22/11/2011
دروس من التاريخ الحديث للصراع (3): استخدام العنف في النزاع الوطني
ما من ذي عقل يقول بتحبيذ الفتنة وهرج الاقتتال في المجتمع، والمقولات التي تدعو إلى السلام ونبذ العنف كثيرة. ومن أجل الإضافة في موضوع كُتب فيه كثيراً، سأسعى للتفريق بين حالات مختلفة تدعو الشعوب إلى التفكير بالعنف كوسيلة.
وقبل ذلك أبدأ بالتذكير بثلاثة أنواع من الكتابات في هذا الشأن. الخطاب الأول خطاب شرعي يدور حول مفهومي الجهاد والفتنة. ولهذا الخطاب وجهٌ مبتوت ووجهٌ مفتوح. أما الوجه المبتوت فيه فهو رفض فكرة الانتقام والتحذير من حميّة الجاهلية أن تدخل في الدفع والاقتصاص، والقطع بعدم جواز الاعتداء على الحرمات، وعدم جواز التخريب سواء أكان زرعاً أو غيره من الأرزاق، وعدم قتال غير المحارب ووجوب تأمين القادر على القتال الذي اختار أن يعتزل. والأحكام في ذلك معروفة مشهورة، وأحكام قتال البغاة في الخلاف الذي يقع بين المسلمين فيها تضييق على العنف أكثر بكثير من قتال العدو. ومقابل هذا الوجه القاطع فيما لا يجوز فعله هناك توجيه عام لما يجب فعله، كنصرة المستضعفين والوقوف في وجه الظلم والنعي على القعود، أما التفصيلات في فعل الواجب فهي مما يتعلق بالظروف فترك للاجتهاد البشري.
الخطاب الثاني يطرح المشكلة من طرف إنساني، فيغلِّب خيار السلمية من منظور أخلاقي. وعلاوة على السموّ الأخلاقي لخطاب السلمية، هناك أدلة عملية على أنّ المقاومة المدنية هي أجدى للمجتمع، وعواقبها أقلّ إضراراً بالمجتمع. والكتابات العالمية في هذا أضحت مشهورة، والطروحات النظرية للأستاذ جودت سعيد مشهورة أيضاً.
الخطاب الثالث يستصحب المسلمات المقبولة في كل من الخطابين الأولين، ولكنه يسعى إلى التفصيل في الشروط الموضوعية التي تقبع خلف الصراع، لأن فهم هذه الشروط والتعامل معها هو الذي يمكِّن من تجاوز التعميم الذي قد يلغي صلاحية الفكرة –برغم صحتها- بسبب عدم انطباقها الكامل على الحالة الخاصة. ويحسن هنا التعريف بطرح د. عبد الحميد أبو سليمان الذي ألّف في ذلك كتاباً مختصراً متميزاً، وضّح فيه الفروق الجوهرية بين الصراع السياسي الذي لا يُمكن إلا أن يُحلَّ سياسياً وغيره من أنواع الصراع.
بعد هذا التذكير، يمكننا تقسيم الصراع الداخلي إلى ثلاثة أنواع. وسوف أذكر في كل منها مثالاً، وإن كانت حالة المثال تستأهل مناقشة مستفيضة، فذكرها هو من باب الاستشهاد الاستئناسي لا الدلالي. وأنواع الصراع الداخلي الثلاثة هي: الصراع الداخلي/الإقليمي، وصراع الانتصاف الفئوي، والصراع ضد الاستبداد.
الصراع الداخلي/الإقليمي
كثيراً ما تنقدح صراعات داخلية في بلد ما بسبب تمحورات سياسية داخلية لا تلبث أن ترتبط فاعلياتُها مع فاعليات
حركة قوى إقليمية مجاورة وتنافس هذه القوى، فيصبح لهذا الصراع عوامل خارجية وداخلية. العامل الخارجي هو القوى الإقليمية المجاورة التي لها مشاريع كبرى، فتسعى أو تدفع باتجاهات في المنطقة هي في صالح تموقعها الإقليمي وفي غير صالح القوى الصغيرة المحيطة بها. أو أن القوى الدولية تقدّم مساعدات أو تقييم علاقات متميزة مع القوى الصغيرة لربط مساراتها بمسارها، وقد يصل هذا الارتباط إلى حدّ الارتهان التي تُستدرج إليه القوى الصغرى على نحو يتعذّر في نهايته الانفكاك منه. وفي ساعات الصفاء تستفيد القوى الصغيرة من الارتباط بقوة كبيرة، غير إنّ التبعية لأولويات القوة المهيمنة سرعان ما تقدح تناقضات في مسيرة القوة الصغيرة وتخل توازنها، ويؤول الأمر إلى صراع داخلي. وبحسب حجم هذه القوى يُنشئ زخمُ حركتها موجات على أطراف مسار تحركها، مثل السفينة الكبيرة التي تمرّ قريباً من زورق صغير فتخضه وتغير من مساره.
العامل الداخلي هو ضعف البلد الذي تمرّ قربه العاصفة. وسبب الضعف قد يكون جدة تشكّل الدولة وضعف مؤسساتها، ويمكن أن يكون وضع مجتمع غير متماسك يفتقد المشترك الثقافي الذي يرصّ طبقاته، وقد يكون وضع بلد يمر في أزمة سياسية حادة يعجز فيها عن بلورة صيغة جامعة مقبولة للأطراف الفاعلة. هذا الوضع الداخلي بجعل البلد أكثر عرضة للاهتزاز بتأثير ما حوله. وهذا أمر معروف يكاد يُنسى لشدة بداهته، وفي سياق الواقع العربي، لا خلاف في أنَّ التجزئة هي أكبر مصدر ضعفٍ لدوله.
ويكون أمر الدول الضعيفة أكثر تقلقلاً إذا كانت للقوى الإقليمية مشاريع كبرى تتخلل مقتضياتها الدولة الضعيفة، وكثيراً ما يكون للإيديولوجيات السياسية المتحركة امتدادات خارج حدود الدولة. فتحاول هذه الفاعليات الداخلية المناغمة بين أجنداتها وأجندات خارجية لما ترى فيها من تقوية لتوجهها، ولا تشعر أي غضاضة في ذلك –على الأقل في أول الأمر- لأنها تشعر أن الاستفادة من الخارج ليس إلا استفادة من صديق أو استغلال مشروعٍ لفرصةٍ سنحتْ لسببٍ أو آخر. وأولاً وآخراً، الدول لا تعيش في معزل عن سياق عالمي، والتغيير في قطرٍ يؤثر على الباقي، مما يدفع الحركات السياسية إلى الاهتمام بما يجري خارج حدودها.
الأمثلة كثيرة، ولا بأس بتذكير سريع برغم أنّ قصة كل حالة قصة طويلة شائكة. قصة لبنان مشهورة، فلبنان الضعيف يأوي امتدادات الأنظمة المحيطة به التي تبنت قوى داخلية لبنانية، فحوّلت مسارها من التركيز على الشأن الداخلي إلى الالتزام بالأجندة الخارجية. والذي قدح الصراع الداخلي في لبنان مجموعة معقدة جداً من العوامل، تدخل فيها تراكمات تاريخية منذ زمن الاستعمار الفرنسي ومحاولة تمكين طائفة دون أخرى، وتضمّ هذه العوامل النظام السياسي القائم عملياً على المحاصصة الطائفية، كما تضمّ الثقل السوري القديم في لبنان، وتضمّ التشرذم الإيديولوجي، فلا تجد حزباً عربياً إلا وله فرع في لبنان، وضمّت تداعيات المشكلة الفلسطينية ووضع تنظيماتها العسكرية المطاردة بعد أن خسرت موقع قدمها في الأردن. وطبعاً هناك العامل الشيعي، ولو أن الصراع الداخلي حدث قبل الظهور الإيراني. كانت هذه هي الأسباب العميقة للحرب الأهلية اللبناينة 1975-1990، واستخدم السلاح في هذا الصراع فلم يزده إلا استعاراً، وانتهت الحرب بلا رابح، وكان الخاسر هو الشعب والمجتمع.
صراع جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية مثال آخر. ولا شك في أنّ هناك مظالم تُحرِّك أهل الإقليم. ولكنّ الصراع هو جزء من إرث الاستعمار الإسباني في المنطقة الذي أبقي في يده امتيازات استثمار الموارد الطبيعية في المنطقة من الفوسفات والسمك. وارتأت كل من المغرب وموريتانية أنّ لهما حق طبيعي بالإقليم، ولم يقبل هذا في الأمم المتحدة. وصراع الصحراء الغربية لا يمكن فصله عن الواقع الجيوسياسي، فهناك اصطفاف المغرب مع المعسكر الغربي، مقابل اصطفاف الجزائر مع المعسكر السوفيتي وتبني جبهة البوليساريو للفكر الماركسي. وضمن هذا لا نفاجأ بأن معسكرات اللاجئين التي تستضيفها الجزائر على أراضيها تُستعمل لتدريب مقاتلي الجبهة وتزويدهم بالسلاح كجزء من التنافس السياسي بين المغرب والجزائر. العنف والسلاح والقتال الذي جرى بين 1975 و 1991 لم ينفع البوليساريو، واتجهت الجبهة بعدها نحو نضال سياسي أكثر سلمية.
صراع الانتصاف الفئوي
صراع الانتصاف الفئوي يتميّز بعمقٍ اجتماعي أكثر وزناً من الوزن السياسي المباشر. وذلك أنه قد تقصّر المنظومة السياسية عن استيعاب التعددية القومية أو الإثنية أو اللغوية أو الدينية، فيثور جزء من الشعب لإقرار حقوقه، وربما يستنجد بقوة السلاح. هذا النوع من الصراع تأزّم خصوصاً في الدول التي تشكّلت حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية وفرضت حدوداً صلدة لم تكن موجودة من قبل. ففي حين كانت الأطر السياسية في السابق منسجمة إلى حدٍّ بعيد مع التكوين السكاني، تميزت الدول الحديثة بعكس ذلك، ولا سيما تلك الدول التي خطّ حدودها الاستعمار. ولا تقتصر إشكالية تقسيم المناطق على البعد السياسي من ناحية وضع الأقليات، وإنما تشمل أيضاً النشاط الاقتصادي لعامة الناس، ذلك النشاط الذي أصبح تحجزه حدود وضرائب جمركية وصعوبة تنقّل. وأفغانستان مثال بارز آخر، حيث قَسَمت الحدودُ الاصطناعية أرضَ الباشتون بين باكستان وأفغانستان، وأكثر نزاعات دول إفريقية القاريّة لها علاقة بهذا العامل. أما قصة رسم الحدود السورية فمشهورة معروفة.
الأقليات في الدول الحديثة يمكن أن ترضى بواقعها عندما يكون هناك نظام ناجح قوي وغني. فبرغم أنّ الأقليات تُضمر آلاماً تاريخية وتنزعج من تهميش هوياتها ومن خفّة التعامل مع أنساقها الثقافية، فإنها ترضى عادة بالأمر الواقع لأنها تجني بعض فوائد نجاح الدولة التي ضُمّوا إليها. الوضع في العالم الثالث الذي يعترك اقتصادياً ويعترك في تنظيم المجمتع يجعل الأقليات تفكر بالثورة، ولا سيما عند انسداد القنوات السياسية، وربما تفكّر في حمل السلاح.
الكرد في كلٍّ من تركية وإيران والعراق وسورية مثال واضح. ففي دول ما بعد الاستعمار، هُمِّش الكرد أي تهميش بعد أن كان لهم (ولغيرهم) شبه استقلالية في النظام العثماني اللامركزي. الأسى الكردي تجاه العثمانيين أسى سياسي، أما بعد ظهور الفكر القومي العربي وتهميش الكرد في العهد الناصري ومأسسة هذا في العهد البعثي، أُضيف إلى الأسى السياسي أسى ثقافي. حاول الكرد الانتصاف لحقوقهم بشتى الوسائل، منها سياسية ومنها مسلحة على شكل حرب عصابات. ويصعب القول إن النضال المسلّح كان أجدى، فإنه لم ينفعهم بقدر ما نفعتهم المناورة السياسية، ولو لم تكن هناك انقسامات حادة بين التنظيمات الكردية لأمكنهم تحصيل ميزات أكبر.
دارفور مثال آخر. ويمكننا أن نحدّد جذرين للمشكلة، واحد سياسي وآخر بيئي. فالمركز في الخرطوم أهمل الأطراف، مثل ما هو الأمر في كل البلاد العربية وأكثر بلاد العالم الثالث، ولهذا علاقة بخطط التنمية لفترة ما بعد الاستعمار. أما السبب الثاني فهو الجفاف الذي أصاب المنطقة فأزم المشاكل بين بين أهل الزراعة وأهل الرعي. فهل الاستنجاد بالسلاح كان هو الخيار الأمثل؟ وهل يصحّ لمن تلفُّه الفاقة الشديدة أن يصرف قروشه على السلاح والذخيرة؟
وصراعات الانتصاف الفئوي تزداد تعقيداً عندما يجري في سياق إقليمي قلق، وحينها لا يمكن أن يبقى هذا الصراع بمعزل عن السجالات الخارجية، إذ يشكل النزاع فرصة للقوى الإقليمية أو القوى المهيمنة عالمياً أن تستغلها لصالحها. والحالة الكردية هي بآن حالة انتصاف فئوي وحالة تموضع إقليمي. وحالة درافور ربما لم يحرفها عن المسيرة الأسلم مثل تدخلات نظام القذافي في ليبيا. ولكنّ وزن تدخل القوى العالمية والإقليمية يختلف بحسب قوة الدولة المعنيّة. فمثلاً، صراع أهل هضبة التيبت في الصين لا تؤثر فيه التدخلات الخارجية بقدر تأثيرها في صراع الانتصاف في السياق العربي الذي تتوسطه دولة اسمها إسرائيل.
الصراع ضد الاستبداد
علينا أولاً استحضار الفرق بين الثورة ضدّ الاستئثار والثورة ضدّ الاستبداد، وحديثنا فيما يلي هو عن النوع الثاني. الثورة ضد الاستبداد تمتلك الناصية الأخلاقية، مما يجعل فكرة استخدام السلاح في وجه القمع فكرة منطقية. وإذا كانت مساعي تغيير الاستبداد الذي يقهر بالقوة حقٌ واجب، هذا الوضوح الأخلاقي لا يوازيه وضوح في الوسيلة. فحمل السلاح يبدو أنه لا يخرج عن كونه معاملةً بالمثل، والمنطق هنا أنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، وأنّ النظام الاستبدادي يستعمل القوة فما المحذور من استعمال قوةٍ في اتجاه معاكس. هذه المحاكمة صحيحة لو أمكن انفراد عامل القوة في الصراع ولو أمكن حصر النزاع فيه، غير أنّ الخيار المسلّح يُدخل إلى المعادلة عناصر كثيرة أخرى.
صحيح أن الوضع الاستبدادي يستنفر السلاح من أجل فرض الطغيان، ولكن العنف ليس هو المرتكز الوحيد للاستبداد. فالاستبداد بعد تملّكه السلطة يحوِّل فرصة الغلبة بالقوة إلى فرصة تمكين وإعادة توزيعٍ لقوى المجتمع بحيث تصبّ في صالحه وتضمن له الاستقرار وتُغنيه عن استعمال العنف على نحو فاضح. النقطة المراد التأكيد عليها هي أن الثورة المسلحة ضد الاستبداد السياسي تبدو منطقية لأنها تواجه العنف بالعنف، لكن ما إن تستعمل العنف حتى تكتشف أنّ أمامها جبهات واسعة من العقبات، منها الاصطفافات المصلحية مع النظام ومنها ترددّ قطاعات من الشعب في المشاركة الفاعلة في الثورة لما يترتّب على ذلك من ثمن يحرص النظام على جعله باهظاً. وتجد الثورة المسلحة أنّ عليها أن لا تفتح جبهة جديدة وأن تحيّد هذه القوى المناوئة أو غير الصديقة لسببين على الأقل: (1) مقدار قوة العنف التي تملكها الثورة لم تأخذ بحسابها -من ناحية العدد والعتاد- سعة هذه الاصطفافات، ولذا تجد أنّ الأفضل أن لا تشتبك معها ما دامت هذه القوى تقف قريباً من خط الوسط بين النظام والثورة؛ (2) ولأن هذه الاصطفافات مدنيّة في طبيعتها سارية من خلال أقنية اقتصادية واجتماعية لا يجدي فيها العنف والسلاح. وإذا لم تراع الثورة هذين الاعتبارين، حرفها عن مسارها وأدخلها في متاهة النزاع مع من لا تريد أن تعاديه وأعجز قدراتها، وكل ذلك مما يتمناه النظام الاستبدادي ويسعى إلى الدفع نحوه.
في تجربة الجزائر في 1992 عبرة، إذ وجد الثوار أنفسهم في قبالة المجتمع، لا مجرد الدولة. وحمل السلاح أتى بعد سنين طوال من نظام يساري خانق أهدر قيم المجتمع بعد التحرّر من المستعمر، تلتْه فترةُ انعاش للأمل طرحت فكرة الحلّ الديمقراطي. وكان إلغاء نتائج الانتخابات المحليّة التي فاز بها الإسلاميون، دفاعاً عن سرقة الديمقراطية كما ادعت فرنسة يومها، سبّب صدمةً وخبية أملٍ عظيمة. وأصبح مبرر حمل السلاح منطقياً: دخلنا في اللعبة الديمقراطية وقام النظام بخيانتنا، فما لنا إلا السلاح لننتزع حقنا الوطني المشروع. غير أنه وجدتْ الحركة المسلحة نفسها في وجه أبناء الشعب من الشرطة والجيش. ثم دخل العنف نفقاً مظلماً يصعب معرفة تفصيلاته، قامت فيه عصاباتٌ التجأت إلى الجبال بأبشع أنواع التقتيل والتمثيل. كثير يعتقد أنّ أيادٍ ماكرة أجنبية أو محلية دفعت بهذا الاتجاه. ليس هذا هو الذي يهمّنا هنا، وإنما يهمّنا أن التوجه نحو السلاح في أمر سياسي أفشل الثورة يومها، وجعل أهل الجزائر الأشاوس متردّدين اليوم في اللحاق بركب الربيع العربي على نحو كامل.
تجربة الصومال تجربة حزينة اجتمعت فيها مجموعة كبيرة من العوامل السلبية. وعقدة الصراع ومبدئه كان استبدادٌ على نحو شديد. وبدأت الثورة في 1986 عندما قام سياد بري بمهاجمة الغاضبين من حكمه المناهضين لقمعه. وسقط حكم سياد بري بعد خمس سنوات في 1991 لتقوم ثورة مضادة. وسرعان ما تحوّل الصراع إلى صراع مزدوج: داخلي بين المناطق المختلفة، وخارجي شاركت فيه الولايات المتحدة الأمريكية ودخلت فيه إثيوبيا والقوى الإفريقية. استخدام السلاح ضدّ البطش الرهيب للرئيس المستبدّ كان مسوغاً من ناحية أخلاقية، فقد قامت قوات سياد بري بتشريد المدنيين وبقتل المعترضين السلميين على نحو شديد البشاعة. غير إنه من الناحية العملية لا نستطيع أن نقول أن التحوّل إلى العمل المسلّح كان خيراً للصومال.
العمل المسلح يفسح باباً أوسع للتلاعب الدولي في كثير من الأحيان. وذلك لأن العمل المسلح يحتاج الإمداد بالسلاح والذخيرة، وهذا يأتي عن طريق وسطاء خارجيين. والكلام هنا ليس عن تبني قوة دولية لثورة محلية في بلد ما، وإنما أن عتاد الثورات المسلحة يأتي عادة عن طرق أكثرها معروفة من قِبل المخابرات الدولية. وتشكِّل عملية التزويد بالسلاح –الذي يشتريه الشعب بعرق جبينه- مصدراً غير مباشرٍ للتحكّم بالثورة. ويمكن أن يكون لذلك صور كثيرة، منها الإمساك عن التزويد بالذخيرة في ساعة مساومةٍ سياسيةٍ لإضعاف موقف الثورة، أو يتمّ التزويد بسلاح يُصعِّد الموقف على نحو مبكِّر من غير أن يكون عنده القدرة على الحسم، مما يقذف الثوار في هاوية الفناء. وكلّ ذلك يفتح فرصة لإعلام النظام المستبدّ أن يدعي أنّ هناك مؤامرة خارجية. والتفسير التآمري شائع بين الناس، ومثال شاذ واحد يمكن أن يُقنع بعض الناس أنه هو الناظم العام للحركة.
ولا بأس هنا من الإشارة إلى فخٍّ في تقييم الواقع تقع فيه الأعمال العنفيّة التي تتزعّمها عادة ثلّة منقطعة عن المجتمع، ألا وهو حصر مشكلة النظام المستبدّ في بضعة أشخاص. ونتيجة لهذا التقييم المجتزء تتوهّم الأعمال المسلّحة الساذجة أنّ اغتيال القيادات المستبدة ينهي المشكلة على نحو سريع. وقلّما تنجح هذه العمليات لسبب بدهي معروف، ألا وهو أنّ هؤلاء المستبدّين يحيطون أنفسهم بطبقات متعددة من الحمايات. ولو نجحت عملية اغتيال الطاغية لاكتشفت الحركة المسلحة أنّ وراء المستبدّ البغيض من ينتظر أن يحلّ محلّه ويتابع طغيانه. هذا إذا كان الكلام عن استبداد متمحور حول بضعة أشخاص. غير أنَّ أنظمة الاستبداد المعاصرة تعلَّمت كيف تُمأســـس طغيانها، فمعظم ما تقوم به من جور وتنكيل إنما يسري من خلال مؤسسات، بغض النظر عن مكر رؤسائها وتسلّطهم، ولذلك لا يغيّر ذهاب واحدٍ من القادة مسيرة الظلم والعدوان. والاغتيال يكون له أثر كبير فقط في المجموعات التي يمسك بزمامها شخص فذٍّ حوله عناصر لا تمتلك الدربة والخبرة، ولا سيما إذا كانت هذه المجموعة صغيرة. والأمثلة على فشل استراتيجية الاغتيال كثيرة جداً في التجارب الحديثة في مختلفِ دول من العالم.
ولعل أخطر أمرين لحمل الثورة السلاح في صراع داخلي هو: فقدان السيطرة على استعماله؛ وتحوّل العنف إلى أداة انتقام بدل كونها أداة تعين على الغلبة. فعند دخول السلاح ساحة الصراع بين الثورة الشعبية والنظام المستبد، يصعب تحكّم قيادة الثورة بسلوك أفرادها، لأن طبيعة العمل المسلح تقتضي القرار الفوري، وفي أجواء السرية الكبيرة وضعف الإمكانات، تجد العناصر المسلحة نفسها مقطوعة عن القيادة وعليها أن تفعل شيئاً ما فالتوقف غير وارد. كما أنّ استعمال السلاح يفتح باب اختلاط الأوراق، وينتقل تعريف الثائر من ذاك الذي عنده برنامج مضبوط يبغي منه ردّ الأمور إلى نصابها إلى ذاك الذي يقدر على الضغط على زنادٍ. المحذور الخطير الثاني هو انجراف العمل المسلح إلى الانتقام البحت وحدوث تجاوزات والقيام بأعمال بشعة لا يُعرف من وراءها، واحتمال حدوث كل ذلك يزداد عندما لا يكون هناك تمايز واضح في الصفوف، كما أنه يحدث عادة عندما تضعف المقاومة المسلحة، فستهدف المواضع الـ (طرية) للنظام بدل المواضع (القاسية) العتيدة.
وطبعاً، لا يمكن أن ننسى أن أثر استعمال السلاح بالغ وغير قابل للانعكاس، فلا ميّت يُمكن إحياؤه، ولا عضو مجروح يُمكن إرجاعه إلى الحال السويّ، ولا هدم يُمكن بناؤه إلا على أنقاض. أي أن ما يتركه من أثر في المجتمع يصعب محيه أو نسيانه.
فإذا كان السلاح ضعيف الفاعلية حتى في حالة النزاع مع الاستبداد برغم امتلاك الحركة المطالبة بالخلاص ناصيةً أخلاقية كاملة، فكيف يتغير حال الاستبداد إذاً؟ نعود إلى ما سبق من أنّ الوضع الاستبدادي بعد أن أثبت وحشيّته وقوّته سرعان ما يكتفي بالتلويح بالعنف ويحاول أن يؤسس لنفسه شرعية، وإن كانت مبنية على الأوهام. ولتثبيت نفسه يعمد النظام إلى تشكيل شبكة مصالح مرتبطة به، ويحميها بكمون عنفه. ولذلك يبدأ إسقاط الاستبداد بإسقاط شرعيته الزائفة. وثاني فاعليات الإسقاط هي محاولة فك ارتباط المصالح المشبوكة معه. وثالثها هي خنق النظام من خلال العصيان المدني الذي يهدف إلى إيقاف الحركة في منظومة الاستبداد، الأمر الذي يرسّخ سقوط الشرعية ويعزّز عملية تفكيك شبكة المصالح. وطبعاً، لا يمكن أن تجري هذه الفاعليات إلا إذا كان جهد التغيير جهداً شعبياً واسعاً شاملاً لأكثر قطاعات الشعب. أما رابع فاعليات الإسقاط فهي تنازع العصبة الحاكمة، سواء حين يشكّ بعض من هذه العصبة أن النظام لم يعد يفي بمصالحها أو حين يطمح طامح أن ينشق آملاً أن يصبح له شأن كبير في المستقبل. تصدّع العصبة الحاكمة –سواء في الخلاف الحادّ في إدارة قرارها السياسي أو في انخفاض قدرتها على السيطرة على قوى القمع من الجيش والاستخبارات- ينذر بسقوط مفاجئ للنظام أو بدء سيرورة ضعف مستمر يزداد فيه ضغط القوى السياسية التي ستحلّ محله وتملأ الفراغ.
فهل للعنف أي دورٍ، وهل تساهم قوته في تسريع الفاعليات المذكورة؟ هذا يرجعنا إلى إشكال استعمال العنف في الصراع الداخلي كما سبق، ودخوله مبكراً يكبح الفاعليات الثلاثة الأولى المذكورة. أما أثره على الفاعلية الرابعة فمختلط، فربما يحفز تصدع العصبة الحاكمة إذا بدى أنه قادر على الحسم، أو يزيد من تماسكها لخوفها على مستقبلها. استعمال العنف لا يمكن أن ينفع إلا إذا أُدير على نحو دقيق جداً وكان رافداً للحراك العام بحيث يبقى الحراك المدني العام هو الأصل والعنف مساعد مستقل، وتكون مهمة العنف هي استنزاف النظام لا دحره (فهذا شأن الجيوش، لا المقاومة المدنية)؛ كما يطلب توافر شروط صعبة التحقق يلخصها البند الخامس.
دروس
1. الثورة ضد الاسـتئثار –بدل المطالبة بالإصلاح- غلط كبير، وناقش هذا الأمر ابن خلدون في مقدمته.
2. استخدام السلاح من قِبَل المدنيين في الصراع الداخلي/الإقليمي ينحى إلى غمس القوى الداخلية في حرب أهلية طويلة لا ينتصر فيها عادة أحد.
3. صراع الانتصاف الفئوي لا ينفع فيه السلاح، إذ يحوّل المطالب المشروعة إلى ما يهدّد الصالح العام، كما يفتح فرصة لتلاعب القوى الدولية وتوظيف هذا الصراع لصالحها.
4. استخدام السلاح في وجه الاستبداد وإن كان مبرراً أخلاقياً ويبدو سليماً منطقياً، يُمكن أن يحرف الثورة عن أهدافها الأولى، ويُمكن أن يفتح الباب لتحكّمٍ خارجيٍ غير مباشر.
5. استخدام العنف في وجه الاستبداد يمكن أن يساهم في إضعاف النظام واستنزاف قوته ضمن الشروط المفصلة أدناه:
أ- استقلال تنظيم العمل العنفي عن الحركة العامة المناهضة للاستبداد انفصالاً كاملاً.
ب- التزام العمل العنفي بأولويات الحركة العامة على نحوٍ كامل.
ت- التنظيم الدقيق جداً للعمل العنفي.
ث- ضمان استمرار الإمداد وتوافر العدد اللازمة توافراً يتجاوز الحاجة الآنية.
ج- القدرة على تأمين التواصل بين عناصر وقيادة العمل العنفي الذي سيكون عالي السرّية بالطبع.
ح- التأييد الشعبي الراسخ للعمل العنفي واحتواء هذا العمل على نحوٍ لا ينغمس فيه الشعب.
خ- قبول الشعب بالثمن العالي الناتج عن العمل العنفـي، فالقوة الاستبدادية تلجأ إلى إيقاع العقوبات الجماعية الانتقامية بعامة الشعب.
د- بدء حركة التغيير بالعمل العنفي لا ينفع، إذ أنه يصدّ عن المشاركة الواسعة للناس في الحراك الثوري ويمنع من اكتمال الفاعليات الثلاثة الأولى من إسقاط الشرعية وتقطيع شبكة المصالح والعصيان المدني.
6. بشكل عام، استخدام السلاح في الصراع الداخلي هو أقلّ فائدة مما يُغري به قبل حمله، وأقلّ فاعليّة مما كان يُرتجى منه من الحسم السريع.
7. وبشكل عام، استخدام السلاح في الصراع المدني يفتح الباب إلى فقدان السيطرة على مسيرة الأحداث وإلى استعمال السلاح للانتقام بدل استخدامه كوسيلة في تحقيق الغلبة.
8. المقاومة المدنية الشاملة ضد النظام الاستبدادي التي تشمل في مراحلها المتأخرة إرهاق النظام بمقاومة خشنة غير مسلحة هي من أمضى أنواع المقاومة، وتتبلور عادة في النهاية على شكل عصيان مدني شامل، ولا تفوق أثمانها عادة ثمن المقاومة المسلّحة.
9. قد يُسكت المقاومة المدنية تدمير واسع للأحياء ومجازر بالآلاف تفقد الناس إمكانية الاستمرار والعزم عليه، فتؤجل المواجهة جيلاً.
10. بسبب الضعف النسبي للثورة في وجه الاستبداد الذي نجح في ترسيخ استبداده، يستنصر الضعيف بمن يعينه من خارج الوطن. وتتحدّد سلامة النتائج البعيدة للمساعدة بدرجة تماسك الصف الداخلي، وبحجم تلك المساعدة، وبطبيعة المعين ودوافعه.
لا يخفى أن الموضوع الذي يعالجه هذا المقال هو في غاية التعقيد والتراكبية. وأرجو أن يكون العرض قد أحاط بأهم مفاصل هذا الموضوع، وفصّل في حالاته على نحو يجلي الصورة ويُبعد شيئاً من ارتباك الفهم تجاهه.
د. مازن موفق هاشم
المقال منشور على الموقع التالي: http://ahrar-syria.com/archives/1982
Tagged: التغيير السياسي, الثورة السورية, الربيع العربي, السلمية واللاعنف
اترك تعليقًا