادية، ونؤمن أنه يوجد إله خالق مسبّب، ونؤمن بقانونٍ اللهُ خلقه ويستطيع أن يستثني أي يخرقه. فكنا فلسفياً سباقين. فنحن لا شك في أن العلوم المادية هناك درجة من الصلادة وكلما اتجهنا نحو علوم الاجتماع وموضوع الإنسان نجد هناك نوع من النسبية.
ولنأخذ مثال الطب والدواء، ففيه أمور عضوية يمكن أن نصفها بالصلدة، ولكن حتى الدواء قد ينجح مع إنسان ولا ينجح مع غيره فهناك نوع من الرخاوة السببية. أما في العلوم الاجتماعية الإنسانية فهناك نسبية عالية ولا نستطيع أن نقول عندي قانون مطلق والتنبؤ اليقيني شبه مستحيل. ففي الاقتصاد مثلاً نادراً ما نسمع أن التنبؤ عن صعود الأسواق والبورصات قد تحقق وأغلب التفاسير هي تفاسير بعدية تحاول فهم ما حدث. وفي السياسة مثلاً لم يستطع الخزانات الفكرية ولا الـ CIA التنبؤ بسقوط الاتحاد السوفيتي أو بالثورات العربية. وقرأت مقالاً لعالم سياسة نشر مقاله قبل الثورة السورية بيوم واحد يجزم أنه لن يكون هناك ثورة فيها.
النسبية
أنبّه إلى أن أكثر كتابات ما بعد الحداثة طلاسم عسيرة جداً على الفهم. وما يهمّنا هنا أنها انقلبت إلى نسبية كاملة، ولذلك نصفها بالعبثيّة، فلا يوجد أخلاق ولا يوجد ما هو صح أو خطأ. أي إذا كان ما أتى به عمالقة فلاسفة الحداثة والتنوير ثبت أنه غير صحيح وإذا كان طروحات الدين من الطرف المقابل خرافة، فهذا يعني أنه ليس هناك شيء حقيقي. وهذا هو الإطار الذي ينبغي أن نستحضره عند تحليل تعامل الثقافة الغربية مع قضايا الجنس والشذوذ، فهي نتائج طبيعية للمقدمات الفلسفية المذكورة، ووضعها في زمرة حقوق الإنسان فحسب اختزال.
إذاً أفضت ما بعد الحداثة إلى العبثية وإلى نسبية مطلقة نسفت أي مرجعٍ أو ثابتٍ في الحياة البشرية بما في ذلك الأخلاق. لقد ترنّح الطرح الغربي بين قطبي الحداثة و ما بعد الحداثة، فنراه ينوس باستمرار بين قطبي “المغضوب عليهم” و “الضالّين”: المغضوب عليهم بمعنى يقينيّة زائفة، والضالّين بمعنى لاأدرية شاردة، وكلاهما مُنكر للحقائق الأزلية.
مفهوم التنمية
التنمية لها علاقة كبيرة بالسياسة، إذ أنها أضحت ما ينتظره الناس من الحكومات، كما أن مفهوم التنمية في أصله مفهوم قرين للحداثة. وعندما حلّت الحداثة دمّرت بُنى المجتمع التقليدي. حدث هذا في التجربة الغربية، وحدث بشكل يوازيه بناء مؤسسات بديلة من المفترض قيامها بوظائف المجتمع التقليدي. أما بلدان الجنوب فإنها فرّطت بما عندها وعجزت عن بناء البدائل أو أن البدائل كانت على مستوى رديء جداً. فعلى الأقل كان هناك يوماً تكافل اجتماعي. وإذا قلنا إن النموذج القديم للتكافل استنفد صلاحيته، فعلينا إذاً تطويره أو اختراع جديدٍ مناسب لنا. إلا أننا عندما أتينا بقوالب جاهزة كالتأمينات الاجتماعية فلم تسد الحاجة ولا يمكن أصلاً أن تتحمّلها ميزانيات الدول. وكل ذلك برّر مقولة “التخلّف” ومسؤولية الجنوب عن ترهّله وكأن الاستعمار والعبث الثقافي ودعم الاستبداد لم تكن عوامل حاسماً. ومصطلح التخلّف backward مصطلح مشكل، و لم تعد الكتابات الحديثة تستعمله، وبعض (المتنورين) منا ما زال يستعمله في غير موضعه إذلالاً للنفس.
أنماط التنمية التي استوردناها فرّطت بما عندنا من الجيّد ولم تناسب مجتمعاتنا أو لم تتحمّله منظومتنا. إذاً دمّرت البُنى التقليدية دون أن تنشأ بُنى بديلة، وهي التي لا بدّ أن تنشأ من خلال الثقافة المحلية وأن تكون منسجمة مع الأسس الفكرية والفلسفية ومع الرؤية الحياتية للقوم. وأضرب مثالاً في حقل القانون. ففي أمريكا مثلاً السُكر عذرٌ مخففٌ إذا تسبّب بحادث سيارة، بينما هو في الصين مشدّد. وفي الأول نازع لِبرالي يقدّم خيار الفرد في حين أنه في الثاني يُقدّم مصلحة المجموعة لسان حاله يقول: أتسوق وأنت سكران، ما هذا الاستهتار بالحق العالم.
ما علاقة ما سبق بالدولة والسياسة؟
طريقة التفكير الحداثية تقتضي أن ثمة وصفة جاهزة للدولة الجيدة. وضمن ذلك افتُرض أن ما سارت به أوربة يصلح لكل البلاد في العالم. وطبعاً هناك تحيزات داخلية بين مفكر فرنسي ومفكر بريطانيا إلخ… فكل يضع تجربة دولته المثل الأعلى، وإن كان يجمعها هو الاعتقاد بتفوّق النموذج الأوربي. واشترك معهم في هذه المقولة كثير من (المتنورين) العرب الذي أرادوا أن يصلحوا واقعنا. ولم ينجُ من خطأ قراءة التجربة الأوربية أو التسليم بعالميتها بعض المصلحين الإسلاميين وكبار العلماء، وما يُفصح عن هذا التوجه مثل القولة الساذجة المشهورة: في أوربة وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين في حين أن بلادنا فيها مسلمين وليس فيها إسلام. ولا يخفى تهافت هذه المقولة حيث أن فرنسة وأوربة كانت رافضة لأصل فكرة الدين وسائرة في طريق عَلْماني ليبرالي من نوع خاص. والعجيب أن فرنسة يومها كانت ما زالت جاهدة في تجريد الجزائر والمغرب العربي عامّة عن دينه ولغته، وتعبث بثقافة بلاد الشام وتؤلّب أقلياتها غير المسلمة، وكل ذلك على أعقاب ما فعل أيام نابليون بمصر. ومن المشايخ المعاصرين من هو معجب بـ Bertrand Russell وهو من مدرسة الفلسفة النفعية التي تنافي مقولاتها مقتضيات أي دين ومتطرّفة في ذلك.
أي أنّ جرثومة الحداثة غزت عقل المصلحين فأصبح ثمة طرحان، إما طرح منغلقٌ تماماً غائرٌ في حواشي الكتابات التراثية ومنقطع عن الواقع، أو طرح يغترف من الحداثة على غير هدى. وفي سياق الأحداث في هذه الأيام، يصعب القول إن موجة الغلوّ لا تمثّل جزئياً ردّ فعلٍ على الارتهان الفكري سواءً للطرح الفقهي التقليدي الذي يُنحّي الدين عن كثير من صُعد الحياة أو الطرح الإسلامي التنويري الذي يعتدي على السمت الديني. ولا يوجد مفكّر متخصّص يحترم نفسه يزعم أن تجربة البلد الفلاني تصلح كما هي لبلد آخر. وأحياناً أقول، إن المنظومة الفرنسية لو طُبّقت على الولايات المتحدة الأمريكية لاعتُبر ذلك نوعاً من العدوان على الرغم من أنهما بلدان ينتميان إلى السياق الحضاري نفسه، ولقد قاومت فرنسة افتتاح Disneyland في عاصمتها.
الدولة الحديثة تشكلت وفق ما يقال إنه صيغة دولة-شعب Nation State وتترجم خطأً بأنها دولة-أمة، ولكن المفهوم القرآني لمصطلح الأمة له معنى خاص، لذلك أستخدم مصطلح دولة-شعب. والصيغة الجامعة لهذه الدولة اختلفت عن مفهوم الاجتماع الإنساني القديم الذي كان مجذّر داخلياً في الحي والمحلّة وفي معطيات وتقاليد متوارثة، فأتت الدولة الحديثة وكان التغير على مستويين: المستوى الفكري القيمي حيث هناك بدائل تطعن في التقاليد وتعدّها جزأً من “التأخر” ومن ناحية ثانية فإن شرعية الفرد مستمدة من الدولة وليس العكس.
أما في الاجتماع المسلم فشرعية الدولة مستمدّة من الأمة، فالدولة تدير شؤون الأمة نيابة لا أصالة. وفي المنظومة الحديثة إذا سحبت الدولة الاعتراف يصبح الفرد لا شيء. شرعية الدولة في التجربة الإسلامية مجذرة في الأمة (وُلّيتُ عليكم ولست بخيركم…). وحتى الدولة ما عندها قبضة على القانون، فالقانون في الدولة المسلمة خارج الدولة. وصحيح أنها اختارت مذهباً معيناً (مثلاً الحنفي في التجربتين العباسية والعثمانية)، غير أن أسس هذا القانون صيغ خارج الدولة، والدولة تقوم بالإجراءات فحسب. أي أنه جرى نزع أهم مخالب الدولة—القانون ومستنده.
مهمة الدولة التسلّط بمعنى الإمساك بزمام الحكم، فتقترب من العدل في ذلك أو لا تعدل، ومن طبيعة الدولة الجزم وتسيير الناس ليس على أهوائهم. المهم هنا كيف تجمع الناس على عقد مشترك. في التجربة الإسلامية هناك طبقات من الاجتماع، على مستوى الأحياء والمساجد والأقارب والوجهاء في العائلة
تغوّل الدولة الحديثة
والمشكلة الأساس للدولة الحديثة هي أنها تغوّلت، أي تمددّت وحلّ نفوذها في كافة مؤسسات المجتمع فسيطرت عليها كلياً أو جزئياً. فمثلاً، فقدت العائلة على حدّ كبير حرية تقرير ما يدرسه أولادها، فالمناهج موضوعة من الخارج ونظام المدارس مسيطر عليه. لقد دخلت الدولة تفاصيل الحياة الاجتماعية فاعتدت عليها، والمشكلة أننا لا نعرف كيف نوقفها، وقديماً نبّه Max Weber إلى أن الدولة الحديثة تعتمد على البيروقراطية والبيروقراطية آلة صمّاء، وقال كلمته الشهيرة مشبهاً البيروقراطية بالسجن الفولاذي وأن البشرية محكومة مؤبداً فيها.
ومثال على ذلك عندما تتكاثر شكاوى الأفراد من أمر ما ويريدون من الحكومة فعل شيء ما نحوه، فتفتح الدولة مكتباً جديداً لمعالجة هذه الشكوى فتزيد من درجة البيروقراطية وبالتالي من التحكّم. الدولة الحديثة منتج شرير تمّ إنتاجه ثم أصبح خارجاً عن السيطرة.
الأسس الفلسفية السياسية الغربية
وحين نراجع الطروحات الفلسفية الغربية الحداثية لا نجد كثيراً مما هو جدير بالاحترام. وليس ثمة خلاف في الدول الحديثة المعاصرة تتمثّل عملياً فلسفة هوبز Hobbes الذي ألّه الدولة وأعطاها صلاحية الكاملة ومرجعية وسلطة على مستوى سلطة الربّ، يخضع لها الأفراد، فلا ثورة ولا احتجاج ولا اعتراض ولا نشوز عن إرادة الدولة الربّ. وهو الذي شبّه الدولة بالحيوان الخرافي الغول البحري Leviathan الذي ينبغي الخضوع إليه، وهو صاحب مقولة “حرب الجميع على الجميع” لو لا تنقذ الدولة من ذلك. أما مكيافلي Machiavelli فليس بمنظّر أصلاً، ولا يرتقي طرحه إلى أكثر من نصائح في المكر والمراوغة السياسية.
أما طرح لوك (Locke) فهو غارق في أمرين: الفردية وتقديس الملكية الذي رآها حقاً “طبيعيا” مغروزاً في الإنسان. وتوضع طروحه في زمرة فهم الفلسفة النفعية للإنسان والمجتمع، وإعلاؤه لقيمة الرأسمال أمر إشكالي، فلقد ارتأى أنه ليس للدولة حقّ إلا تمكين الفرد من التمتّع بأملاكه. ونعرف أنه لا يمكن لعدالة مجتمعية أن تتحقق ما لم يُلجم رأس المال عن الاعتداء. وعملياً فإن دفاعه المستميت عن الطبقة المالكة يتناقض مع دفاعه التامّ عن الحقوق الفردية. ويضاف إلى ذلك شكلانية قانونية في طرحه لا تنطبق مع واقع البشر الديناميكي، فتخيّل تنظيم المجتمع عن طريق القانون وحده وليبرالية مفتوحة لا ينتج عن عدل. ومشكلة القانون أنه إن طبق كما هو على كل الناس فهو غير عادل لأن ظروف الناس مختلفة. كما أن طبيعة القانون اختزالية، يختزل الأمور في ثنائيات (قانوني أو غير قانوني) بينما أمور الحياة طيف. ولكن هذا لا يعني أن نزعة الفيلسوف لوك لا تضيف شيئاً من الانتظام إلى المجتمع، فلا بد من نوع من القوانين وإن كانت القوانين ليست كل شيء؛ المسألة مسألة توازن.
وأخيراً نشير إلى فلسفة روسو Rousseau وهو الذي كان يعيش حالة اغتراب من الواقع الذي هو فيه، فكان بمثابة داعية لحركة تصحيحية في المنظومة. وهناك تناقض في طرح روسو، فكتابه الأول كان دفاعاً مستميتاً عن الفردية والثاني بعنوان “العقد الاجتماعي” هو الذي انبرى فيه للدفاع عن البُعد الجماعي وعن إنسانٍ طبيعي متّصل مع البيئة. وإذا اقتصرنا على طرحه الثاني الذي يُحتفل به نجده يعتبر أن للحاجات الاجتماعية منزلة مساوية للحاجات الفردية، إلا أنّ الأخلاقية برأيه مكتسبة ليست من كون المرء إنساناً وإنما من كونه مواطناً. و روسو صاحب فكرة “الإرادة الجمعية”، ومن أنصار الدمقراطية المباشرة غير قابلة للتمثيل، وأن النظام الدمقراطي هو أقل الأنظمة استقراراً ولا يصلح في كل الحالات، كما تحدّث عن الدين المدني. وبشكل عام، طرح روسو مليء بالتناقضات وأقرب إلى الصياغات الشاعرية من التنظير المحكم.
ولا يخفى أن هناك كثير من الطروح الفلسفية الغربية، وأهمها طروح بورك (Burke) و هيغل (Hegel)، ولا نناقشها لأنه المنظومة الغربية اليوم لا تتبنى كثيراً من مقولاتهم.
الأساس العملي للرؤية السياسية الغربية
أقترح أنّ نصف العقد الاجتماعي السياسي في الغرب اليوم بأنه “عقد استمتاع”، وعدٌ بالثراء مقابل (1) أن تعاظم الدولة قوتها؛ و(2) تعاظم الإنتاج من خلال سرقة ثروات العالم واسترقاق العمالة الرخيصة (أوربة بشكل عام والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص). وهذا لا يمكن أن يكون من غير التحكّم بالمنظومة العالمية، ومن ذلك الاستعمار الاستخرابي، والعولمة أحد تجلياته.
وعلى الصعيد الاجتماعي يقتضي هذا العقد النظر إلى الفرد على أنه كيس غرائز حسب نظرة Freud (جنس وعنف). والمجتمع الغربي في واقعه يستنشق مقتضيات فلسفتين، الفلسفة الفرويدية على مستوى الفرد والفلسفة الداروينية على مستوى المنظومة وفكرة البقاء للأشرس (وليس البقاء للأصلح، فهذه ترجمة مشكلة).
إن دِمقراطية الغرب لا يمكن تكرارها بغير سياقاتها التي نشأت ضمنها. فهناك تشابك كامل بين العامل البيئي والعامل الثقافي. وحتى عبارة نأخذ الإيجابيات من الغرب دون السلبيات هي عبارة فهم عامّي مسطّح، فالنموذج الغربي منظومة متكاملة بإيجابياتها وسلبياتها ولا يمكن تجزئتها ميكانيكياً. الاستفادة من التجارب البشرية أمرٌ آخرٌ وممكنٌ وواجب، ونناقشه في حينه بإذن الله.
وهكذا انتهينا من عرض مقدمات مقتضبة عن الحداثة وردة فعل ما بعد الحداثة، وعن الدولة الحديثة وإشكاليتها وأنها طارئة على الوجود الإنساني ولا تشابه الدول في الاجتماع السياسي القديم، ولا سيما الاجتماع الإسلامي. وذكرنا مسألة التقدّم والتنمية والتعامل مع المؤسسات التقليدية. كما ألمحنا لمسائل الموضوعية العلمية وتطور العلم من خلال لا التراكم البسيط وإنما من خلال طرح أطر معرفية بديلة. وكان كل ذلك ضرورياً لكي لا نقع في المغالطات والخلط والتلفيق بين الأنساق المعرفية.
Tagged: فصل الدين عن الدولة, الحداثة, السجال الإسلامي العلماني
اترك تعليقًا