الرابط الوطني ومضمونه الثقافي

17/6/2011

الرابط الوطنيَّ برغم بداهة أولويّته فيه عمومية وغير كافٍ كرابط وحيد بين مكونات المجتمع، ولا بدّ أن تكون المضامين الثقافية والمادة التي تملؤ الوعاء الوطني الشامل واضحة في الأذهان وحاضرة عند التفكير في الخطط العملية.

خلال ثلاثة الأشهر الماضية استطاع الحراك السوري أن يبلور مطالبه ويوضّح أبعاد إرادته على نحو جليّ. ولم تقتصر المفاجأة على اندلاع الثورة في سورية فحسب، وإنما أيضاً في نجاح تجليتها لأهدافها الكبرى وتحديد سمات تطلّعاتها: الله، سورية، حرية، كرامة، عدالة، وبس.  

الله… والثقة به تصبِّرنا وتثبِّتنا على المسيرة

سورية… وِحدةٌ وإطارٌ وطني يسع الجميع

حرية… فالتسلط على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو الذي كان وراء تدهور البلد

كرامة… صيحاتُ المظاهرات غزيرةٌ بمعاني الكرامة والعزّة الشامخة

عدالة… تجلّت في شعور القرف من الاستئثار الذي مأسس التفاوت الطبقيّ وأجهز على كمون النهضة.

وبس… بلا فلسفة وبلا إيديولوجية… مطالب الثورة تسكن ضمير كلّ إنسان، والشعارات التي لهجتْ بها الألسن هي خفقاتُ قلوبِ كلّ السوريين وانعكاساتٌ لأمانيهم.

إذاً، التحدي في هذه المرحلة الثانية من الثورة هو تأكيد هذه المعاني على المستوى التنظيماتي وعلى التشكيل السياسي للبدائل. ووصف المرحلة القادمة بالثانية لأنَّ المرحلة الأولى قد تمّت. لقد أنجزت الثورة السورية التالي:

1- إسقاط ورقة توت الرجل الظريف أو إثبات عدم قدرته. وكان هذا حاجزاً مهماً تجاوزته الثورة في أسبوعين، فوجود شخصية رمزية تتركّز تجاهها مشاعر الغضب من أهم دوافع الحراك الثوري (مثلاً ماركوس، الشاه، مبارك…).

2- إسقاط واجهة البعث بثورة قاعدته الشعبية وبطش النظام بها بوحشية.

3- إسقاط دعوى المقاومة التي كانت المستند الوحيد لشرعية النظام.

4- إسقاط الطائفية من الخيال السياسي، برغم تلاعب النظام بالطائفية ومحاولة توظيفها.

5- إسقاط الإيديولجيات الهجينة التي يختبؤ وراءها الحكم.

تحدّي المرحلة الثانية هو توضيح رؤية سياسية تعكس ضمير الثورة. وأستطرد هنا لأقول، إنَّ المعارضة في خارج البلد تُبتلى حُكماً بقدرٍ أكبر من الإيديولوجية، لأنها كانتْ سبباً في ترك أصحابها البلد؛ وكذا الأمر بين النخب الفكريّة. وذكر هذا هو من باب التنبيه لا من باب الإقصاء، فسورية بحاجة لمساعدة أيّ مخلصٍ من النخب ومن المعارضة في الخارج. ونقول، إننا نثْني على مؤتمري الخارج في الإعلان الصريح أنّهم لا يمثّلون الداخل ولا يتكلّمون باسمه، وإنما يقومون بواجبهم نحو وطنهم، ذلك الواجب المتمثّل في دعم الحراك في الداخل.

نعود إلى النقطة الجوهرية، وهي تحويل ضمير الثورة إلى رؤية سياسية. ونقول، إن الأفق السياسيّ المناسب هو الذي يتواءم مع القاعدة الثقافية للمجتمع، من غير إكراهات إيديولوجية ولو اصطبغتْ بكلّ لون فتّان وشعار رنّان. فما هي هذه القاعدة الثقافية للشعب السوري؟ نعترف ابتداءً بصعوبة الكتابة في هذا، لأنَّ الثقافة أمر بدهيّ مستشعر… مثل الماء الذي يصعب وصف طعمه والهواء الذي يصعب وصف رائحته، برغم–أو بسبب- أنَّ الحياة لا تقوم إلا بهما.

وسنحاول هنا تحديد سمات عامة للثقافة السورية:

1- ثقافة ذات قيمٍ محافظة (يا رضى الله ورضى الوالدين. دخل الجنة بحسنة فلان. المال الحلال ما يغرق ولا يحرق. الجنة تحت أقدام الأمهات):

ويعني أنها قيم تستند إلى الممارسة التاريخية وتُستمدّ من الدّين. ولكنّها ليست مجرّد انعكاس لخصوصية دينية بقدر ما هي استيعاب للمشترك الأعظم للديانات السماوية، بالإضافة إلى منثورات المؤثرات الثقافية عبر التاريخ. ولزيادة التوضيح ولنفي الوهم عن المصطلح، المحافظة مختلفةٌ عن التديّن الإيماني لمشايخ الدّين وأتباعهم، ومختلفةٌ عن التديّن الحركيّ للجماعات الدينية. إنها ببساطة ممارسات (تحافظ) على ما استطاعت عليه من قيم الحضارة العربية الإسلامية و(تُأقلِمها) مع الواقع المعاصر الذي تعيش فيه.

2- ثقافة تعايش وتسامح (كلٌ على دينه الله يعينه):

وهي الثقافة التي يجد الآخر فيها مكاناً كريماً له، ما لم يصطدم السلوك مع مسلَّمات المجتمع وما لم يخرق أعرافه الكبرى. والثقافة السورية تحبّ التوسط وتكره التزمّت.

3- ثقافة إبداعية (الشاطر يدبّر حاله):

ففي سكان هذه البلاد نزعة عمليّة، لا أدلَّ عليها النتاج الفنيّ السوري ونتاج المواقع الالكترونية للثورة. والنشاط التجاريّ لأهل المنطقة وإبداعاتهم الصغيرة والكثيرة جداً ساهمت في بناء مجتمعاتهم –والمجتمعات التي حولهم والتي يهاجرون إليها- وطبعت ثقافتهم منذ قرون. كما أن الإبداع داعٍ للمرونة والتأقلم.

4- ثقافة عروبية:

ولقد جرى استفتاء شعبيّ على هذه النقطة من خلال المسلسل التلفزيوني باب الحارة، شاهده العرب كهولاً وشباباً من الخليج إلى المحيط، كما شاهده العرب وأولادهم في المهجر. ولا يعني هذا أنهم تبنوا النمط المخصوص لتصرفات هذا المسلسل (مثلاً عنترية الرجل) وإنما فهِم الناس منه بذكاءٍ فطريٍ قيمة المعاني المضمرة خلف التصرّفات (النخوة مثلاً)، ولم يخامرهم شكّ أنهم لن يتبنّوا الأنماط التاريخية لهذه القيم والمعاني.

ومن المناسب الإشارة إلى أنَّ تحركات الثورة استخدمتْ نمط العراضة، الأمر الذي يعكس الانسجام الثقافي لحركة الثورة، وهو مكمن قوّتها.

ويشار إلى أنّ الثقافة العروبية العروبة تترافق مع رفض القوميّة العربيّة العصبيّة. والفرق أنّ العروبة هي الانعكاس العملي المحليّ لحضارة المنطقة التي شكّلت بلادُ الشام قلباً نابضاً لها وجوهراً أصيلاً مُبدعاً وخلاقاً. أما القومية العربية فهي مفهوم ملوَّن بأصوله الأوروبية، وهي لم تتحقّق في الواقع العربي (ويعترف بذلك المفكرون القوميون). وإنَّ أدنى قراءةٍ للتاريخ الحديث لسورية تُظهر بجلاءٍ أنَّ الذي جرَّ المصائب على البلد كانتْ أفكاراً مستوردة ليست من تربة الأرض ولا تصلح لنضج ثمرتها، سمَّمت نسق الحياة البريء بإكراهات إيديولوجية.

5- التعدديّة التآلفيّة:

وهي تختلف عن التعددية التنافسية. فالحسّ الثقافي في سورية يسع ألوان طيف مكوّناته التاريخية، سواء أكان هذا التلّون انعكاساً لدينٍ أو مذهبٍ أو جهة/محلّة أو أصلٍ قوميّ. والشواهد على هذه التعددية تمتدّ من ألوان أطباق الطعام إلى تنوّع الأعراف الصغرى في المعاش. والشاهد على صفة التآلفية هو أنَّ الناس تلاحظ هذا التلوّن وتحترمه وتلتزم الأداب المناسبة في التعامل مع كل مجموعة.

أما التعدديّة النتافسيّة فهي التي تتحدث عنها التجربة الغربية، وفيها تصطفّ مصالح كلّ فئة مناهضة للأخرى، وتغلب عليها الأثرة والنزعات الفرديّة أو الفئويّة تريد تغليب هواها على المصلحة الجماعية.

وإذ نصِف التعدديّة التآلفية في سورية بوجهها المشرق، ندرك أنّه وصفٌ للناظم العام، وإن كان هناك تقصير وخوارم، كما هو الحال في عالم البشر.

والتعددية التآلفية تعترف بالمساحات الخاصّة للمجوعات والفئات، ولا تفرض عليها مقاساً واحداً يُكره الجميع على الانحشار فيه. فالخيارات الخاصّة للمجموعات القوميّة والمليّة لا يصحّ تجاهلها، ولا سيما أنَّ هذه المجموعات هي جزءٌ أصيلٌ من النسيج السوريّ. فمثلاً، الكرد تجمعهم مع باقي مكوّنات الشعب السوريّ روابط الثقافة المسلمة واعتزاز سورية بالانجازات التاريخية للكرد وحقِّهم الطبيعيّ في العيش وفق نمطهم الخاصّ ولغتهم الخاصّة في أراضي عاشوا فيها آلاف السنين. والمسيحيون يرتبطون مع المجموع برابط العروبة والمساهمات المتميزة أيضاً؛ وكذا العلويون.

أردنا بهذا العرض التذكير بسمات الثقافة السورية بعيداً عن الصياغات الإيديولوجية، فهي سمات يدركها حسُّ وسطيّ الناس. والمطلوب أنْ يجري التفكير بأطر سياسيةٍ وأنماطٍ مؤسساتيةٍ تتناسب مع ثقافة البلد. وإذ ينبغي الاستفادة من التجارب العالميّة، يتحتّم عدم تخيّل إمكان استيراد الحلول جاهزةً على نحوٍ يصطدم مع المسلّمات الثقافية. وكم هو مصطنعٌ أن نفرض –مثلاً- رؤى الثورة الفرنسية على الثورات العربية؛ وكم هو صعب أن نُترجم –مثلاً- صيحة “للجنّة رايحين… شهداء بالملايين” إلى اللغات الأوروبية. وإذا كان الشعب قد صنع ثورته على نحوٍ فريدٍ وبإرادةٍ حديديّة، فإنّه قادر على صناعة مضمون اجتماعه.

إنَّ رباط الوطنيّة رباطٌ أكيدٌ في كون الوطن ودستوره وأطره المؤسساتيّة أمر يستوي فيه جميع أفراد الناس بلا استثناء ولا تمييز. غير إنَّ مفهوم الوطن كوعاءٍ يسع الجميع–وخاصة بحدوده القانونية- غير كافٍ لاستقامة الاجتماع ولسير الحياة، إذ يمثِّل الحدَّ الأدنى للاجتماع ولا يحيط بمضمونه الكثيف. فلا بدّ من استحضار الأذهان لما يملؤ هذا الوعاء.

وخلاصة الملاحظات أعلاه أنَّ الثقافة الشعبيّة هي مصدر الشرعيّة الوطنيّة. والسياسة يجب أن تكون خادمةً للرؤى الثقافية للناس ولحياتهم الاجتماعية الاعتيادية ولأنشطتهم الاقتصادية، تدعمها وتنسّق حركتها لا تفرض عليها أحلاماً للنخب أو إكراهاتٍ إيديولوجية.

مازن هاشم

Tagged: ,

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: