التغيير السياسي وخيار الاستعانة بالخارج

3 آذار/مارس 2011

حركات التحرُّر في تونس ومصر وليبيا واليمن أظهرتْ على نحو جليٍّ أن محرِّك التغيير وزخمه هو الداخل. فلماذا يحلم الضعيف أن يأتي التغيير من الدول القوية في الخارج ويعقد عليها أمل الانعتاق؟

عندما يعمُّ الظلم ويستديم لفترة طويلة، يبلغ اليأس منتهاه حتى يتمسَّك الغريق بقشَّة لا تنقذه ويستغيث بالشيطان الرجيم وإن كان لا يزيده إلا خساراً.

وهناك من ينظر في التاريخ نظرة مستعجلة، فيلتقف الشواهد ويخطئ الاستنتاج. ومثال ذلك القول بأن الولايات المتحدة ساعدت اليابان وألمانيا فأنقذتهما، وكان هذا سبب تقدمهما. غير أن النظر الدقيق يظهر أن المساعدة لم تأت على محمل الكرم والإحسان، وإنما كانت فرصة لمزيد التمكن والاستغلال.

فمساعدة اليابان كانت فرصة بسبب موقع هذا البلد وتشكيله لحزام يحاصر السوفييت. وما حرب كورية وفيتنام إلا جزءاً مكملا لهذه الاستراتيجية.

إن اليابان لم تنهض بالتقليد، بل اعتمدت على مكامن قوتها الذاتية، من الانضباط وطاعة العمال والروح الجماعية والاتقان التام [متى سمعت إضراباً للعمال هناك؟ ولماذا فاجأتنا أعطال سيارات تويوتا مع أن هذا يحدث في كل الشركات؟]. ولم تغيِّر اليابان لغتها ولم تغلق معابدها وبقيت قابضة على أسس ثقافتها. وجهود النهضة في اليابان كانت قد وُضعتْ بذورها قبل التدخُّل الخارجيّ وذلك منذ زمن الإصلاح الميجي، ودستور اليابان الحالي هو تعديلات دستورية على الدستور الميجي.

أما ألمانيا فإنها جزء من المشروع الأوروبي الذي اصطرع بين توجهين، رأسمالي وشيوعي لهما نفس الأهداف الكبيرة واختلفا في الطريق الأقصر للوصول إليها. فدعمت الولايات المتحدة الشقَّ الرأسمالي المنسجم مع أولوياتها، فأعطتْ هذا المشروع حياةً جديدةً وقادتْ مسيرته. وخطة مارشال والمال الذي تدفَّق كان مقابل إخلاء الطريق أمام الولايات المتحدة لدخول حمى المستعمرات التابعة لأوروبا.

وللتفصيل، خطَّة مارشل أمدَّتْ أوروبا بالمال مقابل إعطاء الولايات المتحدة حقَّ الاستثمار في المستعمرات الأوروبية، مما جعل هذه المستعمرات تزيد من استيرادها من أوروبا، ومكن أوروبا من التصنيع وزيادة استيرادها من الولايات المتحدة التي بدورها تعيد بعض الفائض لأوروبا. ويا لها من خطة جهنَّمية لرأس المال، يدفع ثمنها العالم الثالث الكادح الذي نُهبتْ ثرواته واستورد وما أسَّس لنهضته.

وهكذا انتقل العالم من استعمار أوروبي مباشر إلى استعمار أمريكي غير مباشر، تجوب أساطيله البحار لا يراها أحد، وتحلِّق أقماره في الفضاء تحيط بالناس ولا تزعجهم. ومهَّد كلُّ ذلك للنتيجة الطبيعية من استلال السيطرة على ما يُطلق عليه اسم العالم الثالث من أوروبا إلى الولايات المتحدة، استلال أولويّةٍ لمصالحها وإن كان هناك تشاركٌ بين مصالحها والمصالح الأوروبية. وفي النهاية مكَّن هذا من إجراء الصفقات مع قوّاد البلاد العربية، أولاً مع ذوي الميول الرأسمالية ثم مع ذوي الميول الاشتراكية. فتدعَّم ظلمهم وتمأسس، وتطوَّر الظلمة الصغار إلى طواغيت كبار.

إن القول بالاستعانة بالقوى الكبيرة ظاهر الفساد تُدركه البديهة ناهيك عن البرهان والتحليل الدقيق. وإنَّ دراسة حركات التغيير تُشير بشكل قاطعٍ لا مراء فيه أن القوى الداخلية هي حجر الأساس. والمنطق المجرَّد يدلُّ على أن استجرار وزن أكبر يطيح بالكفّة، والكوكبُ الكبير يُحيل الكوكبَ الصغير ذرَّة مهملة في مدار الأول.

وتذكَّر أنه حين عقد العثمانيون حلفاً مع الروس، كان اتفاقاً بين دولتين وليس ارتماء لصغيرٍ في حضن كبير، وكان العثمانيون أوفر قوةً من الروس. أما حين استجار ملوك الطوائف وهم شتات بالإفرنجة، ذهبتْ ممالك المستغيث الضعيف وأُعمل القتل بشعوبهم والطرد والتغيير القسريّ للدِّين.

والحالة الليبيَّة فيها دورسٌ كثيرةٌ تؤكِّد ما نحن بصدده برغم أن أحداثها ما زالت تتفتَّق. فالمقاومة الداخلية هي التي رسمتْ واقعاً على الأرض لا يمكن تجاهله، وهي التي قولبتْ مصالح الخارج (متمثِّلة بالخوف على مصير الانتاج النفطي وبالخوف من موجات تسلُّل المهاجرين من إفريقية)، وهي التي تُحرج أوروبا بسبب الضحايا المدنيِّين. أما دعم المخلصين من أهل الوطن الذين يعيشون في الخارج فيتمثَّل في الدعم المعنويِّ وتقديم الخبرات الفنيَّة. وبقدر تمام الإنجاز الداخليِّ، وبقدر الوعي في نوع المساعدة المطلوبة (قوات بريّة أو حظر جويّ أو تشويش اتصالات)، تعجز القوى الخارجية عن العبث بالبلد الذي طلب المساعدة وعن تحوير أولوياته الاستراتيجية. ولا يخفى، لو كانتْ مصر قد بلغتْ حالة التعافي لكان الاستنجاد بها (أو بتركية) أسلم بكثير؛ فتدخُّل عنصر من نفس الخلفيَّة الثقافية يتكامل مع الجسم ويلتحم معه مع مرِّ الأيام، بينما يُمزِّق تدخُّل عنصرٍ غريبٍ نسيج الجسم ويفتِّته. والحالة العراقيَّة تُمثِّل النموذج المعاكس حيث كانتْ بداية التغيير من الخارج.

إن المظلوم اليائس خيرٌ له ألف مرة أن يستنجد بأمثاله الذين حوله من جنسه ومن وزنه. فالاستجارة بأولاد العمومة وأولاد الأخوال أكثر حكمة ولو كان بينهم فيما قبلُ عداوات. وذلك لأنه إذا صفت النيّات وجرت النصرة، عَفَتْ عن الماضي وربطت الجميع ضمن كيان أسريٍّ قويّ. وإن جرت النصرة مع تخلُّف صفاء النيات، لم يستطع أي فريق السيطرة على الآخر لصغر قوة كلٍّ بمفرده، ولغلبة احتمال اختلاف أولاد العمومة وأولاد الأخوال في بينهما.

وتذكَّر أنه حين أدخل الأعرابيُّ الضبعَ (أم عامر) لخيمته كرماً وحُسن ضيافةٍ افترسه، فقيل في ذلك:

ومنْ يَصنعِ المعروفَ في غير أَهلهِ *** يلاقي كما لاقى مُجيرُ أمِّ عامرِ

د. مازن هاشم

Tagged: , ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: