مفاهيم بديلة لتحليل التوتر السني الشيعي

6 جمادى الآخرة 1428 /  24  حزيران 2007

ماذا عسى أن يكتب المرء في هذا الموضوع بعد أن تطور الاحتكاك السني الشيعي، الذي يمكن أن يفهم ابتداء أنه احتكاك طبيعي لاختلاف وجهات النظر… ماذا عسى أن يكتب وقد تطور الاحتكاك إلى عنف بشع اُستحلت فيه المحارم واُرتكبت فيه أخس الجرائم، ولم تنج منه حتى المساجد والجنائز. ماذا عسى للمرء أن يكتب في هذا الخلاف وقد مضت عليه القرون وأهل العلم والمسؤولية غافلون يحاولون حل الخلاف بتجاهله، إلا ما كان من مناظرات ومراجعات متمحورة حول نفسها لا ترتق خرقاً ولا تُبرئ جرحا.

وها هو اليوم الذي نحصد فيه غفلة النُخب التي تركت المنافذ الثقافية والبنيوية ليتسلل من خلالها من يريد تمزيق الأمة إرباً، وليقف المسلم البسيط حائراً لا يدري كيف انقلب الحال وتبدل شعور السلامة والأمان والقبول رغم الاختلاف إلى فتنة طائشة تدع الحليم حيرانا.

ولكن الأمل بأن هناك من العقلاء من يتوق إلى تحليل يبتعد عن الغوغائية والتمحور يدفع المرء لأن يقوم بمساهمة -مهما صغرت- تحفز نحو تفكير بمسألة الخلاف الشيعي السني يتجاوز الشعارات المذهبية ويتلمس تفَّهم مسالك العمران وطبائع البشر وتقترح بدائل ذهنية تمتلك كمون تفسير أعمق وأحكم.

أولاً: ثلاث خطوط تماس

أبتدء الموضوع بمعالجة ثلاثة خطوط تماس خطرة بين ما يشار إليه بالسنة والشيعة تتفجر حولها المشاكل من غير لزوم: فأناقش خط تماس التفارق الفقهي لأظهر هامشيته رغم التعلق به، و خط تماس المخيال التاريخي لأظهر اختلاطه رغم حضوره، و أناقش خط تماس العادات الشعبية لأظهر تهافته رغم التهابه. و أرجو من معالجة هذه الأبعاد الثلاثة المولّدة للخلاف والداعية للشقاق إظهار ضيق أفق توتراتها وليُفسح المجال للتبصر بثلاث قواعد جامعة بين السنة والشيعة تتمثل في قاعدة المسلمات الثقافية وقاعدة الرؤية الحضارية وقاعدة التموضع العالمي. وفيما بين تلك المقدمة والنتيجة أشرح إمكانية فهم التوتر السني الشيعي من خلال مناقشة علاقات الأقلية بالأكثرية، ومسألة الهوية الجمعية، والإشارة لمطبّات شائعة في التحليل.

خط التماس الفقهي

تلزم مناقشة هذا الخط رغم أنه ليس ذا قيمة كبيرة أصلا. ففي حين أن المتديّنين الملتزمين يعطون المسائل الفقهية أهمية كبيرة فإن عامة الناس مشغولون بأمور معاشهم لا تكاد تُلقي بالاً إلى الخلاف الفقهي واستنادات الاستنباط وطرق التأويل.

ولكن حين ينقدح الخلاف بين مجموعات البشر لأسباب معاشية سياسية أو اقتصادية تتورم فجأة الخلافات الفقهية وتصبح عند الكثير أصل ولبَّ الخلاف، وتستقطب اهتمام نوعين من الناس، المتدين المتمحور مذهبياً والعامي ذي تدين العادة. فيعطي الأول فروع المسائل أهمية أكثر من أصولها، وذلك جزءًٌ من منهجية التدريس الفقهي في المساجد والمؤسسات الدينية التي تغمرها النمطية وضمور التحليل النقدي، والتي تعتمد في أكثر الأحيان على العرض التكراري لنصوص الفقهاء مقطوعة عن طرق الاستدلال الموجودة في كتب الفقه المعتبرة. أما عند العامي صاحب التدين الاعتيادي فإن سطحية تدينه وبُعده الكامل عن فهم أسباب الخلاف الفقهي تدفعه باتجاه لحظات “تقوى فقهية مغلوطة”؛ أي أن اجتماع سطحية التدين ورقة الالتزام مع الرغبة في توبة لحظية في ساعة أزمة تدفع هذا المسكين نحو تضخيمٍ وتهويلٍ يُدافع فيه بعقلية عصبية عنترية عن التزام ديني أهمله في حياته، غير دارٍ بأن رتق تقصيره يكمن في استقامة مُبصرة وتغيير لنمط السلوك، لا في لحظة لوم استعراضية مراهقية لا تصل إلى معنى التوبة الجادة.

والأمثلة حول حساسية الخلافات الفقهية كثيرة أورد بعضاً منها للتوضيح. فمثلاً تكبُر عند عامة السنة قضية مسح الرجلين في الوضوء عند الشيعة. ولا أريد هنا الدخول في التحقيق الفقهي وهل الأمر بمسح الرأس في الآية جملة اعتراضية أم لا، وإنما أريد أن أُذكّر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بحفنة، وهي مجمع اليدين من الماء. فإذا كانت حفنة هي كمية الماء المستعمل في الوضوء لكل أعضائه الواجبة فإن الفرق بين غسل الرجلين ومسحهما يصبح أقل بكثير من غسل الرجلين اليوم بماء جار من صنبور متدفق. وأورد بهذه المناسبة انطباعات شخصية من شبابي المبكر حين أكرمني المولى بالحج، وكنت في ذاك الزمان مولعاً بالفقه حيث كان يمدّني -كشاب في سنِّ المراهقة- بقواعد ووصفة قاطعة تناسب المرحلة الذهنية النفسية لذلك العمر الذي يحتاج توجيهات واضحة وهو يستقبل عالما جديداً يخرج فيه من حيّز الأهلين وعنايتهم المباشرة إلى العالم الكبير. وقد لاحظت في رحلة الحج هذه أن العديد العديد من المصلّين لا يثنون أصابع أرجلهم عند السجود. وتحركت يومها في ذهني ميكانيكية معلوماتي الفقهية آنذاك لتقول لي إن سجودهم باطل فصلاتهم باطلة.. وكيف يدخل الجنة من بطلت صلاته؟ بل وراعني أكثر من ذلك أمر بعض الناس الذين يشيرون إلى الحجر الأسود أثناء الطواف بطريقة لا تدل على أن عندهم وعي عمر بن الخطاب الذي قال عن الحجر أنه لا يضر ولا ينفع ولولا أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يُقبّله لما قبّله؛ وتتصل هذه الملاحظة الثانية بأمر عقدي يتجاوز صحة الصلاة. ولكن سرعان ما رجعت إلى نفسي وقلت إن الله الكريم لا يمكن أن يخيِّب تلك الجموع الحاشدة من المسلمين التي تحركها محبة الله وطاعته وهم مندفعون بكل كيانهم يستغفرونه ويرجون رضاه.

المراد هنا أن قلة العلم هي التي تقف وراء الاندهاش للاختلافات في فروع الفقه، وإنه لمن المعروف أن الخلاف بين المذاهب الفقهية السنية فيما بينها قد يساوي أو هو أكبر من الخلاف بينها وبين المذهب الجعفري للشيعة الإثنى عشرية. وإذا أخذنا مسألة زواج المتعة عند الشيعة، وهي مسألة خطيرة تُجلب فيها النصوص ويجري التخريج الفقهي الفني بعيداً عن اعتبار السياق التاريخي، فإننا نسمع اليوم إفتاءات الأزهر التي تقترب قليلاً أو كثيراً من مفهوم زواج المتعة. فالمسألة ليست مسألة مذهبية بقدر ما هي منهجية استنباط آلية تنأى عن المقاصد الكبرى للشريعة.

والتنازع بين الجهلة من أتباع المذاهب الفقهية السنية معروف، مثل ما يُروى في التاريخ عن تشابكهم في مدن العراق، تشابكاً يصل إلى حدِّ الضرب. فمثل هذا التنازع هو تنازع الدهماء والزعران الذي يستند إلى العصبيات والمصالح وليس حقيقة بخلاف مذهبي، ولقد جرى هذا النـزاع ضمن بوتقة السنة و تحت “حكم إسلامي”. أي أن العلّة في مثل هذا هو ضمور الفهم و الانتماء العصباوي لمجموعة، وليس في الشذوذ الديني.

وتتأزم قضية التفاهم السني الشيعي عندما تُصاغ المسألة بأن الخلاف بين الفريقين هو خلاف عقدي. ولكن هذه العنونة موهمة جداً، فصحيح أنه تدرج بعض مسائل الخلاف في أبواب العقائد ولكنها مسائل في فروع العقائد التي يرد فيها الخلاف. ولو أنعم المرء النظر لوجد أن هناك خلافاً في فروع العقيدة داخل طروحات كل فريق. وإذا أخذنا المدارس العقدية الثلاث–الأشعرية والمعتزلة والماتوريدية- فإنها لا تصطفّ بشكل موازٍ بالتمام للانقسام السني الشيعي، رغم أن هناك ميلاً لكل فريق لمدرسة معينة. ولقد نمى الإعتزال في حضن السنة ووصل التعصب المقيت له تحت حكمهم، ولكن كانت النهاية أن مال السنة للأشعرية والشيعة للاعتزال لأسباب لها متعلقاتها السياسية. والألطف من هذا الإشارة إلى أن التحليل المتأني لفكر أعلام المصلحين المعاصرين من السنة يُظهر إلى أنهم تبنوا بعض آراء المعتزلة، وان لم يلتزموا بكل مقولات المذهب ولم يقبلوا شططهم. المقصود هنا أن رفع شعار الخلاف العقدي فيه تسطيح جائر لمسائل معقّدة تتصل بعلم العقيدة والكلام وتاريخ تطورهما، وهو باب من العلم يندّ عن مستوى تفكير معظم الخلق. ويزداد الأمر صعوبة على الفهم بسبب أن بعض الفرق المنحرفة عقدياً في تاريخ الإسلام تفرعت عن التيار الشيعي أو نمت حوله، واستبطن بعضها المفاهيم الزردشتية والمزدكية، كما جرت تحالفات سياسية مشبوهة، الأمر الذي يجعل الانتقائية في الاستدلال وافرة والفهم السديد عزيز الطلب بسبب اختلاط الأبعاد وتقاطعها.

ويكفينا هنا التذكير بأن الإمام الأشعري يقول بطريقة قاطعة أننا “لا نُكفّر أحداً من أهل القبلة”. فإذا كان هذا هو قول شيخ المدرسة العقدية التقليدية التي مال إليها كثير من أهل السنة تاريخياً، فهل نزاود على قوله؟ وحتى إذا أوردنا فتوى ابن تيمية -ولا يخفى أنه من المتشددين تجاه الشيعة- لوجدنا أنه يساء فهمه. فيقول ممثلاً في مسألة سبّ الصحابة التالي: “أما من اقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره. بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، و كذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت… وأما من سبّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم و لا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.” وحيث نعلم أن التوحيد ونبوة محمد وختم القرآن أمور قطعية في أصل التوجه الشيعي (وقضية مصحف فاطمة يفهمها شيعةُ اليوم على أنها تفسيرات لآيات القرآن أملاها الرسول –ص- على فاطمة وبقي سِجلّ هذه التفسيرات مع الإمام الغائب)، فإن في عبارة ابن تيمية– الذي لا يمكن أن يوصف بالمتساهل – جواب شاف يقطع دعاوى التكفير الاعتباطي المودي إلى الفتنة.

إن مسألة التكفير خطيرة في نظر الإسلام، وإن مما يميز طبيعة الدين الإسلامي أن من وقر في قلبه وعقله الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يُعتبر مؤمناً لا يحتاج إيمانه إلى توثيق خارجي من مؤسسة أو فرد. و يقتضي المنطق السليم القولَ بأن من واجب علماء الشيعة الرفض الصريح للآراء الشاذة الواردة في كتبهم والتي تثير حفيظة السنة وشكوكهم. وبالمقابل فإن من واجب أهل السنة أن ينظروا في الطروحات المعاصرة للشيعة التي طوّرت فهمها لمسائل مفصلية (بما فيها قضية الإمامة) وأن لا يجري التعلق بالتراث إذا تجاوزه أهله أو طلبوا له تأويلاً مغايراً.

ويشار أحيانا إلى تفارق أساسي بين السنة والشيعة في المقبول والمرفوض من الأحاديث النبوية. وليس هناك شك أن هذا مفرق هام، ولكن يجب الانتباه إلى بضعة أمور. إن هناك فرقاً كبيراً بين إنكار السنّة بالكليّة وبين الخلاف في المقبول والمرفوض من الأحاديث، فحجيّة السنة شيء والخلاف في قواعد قبول الحديث شيء آخر. وكما هو معروف فإن أبا حنيفة لم يأخذ أو غابت عنه (بسبب تقدمه الزمني قبل جمع الأحاديث) كتلة كبيرة من الأحاديث. و قدّم مالكٌ عمل أهل المدينة على بعض الأحاديث الأخرى، والشيعة قدّمت (عملياً) عمل آل البيت على غيرها من الأحاديث (وبالغت في هذا). إن المطلوب هنا ليس التمحور حول هذا الرأي أو ذاك والتوحّد التاريخي معه، وإنما المطلوب هو النظرة الكلية التي تتفحص جهد المسلمين في استيعاب ذخيرة الحديث النبوي وإدراك أوجه القوة ونواحي التقصير في الأخذ بهذا المنبع. ولعله يصح القول بأن العطاء في الجهد السني كان أبرزاً في ناحية نقد الأسانيد بينما كان العطاء أبرزاً في الجهد الشيعي في ناحية نقد المتون.

و العجيب الذي يستحق الإشارة والتأكيد عليه هو أنه رغم الاختلاف في منهل الأحاديث بين السنة والشيعة فإن المترتبات السلوكية والأخلاقية التي اِنبنت عليها واستمدّت منها متشابهةٌ تشابهاً كبيراً، فأنمطة الحلال والحرام والمستحبّات والمكروهات وأنسقة الاستقامة والصلاح تكاد تكون متطابقة بين السنة والشيعة.

والخلاصة أن أحد أوجه الاحتكاك السني الشيعي هي تفاصيل فقهية صغيرة تتضخم خصوصاً عند العامي الذي لا يدرك حجم الخلاف داخل كل توجه، والذي لا يدري أن هناك خلافاً كبيراً حتى داخل المذهب الواحد كالخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، أو الخلاف بين الشافعي قبل كتاب الأم وبعده، أو الخلاف بين منهجي السبكي والنووي داخل الأسرة الشافعية، أو الخلاف بين متقدمي الحنابلة ومتأخريهم أو بين الحنابلة عموماً ومنهجية ابن تيمية وابن القيم من المذهب ذاته. ولعله من اللطيف الإشارة هنا إلى أن من أروج الكتب الفقهية المتداولة في الحقبة المعاصرة (حتى بين السلفية) هي سبل السلام للصنعاني ونيل الأوطار للشوكاني وكلاهما زيديان.

خط تماس الصورة الذهنية عن التاريخ

يقبع المخيال التاريخي في ذهنية الأمم كذكريات تستجيب لحاجة الإنسان إلى الشعور الاتصال بالماضي للإجابة على أسئلة “من أين” ولمساعدة الإجابة على أسئلة “لماذا؟” وكل ذلك من جملة الاهتمامات الذهنية النفسية التي تساعد البشر على تفسير حاضرهم والقبول به والتأقلم معه ولو لم يكن مريحاً شافياً، كما تحفزهم نحو صورة مستقبلٍ زاهرٍ يعيشون فيه حياة عزّة ورغد.

ورغم اشتراك السنة والشيعة في تاريخ مسلم واحد فإن كل فريق يفسّره من زاوية معينة ويعتمد محكّ تقييمٍ مختلف، اختلافاً إلى حد التقابل في بعض الأحيان. ولنتفحص المواقف النفسية والايديولوجية تجاه التقسيمات المعتادة لتاريخ المسلمين (أمويين، عباسيين، إلخ…، رغم عمومية هذه التقسيمات)، ولنتجاوز مرحلة الراشدين نظراً لخصوصيتها وعدم تبلور التشيع – كما نعرفه اليوم – آنذاك. ففي حين تعتزّ الأكثرية السنية بعصر الأمويين، ترى الأقلية الشيعية أنه زمن الظلم لسارقي الخلافة من مستحقيها الأطهار الذين قطعت النصوص بحقهم بها. ورغم أن هذين الموقفين يبدوان متعارضين بالتمام فإنه يظهر –لدى التمحيص– أنهما مفترقان لأنهما يعالجان مسألتين مختلفتين تستندان إلى وحدات تحليلية مختلفة. فرغم أن الموقف الرسمي السنّي هو أن عليّاً كان على الصواب فإن المسألة بالنسبة لجموع السنة ليست أحقية الخلافة وإنما النتائج التي ترتّبت عليها. أي أنه لا تتعلق جموع السنة بمجرد شخصيات الخلفاء الذين حكموا وإنما بالمجتمعات المسلمة التي ترعرعت في تلك الأحقاب السياسية وخدمتها لأهداف إسلامية كبرى من تمكين الإسلام وأخلاقياته التي أضحت بمثابة النظام العالمي آنذاك. والاعتزاز الخاص بعمر بن عبد العزيز يؤكد على هذه الدلالات. إنه يؤكد على رفض الضمير السني للقصور أو الفسوق الشخصي للخلفاء والتعلق بالإنجازات الإسلامية التي جسدتها أي تجسيد سياسات عمر بن عبد العزيز. ولكن بالمقابل فإن العين الشيعية لا تتطلع بهذا الاتجاه ولا تقف عند تحليل هذه النقطة بالذات، وإنما يتوجه الضمير الشيعي نحو مسألة اختطاف الولاية الموصاة –حسب رأيهم- وتعقّب وقمع الذين تابعوا إحياء هذه الفكرة. وهذا الذي قصدته بالذات حين قلت إن التفارق في المخيال التاريخي بين السنة والشيعة هو تفارق في الوحدات التحليلية المستعملة أكثر من اختلاف في تحليل الوحدة ذاتها. ففي حين يتعلق الضمير الشيعي بالتمام بتضحيات المعارضة ضد الاستئثار بالحكم (وعلى رأسها فاجعة قتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم) ينصرف الضمير السني بالكليّة للإنجازات المدنية والاقتصادية والفقهية والتمكين السياسي للملّة إلى جانب الفتوحات.

فإذا انتقلنا إلى عصر العباسيين فإن الضمير السني يبقى متعلقاً بالإنجازات السياسية والاقتصادية ويزيد عليها الإنجازات العلمية والفنّية في فترة الانفتاح على حضارات العالم، إلى جانب مزيداً من الفتوحات وتمكّن الوجود الإسلامي في بلاد السند وما وراء النهر، المنطقة التي يشكِّل سكانها كتلة بشرية هائلة من مسلمي اليوم. إن عصر العباسيين للضمير السني هو عصر علماء المذاهب وعصر المكتبات العامة والتعليم المجاني وحركة التأليف والترجمة واستيعاب عطاء الحضارات الأخرى وتطور سبل الإدارة والخدمات. أما الضمير الشيعي فإنه يبقى متعلقا بمسألة أحقيّة أهل البيت بالحكم، ولا سيما أنه توارت كثير من الحركات الشيعية تحت الأرض بعد أن تعقّب العباسيون الشيعة أشدّ من تعقب الأمويين لهم رغم أن العباسيين والعلويين كانوا شركاء تحت راية الهاشميين في الثورة على الأمويين.

أما إذا ركزنا على العصر العباسي الثاني فإن الضمير السني يأسف لظهور الانقسامات السياسية وتقلّص شعور الافتخار بخلافة كبيرة متماسكة، ولكنه بنفس الوقت يعتزّ بظهور مبادرات جريئة دفعت بالمشروع الإسلامي قُدماً (بعضها بإسهامات شيعية أو فيها تشيّع)، مبادرات تبناها أقوام متعددون كالطولونيون والأدارسة والإخشيديون والغزنويون والبويهيون والفاطميون والمرابطون والموحدون. وبالمقابل فإن الضمير الشيعي يتعلق فقط بالشيعي منها أو بمدى فسح هذه التجارب وغيرها لأفكار التشيع وحركاته.

و بالذات يهتم الضمير التاريخي السنّي أي اهتمام بتزعزع المكانة الدولية للوجود السياسي الإسلامي ولا سيما في السقوط المتزامن لطليطلة والقدس في نهاية القرن الخامس الهجري إلى ظهور الأيوبيين وطرد الصليبيين الغزاة. أما الضمير الشيعي فيميل إلى الإشارة بالخصوص إلى مساهمات فيها أبعاداً شيعية (البويهيون مثلا) و مساهمات فلسفية (الفاطميون مثلاً)، بالإضافة إلى الهمّ الغالب للضمير الشيعي في الانتقاص والعداوة لمن تعقّب قادتهم الثائرين سياسياً. وينطبق ما سبق على فترة المماليك وتحوّل التتار للإسلام. وبشكل عام فإن فترة التخلخل السياسي الحادّ ما بين الغزوين المغولي و الصليببي حافلة بمادة تاريخية وحوادث تُجتزأ من قبل فريق للتدليل على إشكالية التزام الشيعة بالممصلحة العامة، ومن قِبَل الفريق الآخر للتدليل على التمسك بهياكل سياسية مهترئة يجب أن تزول. وأخيراً نصل إلى أعمق اصطفاف سياسي سني شيعي تمثل في التنافس العثماني الصفوي حيث كان التبنّي الرسمي للمذهب جزأً لا يتجزأ من سياسة كلتا الدولتين وترسيخ حكمهما.

والخلاصة أنه يمكن وصف المخيالين السني والشيعي للتاريخ بأنهما تبلورا على نموذجين متباينين، نموذج البطل ونموذج الشهيد. الأول يركّز عينيه على الإنجازات الحضارية الكبرى ويتغاضى –وأحياناً يتجاهل– المطبّات والقصور ولو وصل إلى درجة مخزية. أما نموذج الشهيد فيستغرقه شعور الاستبسال في إبقاء جذوة فكرة الإمامة حيّة لمجموعة شكّلت الأقلية في كل العصور الإسلامية، وفي تقديم مساهمات نوعيّة في وجه الأكثرية السادرة في غرورها السياسي والمبتعدة عن رشد العترة الطاهرة، بحسب رؤية هذا التوجه.

وبالطبع فإن دقة توصيف التاريخ وصحته العلمية تتواريان عند الكلام عن المخيال. فمخيال الشعوب هو انطباعات ذهنية شديدة التأثير، صحّت تاريخياً عند التحقيق أم لم تصح. والمبالغات السنّية في تاريخ ناصع لا تشوبه شائبة رغم أن تاريخ البشر لا يمكن أن يكون تاريخ ملائكة، تقابلها المبالغات الشيعية التي تغمر تاريخ المسلمين بظلام كالح رغم الأدلة الواضحة على غير ذلك. ويمثل هذا التحليل النسبي الواقعي لتاريخ المسلمين السياسي من قبل السنّة والتحليل المثالي من قبل الشيعة. وبالطبع فإن إطلاق التحليل الواقعي يضرّ عندما يستحوذ على التنظير السياسي، مقابل أن التحليل المثالي يعجز عن تفسير الواقع، وكما هو معروف فإنه عندما وصل الشيعة للحكم أصبحوا ملوكاً وتصرفوا سياسياً مثل غيرهم. وبداهة فإن كلا الموقفين يعجزان عن الفهم النقدي المتزن للتاريخ الذي يسمح بالتوجه نحو بناء مستقبل أنصع. وهكذا تمحور الضمير الشيعي حول مظلومية مبالغ فيها، و تمحور الضمير السني حول إنجازات مبالغ فيها؛ وكلاهما موقفان لا يسمحان المراجعة أو التفاهم.

والخلاصة إن الافتراق السني الشيعي في النظرة التاريخية هو افتراق في الوحدات التحليلية المستعملة أكثر من الاختلاف في الوحدة ذاتها. أي أن المؤرخ النحرير لا يمكنه إلا أن يسجل باعتزاز الإنجازات الحضارية للعصور والتجارب المسلمة المختلفة (بما فيها الأموية والعباسية) بغض النظر عن مذهبه، بل بغض النظر عن دينه. وكذلك فإنه لا يمكن للمحلّل النحرير إلا أن يسجل التأزم المبكّر لنظرية الحكم والممارسة السياسية والأحداث التي ارتبطت بهما، والتي آلت إلى انفصال أهل السيف والسلطان عن أهل القلم والعلم. يقول السيّد محمد خاتمي في كتابه (الدين والفكر في شراك الاستبداد: جولة في الفكر السياسي للمسلمين) التالي: “واليوم عندما نسمع عن الحضارة الإسلامية كثيراً، فهذه حقيقة اعترف بها الصديق والعدو. وما اشتهرت به يمثل مرحلة مهمة على صعيد المستقبل الإنساني. تلك الحضارة التي انفتحت على حضارات وتجارب أخرى، وتركت قضايا حياتية وفكرية شكلت رصيداً قيماً لمن تلاها من الحضارات الأخرى. والأكثر من ذلك فإن دروها في التغيرات التي طالت الوضع في الغرب وانتقاله مما يسمى بالقرون الوسطى إلى عصر تاريخي جديد، إذا لم يكن الدور الأول فإن تأثيراتها كانت جلية لا يمكن إنكارها” (ص 66). ولا يخفى أن الكتاب معالجة نقدية لنظرية الحكم المسلم (السنيّة بالخصوص)، ولكن إدراك الإسهام الحضاري أمر والمراجعة الفكرية أمر آخر لا يناقضه.

خط تماس العادات الشعبية

عاشت الشعوب المسلمة في التاريخ وإلى فترة قريبة في مجتمعات تتصف بالمحلية وتختلف بالتمام عن نمط المجتمع الحديث الذي يمكن أن يوصف بالجمعية القسرية التي تنفي الخصوصية المحلية، فلقد كان تنظيم تلك المجتمعات مستنداً إلى درجة كبيرة على الحي والجوار والمسجد. وصحيح أن المسلمين عاشوا في ظل الخلافة، لكن لم تكن البنية السياسية للخلافة مثل بنية الدولة الحديثة اليوم بكل مركزيتها وقدرتها التنميطية واختراقها لحياة الجماعات والأفراد. وهكذا عاش المسلمون حياتهم على درجة عالية من التعددية التي كان الأثر الأكبر فيها للمحلة الصغيرة لا لأجهزة الدولة المركزية. وتميزت هذه التعددية بأنها كانت تعددية جمعية وليست تعددية فردية على النمط الليبرالي الذي نعرفه اليوم. وفي مثل تلك الترتيبة المجتمعية تحافظ الأقوام على كثير من خصائصها المتفردة سواء كانت خصيصة أساسية كالدين واللغة أو خصائص فرعية كالمذهب والثقافة المحلية للحيّ.

والمقصود مما سبق هو أن الأبعاد المذهبية تجلت ضمن الترتيبات المعاشية، فكان هناك ثقافة محلية فيها عناصر سنّية للقرية والبلدة والحي الفلاني، و كان هناك ثقافة ذات عناصر شيعية في بلدات وأحياء وقرى أخرى. ولكن هذا لا يعني أنه لم هناك تلون في القرية والمحلة، كما لم تنفرد الخصائص المذهبية في تحديد شخصية الحي والمحلة، وإنما كانت من جملة خصائص أخرى لغوية وقبلية… ألخ. ومن طبيعة الاجتماع البشري أن يطوِّر الناس عادات تيسّر مجرى الحياة وتعطيها رونقاً وشخصية. ورغم أن هذه العادات ليست بالضرورة حلالاً وحراماً، إلا أنها تتصل بالدين (وبطريقة فهم الإسلام ومقتضياته) وتتأثر حكما بالتوجه المذهبي. ومع مرِّ الزمن تُعشعش حول هذه العادات خيالات وانطباعات وخرافات، وتزداد هذه العادات تبلوراً من خلال الممارسة الاجتماعية، وبخاصة عادات الأفراح والأتراح والسياقات الدينية المزخومة عاطفياً. ووفق هذا فإنه ليس من الغريب تشكل نمط عادات وطقوس مخصوصة لكل من السني والشيعي ولو اشتركا في إطار أكبر. فكل من السني والشيعي يذهب إلى المسجد فيرقّ قلبه لسماع الوعظ، ولكن قصة الأول ونمط تضرعه فيه صبغة سنّية وقصة الثاني ونمط تضرعه فيه صبغة شيعية. وكما هو معروف، كلما تدنى العمقُ الفكري للناس كلما تضخَّم دور العادات والأعراف وأخذت الطقوس أهمية أكبر من المبدأ الأصلي (الإسلامي) الداعي لها. وفي زمن الأزمات يتمحور الناس حول هذه الخصوصيات الصغيرة لتشكّل حدوداً فاصلة تُنـفِّر من المشترك العام. وفي زمن الأزمات تعلو أصوات الوعاظ والمحفزِّين التي تتكئ بشكل كبير على الرمزية والصور التاريخية المنقّاة من رجس الواقع الحقيقي لما حدث؛ ويتراجع صوت العقل وخطابُ الحكمة في جو الزخم العاطفي المتأجج. وكما هو معروف فإن أكثر ما يُنـفِّر السنّة من تصرفات الشيعة هي الرمزياتُ التي يرفعونها ويشيدون بها والتي تقع على مسامع السنة ومداركهم طقوساً و بدعاً لا معنى لها. وأشد ما يُنـفِّر الشيعة من السنة هو عدم توقيرهم لهذه الرموز وعجزهم عن فهم المعاني المحمّلة فيها.

ولا يخفى أن لهذا مستتبعات حاسمة على المستوى السياسي في مناخ التعبئة والتحريك ولا سيما عند وجود حركات إحيائية. وصحيح أن بعض هذه الحركات قد تكون ذات عمق فكري ودرجة عالية من الالتزام والخلوص، لكن لما كانت المتطلبات العملية للانضمام لهذه الحركات تستلزم همّة عالية وتضحيات كبيرة بالجهد والوقت والمال، فإنها تبقى صغيرة نسبياً في حين تجري غالبية الناس وراء خطابات التوفيز. وفي الأزمات العامة حيث تزداد الحاجة للتعبئة العامة وتجد المجموعات الايديولوجية حاجةً إلى تحريك شعبي أوسع من نطاقها المخصوص، فتتشارك الحركات الواعية مع تيارات شعبية أقل عمقاً وفهماً، وتنضوي – ولو على كره- تحت الشعارات والرمزيات الحالمة. وحتى في أوقات السلم فإن رغبة التجميع وجلب الناس تدفع نحو استعمال الشعارات الزاخمة ولو كان فيها تمحور حول الخصوصيات. ويعيب أهلُ السنة على علماء الشيعة عدم انتقاد المضامين الخرافية للطقوس الشائعة، ويعيب الشيعة على على علماء السنة تبجيلهم الاعتذاري لرمزيات لا تستحق الاحترام برأيهم. أي أن العادات المحلية الممزوجة برمزية عالية ومضمون عاطفي كبير تُصبح في ساعات الأزمات بالخصوص خطوط احتكاكات ملتهبة.

وبعد فلقد تمت مناقشة ثلاثة خطوط تماس بين السنة والشيعة فيما يعيشه الناس في يومهم الاعتيادي وفيما يحلمون به وتعتلج به قلوبهم وعواطفهم. وأرجو أن يكون قد اتضح أن أوجه التفارق هذه ليست في حقيقتها تفارقات دينية أو مذهبية أو عقدية أو إيمانية، وإن أخذت شكل التفارق المذهبي –وربما تُجرّ لها المبررات المذهبية- وتبدو على السطح أنها كذا. إنها بشكل رئيس تأقلمات لواقع معاشي يتقابل مع مسلمات وخلفيات مختلفة فتأخذ أشكالا وألوانا متباينة. فإذا كان الأمر هكذا يمكننا الآن الانتقال إلى مناقشة الفوارق السنية الشيعية من خلال منظور علاقات الأقلية بالأكثرية.

ثانياً: التوتر من منظور التدافع الاجتماعي

الاختلاف سنة من سنن الوجود، وليس هناك مجتمع لا يوجد فيه تدافع بين فئاته المختلفة. وسوف أخصّ بالذكر هنا إشكالية علاقة الأقلية بالأكثرية. وذلك أنه ما أن تواجدت أقلية وأكثرية في فضاء اجتماعي واحد إلا وانقدحت فعاليات خاصة لها علاقة بالوزن العددي والنوعي لهاتين الكتلتين، كأن توجد مجموعة لغوية صغيرة ومجموعة أخرى كبيرة، أو أكثرية نساء وأقلية رجال، أو أكثرية أولاد وأقلية كهول، أو أكثرية بسطاء وأقلية حكماء… ألخ. وتفرز هذه الترتيبات الاجتماعية فعاليات مخصوصة تجدر متابعتها ورصدها لأنها تساعد على إبعاد التفسيرات الاعتباطية والاتهامية ، كما تساعد على فهم تطور الأيديولوجيات التي تُعزى إليها عادة كل أسباب الخلاف.

حذر الأقلـّية وخدر الأكثرية

بحكم أن الأكثرية هي الأكثرية فإنها تفرض لونها وصبغتها على الجو العام، ويصير رسمُها هو النمط السائد المحتفى به والذي يستحق الاحترام ويأخذ موضع القدوة والمثال. ويخفت صوت الأقلية إلى درجة يشعر فيها أهلها أن وجودهم يتوارى تحت جنح الظلام، فلا اعتبار ولا احترام ولا تقدير لظروف الناس المختلفة وتباين احتياجاتهم.

وبداهة تتأثر حركيات الأقلية والأكثرية بعوامل أخرى كثيرة حسب السياق. ولكن بغض النظر عن السياق فإن النسبة العددية لها أهمية يجدر الانتباه لها. فحين تكون الأقلية صغيرة جدا (3% مثلا) فإنه لا يُتصور أن يظهر لونها ويعم رسمها. ففي مثل هذه الحالة يمكن للأقلية أن تختار شبه العزلة التامة، أو الانخراط والذوبان التام، أو المساهمة الفعالة النوعية من خلال النظام العام السائد. أما إذا اقتربت نسبة الأقلية إلى الثلث فإن طبيعة الفعّاليات تأخذ وجها آخر بالكلية، إذ يمكن لأثر الأقلية أن يساوي الأكثرية أو يفوقه (على قاعدة أن الفئة الصابرة الجاهدة يمكن أن تضاعف أثرها ضعفين). وفي هذه الحالة الثانية تشعر الأكثرية أن الأقلية تزاحمها في نوع من القسر، بينما تشعر الأقلية أنها تجني ثمرة جهدها الطبيعية. وإذا افترضنا أن النسبة العامة للشيعة بين المسلمين حوالي 15% فإنها نسبة ليست بالصغيرة وإن لم تكن بالطاغية، ولعلها تمثل عتبة حرجة تأبى الاختفاء الكامل وتعجز عن السطوع الكامل.

وإن من أكثر ما يتحسس منه الشيعة وينـزعجون منه هو تهميشهم وعدم اعتبار رأيهم وكأنهم غير موجودين. وتشعر الأقلية أحياناً أن عندها الجواب الشافي في مسائل محيّرة وأن الأكثرية عاجزة عن الانتباه لهذا الجواب –بالضبط- لأنها أكثرية. ولا تشعر الأقلية عندها أن حقها في التعبير والاعتبار قد غُبن وفقط، بل وتشعر أن الجميع (الأمة المسلمة في حالتنا) يدفع ثمن عدم الالتفات لجوابها المبدع. ومن أكثر ما يزعج الأقلية هو تكلم الأكثرية باسمها وكأنها تعرف موقفها وتدرك مرادها.

وإن من أهم ما يميز موقف الأكثرية الغالبة هو أنها تركّز على سيالتها العامة ولا تلتفت إلى شواردها على الأطراف وتعتبرها استثناءات لا تستدعي الذكر ولا تخدش في صفاء الصورة الكلّية. فمثلا من المعروف والمقرّر أن المجموعات غير المسلمة عاشت في تاريخ المسلمين عيشة رغد وسلام، ولكن لم يكن لهذا في عالم البشر أن يكون تاماً. وطبعي أن لا تُحب الأكثريةُ استحضار الاستثناءات لأنها تشعر أن فيها غمطاً للحق، وترى أن لا فائدة في ذكرها لأنها لا تُمثل ما تشعره اليوم. ولكن هذا بالذات ما تعيب عليه الأقليةُ الأكثريةَ وتعتبره غفلة قبيحة، وتعتبره في ساعات الأزمات تجاهلاً خطيراً ربما لا يخلو من الخبث. ومثال ذلك اليوم انزعاج الشيعة مما يسمونه “صمت الأكثرية” وعدم رفضهم لعمليات التفجير التي توجه نحو أسواق ومساجد الشيعة في العراق أو الاعتداءات في الباكستان. والمفارقة أن السنة تتعجب من هذه الاعتراضات ولا ترى مبرراً لها لأن التيار العام السنّي يرفض تلك العمليات بشكل واضح قاطع. فلسان حال الأكثرية يقول إننا نعرف صدق ما تُحدثنا به أنفسُنا من إنكار مثل هذه الانتقامات، فلماذا يشكُّ الآخر بجدية موقفنا. ويتأكد هذا بأن رموز العنف ليسوا علماء سنة ولا يكنّ لهم السنة التبجيل. وحتى إذا صدر من شيخ سنِّي عبارة مشكلة بحق الشيعة فإنه السنّة -في غياب مفهوم المرجعية- لا تتتمسك ضرورة بقولهم. ولكن يثير هذا البرود حفيظة الشيعة إذ ترى أن مقتضى الصدق هو التركيز على الأمر وعدم نسيانه، فهو ليس بالأمر الهامشي الذي يمكن التغاضي عنه. ويشار هنا بالذات إلى شعور عميق ينتاب الأقليات الصغيرة أحياناً مما لا تشعر به ولا تعرفه الأكثرية، ألا وهو هاجس الانمحاق الوجودي وشبه الزوال التام. إن تخوف الإنسان من الأخطار التي تهدد أصل وجوده تجعله شديد الحذر مما قد يفضي إلى هذا الوضع، فيطلب الضمانات والتأكيدات العملية؛ ولكن استفحال هذا الشعور قد يؤدي إلى تخندق طائفي من قبل الأقلية. وأخيراً، فإن انتقام بعض العصابات الشيعية من السنة لم يكن أقل خسة ولاأخلاقية من سلوك العصابات العنفية السنية.

إن تحليل علاقات السنة بالشيعة من منظور فعاليات الأقلية الأكثرية -إلى هذه النقطة من المقال- أخذ باعتباره الأقلية الشيعية كوجود كوني في عامة البلاد. ولكن يُطلب أيضاً اعتبار التوزع الفعلي للشيعة ونسبتهم في السياق الوطني المخصوص. فعلى سبيل المثال إذا تكلمنا عن الشيعة في سياق إيران صحّ الكثير مما سبق ذكره عن الأكثرية إذ إنهم يهمشون الأقلية السنية أي تهميش. أما إذا تكلمنا عن الشيعة في بلد مثل سوريا فإن ندرة عددهم تفرض نمط توضّعهم؛ وإذا تكلمنا عن الشيعة في أفغانستان فإن نسبتهم كخمس السكان نسبة معتبرة، وتدخل في المسألة أبعاد أخرى لا سيما أن المذهب هناك يتقاطع مع انتماءات قبلية وتمايز جغرافي.

إن كل ما سبق يظهر أن علاقات السنة بالشيعة ترتسم إلى حد معتبر وفق علاقات الأكثرية بالأقلية كقانون ماضٍ في الاجتماع البشري. ولكن هذا لا يعني أن مجرد النسب العددية هي التي تقرر طبيعة العلاقة، فهناك عوامل متداخلة أخرى منها التوزع السكاني، ومنها مستوى مواردهم المالية، ومنها مستواهم الثقافي. ولكن الأمر الذي يؤطّر كل هذا هو طبيعة الهوية التي تتشكل عند الأقلية ونظرة الأكثرية نحوها، وهو موضوع الفقرة التالية.

محورية الهوية

الكلام حول الهوية الجماعية لأمة أو أقلية يطول ويتشعب، ورغم أنه لا مجال للتفصيل فيه هنا لا بد من إلماحة لمحورية هذا الأمر.

ترتسم علاقات الأقلية بالأكثرية حسب الأفق التصوري للتعددية المتوفر في الجو الثقافي العام. وإنه لمن المسلم به أن التاريخ المسلم كان على درجة عالية من التعددية والتسامح وقبول الآخر. ولكن رغم ذلك يمكن أن يتأزم وضع مجموعة ما، وبالخصوص إذا كانت من ذات عقيدة الأكثرية ولكن توجهت توجهاً اُعتبر خروجاً يطعن في ذات أساس الاجتماع الذي استقر عليه المجتمع واتفق عليه الناس. كما ترتسم معالم الهوية تبعاً لكيفية تنظير الأقلية لوضعها ضمن البوتقة الكبيرة. أي أن للشكل الذي تتخيل الأقلية نفسها والصورة التي تحب عكسها عن نفسها أثر حاسم في تشكيل الهوية والعلاقة مع الأكثرية. فمثلاً يمكن أن تكون الأقليةُ أقليةً ولكن ترفض تشخيص نفسها على هذا الوجه. ولقد تفاوت عمق شعور الأقلية في تاريخ الشيعة ووصل إلى درجات حادّة في بعض السياقات وعشعشت حول ترتيبته البنيوية العديد من الاعتقادات والطقوس. وهذا بالضبط ما ينفر منه السنة ويشعرون فيه نوعاً من التمحور الطائفي المنغلق.

ويلزم التنبيه هنا أن الهويات تُنشّأ إنشاء نتيجة تفاعل عوامل عدة، لذا فهي قابلة للتغيير وليست نهائية ومتبلورة بالتمام. ومن أبرز العوامل في تشكّل الهوية الجمعية لقوم ما الانتماء الملّي الإثني. ولذلك لا يمكن فهم حال الشيعي الإيراني بدون اعتبار خلفيته الإثنية التي تنحدر من أصل فارسي. ولا يمكن فهم الشيعي الأفغاني من غير استحضار انتمائه لقبائل الهازارة وتاريخ انضوائها تحت مظلة سياسية واحدة مع السنة الأفغان أحياناً وانفصالها أحياناً أخرى. وكذا يقال عن عروبة شيعة لبنان والعراق رغم الفروق بين عروبتهمتا. ولكن يجب أيضاً التنبيه إلى خطأ إفراد البعد الإثني (ولا سيما أن الطرح الأمريكي مولع بذلك بسبب تجربتهم التاريخية)؛ إن دعاوى صفاء الانتماء الإثني يغلب أن تكون خرافات مُنشّأة، فلا العربي عربي صرف ولا الإيراني فارسي صرف ولا التركي تركي صرف، وبخاصة أنهم عاشوا تاريخهم في ظل الحضارة الإسلامية التي ساهم فيها واختلط العديد من الأقوام.

وتلعب اللغة دوراً هاماً في تشكيل الهوية الجماعية، إذ تحوي اللغة على منطق ذاتي مضمر يؤثر على نمط التفكير. كما توفِّر اللغة للناس سُبل التواصل الذي يكون مفتاح التفاهم وربما مدخل التحابب. وعلى الأقل تتيح اللغة إمكانية التقصّي والمتابعة التي تمكّن من نفي الصور المغلوطة والانطباعات المغرضة. وعلاوة على هذا فإن اللغة توفر للمشتركين فيها المواد المكتوبة التي تعترك فيها العقول، والمواد المسموعة التي تعتلج فيها القلوب بدءاً بالموعظة وانتهاء بالأغنية.

ويجب الإدراك الكامل أن عناصر الهوية تنمو وتضمر بالتفاعل مع الواقع، وأن للناس طبقات من الهوية وليس طبقة واحدة، وأن هذه الطبقات متراكبة وليست متنافية. أي أن كون الإنسان باكستانيا يتكلم الأردية وينحدر من إقليم حيدرأباد الهندي لا ينفي كونه مسلماً، كما لا تنفي الهوية المسلمة غيرها من الهويات. أما كيف تتفاعل وتتعانق خصال الهوية فلها علاقة بمستوى الفرد الفكري وعمقه الإسلامي وظروفه الخاصة على المستوى الشخصي والعائلي والقبلي. والأهم من ذلك أنها تتعلق بظروف جماعية وسياسية أذكر منها ثلاث حالات:

أولاً، هناك حالة التهميش التي تمجّها الأقلية، والتي ربما تقبل مقتضياتها مع مرِّ الزمن أو تستمر في رفضها. فمثلا يمكن أن تختار الأقلية لنفسها درجة عالية من العزلة تجعلها ذات تمحور ذاتي عالٍ، وهذا يمكن أن يقود بعض الأفراد إلى كره النفس أو إلى رمي هذه الطبقة من الهوية ومحاولة الانخراط في الهوية الغالبة. ولكن هذا لا يحدث عادة للأقلية التي عندها مخزون فكري عال. وفي حالة أقليات الشيعة فإنها غالباً ما اختارت عزلة جزئية تحفظ فيها خصوصياتها وتنخرط فيما عدا ذلك بالجو السائد وتتشارك مع المجموع في هوية عامة (السياق الوطني في الدولة الحديثة). وهذا مفهوم في حالة الشيعة بسبب توفّر المخزون الثقافي الفكري ومساهمة التشيع في العطاء الحضاري المسلم وكونه جزأً لا يتجزأ منه.

الحالة الثانية هي حالة الظلم أو الشعور بالظلم. و قد يتجلى الظلم على المستوى الاقتصادي في الحرمان من الفرص أو المستوى السياسي في المنع من المشاركة أو على المستوى الاجتماعي في الحرمان من المنـزلة. ويمكن أن يحصل الظلمُ من غير نيّة واضحة أو عزم ماض عليه. و يكره البشر الظلم –فطرة- و يقاومونه بشكل أو بآخر. وكما هو معروف فإن الشعور بالمظلومية يشكل أساساً ركيناً في الهوية الشيعية حيث أن الظلم -بنظرهم- لم يكن ظلماً عابراً وإنما ظلماً لم ينقطع طوال التاريخ المسلم. وبالمقابل يرى أهل السنة أن دعاوى الظلم مبالغ فيها وأنه حين حدث كان نتيجة تقديم مصلحة الطائفة على مصلحة الأمة، فمثلاً يتعجبون بأن يكون صلاح الدين الأيوبي متّهم عندهم. وهذا ملف مفتوح ليس من المستحيل التحقيق فيه. ولكن المشكلة أن التحقيق التاريخي يُمكن أن يُقنع المثقف صاحب الفكر، ولكنه يندر أن يؤثر على العامي الذي ينساق وراء طقوس الأقلية (وكمثال ذلك تحقيق وتفنيد العلاّمة المرجع السيد حسين فضل الله للقصة الشيعية العاطفية الشائعة عن سبب موت فاطمة بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي قابلها عوام الشيعة بالغضب والاستنكار؛ وكذا يُتّهم السنّي المتفهّم لوضع الشيعة بأنه على حافة الانحراف العقدي). والسؤال هنا أنه إذا كانت طقوس وعادات الأقلية تساهم في سوء المراجعة والتطبيع، فلماذا لا ترميها الأقلية وتتخلى عنها. وهنا تكمن المعضلة، إذ أن رمي طقوس المظلومية والأفكار المرتبطة بها يُضعف هوية الأقلية ويبدو لريادتها ومحرّكيها أن الأقلية ستنتهي بانتهاء ممارسة الطقوس واستذكار متعلقاتها الذهنية العاطفية. وهذا الذي يوصل إلى حالة الاستعصاء والأبواب الموصودة في المراجعات السنية الشيعية التي يلزم فتحها ولكن يخشى البعض من أن فتحها يُذهب الأوراق في مهب الريح.

الدرجة الثالثة هي حالة الاضطهاد، وهي حالة متقدمة من الظلم. ويتميز الظلم الاضطهادي بأنه يتجاوز مجرد الاستغلال النفعي –وإن ربما كان قد ابتدء على هذا الشكل وبهذا القصد- ليأخذ طابعاً انتقامياً يملؤه الكره وقصد التشفي، ويتّبع وسائل مخططة ومقصودة قد تصل إلى حدِّ سحق الآخر وتصفيته وليس مجرد إسكاته وتأديبه. وشعور الاضطهاد ليس غائباً عن الهوية الشيعية، بل هو ناظم عام لها، وهو ما يثير حفيظة السنة الذين يرون فيه مبالغات لا تستقيم مع منطق ولا تقوى لها حجة. ويرى السنة في دعاوى الاضطهاد دليلاً آخراً على التمحور الطائفي للشيعة الذي يعزز التقاطع بالافتراء الظالم على تاريخ الأكثرية. وهذا أيضاً ملف بحث يمكن فتحه وتقصّي حقائقه بدل استمرار الرمي المتبادل للاتهمات.

إن عنف الاضطهاد يترك جروحاً عميقة تؤذي الطرفين، لا تحل الإشكال وإنما توصله إلى نقطة انفجار. إن الاضطهاد الذي ينـزل بأقلية ذات كيان وعمق ثقافي يساهم في تشكيل قشرة صلدة لهويتها تصبح جزأً أصيلا من شخصيتها وتكاد تتعذر معالجة تداعياتها. والأغرب من ذلك في شأن الاضطهاد في أنه يؤزم الهوية بغض النظر عن سبب الاضطهاد والظروف التي دفعت إليه. ومثال الأكراد الأتراك يوضح هذا. إنه من المعروف أن القومية الطورانية طار جنونها أيام أتاتورك والتيار الفكري لتركيا الفتاة ، ونجم عن ذلك ظلم فادح نزل بالأكراد خصوصاً وبغير الأكراد عموما. وقامت المقاومة الكردية المتمثلة في حزب العمال الكردستاني ذي الأيديولوجية الماركسية بالقتل العشوائي للمدنيين الأتراك (بالإضافة لمن خالفها من الأكراد)، كما قامت بحملة تفجيرات انتقامية. وكان رد الجيش التركي القمع الجماعي للأكراد بما فيه ترحيل قرى بأكملها، الأمر الذي بلور السخط الكردي. النقطة المراد الإشارة إليها هنا هي أنه رغم أن معظم الأكراد قد لا يوافقون على تكتيكات الحزب الماركسية العنفية، فإن هذه الحركة أحيت الهوية الكردية وزادت في صلادتها بغض النظر عن الأسباب المباشرة التي أدت إلى ذلك. وفي حالة الشيعة التي نعالجها فإنه لا شك بأن بطش الطاغية صدّام بهم زاد في صلادة الهوية الشيعية العراقية وزاد في العمق الأخلاقي لهذه الهوية.

وباستحضار عقدة المظلومية التاريخية جعل الكثير من الشيعة يقرن –في خلط قبيح- السنّة بالبطش الصدّامي الستاليني اللاديني الذي لا يُفرّق بين سني وشيعي، الأمر الذي يجرّ بعض السنة لأن يدافع –نكاية- عن سفّاح الماضي بأنه “مؤمن”. إن من طبيعة العنف أن يُدخل في حلقة اتهام مفرغة وأن يدفع المضطهدين إلى التجني الذي ليس عند صبر التمحيص. وإنه يمكن أن تصل تداعيات اضطهاد الهوية وثورتها إلى حدٍّ يهدر كل الثوابت الإنسانية –ولا سيما عند الاعتداء على الرموز التاريخية والدينية– ويُبرّر السلوك الوحشي عندها على أنه جزاء وردٌّ على الجريمة المعنوية في هتك قداسة الرموز.

وأخيرا أشير إلى أنه حين يلمُّ غمُّ الاضطهادُ بأقلية فإنها تصبح أكثر قبولاً لمنطق انتهاز فرصة الخلاص ولو كان ذلك في تعاون مع قوة خارجية، بناء على أنه تكتيك لا أكثر. وضمن هذا يمكن فهم مواقف شيعة العراق مع الغزو، بما فيهم المتديّنين والملتزمين. ولكن هم ليسوا وحدهم في هذا، فهناك حزب إسلامي سنّي مشارك في الحكومة، كما فضّل التيار الإسلامي بين الأكراد السنة الانحياز إلى قيادة قومهم المتعاونة بالتمام مع الغازي، وهناك طرف شيعي يشارك في الحكومة ويصطدم عسكريا مع قوات الغزو بآن واحد. وهذا توصيف للواقع وليس حكماً عليه موافقة أو رفضاً. ولا يخفى أن هناك فروقا حاسمة بين التعاون و التعامل و المشاركة الموافقة و المشاركة المعارضة الخ.. وبالطبع فإن هناك من يمارس انتهازية فردية بحتة لا تستند إلا إلى المصالح الشخصية الأنانية ولا تعبأ بمبدأ أو مذهب أو المصالح العليا للوطن. النقطة المراد بيانها هي أن هو السياسي قبل المذهبي هو المدخل الأقوى لفهم استجابات الهوية في جو الفتنة. ولا يعني هذا غياب البعد المذهبي وإنما أنه يصبح عنواناً مؤدلجاً للدواعي البنيوية للخلاف.

ثالثا: مطبات التحليل الاعتباطي

إنه لمن المؤسف أن يكون حجم التحليل الاعتباطي الذي تطير به أوراق الصحف ومواقع الإنترنت مما لا يكفي رده المجلدات. ولذلك ارتأيت الإشارة إلى ثلاثة مطبات في التحليل تكمّل المعالجة الشاملة التي يأملها هذا المقال.

الانتقائية في التدليل

المطب الأول هو الانتقائية في جلب الدليل ولا سيما عند استحضار التاريخ. ولما كان التاريخ سجل الكمّ الهائل من الأفراد والجماعات على مرّ قرون، فإنه يمكن للمرء أن يجد فيه ما يحلو له من الدلائل، فليس من تاريخ أمة إلا وفيه العدل والرحمة والظلم والتعدي والصدق والإخلاص والغدر والتضحية؛ وتُنتزع الحوادث من سياقاتها نزعاً لتفتري على التاريخ وعلى المنهجية العلمية.

وأشير هنا إلى نتف من التاريخ أحسب فيها فائدة لغير المطّلع. قامت الثورة الهاشمية ضدّ الأمويين بقيادة عربية محضة وإن انطلقت من أرض غير عربية (خراسان) لضرورة تنظيمية، واشتركت فيها بذرتان مبكرتان للتشيع انقلب فيها الشقُّ العباسي على الشقِّ العَلَوي ودفع بتشكل التشيع خطوة إلى الأمام (وتضم خراسان أراض تقع اليوم في شمال أفغانستان وشمال شرق إيران وبلاد التركمان، وكان سكانها تُرك بأكثريتهم مع فرس أصليين ومع عرب وفرس فاتحين). وتجب الإشارة أن الخلاف يومها بين المضرية واليمانية من العرب كان أقوى من الخلاف بين العرب والفرس، وقاتل فرس العراق مع الأمويين ضد العباسيين. وصحيح أنه تمكّن الموالي وغير العرب في العصر العباسي، فهذا مما يفتخر به من عالمية الحضارة الإسلامية (ويعني مصطلح الموالي من كانوا أحلافاً لقبيلة ذات مكانة أو أرقاء أعتقوا أو تبُنوا، بغض النظر عن أصولهم وكونهم عرباً أو غير عرب). ولقد أدى دأب الموالي في منظومة العدل الإسلامية إلى ارتفاعهم شأنهم في المجتمع في وقت مبكر من أيام الأمويين، وحين كبُر على بعض العرب ظهورهم كان ردّ عمر بن العزيز قولته ما أفعل إذا سمَتْ نفوسهم وقعدتم. لقد مثّلت الحقبة العباسية بالخصوص فترة ارتفعت شخصيات غير عربية بعد أن انتفى مبرر الانفراد بالسيادة العربية لمّا لم تعدّ تمثل الإسلام ضرورة بعد إتقان غير العرب لغةَ القرآن؛ وكل ذلك شاهد على قدرة الإسلام الفائقة – بسبب محورية كتابه المنـزل – على كسر القيود الإثنية التي تحول دون نموه.

ومرة أخرى فإن استدعاء التاريخ وانتقاء شواهد كيفية منه لا يصح حجة ودليلا. وكثيراً ما يشار اليوم إلى ارتباط شيعة اليوم بصفويّي الأمس. ولكن من الناحية العلمية لا يصح استدعاء الخلفية الصفوية إلا أن تورد الآليات والفعاليات المحددة التي بقيت حيّة تؤثر في مشهد الواقع من ذلك الوقت –ومروراً بحقبة الاستعمار التي غيّرت في ترتيب الحدود والمصالح– إلى يومنا هذا. وعندها يمكن الحكم بوجود الأثر أو عدمه، والأهم من هذا وزن هذا الأثر ومساحته إن وجد.

إن أثر الصفويين (وهم أتراك أصلا) على التشيع معروف، ففي عصرهم اُكتسبت كثير من طقوس التشيع في حركة تسييسيّة لتثبيت الحكم الصفوي (وتضمّن هذا قمع الأكراد السنّة). ولكن في تبنّيهم وتشجيعهم الطقوس الشيعية كان الصفويون يضاهئون منافسيهم العثمانيين في التسييس البيروقراطي للتسنّن (بنـزعة صوفية ظاهرة). ولكن يلزم القول بأن أثر التنافس بين هذين الكيانين السياسيين على مشاعر الشعوب المسلمة يومها هو موضع استفهام. وذلك لأن التصوّف ونمط التديّن السكوني في جسم الأمة المسلمة يومها كان شائعاً وعاماً لا بدّ وأن شكّل آليات تواصل شعبية هامة ربما فاقت في أثرها أثر الاصطفاف السياسي بين مملكتين؛ ويصبح هذا متأكداً إذا استحضرنا غياب مركزية الدولة في تلك العصور وغلبة المناخ المحلي.

إن الأصوب من الرجوع إلى عهد الصفويين (1501-1722) في تفسير الظهور الشيعي الإيراني اليوم الإشارة إلى فترة التخلخل السياسي لما يزيد عن مائة سنة في حقبة القاجاريين (1799-1925)، ومواقف وأفكار العلماء الشيعة في هذه الفترة والفترة التي تلتها، فترة الشاهات ممثلي مصالح الغرب. لقد كانت فترة القاجاريين هي التي تمرّس فيها علماء الشيعة ورياداتهم الشعبية على السياسة، في حين كان علماء السنة ورياداتهم في غياب كبير عنها إذ أنه كان لهم دولة تقوم بهذا العبء نيابة عنهم. ولعلنا نشهد اليوم –وفي البلدان العربية بالخصوص بالإضافة للباكستان– فترة قاجارية سنّية بسبب التخلخل السياسي والتدهور الكبير في الشرعية السياسية للحكومات، إذ يلاحظ التدخل السياسي (النسبي) لمشايخ السنة في أمور السياسة في حين كان هذا محصوراً من قبلُ على الحركات الشبابية.

التعميم الجائر

إن التعميم المبالغ فيه عند ذكر السنة أو الشيعة أمر لا يستقيم علمياً، فهناك تمايزات جغرافية وثقافية حاسمة لا يمكن غض النظر عنها. ولا يخفى على المراقب الفروق الكبيرة بين عرب الشيعة وعجمهم، وفيما بين الكتلة العربية فروق واضحة أيضاً، كالفروق بين شيعة العراق وشيعة لبنان مثلا. وتعتمد صحة التعميم وجوازه علمياً على الوجه المراد تنـزيله عليه. فلو كان الوجه فقهياً لربما صح بعض التعميم بين شيعة لبنان والعراق للاشتراك في جذر المذهب الجعفري رغم اختلاف مرجعية كليهما. أما إذا أردنا أن نتكلم عن توجه الخيار السياسي فلا شك أنه لا تصح –مثلاً- المساواة بين الشيعي الإيراني والشيعي العراقي العربي والشيعي العراقي الكردي.

إن التفريق بين السياسي وغير السياسي (عقدي، فقهي، ثقافي، ألخ) أمر هام لأنه يستدعي أدوات تحليلية ومفاهيم مخصوصة تتعلق بالوجه المراد تحليله؛ إن هذا التفريق هام رغم وجود تفاعل بين هذه الأوجه. وتنتشر اليوم التفسيرات التي تؤكد أن الاحتكاك السني الشيعي يجب أن يفهم من زاوية عودة ظهور الشعوبية الأعجمية المعادية للعرب والمستبطنة لغير مفاهيم الإسلام، تختبئ وراء شعار التشيّع لتمويه تعصِّبها القوميّ الإيراني. والنزعة الشعوبية في قديم التاريخ الإسلامي معروفة (ومدى تعلق هذا بالتمحور العربي الأمويّ أمر يحتاج إلى تمحيص مفصّل)، وتزكية المشاعر العدائية ضد العرب اليوم لخدمة أهداف التحكّم السياسي الخارجي والابتزاز الاقتصادي والانتقاص من الإسلام أصبح واضحاً. لكن هل الجواب السديد على أطياف التعصب القومي العجمي –حين يوجد- هو التعصب القومي العربي؟ وبقدر ما في الظهور الإيراني المعاصر من أبعاد قومية فارسية، فإن القول بأنه يجب أن يُقابل بقومية عربية أمر يثير العجب، وذلك لأنه ليس للعرب – كقومية من غير إسلام – شيئ يفتخرون به في حين أنه كان للفرس حضارة وشأن.

أما من الناحية السياسية البحتة فإن إيران كدولة لا بد وأن يكون عندها طموح في هيمنة إقليمية، فهذا من طبائع الكيانات السياسية. ولا يخفى أن دولاً أخرى في المنطقة لها طموحات إقليمية وبألوان مختلفة، مثل مصر والسعودية وسورية، وكان للعراق يوماً طموحاً إقليميا. وإني إذ أخط هذا فإنه ليس عندي شك بأنه إذا تحصّل لإيران ما ترجوه من بسط النفوذ فإنه سوف يخالطه –حكماً– تبختر قومي؛ وهذا متوقّع حتى ولو حصل تحت الريادة الدينية الشيعية لأن مستلزمات استنفار القوى تستدعي إشراك كل الإيرانيين وخلط خطاب التحريك بنكهة قومية. ولكن شبيه هذا الأمر سيحصل لو بسطت تركيا نفوذها؛ و قريب من هذا ما سيحصل لو تمكن العرب من بسط نفوذهم على الجوار غير العربي. إن نزوع الدول للهيمنة السياسية الإقليمية أمر مشهود له تاريخياً ويتجاوز المسألة المذهبية وإن كان يصطبغ بلونها.

النقطة المراد بيانها هنا هو أن الأنجع من استدعاء اللافتات القومية التفكير في التوضع الجيوسياسي للمنطقة وتماسك النخبة السياسية الإيرانية وتركيزها على تصنيع حربي وطني واستغلالها التورط الأمريكي في العراق. وإنه لمن المفارقة الحادّة أن يكون أكبر مستفيد من المقاومة السنية في العراق هو شيعة إيران. ولو افترضنا أن إيران الشيعية نجحت في فرض سيطرتها على المنطقة لذاع انتشار المذهب الشيعي، وذلك بسبب التفكير الخرافي لعامة الناس الذين يحسبون عندها أن التشيع – وليس العوامل الجيوسياسية واتخاذ الأسباب – كان وراء النصر (مع الإدراك الكامل لدور الدين في شحذ الهمم والتضحية والابتعاد عن الخيانة؛ ولكن هذا أمر إيماني محض ليس له علاقة بالمذهب). ولكن لو بدأ التشيع الإيراني بالانتشار لسرعان ما شعر العرب فيه -بما فيهم شيعة العراق- تعالٍ قومي منفّر يطامن من المدّ، ولا سيما إذا فُرض فرضاً و ترافق مع ثأر وانتقام وقمع فكري. ثم إن الفكرة الشيعية نفسها يغلب أن تصيبها ظاهرة الانتثار عند الانفتاح، فكثيف التشيع لا يمكن أن ينمو إلا مع الانغلاق. و يغلب أن يؤدي التمكّن الشيعي إلى نمطية سياسية تنعكس سلباً على المضمون الثوري الجذّاب للدعوة الشيعية، وتتحول المسألة إلى ممارسات وطقوس يقبلها عامة المسلمين أو يرفضونها بحسب مستوى عمقهم الفكري والثقافي.

قلة العوامل المعتبرة

تستلزم تراكبية الواقع البشري إشراك العديد من عوامل التحليل عند الدراسة والفحص. وتقتصر كثير من الأدبيات الأسلامية الشائعة على قضية الإيمان أو عدمه أو زيادته ونقصه، وأنه يمكن تفسير كل شيء من خلال هذه الوحدة التحليلية. ولكننا ما دمنا نتكلم عن بشر من علقة وطين وإشراقة روح، فلا بد لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجغرافية، وليس مجرد البعد الثقافي أو المذهبي.

فمثلا لا يمكننا الحديث عن التشيع في لبنان من غير وضعه في سياق دولة غير مستكملة لعوامل الاستقرار السياسي، تحوي على تعدد فئوي مسيّس إلى أبعد الحد وتتحرك ضمن أطر ومؤسسات صاغتها فترة الاستعمار أُعطيت فيه الحظوة لفئات معينة وأُهمل فيها ريف الجنوب بالخصوص. إن الحديث عن الحراك الشيعي في لبنان لا يمكن أن يتجاهل كونه حراك مهمشين اجتماعياً يُنظر إليهم شذراً على أنهم –كمجموعة– لا ترتقي إلى مستوى المتغرّبين المتقدمين ممن استأثروا بمواقع الريادة السياسية واستجروا لأنفسهم حظوات اقتصادية.

إنه لا يمكن لأي تحليل لواقع اليوم أن لا يستحضر إرث الاستعمار الذي رسم الحدود ووزّع المصالح، على الأقل من باب أنه تصميم فاشل يُفجِّر المشاكل لاحقاً. وهل يمكن لأي تحليل لواقع اليوم أن يتجاهل الغُربة الفكرية التي عاشتها البلاد العربية حين لعبت في ذهن رياداتها أفكار العَلْمانية الأوروبية بما فيها الاشتراكية الشيوعية والرأسمالية الليبرالية؟ إن العجيب أن عامة الناس من السنة والشيعة يعتقدون أن ضرب المذهبين ببعضهما هو مخطط استعماري، إلا أنهم بنفس الوقت يستجيبون للشعارات الطائفية ويتخندقون في طروحات فئوية.

أوليس خيراً من تقاذف عبارات الإدانة التفكرُ في النظرية السياسية الشيعية والنظرية السياسية السنية، فلربما يصح القول أنه اُبتليت النظرية السياسية السنيّة بالسلبية والانسحاب، بينما اُبتليت النظرية السياسية الشيعية بالمثالية والتطرف. وزيادة على ذلك، ألا يلزم التفكير بما أضافه حديثاً كل فريق منهما على رؤاه السياسية في غمرة الاعتراك مع الطروحات الديمقراطية، ولا سيما بعد فترة من الانفتاح والتجارب الإسلامية (أو نصف الإسلامية) المتعددة؟ أو ليس من المفارقة أن يختار معظم الشيعة في العراق اليوم البراغماتية السياسية الأموية ويختار معظم السنة مثالية الرفض السياسي الحسينية؟

القواعد المشتركة

أعتقد أن التحليل الرصين يشير بشكل قاطع إلى عدم جدوى المدخل الطائفي في التحليل ، كما يشير إلى أن التفكير بمستقبل الإسلام عموماً هو الذي يجب أن يكون نصب العينين. وتشترك كل التوجهات والمذاهب والمشارب الإسلامية على مستويات منهج التصور والقيم الكبرى والفلسفة الاجتماعية. فمنطلق التوجه الإسلامي المغروز في عقيدة الخالق الواحد الفرد الصمد يرفض الطاغوت وينبذ الخرافة إذ لا يرى تعارضاً بين إرادة الخالق والسنن الكونية المخلوقة. وتشترك التوجهات الإسلامية كلها في القيم الكبرى مثل كون التقوى والعمل الصالح أساس قيمة الفرد، والمسؤولية الفردية يوم القيامة، والمسؤولية الجماعية في إقرار الحق وإبطال الباطل، والإشادة بقيم الأسرة والأمومة والعفة والطهارة. وتشترك جميع التوجهات الإسلامية –على اختلاف مشاربها– في إعلاء مفهوم العدل وتعظيم أمر الرحمة والتوجه نحو الوسطية والتوازن وتقدير قيمة النية في سلوك الإنسان. وتشترك كل التوجهات الإسلامية في نزعة جمالية روحانية متعالية.

لقد بدأ الخلاف الشيعي السنّي خلافاً سياسياً وتطور إلى أن أصبح خلافاً مذهبياً طائفياً، فإما أن نردّ الخلاف لأصله في محاولة صياغة نظرية حكم معاصرة أو أن نبقى في ظلام الشتائم. إن خيارنا نحن مسلمو اليوم التوجه نحو بناء مشروع حضاري يجتمع على الخطوط العريضة للإسلام ثم نختلف في تنـزيلها وتطبيقها وملاءمتها للواقع، أو أن نبقى متسوّلين في ثنايا الحضارات الأخرى.

والله تعالى أعلم

د. مازن موفق هاشم

المقال موجود على الرابط التالي http://www.alrashad.org/issues/2007/8-Hashem-SunniShii.htm

Tagged: , ,

أضف تعليق